مصباح المنهاج - كتاب الطهارة المجلد 8

اشارة

سرشناسه : طباطبائي حكيم، محمد سعيد، 1935- م.

عنوان و نام پديدآور : مصباح المنهاج/ تاليف محمد سعيد الطباطبائي الحكيم.

مشخصات نشر : نجف : دار الهلال، 1427 ق.= 2006 م.= 1385 -

مشخصات ظاهري : ج.

شابك : دوره:964-8276-54-4 ؛ ج.1:964-8276-54-4 ؛ ج. 4 964-8276-42-0 : ؛ ج.5: 964-8276-43-9 ؛ ج.7: 964-8276-83-1 ؛ ج. 8:964-8276-84-8 ؛ ج.5: 964-8276-85-5

وضعيت فهرست نويسي : برون سپاري.

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 4 و 5 (چاپ اول: 1426ق. = 2005م. = 1384).

يادداشت : ج. 3 و 7 و 8 ( چاپ اول: 1430 ق.= 2009 م.= 1388)

يادداشت : ج.9(چاپ؟: ؟؟13).

يادداشت : چاپ قبلي: محمدسعيد طباطبايي حكيم، 1415 ق. = 1994م.= 1373.

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج.1. كتاب التجارة.- ج. 4 و 5 و 7 و 8 . كتاب الطهاره

موضوع : اصول فقه شيعه

رده بندي كنگره : BP159/8/ ط2م6 1385

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : 1041894

ص: 1

اشارة

ص: 2

* الجزء الثامن

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

(5)

المقصد السابع: الأغسال المندوبة

أنواع ثلاثة: زمانية، ومكانية (1)، وفعلية.

والأول له أفراد كثيرة:

(منها): غسل الجمعة (2).

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. وحسبنا الله ونعم الوكيل ومنه نستمد العون والتوفيق.

(1) من الظاهر رجوعها للفعلية، لأن دخول المكان والكون فيه فعل من أفعال المكلف، كالزيارة والصلاة. وأظهر من ذلك ما إذا كان تشريع الغسل لدخول المكان ليس لنفسه، بل لإيقاع عمل فيه من عبادة أو زيارة أو غيرهما. كما يأتي الكلام فيه عند التعرض للأغسال المذكورة.

(2) كما هو المعروف بين الأصحاب، المنسوب للمشهور في كلام جماعة، بل في الخلاف والغنية الإجماع عليه، وظاهر المقنعة والسرائر وعن محكي شرح الجمل نفي الخلاف فيه. وقد يستظهر من غيرها. للنصوص الكثيرة المستفيضة أو المتواترة، وفيه

ص: 5

وهو أهمها (1)،

الصحاح وغيرها(1).

(1) كما قد يستفاد من كثرة الحث عليه في النصوص، ومما تضمن أن الله أتم به الوضوء، كما أتم صلاة الفريضة بصلاة النافلة، وصيام الفريضة بصيام النافلة(2) ، وأن المغتسل يكون في طهر من الجمعة إلى الجمعة(3). ومن صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "قال: اغتسل يوم الجمعة، إلا أن تكون مريضاً أو تخاف على نفسك"(4) ، وحديث سهل بن اليسع:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يدع غسل يوم الجمعة ناسياً أو غير ذلك. قال: إن كان ناسياً فقد تمت صلاته، وإن كان متعمداً فالغسل أحب إلي. فإن هو فعل فليستغفر الله، ولا يعود "(5) ونحوه معتبر أبي بصير(6). وفي موقف عمار:" إن كان في وقت فعليه أن يغتسل ويعيد الصلاة، وإن مضى الوقت فقد جازت صلاته"(7).

وعن كتاب العروس عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنه قال: "لا يترك غسل الجمعة إلا فاسق" (8) وفي صحيح حريز عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: لابد من الغسل يوم الجمعة، في السفر والحضر. ومن نسي فليعد من الغد"(9). بل هو صريح خبر أبي البختري عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):" أنه قال لعلي من وصية له: يا علي على الناس في كل [يوم من] سبعة أيام الغسل، فاغتسل يوم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1، 3، 6، 7 وغيرها من أبواب الأغسال المسنونة.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 7، 16، ومستدرك الوسائل ج: 2 باب: 3 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 18، وباب: 7 منها حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 11.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(6و7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 1.

(8) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 4 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2

(9) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 6

حتى قيل بوجوبه (1). لكنه ضعيف.

الجمعة ولو أنك تشتري الماء بقوت يومك تطويه، فإنه ليس شيء من التطوع أعظم منه"(1).

(1) كما نسب للصدوقين، لما في الفقيه والمقنع وعن الهداية ورسالة الصدوق الأول من أنه سنة واجبة، بل للكليني، حيث عقد في الكافي باباً لوجوبه.

لكن الاكتفاء بذلك في صدق النسبة إشكال. ولاسيما مع ما عن الصدوق في الأمالي من عده مندوباً، بل قيل إن ظاهره عدّ ذلك من دين الإمامية، وما في النهاية من عده من السنن اللازمة، مع أنه لم ينسب للشيخ الخلاف، ومع عدم الإشارة للخلاف المذكور من القدماء قبل المحقق.

وكيف كان فقد يستدل عليه بالنصوص الكثيرة المتضمنة لعده في الأغسال الواجبة، وبما في النصوص المؤكدة عليه - التي تقدم بعضها - من عدم الترخيص فيه إلا للمريض، ومن الأمر بالاستغفار لتاركه، ومن نسبته للفسق ونحو ذلك. ولا يعارض ذلك ما في جملة من النصوص من أنه سنة، لأن المراد بالنسبة فيه ما لم يفرض في القرآن، كما يناسبه قصر الفريضة في بعضها على غسل الجنابة(2).

لكنه يندفع - مضافاً إلى أن جملة من النصوص المذكورة لا تخلو عن ضعف في السند أو الدلالة - بأن كثرة الابتلاء بالغسل المذكور مانع من خفاء حكمه على الأصحاب والمتشرعة، فظهور معروفية استحبابه بينهم كافٍ في الخروج عن ظاهر النصوص المذكورة، وحملها على الاستحباب. كما هو المناسب لما تقدم في حديث سهل من قوله (عليه السلام): "وإن كان متعمداً فالغسل أحب إلي".

ولاسيما مع أن بعض النصوص قد تضمن الحكم بالوجوب على جملة أغسال

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 3 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4، 8، 11.

ص: 7

(8)

ووقته من طلوع الفجر الثاني (1)

لا إشكال في استحبابها(1) ، حيث يتعين فيه حمل الوجوب على مطلق الثبوت في الشريعة.

هذا وقد يستدل على عدم وجوبه بأنه إن كان المراد وجوبه نفسياً، فهو مقطوع البطلان، لعدم وجوب شيء من الأغسال نفسياً حتى غسل الجنابة، - وإن وقع الكلام في كونه نفسياً أو غيرياً -. وإن كان وجوبه غيرياً من جهة شرطيته في الصلاة، فيدفعه أحاديث سهل وأبي بصير وعمار.

لكنه يندفع بأن عدم وجوبه أصلاً أظهر بلحاظ الإجماع والسيرة من عدم كون وجوبه نفسياً، فإن كفى ذلك أغنى عن الاستدلال المذكور، وإلا فلا مجال له، بل يتعين البناء على كون وجوبه نفسياً، للأحاديث المذكورة وغيرها مما تضمن الاكتفاء بالإتيان به قبيل غروب الشمس وبقضائه يوم السبت، مع ما هو المعلوم من عدم وجوب إعادة الصلاة حينئذ.

(1) فلا يشرع تقديمه عليه اختياراً، كما هو ظاهر التوقيت به في كلمات الأصحاب، وهو المصرح به في كلام بعضهم، بل نفى في الجواهر وجدان الخلاف فيه، وصرح بالإجماع عليه في الخلاف والتذكرة، كما حكي عن غيرهما صريحاً وظاهراً.

ويقتضيه نسبة الغسل ليوم الجمعة في النصوص الكثيرة. وهو الظاهر من نسبته للجمعة نفسها، لأن المنصرف منها اليوم، ولا إشكال في عدم دخوله قبل الفجر.

كما قد يستفاد من خبر بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في غسل ليالي شهر رمضان "قال: والغسل أول الليل. قلت فإن نام بعد الغسل؟ قال: هو مثل غسل يوم الجمعة إذا اغتسلت بعد الفجر أجزأك"(2) ، ونحوه خبر ابنه(3). فإن مقتضى الشرطية عدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 3.

ص: 8

يوم الجمعة إلى الزوال (1).

الإجزاء مع الغسل قبل الفجر.

وأما إجزاؤه لو وقع بعد طلوع الفجر فهو مقتضى التوقيت به في كلام الأصحاب، بل ادعي الإجماع عليه في الخلاف ومحكي غيره. ويقتضيه ما سبق من نسبته للجمعة وليومها، لما هو المشهور المنصور من دخول اليوم بطلوع الفجر.

مضافاً إلى الحديثين المتقدمين وغيرهما. كصحيح زرارة والفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام):" قلنا له: أيجزي إذا اغتسلت بعد الفجر للجمعة؟ فقال: نعم"(1) ، وصحيح زرارة عن أحدهما (عليه السلام): "قال: إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزاك غسلك ذلك الجنابة والحجامة [الجمعة] وعرفة والنحر... فإذا اجتمعت عليك حقوق [الله] أجزاها عنك غسل واحد..."(2).

(1) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعى عليه الإجماع في كتاب الطهارة من الخلاف، و في ظاهر التذكرة والذكرى وغيرها. وعن المصابيح أن عليه الإجماع المعلوم بالنقل والفتوى والعمل، وفي المعتبر أن عليه إجماع الناس.

وكأن ما في كتاب الجمعة من الخلاف من امتداد وقته إلى صلاة الجمعة، مدعياً الإجماع عليه ليس خلافاً في المسألة، بل هو راجع إليه، خصوصاً بناء على تضيق وقت الجمعة بعد الزوال. وإلا كان عارياً عن الدليل.

وكيف كان فيدل عليه موثق ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن رجل فاته الغسل يوم الجمعة. قال: يغتسل ما بينه وبين الليل، فإن فاته اغتسل يوم السبت"(3). فإن فهم الإمام (عليه السلام) ترك الغسل في أثناء النهار من مجرد تعبير السائل بالفوت من دون تعيين لوقت تركه ظاهر في المفروغية عن عدم استمرار الوقت لآخر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4.

ص: 9

النهار وانتهائه بأثنائه، وحيث لا يحتمل تحديد الوقت في أثناء النهار بغير الزوال تعين كونه منتهى الوقت.

ويعضده في ذلك موثق سماعة عنه (عليه السلام): "في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أول النهار. قال: يقضيه آخر النهار. فإن لم يجد فليقضه من يوم السبت" (1) فإن المنسبق منه أن منشأ سؤال السائل احتماله عدم مشروعية الغسل آخر النهار، وما ذلك إلا لقوة احتمال التحديد بالزوال على خلاف مقتضى الإطلاقات الكثيرة المقتضية لمشروعيته في تمام اليوم، فعدم ردع الإمام عن ذلك، بل تعبيره بالقضاء الموهم أو الظاهر في إرادة الإتيان بالعمل بعد وقته، ظاهر في إقراره على ذلك. ولاسيما مع تعقيبه بالقضاء يوم السبت الذي لا ريب في فهم السائل منه الإتيان به في غير الوقت، لا من جهة التعبير بالقضاء، ليمكن دعوى إرادة المعنى اللغوي منه، بل لضرورة عدم كون يوم السبت وقتاً لغسل الجمعة.

وكأن منشأ المفروغية المذكورة ملاحظة أصل تشريع الغسل. ففي الصحيح أو الموثق عن محمد بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في علة غسل يوم الجمعة أن الأنصار كانت تعمل في نواضحها وأموالها، فإذا كان يوم الجمعة حضروا المسجد، فتأذى الناس بأرواح آباطهم وأجسادهم، فأمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغسل، فجرت بذلك السنة"(2). فإن العلة المذكورة تناسب الغسل قبل الحضور للصلاة.

نعم النصوص المذكورة لا تنهض بنفسها بالتحديد بالزوال عدا موثق سماعة، فإنه حيث لا يراد فيه بأول النهار وآخره صدره وما يقارب منتهاه، لعدم الإشكال في مشروعية الأداء والقضاء بينهما، يتعين حمله على إرادة نصف النهار الأول ونصفه الثاني.

مضافاً في ذلك إلى صحيح زرارة:" قال أبو جعفر (عليه السلام): لا تدع الغسل يوم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 15.

ص: 10

والأحوط أن ينوي فيما بين الزوال إلى الغروب القربة المطلقة (1). وإذا تركه إلى الغروب قضاه (2) يوم السبت (3) إلى الغروب.

الجمعة، فإنه سنة، وشَم الطبيب ولبس صالح ثيابك. وليكن فراغك من الغسل قبل الزوال... وقال: الغسل واجب يوم الجمعة"(1). فإنه وإن لم ينهض بنفسه بتحديد الوقت بالزوال، لإمكان حمله على كونه أفضل أوقات الأداء، إلا أنه ينهض بذلك بضميمة النصوص السابقة، بناء على ما هو غير بعيد من ظهوره في مطلوبية حصول الزوال وهو مغتسل، لا في مطلوبية إيقاعه قرب الزوال، وإلا تعين حمله على بيان أفضل أوقات إيقاعه، وكان أجنبياً عن محل الكلام.

(1) إذ لا إشكال في مشروعيته أداءً أو قضاءً.

(2) بلا إشكال ظاهر. وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه في أصل القضاء، بل حكي الإجماع مكرراً في المصابيح نصاً عليه وظاهراً في غيره" .ويقتضيه مرسل حريز وموثقا ابن بكير وسماعة المتقدمة.

نعم في موثق ذريح عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في الرجل هل يقضي غسل الجمعة؟ قال: لا"(2). لكن لا مجال لرفع اليد به عما سبق. فلابد من حمله على نفي وجوب القضاء، أو التقية، لما قيل من أن قضاء غسل الجمعة من مختصات الإمامية.

(3) كما في الفقيه والمبسوط والنهاية والسرائر والشرايع والتذكرة والمنتهى وعن غيرها. ويقتضيه النصوص المتقدمة المصرحة بالإتيان به من الغد أو يوم السبت، ونحوها غيرها(3). لظهور الخطاب في الاستحباب التعييني. ومقتضاه عدم الاجتزاء به لو جيء به يوم السبت. بل لما كانت ليلة السبت متصلة بنهار الجمعة فلو أريد من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 47 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 4 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

ص: 11

السبت ما يعمها كان الأنسب بيان استمرار مشروعية القضاء، بمثل قولهم يقضي إلى آخر السبت لا الخطاب بالقضاء يوم السبت. مضافاً إلى أن قوله (عليه السلام) في موثق ابن بكير: "يغتسل ما بينه وبين الليل" كالصريح في التحديد وعدم مشروعيته في الليل.

لكن في القواعد: "ويقضي لو فات إلى آخر السبت" ،ونحوه في الدروس، وحكي عن جماعة. وعن المجمع نسبته للأصحاب، وعن المدارك أن عملهم عليه، وفي البحار نسبته لظاهر الأكثر. وكأنه بملاحظة كلام العلامة ومن بعده، وإلا فعبارات القدماء على الأول.

ومقتضاه الاجتزاء بقضائه ليلة السبت، كما صرح به بعضهم. وقد يستدل بالأولوية، لما فيه من المسارعة للخير وبالشهرة المدعاة، حتى نسب للأصحاب. لكنه كما ترى، لعدم بلوغهما مرتبة تصلح للظن بالحكم، فضلاً عن القطع به. وأما تتميمهما بقاعدة التسامح في أدلة السنن. فهو في غاية المنع، لعدم ثبوت القاعدة، واختصاص موضوعها بالخبر الحسي، دون الخبر الحدسي - كفتوى المشهور - والاحتمالات المجردة، كالأولوية الظنية.

وأضعف من ذلك ما في الجواهر من إمكان الاستدلال بموثق ابن بكير، بناء على أن المراد من فوت الغسل في يوم الجمعة فيه فوته في تمام اليوم، كما هو ظاهره، حيث يتعين حينئذٍ حمل قوله: "ما بينه وبين الليل" على إرادة امتداد زمان القضاء إلى آخر الليل، لا إلى أوله. فإنه تكلف غريب يقطع بعدم إرادته. ولاسيما وأن مقتضاه عدم مشروعية القضاء يوم السبت. فلاحظ.

ومن هنا لا مجال للخروج عن ظاهر النصوص المتقدمة بحمل التقييد فيها على الغالب أو على بيان منتهى زمان القضاء، بل يتعين العمل بظاهرها في خصوصية اليوم.

ومنه يظهر أنه لا مجال لاستصحاب مشروعية القضاء من نهار يوم الجمعة إلى ليلة السبت. إذ لا ينهض الاستصحاب في قبال ظاهر الدليل أو صريحه، كما سبق.

ص: 12

(13)

(13)

على أنه يشكل الاستصحاب في نفسه بعدم إحراز وحدة الموضوع، لاحتمال أخذ الزمان قيداً في الغسل المشروع، لا ظرفاً للمشروعية مع إطلاق الغسل المشروع.

بقي في المقام أمران:

الأول: مقتضى إطلاق المتن عدم الفرق في مشروعية القضاء بين الفوت عن عذر وغيره، كما هو مقتضى إطلاق جماعة وصريح آخرين. ويقتضيه إطلاق موثق ابن بكير، لصدق الفوت مع التعمد، خصوصاً إذا رجع إلى التسامح في التعجيل مع إرادة الفعل. وكذا إطلاق موثق سماعة بالإضافة إلى القضاء بعد الظهر من يوم الجمعة.

لكن في الفقيه: "ومن نسي الغسل أو فاته لعلة فليغتسل بعد العصر أو يوم السبت" ،وعن موجز أبي العباس: "ويقضي لو ترك ضرورة إلى آخر السبت" ،وفي النهاية: "فإن زالت الشمس ولم يكن قد اغتسل قضاه بعد الزوال فإن لم يمكنه قضاه يوم السبت".

وقد يستدل للأوليين في الجملة بمرسل الهداية المطابق لعبارة الفقيه، وبمرسل حريز المتقدم في أول الفصل. وللثالث بموثق سماعة.

لكن لا ظهور لها في المفهوم، ليخرج بها عن إطلاق موثق ابن بكير. بل لعل التقييد بالعذر في كلامهم يُبتنى على فرض أهمية الغسل بحيث لا يترك إلا عن عذر، لا لاعتباره في مشروعية القضاء، ليكون خلافاً في المسألة.

الثاني: ظاهر الأصحاب عدم مشروعية القضاء فيما بعد يوم السبت. وهو المناسب للاقتصار في النصوص عليه، إذ لو لم تكن ظاهرة في عدم مشروعية القضاء حينئذ فلا أقل من عدم ثبوت مشروعيته. لكن في الفقه الرضوي: "فإن فاتك الغسل يوم الجمعة قضيت يوم السبت أو بعده من أيام الجمعة"(1). ولا مجال للتعويل عليه في الخروج عن مقتضى الأصل من عدم مشروعية القضاء. ولاسيما مع ما في البحار من

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 13

(14)

ويجوز تقديمه يوم الخميس إن خاف إعواز الماء يوم الجمعة (1)

أنه لم ير قائلاً ولا رواية.

(1) كما صرح به جماعة كثيرة، وفي الجواهر:" على المشهور بين الأصحاب، بل لا أعرف فيه خلافاً، كما اعترف به في الحدائق، بل في كشف اللثام نسبته إلى الأصحاب".

ويشهد له صحيح محمد بن الحسين عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال لاصحابه: إنكم تأتون غداً منزلاً ليس فيه ماء، فاغتسلوا اليوم لغد، فاغتسلنا يوم الخميس للجمعة"(1). وحديث الحسين بن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أمه وأم أحمد بن [بنت. كافي] موسى بن جعفر قالتا: "كنا مع أبي الحسن (عليه السلام) بالبادية ونحن نريد بغداد، فقال لنا يوم الخميس: اغتسلا اليوم لغد يوم الجمعة، فإن الماء بها غداً قليل، فاغتسلنا يوم الخميس ليوم الجمعة"(2). وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في الاستدلال بها، لضعف الأول بالإرسال، والثاني بجهالة الحسين بن موسى وجهالة أمه وأم أحمد.

لكن الحسين بن موسى قد روى الكشي عنه رواية - وإن كان في سندها ضعف - تتضمن خضوعه للإمام الجواد (عليه السلام) واعترافه بعظيم شأنه، مع أنه عمه، وذلك يناسب قوة دينه. مضافاً إلى ما عن المفيد في الإرشاد، حيث قال:" ولكل واحد من ولد أبي الحسن موسى فضل ومنقبة مشهورة ".ويكاد يقطع بعدم اجتماع أم الحسين وأم أحمد على الكذب. ولاسيما وأن من القريب أن تكون الثانية زوجته (عليه السلام)، كما هو مقتضى رواية الفقيه والتهذيب للحديث المذكور، وهي من جملة أوصيائه، على ما رواه في الكافي(3) والعيون(4) ، وكانت أثيرة عنده، وعندها بعض ودائعه، على ما رواه

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 2.

(3) الكافي ج: 1 ص: 316.

(4) عيون أخبار الرضا" باب: 5 حديث: 1.

ص: 14

الكافي أيضاً(1).

وأما الإرسال في الأول فهو لو كان مانعاً من حجيته - بعد كون المرسل محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الجليل القدر - لا يمنع من كونه مؤيداً في المقام. ولاسيما مع ظهور مفروغية الأصحاب عن العمل بالحديثين، فإنه وإن كان مبناهم على التسامح في أدلة السنن، إلا أن الظاهر في المقام أن اعتمادهم على الحديثين بما أنهما دليلان في المقام، لا من جهة القاعدة المذكورة.

وينبغي الكلام في أمور:

الأول: هل تختص مشروعية التقديم بإعواز الماء، كما قد يظهر من الاقتصار عليه في الفقيه والشرايع والقواعد وعن غيرها جموداً على مورد النص، أو يعمّ مطلق تعذر الغسل، كما في التذكرة، وهو مقتضى إطلاق المبسوط والنهاية والسرائر والتذكرة والدروس وغيرها؟ وجهان.

وقد يقرب الثاني بإلغاء خصوصية مورد النص عرفاً. لكنه وإن كان قريباً، إلا أن في بلوغه حداً يوجب ظهور النص في العموم إشكال. وأما تنقيح المناط فلا مجال له بعد كون الحكم تعبدياً.

الثاني: هل يختص الحكم بالسفر، كما قد يظهر من الاقتصار عليه في الفقيه والنهاية، جموداً على مورد النص، أو يعمّ الحضر، كما هو مقتضى إطلاق الأكثر، بل صريح بعضهم: "ونسب للمشهور" ؟لا يبعد الثاني، لعموم التعليل في الحديثين، لأن مقتضى حمله على التعليل الارتكازي إلغاء خصوصية مورده.

الثالث: هل يعتبر إعواز الماء في تمام يوم الجمعة، أو يكتفى بإعوازه قبل الزوال الذي هو وقت الأداء؟ قد يظهر الأول من جماعة ممن أطلق الإعواز يوم الجمعة، كما في النهاية والفقيه والدروس وعن غيرها. كما قد يظهر الثاني ممن أطلق عنوان الفوت،

********

(1) الكافي ج: 1 ص: 381.

ص: 15

كما في المبسوط والسرائر. بل عن بعضهم التصريح بذلك، ونسبته للأكثر. ولا يبعد الأول، لأنه المتيقن من الحديثين. نعم لا ينبغي التأمل في عدم اعتبار الإعواز يوم السبت.

الرابع: مقتضى الحديث الأول توقف تقديم الغسل على عدم الماء يوم الجمعة، وموضوع الثاني قلته التي ينصرف منها القلة التي يصعب بسببها تهيئة الماء للغسل وإن كانت ممكنة، وحيث لا ظهور للأول في الحصر يتعين العمل بإطلاق الثاني.

الخامس: مقتضى الحديثين أن المعيار على قلة الماء أو عدمه واقعاً. ومقتضاه الاقتصار على القطع، كما هو مقتضى الاقتصار على اليأس في الخلاف ولا يكفي الظن - كما في التذكرة والمنتهى وعن نهاية الأحكام - فضلاً عن الخوف، كما في الفقيه ونهاية الشيخ والمبسوط والسرائر والشرايع وغيرها. بل في الجواهر: "قيل أنه المشهور شهرة كادت تكون إجماعاً" .ولا شاهد للاكتفاء بالخوف إلا الرضوي(1) الذي لا ينهض بإثبات حكم شرعي. ولعل اكتفاء الأكثر بالخوف لبنائهم على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء، فيكون الغسل مع الخوف مطابقاً للاحتياط.

السادس: ظاهر الخلاف والتذكرة أو صريحمها عدم مشروعية التقديم ليلة الجمعة وحكي عن غيرهما، بل قد يستفاد منهما دعوى الإجماع على ذلك. وإن كان الظاهر أن معقده عدم جواز التقديم على الفجر اختياراً.

وكيف كان فمقتضى الجمود على مفاد الحديثين الاقتصار على يوم الخميس. ولابد في التعميم من التشبث بالأولوية، بلحاظ أقربيته من وقت الأداء، وبالاستصحاب من يوم الخميس على نحو ما مرّ عند الكلام في مشروعية القضاء ليلة السبت، ومرّ الإشكال فيه. بل هو هنا أولى، لما قيل من أن ظاهر المعظم عدم مشروعية التقديم ليلة الجمعة.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 16

(17)

ولو اتفق تمكنه منه يوم الجمعة أعاده فيه (1). وإذا تركه حينئذٍ أعاده يوم السبت (2) برجاء المطلوبية فيهما (3).

(مسألة 80): يصح غسل الجمعة من الجنب والحائض (4). ويجزي

(1) لأن مقتضى ما تقدم في الأمر الخامس أنه لو تبين كثرة الماء يوم الجمعة ينكشف عدم مشروعية الغسل يوم الخميس مع القطع فضلاً عن الظن أو الخوف، فيعيد المكلف الغسل يوم الجمعة. وبذلك صرح في الفقيه والقواعد والتذكرة وعن غيرها. وإن كان تعليله في التذكرة بسقوط حكم البدل بالتمكن من المبدل منه، في غير محله، لأن مقتضى إطلاق دليل البدلية الاجتزاء بالبدل، بل الوجه في الإعادة انكشاف عدم البدلية، لعدم تحقق موضوعها وهو قلة الماء.

كما أن مقتضى ذلك انكشاف عدم إجزائه عن الوضوء، وبطلان العمل المترتب عليه مما يكون مشروطاً بالطهارة. فلاحظ.

(2) عملاً بإطلاق دليل القضاء فيه بعد صدق الفوت، على ما يظهر مما تقدم.

(3) يعني: فلا يترتب عليه أثر الغسل المشروع. ومقتضى ذلك احتماله (قدس سره) إجزاء الغسل يوم الخميس وإن انكشف وجدان الماء يوم الجمعة. وكأنه لاحتياج التدارك إلى عناية مغفول عنها فعدم التنبيه عليه في الحديثين قد يوجب ظهورهما في عدم وجوبه.

لكن ذلك قد يتجه لو كان الخطاب فيهما بنحو القضية الحقيقية العامة. أما حيث كان الخطاب فيهما بنحو القضية الخارجية الخاصة فلا مجال فيها لفرض الخطأ، ليكون عدم التنبيه للتدارك ظاهراً في عدمه. ولاسيما وأن المخبر بعدم الماء وبقلته هو الإمام المعصوم. فلاحظ.

(4) لإطلاق أدلة استحباب غسل الجمعة. ومجرد استمرار حدث الحيض للحائض لا ينافي ذلك، لإمكان اقتضائه مرتبة من الطهارة تجتمع مع الحدث المذكور.

ص: 17

(18)

عن غسل الجنابة والحيض إذا كان بعد النقاء، على الأقوى (1).

(ومنها): غسل يوم العيدين (2)،

ولاسيما مع ثبوت مشروعية غسل الإحرام لها.

نعم في صحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحائض تطهر يوم الجمعة وتذكر الله. قال: أما الطهر فلا، ولكنها توضأ في وقت الصلاة، ثم تستقبل القبلة، وتذكر الله" (1) فإن ظاهر الطهر فيه هو غسل الجمعة، لأنه المنسبق من خصوصية الجمعة، ولاسيما مع الأمر بعد ذلك بالوضوء. وأما حمله على مجرد عدم مطهرية الغسل أو الوضوء لها وإن كان مشروعاً في نفسه. فهو بعيد. وقد تقدم في المسألة الواحدة والعشرين من فصل أحكام الحيض ما ينفع في المقام.

(1) على ما تقدم في المسألة الثالثة والسبعين من مبحث الوضوء.

(2) إجماعاً كما في التذكرة والغنية والروض وظاهر المعتبر وغيرها، وفي الجواهر: "المستفيض من الإجماع المحكي" .والنصوص به مستفيضة، وفيها الصحيح والموثق وغيرهما(2).

وهي محمولة على الاستحباب إجماعاً. وتشهد به السيرة، إذ لو كان واجباً مع كثرة الابتلاء به لظهر وبان، وامتنع عادة قيام الإجماع والسيرة على عدم وجوبه. وقد يشعر به أو يدل عليه قوله (عليه السلام) في موثق سماعة: "وغسل يوم الفطر وغسل يوم الأضحى سنة لا أحب تركها"(3). ومن هنا يتعين حمل مثل صحيح عبد الله بن المغيرة عن القاسم بن الوليد عن أبي عبد الله (عليه السلام):" عن غسل الأضحى قال: واجب إلا بمنى "(4) على شدة الاستحباب.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب الحيض حديث: 3.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4.

ص: 18

ولا إشكال في أن مبدأه طلوع الفجر، لأنه مبدأ اليوم على المشهور المنصور. ويشهد له في الأضحى صحيح زرارة عن أحدهما (عليه السلام): "قال: إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزاك غسلك ذلك للجنابة والحجامة [الجمعة] وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة. فإذا اجتمعت عليك حقوق [الله] أجزاها عنك غسل واحد. قال: ثم قال: وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها"(1). فإن الإجزاء عن شيء فرع ثبوته. بل هو كالصريح من قوله (عليه السلام):" فإذا اجتمعت... ".ومن ذلك يظهر أن إطلاق ذيله شاهد بذلك في الفطر أيضاً. وبإلغاء خصوصية النحر في صدره.

وأما منتهاه فمقتضى إطلاق النص والفتوى أنه غروب الشمس، لأنه منتهى اليوم الذي أضيف له الغسل. لكن في السرائر أنه قبل الخروج إلى المصلى. وكأنه لموثق عمار:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل ينسى أن يغتسل يوم العيد. قال: إن كان في وقت فعليه أن يغتسل ويعيد، وإن مضى الوقت فقد جازت صلاته"(2).

وهو كما ترى، إنما يدل على عدم إعادة الصلاة بعد الوقت، لا على سقوط استحباب الغسل بانتهاء وقته. مع أنه لو دل على ذلك فهو لا يقتضي انتهاء وقت الغسل بالخروج إلى المصلى، كما هو المدعى، بل انتهاء وقت صلاة العيد أو ما يقرب من ذلك.

ونحوه ما تضمن ذكره في آداب صلاة العيد، كما عن ابن أبي قوة في كتاب أعمال شهر رمضان(3) ، وما عن الإمام الرضا (عليه السلام) في تعليل غسل الجمعة والعيدين: "فجعل فيه الغسل تعظيماً لذلك اليوم، وتفضيلاً له على سائر الأيام، وزيادة في النوافل والعبادة..."(4).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(3) الإقبال ص: 279.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 18.

ص: 19

(20)

ويوم عرفة (1)،

وقد صرح في الرضوي بأن منتهى وقته الزوال(1). وقد يحمل عليه صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: الغسل من الجنابة ويوم الجمعة ويوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة عند زوال الشمس..."(2). ولبعض ذلك مال في الرياض لتحديد منتهى وقته بالزوال، مؤيداً له بمساواة العيد للجمعة في أغلب الأحكام. ونسبه في الذكرى لظاهر الأصحاب.

لكن لم يعرف قائل بذلك منهم. كما أن صحيح بن سنان لا ينهض به، لقرب رجوع القيد فيه لغسل يوم عرفة، بلحاظ بدء الموقف فيه بعد الزوال. وإلا فلا قائل باستحباب إيقاع أغسال الأعياد عند الزوال، أو لزوم ذلك، بل المدعى أنه منتهى وقته. والرضوي ليس بحجة. وما قبله إنما يدل على استحباب إيقاع الصلاة عن الغسل المذكور، لا اتحاد وقتهما. فلم يبق إلا مساواة العيدين للجمعة الذي هو بالقياس أشبه. ومن ثم لا مخرج عن الإطلاق المقتضى لامتداد الوقت في تمام اليوم، وإن كان إيقاعه قبل الصلاة مقدمة لها أفضل من الصلاة نفسها.

(1) كما في المقنعة والشرايع والقواعد وغيرها، وعن الغنية والمدارك الإجماع عليه، وإن حكي عن جماعة من المتقدمين إهماله. ويقتضيه النصوص الكثيرة، وفيها الصحيح والموثق وغيرها(3) ، ومنها صحيح عبد الله بن سنان المتقدم.

ومقتضى إطلاقها استحبابه لمن لا يريد الوقوف بعرفة. بل هو صريح معتبر عبد الرحمن بن سيابة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن غسل يوم عرفة في الأمصار. فقال: اغتسل أينما كنت"(4).

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 10.

(3) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 2 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 20

كما أن مقتضى إطلاقها أيضاً امتداد وقته في تمام اليوم. لكن قال في الجواهر:" يحكى عن علي بن بابويه أنه قال: واغتسل يوم عرفة قبل زوال الشمس ".ولم يتضح وجهه. نعم ذكر في المقنع والهداية والمقنعة والنهاية والوسيلة والسرائر الغسل بعد الزوال لمن يريد الوقوف بعرفة، تبعاً للنصوص المتضمنة لذلك(1). وربما يحمل ذلك منهم ومن النصوص على الغسل للوقوف بعرفة الذي يأتي عدّه من الأغسال الفعلية.

لكن قال في التهذيب عند الكلام في الوقوف بعرفة:" والغسل يوم عرفة بعد الزوال ".ويظهر منه أن المشروع يوم عرفة غسل واحد، وأن بعد الزوال. وهو المناسب لصحيح الحلبي:" قال أبو عبد الله (عليه السلام): الغسل يوم عرفة إذا زالت الشمس. وتجمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين"(2). وعليه يحمل ما سبق في صحيح عبد الله بن سنان من أن غسل عرفة عند زوال الشمس.

وربما يكون هو مراد من سبق، بل قد يحمل عليه إطلاق غيرهم، لاحتمال كونهم في مقام بيان مشروعية الغسل هذا اليوم، مع إيكال بيان خصوصياته لكتاب الحج. كما ربما يكون هو الوجه في إهمال بعضهم لذكره هنا.

نعم قد يحمل التوقيت بما بعد الزوال في الصحيحين على بيان أفضل أوقات الغسل، مع سعة وقته في تمام اليوم، كما هو مقتضى القاعدة في الجمع بين المطلق والمقيد في المستحبات.

بل هو المتعين بلحاظ صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والحجامة [والجمعة. خ ل] وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة. فإذا اجتمعت عليك حقوق [الله] أجزأها عنك

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 10 باب: 9 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة.

(2) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 9 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة حديث: 2.

ص: 21

(22)

ويوم التروية (1) - وهو الثامن من ذي الحجة - ويوم الغدير (2) - وهو الثامن عشر منه

غسل واحد..."(1). إذ هو كالصريح في تحقق موضوع غسل عرفة بطلوع الفجر، وأن إجزاء الغسل الواحد بملاك التداخل، الذي هو فرع تحقق الموضوع.

(1) لغير واحد من النصوص. وبعضها وإن كان ظاهراً في استحبابه لإحرام الحج لا لليوم، إلا أن بعضها مطلق، كصحيح محمد بن مسلم في تعداد الأغسال:" ويوم تحرم ويوم الزيارة ويوم تدخل البيت ويوم التروية ويوم عرفة..."(2). ومن هنا لم يحسن إهمال جماعة من الأصحاب له عند التعرض للأغسال الزمانية.

(2) على المعروف بين الأصحاب، وفي مفتاح الكرامة: "نص عليه الجم الغفير" .بل في التهذيب: "وعليه أيضاً إجماع الفرقة المحقة لا يختلفون في ذلك" ،كما ادعى الإجماع عليه في الغنية والروض.

لكن ظاهر التهذيب وصريح الروض أن الدليل عليه عندهما خبر علي بن الحسين العبدي: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: صيام يوم غدير خم يعدل صيام عمر الدنيا... ومن صلى فيه ركعتين يغتسل عند زوال الشمس من قبل أن تزول مقدار نصف ساعة... عدلت عند الله عزو جل مائة ألف حجة ومائة ألف عمرة..."(3). وهو كما ترى ظاهر في استحباب الغسل للصلاة لا لليوم، فهو من الأغسال الفعلية، لا الزمانية. ومن هنا يشكل التشبث بالإجماع المتقدم، لاحتمال ابتنائه على مضمون الرواية، لا على استحباب الغسل لليوم تعبداً.

على أن الخبر ضعيف في نفسه. فلا مجال للبناء على مضمونه إلا بضميمة قاعدة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، ج: 5 باب: 3 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 1

ص: 22

التسامح في أدلة السنن.

نعم قد يستدل على استحباب الغسل لليوم المذكور بخبر الليثي عن الصادق (عليه السلام) قال في خبر طويل في فضل يوم الغدير:" فإذا كان في صبيحة اليوم وجب الغسل في صدر نهاره "(1) والرضوي(2). وهما ضعيفان أيضاً، ولم يتضح اعتماد الأصحاب عليهما، لما سبق من قرب ابتناء الإجماع المدعى على مضمون الخبر الأول. بل لا ريب في عدم اعتمادهم على الرضوي، لعدم العثور عليه إلا في العصور المتأخرة.

على أنه يشكل انجبار ضعف الخبر بعمل الأصحاب في المستحبات، لقرب ابتناء عملهم على قاعدة التسامح في أدلة السنن، لا لتوثقهم من صدور الخبر، خصوصاً في مثل هذا الخبر مما لم يدون في كتب الحديث المشهورة المتضمنة لروايات الفقه والأحكام التي مبنى الأصحاب على العمل برواياتها والفتوى بمضامينها.

ومثله الاستدلال بما تضمن أنه عيد(3) ، بضميمة ما في الخلاف من الإجماع على استحباب الغسل في الجمعة والأعياد، وما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله في يوم الجمعة:" هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا..."(4) ، وما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: "غسل الأعياد طهور لمن أراد طلب الحوائج..."(5) ، وما في معتبر محمد بن سنان عن الإمام الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه:" علة غسل العيد والجمعة وغير ذلك لما فيه من تعظيم العبد ربه... وليكون لهم يوم عيد معروف يجتمعون فيه على ذكر الله، فجعل فيه الغسل تعظيماً لذلك اليوم..."(6) ، لاندفاعه بعدم حجية الإجماع المذكور، وضعف النصوص المذكورة عدا معتبر ابن سنان، وهو منصرف للعيدين المشهورين

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 20 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(3) الغدير في الكتاب والسنة والأدب ج: 1 ص: 528-534 موسوعة الغدير الطبعة الثالثة 1425 ه -.

(4) منتهى المطلب ج: 2 ص: 470. وعن الموطأ ج: 1 ص: 65 رقم الحديث: 113.

(5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 18.

ص: 23

(24)

ويوم المباهلة (1)،

الأضحى والفطر. ولا أقل من كونهما المتيقن منه بعد عدم الإطلاق فيه، لعدم وروده في مقام التشريع، بل في مقام التعليل بعد المفروغية عن التشريع. وأما التعليل الذي تضمنه فالظاهر أنه حكمة لا يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً. ولعله لذا اقتصر في التذكرة حينما ذكره في ضمن مجموعة من الأغسال الزمانية على التعليل بشرف هذه الأوقات.

(1) كما ذكره جماعة، وفي الجواهر أنه المشهور بين الأصحاب، بل قد يحمل عليه ما عن الغنية من الإجماع على غسل المباهلة، بحمله على غسل يومها المعهود، لا غسل نفس المباهلة - الذي هو من الأغسال الفعلية، وأجنبي عما نحن فيه - لما في الجواهر من استبعاد دعوى الإجماع على الثاني، وإن كان ما ذكره لا يخلو عن خفاء.

وكيف كان فقد يستدل عليه بمرفوع القمي المروي عن الإقبال: "إذا أردت ذلك فابدأ بصوم ذلك اليوم شكراً، واغتسل والبس أنظف ثيابك"(1). لكن الظاهر منه إرادة الغسل للقيام ببعض الأعمال المندوبة، فيكون من الأغسال الفعلية. كما هو ظاهر أو صريح خبر محمد بن صدقة العنبري عن موسى بن جعفر (عليه السلام):" قال يوم المباهلة يوم الرابع والعشرون من ذي الحجة تصلي في ذلك اليوم ما أردت من الصلاة... وتقول على غسل الحمد لله رب العالمين..."(2). مضافاً إلى ضعف الخبرين معاً. ولا مجال لدعوى انجبار ضعف السند بالشهرة - لما تقدم - فضلاً عن ضعف الدلالة.

وأما قول الإمام الصادق (عليه السلام) في موثق سماعة المروي في الوسائل والفقيه والتهذيب: "وغسل المباهلة واجب"(3). فلا قرينة فيه على إرادة غسل يوم المباهلة

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 5 باب: 39 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 47 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

ص: 24

(25)

- وهو الرابع والعشرون منه (1) - ويوم مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) - وهو السابع عشر من ربيع الأول - ويوم النوروز (3)، وأول رجب، وآخره،

المعهود، لأصالة عدم التقدير، بل لعل المراد غسل نفس المباهلة لمن يقوم بها، حيث روي الغسل في آدابها(1). نعم رواه في المعتبر والتذكرة هكذا:" وغسل يوم المباهلة واجب ".لكن من القريب أنه مصحف عما سبق.

(1) كما هو أحد الأقوال في ذلك. وعن جماعة إنه المشهور. وتضمنه خبر محمد بن صدقة المتقدم، وقد فسر به غيره(2). وقيل: إنه الواحد والعشرون. وقيل إنه السابع والعشرون، وقيل إنه الخامس والعشرون. وبه صرح في المعتبر.

(2) كما في الدروس، قال في مفتاح الكرامة:" وعن فلاح السائل إنه يستحب يوم مولد النبي صلى الله عليه وآله، وهو سابع عشر ربيع الأول باتفاق أصحابنا، كما يظهر من الروضة وغيرها ".وعن محكي كشف الرموز نسبته للرواية، ولم أعثر عاجلاً عليها، وإنما روي في بعض كتب الزيارات استحباب الغسل لزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه.

نعم قد يستدل عليه بأنه عيد، فيدخل في عموم استحباب الغسل للأعياد. لكنه ممنوع صغروياً، لعدم الشاهد بكونه عيداً. وكبروياً، كما يظهر مما تقدم في غسل يوم الغدير.

(3) كما عن الشيخ والشهيد وأبي العباس والجامع، وفي الجواهر أنه المشهور بين المتأخرين، بل لم أعثر على مخالف فيه، لمرسل المعلى بن خنيس عن الصادق (عليه السلام) قال:" إذا كان يوم النيروز فاغتسل والبس أنظف ثيابك، وتطيب بأطيب طيبك، وتكون ذلك اليوم صائماً..."(3).

********

(1) من كتاب الدعاء الكافي ج: 2 ص: 513 من أبواب المباهلة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 47 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 48 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 1.

ص: 25

(26)

ونصفه (1) ويوم المبعث (2) - وهو السابع والعشرون منه

نعم في المناقب: "وحكي أن المنصور تقدم إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز، وقبض ما يحمل إليه. فقال: إني فتشت الأخبار عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم أجد لهذا العيد خبراً، وإنه سنة الفرس، ومحاها الإسلام..."(1).

لكنه لا ينهض بمعارضة ما سبق بعد اعتضاده بخبرين آخرين عن المعلى في فضل هذا اليوم(2). على أنه قد يجمع بينه وبينها بأن اليوم المذكور وإن كان ذا فضيلة ومزية، إلا أنه ليس عيداً.

نعم الكل لا يبلغ مرتبة الحجية، فلابد من تتميمه بقاعدة التسامح في أدلة السنن لو تمت. وقد اختلفوا في تعيين هذا اليوم، كما أطال الكلام فيه في مفتاح الكرامة والجواهر.

(1) فعن الإقبال:" وجدت في كتب العبادات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: من أدرك شهر رجب فاغتسل في أوله ووسطه وآخره خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"(3). ونحوه حكي عن كتاب لب اللباب(4). وعن نوادر الراوندي روايته مسنداً عن الحسن عن النبي(5) (صلى الله عليه وآله وسلم). وإن كان ضعيفاً.

(2) كما في المبسوط والقواعد والمنتهى والدروس وعن أبي العباس وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. وعن العلامة والصيمري نسبته للرواية. لكن علله في التذكرة بعد أن ذكره في ضمن مجموعة من الأغسال الزمانية بشرف هذه الأوقات ولم يشر للرواية. بل في الذكرى: "ونصف رجب والمبعث مشهوران، ولم يصل إلينا خبر فيهما" .ونحوه في الروض في يوم المبعث وليلة النصف من رجب.

********

(1) المناقب ج: 3 ص: 433 طبع النجف الأشرف.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 47 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 2، 3.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(4و5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 16 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 1.

ص: 26

(27)

وليلة الفطر (1) وليالي الإفراد من شهر رمضان (2)

(1) كما في المقنعة والمبسوط بل حكي عن جمهور الأصحاب، وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. ففي معتبر الحسن بن راشد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في فضل ليلة الفطر: "قلت: جعلت فداك فما ينبغي أن نعمل فيها؟ فقال: إذا غربت الشمس فاغتسل، وإذا صليت الثلاث المغرب [ركعات] فارفع يدك وقل..."(1). كذا رواه في الكافي والتهذيب والعلل. لكن أسقط في الفقيه قوله:" فاغتسل".

ودعوى: سقوط رواية الصدوق للحديث في العلل والفقيه بالاضطراب، وتبقى رواية الكليني والشيخ حجة. مدفوعة باختلاف سند الصدوق في الفقيه مع سنده في العلل، وذلك يرجع للتعارض بين جميع الأسانيد، لا خصوص ما بين العلل والفقيه، فيسقط الجميع عن الحجية. على أن ظاهره استحباب الغسل في ضمن عمل بعد صلاة المغرب فهو من الأغسال الفعلية، لا استحبابه في ليلة العيد مستقلاً، ليكون من الأغسال الزمانية.

وأما ما عن الإقبال:" روي أنه يغتسل قبل الغروب من ليلة إذا علم أنها ليلة العيد "(2) فهو - مع ضعفه بالإرسال - لا يقتضي استحباب الغسل ليلة العيد، بل قبلها. ولعله لذا اقتصر في التذكرة على تعليله بشرف الوقت فيما أشرنا إليه آنفاً.

(2) قال في الجواهر:" وفاقاً لجماعة من أساطين أصحابنا منهم الشيخ. قال - على ما نقل عنه -: وإن اغتسل ليالي الإفراد كلها، وخاصة ليلة النصف، كان له فضل كثير. انتهى. لما رواه السيد في الإقبال في سياق أعمال الليلة الثالثة من الشهر: وفيها يستحب الغسل على مقتضى الرواية التي تضمنت أن كل ليلة مفردة من جميع الشهر يستحب فيها الغسل...".

نعم خص جماعة الليلة الأولى منه بالذكر، وعن المعتبر نسبته للأصحاب،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 2.

ص: 27

وأول يوم منه (1)، ويتأكد في ليالي القدر (2)،

وفي الغنية والروض الإجماع عليه. لقوله (عليه السلام) في موثق سماعة:" وغسل أول ليلة من شهر رمضان مستحب"(1). وقريب منه في ذلك معتبر الفضل بن شاذان(2) ، مؤيداً بنصوص أخر مرسلة(3).

(1) لما في الإقبال بسنده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "قال: من اغتسل أول يوم من السنة في ماء جار وصب على رأسه ثلاثين غرفة كان دواء السنة. وأول كل سنة أول يوم أول يوم من شهر رمضان" .والظاهر أن ما في الوسائل من روايته عنه هكذا: "من اغتسل أول ليلة من السنة..." (4) تصحيف منه، لمخالفته للموجود في المطبوع منه، المعتضد بما حكاه في الجواهر عنه مستدلاً به على استحباب الغسل في اليوم المذكور.

نعم ورد الغسل في أول ليلة منه في موثق سماعة عن الإمام الصادق(5) (عليه السلام). ومعتبر الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا(6) (عليه السلام). وفي المرسل عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من أحب أن لا يكون به الحكة فليغتسل في أول ليلة من شهر رمضان، فلا تكون به الحكة إلى شهر رمضان من قابل"(7).

(2) فقد نص الأصحاب على استحباب الغسل فيها. قال في الجواهر:" للإجماع المحكي - إن لم يكن محصلاً - في الغنية والروض والمصابيح "ويقتضيه النصوص المستفيضة، وفيها الصحيح والموثق وغيرهما(8).

ويظهر من مجموع النصوص أفضلية الليلتين الأخيرتين، لاقتصار بعض

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 6، 14.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 7.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 6.

(7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

(8) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1، 4 من أبواب الأغسال المسنونة.

ص: 28

وليلة النصف (1)،

النصوص عليهما(1). بل في معتبر سليمان بن خالد:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) كم أغتسل في شهر رمضان ليلة؟ قال: ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين. قلت: فإن شقّ عليّ؟ فقال: في إحدى وعشرين وثلاث وعشرين. قلت: فإن شقّ عليّ؟ قال: حسبك الآن"(2).

كما يظهر منها أيضاً أفضلية الليلة الأخيرة. ففي موثق زرارة عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن الليالي التي يستحب فيها الغسل من شهر رمضان فقال: ليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين. قال: وفي ليلة تسع عشرة يكتب وفد الحاج، وفيها يفرق كل أمر حكيم، وليلة إحدى وعشرين فيها رفع عيسى، وفيها قبض وصي موسى [وفيها قبض أمير المؤمنين (عليه السلام)] وليلة ثلاث وعشرين، وهي ليلة الجهني. وحديثه أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن منزلي ناء عن المدينة فمرني ليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين"(3). فإن اقتصار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها ونقل الإمام (عليه السلام) لذلك ظاهر في أفضليتها.

هذا وفي خبر بريد [عن أبي عبد الله (عليه السلام)]:" رأيته اغتسل في ليلة ثلاث وعشرين [من شهر رمضان] مرتين مرة من أول الليل ومرة من آخر الليل"(4). لكنه - مع عدم خلو سنده عن ضعف، لجهالة طريق الشيخ إلى إبراهيم بن مهزيار - حكاية فعل لا تخلو عن إجمال.

(1) كما ذكره غير واحد، وفي الغنية أن عليه الإجماع. لورود بعض النصوص المرسلة بذلك(5).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1، 4 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 13.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 9.

ص: 29

والليلة السابعة عشر (1)، بل جميع ليالي العشر الأخيرة (2)،

(1) كما ذكره غير واحد وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. وتضمنه صحيحا محمد بن مسلم(1) وغيرهما.

(2) ففي بعض النصوص المرسلة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفعل ذلك(2). كما ورد النص على غسل ليلة خمس وعشرين(3) وغسل ليلة سبع وعشرين وتسع وعشرين(4).

وأما ليلة أربع وعشرين فقد حكي التصريح باستحباب الغسل فيها عن أبي قرة. وقد تضمنته رواية الخصال، حيث روى الصدوق بسنده الصحيح عن حريز بن عبد الله فقال: "قال: قال محمد مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): الغسل في سبعة عشر موطناً: ليلة سبع عشرة من شهر رمضان... وليلة تسع عشرة... وليلة إحدى وعشرين... وليلة ثلاث وعشرين... - وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الله البصري: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اغتسل في ليلة أربعة وعشرين. ما عليك أن تعمل في الليلتين جمعياً؟! رجع الحديث إلى محمد بن مسلم في الغسل - ويوم العيدين..."(5).

وقد استظهر بعض مشايخنا - تبعاً لبعض السادة المعاصرين (قدس سره) - أن يكون حديث عبد الرحمن من جملة ما ذكره حريز في ضمن حديث محمد بن مسلم، وحيث كان طريق الصدوق لحريز صحيحاً يكون الحديث المذكور كذلك. لكنه لا يخلو عن خفاء، لإمكان أن يكون الصدوق هو الذي أقحم حديث عبد الرحمن في ضمن حديث محمد بن مسلم.

نعم يؤيد ما ذكره (قدس سره) ما في مستدرك الوسائل عن الإقبال:" روينا بإسنادنا إلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5، 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 6، 10، 14.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 12، 13.

(5) أشار للحديث في وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5.

ص: 30

الحسين بن سعيد من كتاب على بن عبد الواحد الهندي عن حماد وعن حريز عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اغتسل في ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان"(1).

مع أن طريق الصدوق في الفقيه إلى عبد الرحمن صحيح أيضاً. وهو وإن لم يصرح في الخصال بالتزامه بعدم إرساله عمن له إليه طريق إلا ما رواه عنه بالطريق المذكور، كما صرح بذلك في الفقيه، إلا أنه من البعيد جداً خروجه عن ذلك. ولا أقل من تأيد إحدى الروايتين بالأخرى. ومن ثم يقوى البناء على مشروعية الفعل المذكور. وإن كان في النفس منه شيء.

هذا وفي بعض نصوص أغسال العشر الأواخر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يغتسل في كل ليلة منه بين العشائين(2). لكن في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) في غسل ليالي القدر: "والغسل في أول الليل. وهو يجزي إلى آخره"(3) ، ونحوه خبر بكير وابنه(4). وقد تضمنا عدم بطلانه بالنوم. بل في صحيح زرارة والفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: الغسل في شهر رمضان عند وجوب الشمس قبيله، ثم يصلي ويفطر"(5).

والكل محمول على الاستحباب. ولاسيما بملاحظة صحيح العيص بن القاسم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الليلة التي يطلب فيها ما يطلب متى الغسل، فقال: من أول الليل، وإن شئت حيث تقوم من آخره. وسألته عن القيام. قال: تقوم في

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 9 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 6، ومستدرك الوسائل ج: 2 باب: 9 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 4 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

ص: 31

(32)

وفي غير ذلك (1).

أوله وآخره"(1). ويكون المتحصل من مجموع النصوص مشروعية الغسل في تمام الليل، وأن الأفضل إيقاعه في أوله، وأفضل منه إيقاعه قبيل غروب الشمس.

(1) فقد ذكر الأصحاب بعض الأغسال الأخر.

منها: الغسل ليلة النصف من شعبان، حيث نص على استحباب الغسل فيها في المبسوط والشرايع والتذكرة والمنتهى والقواعد وغيرها. ونسب لجماهير الأصحاب وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. ويشهد له خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: صوموا شعبان واغتسلوا ليلة النصف منه، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة"(2). وضعفه سنداً مانع من التعويل عليه إلا بضميمة قاعدة التسامح في أدلة السنن.

وأضعف منه المرسل عن سالم مولى أبي حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "قال: من تطهر ليلة النصف من شعبان فأحسن الطهر... [ثم ذكر عملاً طويلاً... إلى أن قال:] قضى الله له ثلاث حوائج إما في عاجل الدنيا أو في آجل الآخرة، ثم إن سأل أن يراني من ليلته رآني"(3). على أنه ظاهر في استحباب الغسل للعمل الخاص في الليلة المذكورة، لا الليلة نفسها الذي هو محل الكلام.

ومنها: غسل الكسوف إذا احترق القرص كله. ولو قيل باختصاصه بما إذا فاتت المكلف الصلاة وأراد القضاء كان من الأغسال الفعلية لا الزمانية.

وكيف كان فالدليل عليه قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم:" وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاغتسل"(4) ، وقوله (عليه السلام) في صحيحه الآخر المروي في الخصال: "وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاستيقظت ولم تصل فاغتسل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 8 من أبواب بقية الصلوات المندوبة حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 11.

ص: 32

واقض الصلاة"(1). ونحوه مرسل الفقيه(2) ، بل هو عينه. وصحيح حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إذا انكسف القمر فاستيقظ الرجل فكسل أن يصلي [ولم يصل] فليغتسل من غد، وليقض الصلاة. وإن لم يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلا القضاء بغير غسل"(3).

وقد اضطربت كلماتهم في وجوب هذا الغسل أو استحبابه، وفي تحديد موضوعه، من حيثية الاكتفاء بمطلق الكسوف أو اعتبار احتراق القرص كله، أو اعتبار التفريط في الصلاة، أو اعتبار الأمرين معاً، أو جعل الغسل مقدمة للقضاء.

والذي ينبغي أن يقال: التأمل في صحيحي محمد بن مسلم شاهد بوحدتهما، لاتفاقهما في تعداد الأغسال السبعة عشر إلا إبدال غسل الميت بغسل الجنابة، وفي تسلسل الغالب منها، وفي بعض الخصوصيات الأخر، وليس الاختلاف القليل إلا ناشئاً من النقل بالمعنى.

ومن ثم يقرب أن يكون الاختلاف بينهما في الفقرة المذكورة مبنياً على ذلك، ويكون العمل على رواية الخصال، لأنها عرفاً من سنخ المبين لإجمال الأولى. وظاهرها إرادة التفريط في الصلاة، لظهور قوله:" فاستيقظت ولم تصل "في القدرة على الصلاة بالاستيقاظ، وعدم ترتب الصلاة تسامحاً، كما هو المصرح به في مرسل حريز. ولا أقل من كون ذلك مقتضى الجمع بين الصحيحين، لأن حديث الخصال من سنخ المقيد، فيرفع به اليد عن إطلاق الحديث الأول.

ومن هنا يكون هذا الغسل من صغريات غسل التوبة، أو يكون تشريعه عقوبة بسبب الذنب المذكور، نظير ما قد يحتمل في غسل السعي لرؤية المصلوب.

وكيف كان فالظاهر استحبابه. ويناسب ذلك أن مثل هذا الغسل الشايع

********

(1) الخصال ج: 2 ص: 478 من باب السبعة عشر حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 33

الابتلاء لو كان واجباً لاشتهر أمره، وكثرت النصوص فيه وفي فروعه، ولم يخفَ على الأصحاب، حتى اضطربوا فيه هذا الاضطراب.

على أنه يشكل استفادة وجوبه من صحيحي محمد بن مسلم بعد عدّه فيهما في سياق سبعة عشر غسلاً أكثرها مستحب، بل كثير منها ظاهر الاستحباب، فلم يبق إلا مرسل حريز الذي لا ينهض بإثبات وجوبه مع ما فيه من الإرسال.

هذا والمتيقن من النصوص السابقة إرادة كسوف القمر، للتصريح به في مرسل حريز، ولا شعار فرض الاستيقاظ في رواية الخصال في وقوع الكسوف ليلاً، المناسب لإرادة القمر. ومعه يشكل التمسك بإطلاق الحديث الأول، لما سبق من ظهور اتحاد الصحيحين.

نعم لا يبعد البناء على إلغاء خصوصية القمر عرفاً، بعد كون المفهوم من النص أن ذكر الاستيقاظ للكناية عن التفريط. بل ربما قيل بأولوية الشمس في ذلك، لأولويتها في حيثية كونها آية. ومن هنا يقرب عموم الحكم لها معاً كما صرح به في الرضوي(1). وهو مقتضي إطلاق جماعة من الأصحاب، وعن صريح بعضهم، بل عن ظاهر بعضهم الإجماع عليه، وعن المصابيح أنه محل وفاق. ولم ينقل عن أحد الخلاف في ذلك.

وقد تحصل من جميع ما سبق أن الأغسال الزمانية المشروعة هي أغسال أيام الجمعة والعيدين وعرفة والتروية، والليلة الأولى من شهر رمضان، وليلة السابع عشر منه، وليالي القدر، وليلة أربعة وعشرين، على إشكال في الأخيرة. وأما غسل المباهلة، وغسل الكسوف، فهي وإن كانت مشروعة إلا أنها ليست من الأغسال الزمانية بالمعنى المعهود.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 17 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 34

(35)

(35)

(مسألة 81): جميع الأغسال الزمانية لا ينقضها الحدث الأكبر (1) والأصغر (2). ويتخير في الإتيان بها بين ساعات وقتها (3). والثاني (4) أيضاً له أفراد كثيرة: كالغسل لدخول مكة (5)،

(1) ليس المراد بذلك عدم انتقاض الطهارة الحاصلة منها بالحدث المذكور، لعدم الإشكال في انتقاضها به، لإطلاق أدلة أسباب الإحداث للحدث، بل المراد عدم مانعية الحدث الأكبر من إجزائها، فلا تشرع إعادتها من أجله. وهو أمر لا إشكال فيه ظاهراً، لأن مقتضى إطلاق أدلتها الاجتزاء بإيقاعها في الزمان الخاص من دون نظر لأمد بقائها.

(2) لعين ما سبق. بل صرح في غسل الجمعة وغسل ليالي القدر بعدم الانتقاض بالنوم في خبري بكير وابنه(1).

(3) للإطلاق. لكن تقدم جواز تقديم أغسال ليالي شهر رمضان على الليل قليلاً. لصحيح الفضيل وزرارة(2).

(4) وهو الأغسال المكانية. وقد تقدم في أول هذا المقصد رجوعها للأغسال الفعلية.

(5) كما في القواعد والإرشاد وعن جماعة، بل في الخلاف - في المسألة الثالثة والستين من كتاب الحج - الإجماع عليه. للنص عليه في صحيحي معاوية بن عمار(3) وعبد الله بن سنان(4) ، ومعتبر الفضل بن شاذان المتضمن كتاب الإمام الرضا (عليه السلام) للمأمون(5) ، وما عن الأعمش في حديث شرايع الدين(6). وقد يستفاد من غيرها. وما في كشف اللثام من أنه ادعى في الخلاف الإجماع على عدمه. غريب بعد ما عرفت.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2، 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 10.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 6، 8.

ص: 35

أو المدينة (1)، أو أحد مسجديهما (2)،

ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين الدخول لأداء فرض أو نفل وغيره. لكن خصه في المقنعة بما إذا كان لأداء فرض أو نفل. وكأنه للانصراف. وإن كان لا يخلو عن إشكال.

(1) كما صرح به غير واحد، بل في الغنية الإجماع عليه. للنصوص المتقدمة في دخول مكة. وللنص عليه بالخصوص في صحيح عبد الله بن سنان الآخر(1). وفي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها، أو حين تدخلها ثم تأتي قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..."(2). وقد خصه في المقنعة بمن دخلها لأداء فرض أو نفل، كما تقدم في دخول مكة. وهو قد يتجه بلحاظ الصحيح الآخر، أما بلحاظ غيره فالكلام فيه على نحو ما تقدم في سابقه.

(2) كما نص عليه جماعة، وفي الخلاف الإجماع على استحبابه لدخول المسجد الحرام، وفي الغنية الإجماع على استحبابه لهما معاً.

وقد تضمنت جملة من النصوص تشريعه لدخول البيت(3). ويظهر من بعضهم حمله على الكعبة الشريفة، لا تمام المسجد، ويناسبه قوله تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس..."(4). وما في بعض النصوص المذكورة من ذكره مع غسل الزيارة(5) الذي كان المتيقن منه غسل زيارة المسجد الحرام، إذ لو أريد حينئذٍ بدخول البيت دخول المسجد لا الكعبة للزم التكرار.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 6 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 4، 5، 11، 12.

(4) سورة المائدة الآية: 97.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 4، 5، 11.

ص: 36

أو حرميهما (1)،

نعم لا مجال لذلك في صحيح معاوية بن عمار، لقوله (عليه السلام) فيه:" ويوم عرفة ويوم تزور البيت وحين تدخل الكعبة"(1) ، حيث تعين حينئذٍ حمله على دخول المسجد الحرام، لئلا يلزم التكرار. ولعله لصدق زيارة الكعبة بذلك دون توقف على دخولها.

لكن يشكل حمله على مطلق دخول المسجد، بل يقرب أن يراد منه دخوله لطواف الزيارة، الذي هو من أعمال الحج بعد أعمال منى، لقرب كون التعبير بالزيارة للإشارة إلى ذلك، كالتعبير بغسل الزيارة في بعض النصوص المشار إليها آنفاً، إذ بعد تعذر حملها على مطلق الزيارة لابد من حملها على زيارة معهودة، وهي ما ذكرنا. وبذلك قد تكون هذه النصوص أيضاً قرينة على ما ذكرنا من حمل زيارة البيت في صحيح معاوية على ذلك.

ومن ثم يشكل البناء على عموم استحباب الغسل لدخول البيت للمكث فيه، فضلاً عن العبور. إلا أن يستفاد من فحوى استحباب الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه أفضل منه. لكنه لا يخلو عن إشكال.

وأما الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشهد له قوله (عليه السلام) في حديث محمد بن مسلم: "وحين تدخل الحرم، وإذا أردت دخول البيت الحرام، وإذا أردت دخول مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)"(2). وليس في سنده إلا القاسم بن عروة حيث لم ينص على توثيقه إلا في كتاب المسائل الصاغانية المطبوع المنسوب للمفيد مع ما قيل من عدم ثبوت صحة نسبته له. إلا أن الظاهر استفادة توثيقه من رواية ابن أبي عمير والبزنطي عنه، للنص على أنهما لا يرويان إلا عن ثقة، مؤيداً برواية جماعة من الأعيان عنه.

(1) فقد صرح غير واحد باستحباب الغسل لدخول الحرم المنصرف لحرم مكة، وفي الغنية دعوى الإجماع عليه. ويقتضيه قوله (عليه السلام) في موثق سماعة في تعداد

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1، 12.

ص: 37

أو البيت الشريف (1)، وغير ذلك (2).

الأغسال:" وغسل دخول الحرم، يستحب أن لا تدخله إلا بغسل"(1). وكذا صحيح عبد الله بن سنان(2) ، وحديث محمد بن مسلم(3) المتقدم عند الكلام في استحباب الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

لكن في كشف اللثام عن الشيخ في الخلاف الإجماع على عدمه. وهو غريب. بل في مفتاح الكرامة ومحكي المفاتيح عدم العثور على ذلك في الخلاف.

كما يشهد باستحباب الغسل لدخول الحرمين معاً قوله (عليه السلام) في صحيحي محمد بن مسلم: "وإذا دخلت الحرمين"(4) ، ونحوهما مرسل الصدوق(5) قال في الجواهر:" واحتمال إرادة نفس البلدين تكلف لا داعي له، ولا شاهد عليه".

(1) يعني الكعبة، كما صرح به جماعة، وفي الخلاف والغنية الإجماع عليه. ويشهد به ما تقدم عند الكلام في استحباب الغسل لدخول المسجدين من قوله (عليه السلام) في صحيح معاوية:" وحين تدخل الكعبة"(6). وفي صحيح عبد الله بن سنان: "وعند دخول مكة والمدينة ودخول الكعبة"(7). مضافاً إلى نصوص دخول البيت التي تقدمت الإشارة لها هناك.

(2) ففي المنتهى وعن نهاية الأحكام والموجز ومحكي شرحه استحباب الغسل لدخول مشاهد الأئمة (عليهم السلام) بعد أن ذكروا استحبابه للزيارة. وعن أبي علي استحبابه لكل مشهد أو مكان شريف. ولا يتضح الوجه فيه إلا الحمل على مكة والمدينة وحرميهما ومسجديهما الذي هو بالقياس أشبه. وأما ما تضمن استحبابه للزيارة فالمنصرف منه بقرينة السياق زيارة البيت لطواف الحج، كما سبق. مع أنه من الأغسال الفعلية، دون المكانية التي هي محل الكلام.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 7، 12.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 5، 11.

(5و6و7) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 4، 1، 10.

ص: 38

(39)

(مسألة 82): وقت الغسل في هذا القسم قبل الدخول في هذه الأمكنة (1)

(1) فإن المناسبات الارتكازية تقضي بأن مشروعية هذه الأغسال بلحاظ شرف الأماكن المذكورة المناسب للتهيؤ لدخولها بالغسل، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في حديث محمد بن مسلم:" وإذا أردت دخول البيت الحرام"(1) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح معاوية بن عمار المتقدم في الغسل لدخول المدينة: "قبل أن تدخلها أو حين تدخلها"(2).

ومنه يظهر أن تقديم الغسل على الدخول إنما هو ليكون على غسل حينه، لا لخصوصية في التقديم، كما هو المصرح به في قوله (عليه السلام) في موثق سماعة في تعداد الأغسال:" وغسل دخول البيت واجب، وغسل دخول الحرم يستحب أن لا تدخله إلا بغسل"(3).

وعلى ذلك تنزل عبارات النصوص المختلفة، حيث أطلق في بعضها غسل الدخول، وعبر في آخر بالغسل للدخول، وفي ثالث بالغسل يوم الدخول، وفي رابع بالغسل حينه، أو عنده... إلى غير ذلك مما تصلح القرينة المذكورة لحمله على ما ذكرنا.

لكن في صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله: "قال: إذا انتهيت إلى الحرم إن شاء الله فاغتسل حين تدخله. وإن تقدمت فاغتسل من بئر ميمون، أو من فخ، أو من منزلك بمكة"(4) ، وفي صحيح ذريح:" سألته عن الغسل في الحرم قبل دخوله أو بعد دخوله؟ قال: لا يضرك أي ذلك فعلت. وإن اغتسلت بمكة فلا بأس، وإن اغتسلت في بيتك حين تنزل بمكة فلا بأس"(5).

وإذا أمكن تنزيل الأول على الاضطرار - وإن كان خلاف الظاهر - فلا مجال لذلك في الثاني. فما عن الشيخين والأكثر من تنزيل هذه الأخبار عليه في غير محله. كم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 12.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 6 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 1، 3.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 2 من أبواب مقدمات الطواف حديث: 2، 1.

ص: 39

(40)

قريباً منه (1).

والثالث (2) قسمان:

(الأول): ما يستحب لأجل إيقاع فعل، كالغسل للإحرام (3)، أو

أن تنزيلها على الغسل لدخول المسجد أو الكعبة مخالف للظاهر، خصوصاً في الثاني. ومن ثم يتعين الاقتصار على موردهما، وهو غسل الحرم. لكن مع البناء على أفضلية تقديم الغسل قبل الدخول، لموثق سماعة المتقدم.

(1) كما هو مقتضى التعبير بالغسل حينه أو عنده أو عند أرادته. لكن ظاهر قوله (عليه السلام) في موثق سماعة المتقدم: "وغسل دخول الحرم يستحب أن لا تدخله إلا بغسل" أن المطلوب إيقاع الدخول عن غسل، وهو المناسب لإطلاق قوله (عليه السلام) في صحيح معاوية بن عمار المتقدم في الغسل لدخول المدينة: "قبل أن تدخلها أو حين تدخلها" .كما هو المناسب أيضاً للوجه الارتكازي المتقدم لاعتبار إيقاعه قبله. وحينئذٍ يتجه جريان ما يأتي في الأغسال الفعلية في المسألة الثالثة والثمانين، لإطلاق نصوص تلك المسألة، لعدم الإشارة فيها للاختصاص بالأغسال الفعلية بالمعنى المقابل للمكانية.

(2) وهو الأغسال الفعلية.

(3) كما عن جمهور الأصحاب، وفي الخلاف والغنية وعن غيرهما الإجماع عليه، وعن غير واحد نفي الخلاف فيه. ويقتضيه النصوص الكثيرة المستفيضة، وفيها الصحيح والموثق وغيرهما. وهي محمولة على الاستحباب عندهم.

لكن عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد الوجوب، وقد يستظهر من غيرهما ممن أطلق الأمر به، كالصدوق والشيخ في النهاية. ويدفعه أن كثرة الابتلاء به مع صعوبة الغسل في تلك الحال تقضي بعدم وجوبه، وإلا لظهر وبان، ولم يخفَ على معظم الأصحاب.

ص: 40

الطواف (1) أو الوقوف بعرفات (2)،

(1) كما ذكره الأصحاب، وفي الخلاف الإجماع عليه. لكن ادعى في الغنية الإجماع على غسل زيارة البيت من منى، الظاهر في طواف الزيارة، الذي سبق عند الكلام في استحباب الغسل لدخول المسجد الحرام أنه المتيقن مما تضمن مشروعية الغسل للزيارة من النصوص(1) التي فيها الصحيح والموثق وغيرهما ومن قوله (عليه السلام) في صحيح معاوية بن عمار: "ويوم تزور البيت"(2).

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن زيارة البيت طوافه، فهو غير ظاهر المأخذ، بل الظاهر عدم خروج الزيارة عن معناها العرفي، وليس الطواف إلا واجباً في زيارة البيت المذكورة. ومن هنا يكون إثبات استحباب الغسل لكل طواف من هذه النصوص في غاية الإشكال.

نعم قد يستدل بمعتبر علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن (عليه السلام):" قال لي: إن اغتسلت بمكة ثم نمت قبل أن تطوف فأعد غسلك"(3). لكنه لما كان ورداً لبيان ناقضية النوم للغسل فلا إطلاق له من حيثية الطواف الذي يشرع له الغسل.

(2) بلا خلاف أجده فيه كما في الجواهر، بل في الخلاف وعن المدارك الإجماع عليه. ويستدل له بصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: "فإذا انتهيت إلى عرفات فاضرب خباك بنمرة. ونمرة هي بطن عرفة دون الموقف ودون عرفة. فإذا زالت الشمس يوم عرفة فاغتسل وصلّ..."(4) ، وفي صحيح الحلبي:" الغسل يوم عرفة إذا زالت الشمس. وتجمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين"(5). وقريب منهما غيرهما.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 4، 5، 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 6 من أبواب مقدمات الطواف حديث: 2.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 9 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة حديث: 1، 2.

ص: 41

أو المشعر (1)، أو الذبح، أو النحر، أو الحلق (2) ولغير ذلك (3).

لكن لا ظهور لها في أن الغسل من أجل الوقوف بعرفة، بل مقتضى صحيح الحلبي أن الغسل المذكور هو غسل يوم عرفة يؤتى به في هذا الوقت، كما هو مقتضى صحيح عبد الله بن سنان أيضاً، على ما تقدم عند الكلام في غسل يوم عرفة من الأغسال الزمانية. فراجع.

(1) إجماعاً كما في الخلاف. واستدل في الجواهر به، وبأولويته من الغسل للوقوف بعرفة. وكلاهما كما ترى.

(2) كما في الجواهر، لصحيح زرارة: "قال: إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزاك غسلك ذلك للجنابة والحجامة [الجمعة] وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، فإذا اجتمعت عليك حقوق [الله] أجزاها عنك غسل واحد..."(1).

(3) كغسل زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) قال في الجواهر:" على المشهور بين الأصحاب، بل في كشف اللثام والمصابيح نسبته إلى قطع الأصحاب، مؤذنين بدعوى الإجماع عليه، بل في الغنية دعواه صريحاً ".وقد يستدل عليه بما تضمن تشريع غسل الزيارة من النصوص الكثيرة(2) التي فيها الصحيح والموثق وغيرها.

لكن تقدم عند الكلام في استحباب الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منع دلالتها على ذلك، وأن المتيقن منها دخول المسجد لطواف الزيارة الذي هو من أعمال الحج بعد الرجوع من منى. فراجع.

وقد تضمنت جملة من النصوص المعتبرة وغيرها استحبابه لزيارات خاصة لهم (عليهم السلام) بكيفيات مختلفة لا مجال لاستفادة العموم منها حتى لو كانت معتبرة في نفسها. فلتلحظ في أبواب المزار من الوسائل وفي كامل الزيارات.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 43 من أبواب الجنابة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3، 4، 5، 11.

ص: 42

(والثاني): ما يستحب بعد وقوع فعل منه كالغسل لقتل الوزغ (1)، ومس الميت بعد تغسيله (1).

نعم تضمن صحيح معاوية بن عمار المتقدم في استحباب الغسل لدخول المدينة زيارة النبي في جملة الأعمال لمن دخلها. وتضمن صحيح له آخر الأمر به عند وداعه(1) (صلى الله عليه وآله وسلم). وهما لو دلّا على استحباب الغسل للزيارة، لا لدخول المدينة والخروج منها، لكانا مختصين بالزيارة الأولى والأخيرة.

كما تضمنت جملة من النصوص استحباب الغسل بالفرات لزيارة الحسين (عليه السلام). وكثرتها تغني عن النظر في أسانيدها، فقد ذكر منها في كامل الزيارات تسع روايات في الباب الخامس والسبعين، وروايتين في الباب السادس والسبعين. وبعضها وإن كان مختصاً بالزيارة الأولى، إلا أن بعضها مطلق. كمعتبر صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: من اغتسل بماء الفرات وزار قبر الحسين (عليه السلام) كان كيوم ولدته أمه صفراً من الذنوب ولو اقترفها كبائر..."(2) ، وفي معتبر هشام بن سالم: "أتاه رجل فقال له: هل يزار والدك؟ فقال: نعم. فقال: ما لمن اغتسل بالفرات ثم أتاه؟ قال: إذا اغتسل من ماء الفرات وهو يريده تساقطت عنه خطاياه كيوم ولدته أمه..."(3).

(1) لخبر عبد الله بن طلحة:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في الوزغ، فقال: هو رجس، وهو مسخ كله. فإذا قتلته فاغتسل"(4). ولعله إليه يرجع مرسل الصدوق، قال: "روى أن من قتل وزغاً فعليه الغسل. وقال بعض مشايخنا: إن العلة في ذلك أنه يخرج من ذنوبه فيغتسل منها"(5). ولعل الأقرب كونه شكراً لله على التوفيق لقتله.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 10 باب: 15 من أبواب المزار وما يناسبه حديث: 1.

(2) كامل الزيارات ص: 184 باب: 75 حديث: 1.

(3) كامل الزيارات ص: 185 باب: 75 حديث: 4.

(4) من لا يحضره الفقيه ج: 1 ص: 44 باب الأغسال حديث: 3، ووسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

ص: 43

(مسألة 83): يجزي في القسم الأول من هذا النوع غسل أول النهار ليومه وأول الليل لليلته (2)، وقيل: لا يخلو القول بالاجتزاء بغسل الليل والنهار وبالعكس عن قوة (3) والظاهر انتقاضه بالحدث بينه وبين

(1) لموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: يغتسل الذي غسّل الميت. وكل من مسّ ميتاً فعليه الغسل وإن كان الميت قد غسّل"(1). ولابد من حمله على الاستحباب بقرينة النصوص المصرحة بعدم وجوب الغسل حينئذ، على ما تقدم عند الكلام في أن شرط وجوب غسل المس عدم تغسيل الميت.

(2) كما صرح به بعضهم. لجملة من النصوص منها صحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: غسل يومك ليومك وغسل ليلتك لليلتك" (2) وغيره.

(3) لصحيح جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: غسل يومك يجزيك لليلتك وغسل ليلتك يجزيك ليومك"(3). لكنه يشكل تارة: بما عن السرائر عن كتاب جميل من روايته للحديث المذكور عن حسين الخراساني المجهول عن أحدهما(4) (عليه السلام)، وهو راجع للاضطراب في سند الحديث. وأخرى: بمعارضته للنصوص الكثيرة المتقدمة المعول عليها في قباله. ولاسيما مع احتمال حمل اللام فيه على الغاية، لتكون بمعنى" إلى "ويطابق النصوص الأخر، لا للتعدية، لينفع في المقام.

اللهم إلا أن يقال: الاحتمال المذكور مخالف للظاهر. والجمع بحمل النصوص الأول على الفضل أقرب منه. فالعمدة ما ذكر أولاً من اضطراب السند.

نعم في موثق أبي بصير وسماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):" من اغتسل قبل طلوع الفجر وقد استحم قبل ذلك ثم أحرم من يومه أجزاه غسله، وإن أغتسل في أول الليل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب غسل المس حديث: 3.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 9 من أبواب الإحرام حديث: 2، 1، 6.

ص: 44

الفعل (1).

ثم أحرم في آخر الليل أجزاه غسله"(1).

لكنه مختص بالإحرام، وبما إذا كان قد استحم قبل ذلك، ولا يبعد ظهوره فيما إذا كان الغسل في آخر الليل قريباً من الفجر. فليقتصر فيه على مورده. على إنه يحتمل التصحيف، وأن الصحيح: "بعد طلوع الفجر" ،لأن الشيخ قد استدل به على إجزاء غسل اليوم لليوم والليل لليل. فتأمل.

(1) لصحيح النضر عن أبي الحسن (عليه السلام): "سألته عن الرجل يغتسل للإحرام ثم ينام قبل أن يحرم قال: عليه إعادة الغسل" (2) ونحوه معتبر علي بن أبي حمزة(3). وصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: "سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يغتسل لدخول مكة، ثم ينام فيتوضأ قبل أن يدخل أيجزيه ذلك أو يعيد؟ قال: لا يجزيه، لأنه إنما دخل بوضوء" (4) ومعتبر علي بن أبي حمزة عنه (عليه السلام): "قال لي: إن اغتسلت بمكة ثم نمت قبل أن تطوف فأعد غسلك"(5).

وهي وإن كانت مختصة بالغسل للإحرام ودخول مكة والطواف، إلا أن الظاهر عموم الحكم لجميع الغايات. وفي الجواهر:" نسبه بعض المحققين إلى الأصحاب، مشعراً بدعوى الإجماع عليه ".والعمدة فيه التعليل في صحيح عبد الرحمن بأنه إنما دخل بوضوء، كما أشار إليه في الجواهر. لظهوره في انتقاض الغسل بالنوم، فإيقاع الغاية بعده لا يكون عن غسل، بل عن وضوء.

نعم في صحيح العيص:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يغتسل للإحرام

********

(1) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 9 من أبواب الإحرام حديث: 5.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 10 من أبواب الإحرام حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 6 من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 6 من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها حديث: 2.

ص: 45

(46)

بالمدينة يلبس ثوبين، ثم ينام قبل أن يحرم. قال: ليس عليه غسل"(1). وظاهره عدم انتقاض الغسل بالنوم. غاية الأمر أن يجمع بينه وبين ما سبق من النصوص الدالة على إعادة الغسل باستحباب إعادته من دون انتقاض.

اللهم إلا أن يقال: لما كان معارضاً لصحيح عبد الرحمن في انتقاض الغسل، ويتعذر الجمع العرفي بينهما كان الترجيح لصحيح عبد الرحمن، لاعتضاده ببقية نصوص المقام الظاهرة في الانتقاض.

نعم النصوص كلها مختصة بالنوم فالتعدي لسائر أسباب الحدث الأصغر يبتني على فهم عدم الخصوصية، وهو قريب جداً. ولاسيما بملاحظة التعليل في صحيح عبد الرحمن المتقدم. بل لا يبعد التعدي بالأولوية العرفية، لظهور أن ناقضية النوم أخف من ناقضية غيره.

تتميم: وقع الكلام بينهم في مشروعية التيمم بدلاً عن الأغسال المستحبة عند تعذرها. وقد أطلق في العروة الوثقى مشروعيته حينئذٍ، وأقره جماعة من محشيها، ومال إليه في الجواهر. ويناسبه ما في المبسوط من التيمم للإحرام عند عدم الماء. وتوقف بعضهم في الإطلاق المذكور.

وفي جامع المقاصد: "لا إشكال في استحبابه إذا كان المبدل رافعاً أو مبيحاً، إنما الإشكال فيما سوى ذلك. والحق أن ما ورد به النص أو ذكره من يوثق به من الأصحاب - كالتيمم بدلاً من وضوء الحائض للذكر - يصار إليه، وما عداه فعلى المنع، إلا أن يثبت بدليل".

وفي المدارك: "هل يستحب التيمم بدلاً عن الغسل المستحب مع تعذره؟ فيه وجهان، أظهرهما العدم وإن قلنا إنه رافع، لعدم النص. وجزم جدي (قدس سره) بالاستحباب على هذا التقدير. وهو مشكل كما قلنا".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 9 باب: 10 من أبواب الإحرام حديث: 3.

ص: 46

هذا ومن الظاهر أن الأغسال المستحبة رافعة للحدث بناء على إجزائها عن الوضوء، كما هو التحقيق. وكذا بناء على إجزائها عن الأغسال الرافعة، كما هو التحقيق أيضاً وعليه جماعة من الأصحاب.

على أنه لا ينبغي التأمل في مطهريتها، لأنه وإن قيل بعدم رافعيتها للحدث، ولم تشرع للتطهر منه، إلا أنه لا إشكال في إحداثها مرتبة من الطهارة، نظير الوضوء التجديدي. ولذا تنقض بالحدث، كما سبق. وحينئذٍ يكفي في بدلية التيمم عنها إطلاق ما تضمن طهورية الأرض والتراب من النصوص الكثيرة بألسنتها المختلفة(1) ، فإن مقتضاه قيامه مقام الماء في كل مورد يكون الماء طهوراً بالوضوء به أو الغسل.

نعم قد لا يناسب ذلك إهمال التيمم وعدم التنبيه له في جملة من النصوص الواردة في تعذر الأغسال المستحبة أو لزوم المشقة منها، كصحيح سليمان بن خالد: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) كم أغتسل في شهر رمضان ليلة؟ قال: ليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين. قال: قلت: فإن شقّ عليّ؟ فقال: في إحدى وعشرون وثلاث وعشرين. قال: قلت: فإن شقّ عليّ؟ قال: حسبك الآن"(2) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" قال: اغتسل يوم الجمعة إلا أن تكون مريضاً أو تخاف على نفسك"(3) ، وقريب منه حديث زرارة(4). وفي موثق سماعة عن أبي عبد الله: "في الرجل لا يغتسل يوم الجمعة في أول النهار. قال: يقتضيه آخر النهار، فإن لم يجد فليقضيه من يوم السبت"(5). وكذا ما تضمن رفع غسل الجمعة عن النساء في السفر(6) ، خصوصاً بضميمة مرسلة الكليني، قال:" وفي رواية إنه رخص للنساء

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7، 14، 21، 24، 25 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 11، 10.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 1.

ص: 47

في السفر لقلة الماء"(1). فإن عدم التنبيه في هذه النصوص للتيمم قد يظهر في المفروغية عن عدم مشروعيته بدلاً عن هذه الأغسال. ومن ثم يشكل البناء على عموم البدلية.

ولاسيما وأن لازم بدليته عن الغسل المستحب إجزاؤه عن الوضوء مثله، نظير إجزاء التيمم بدلاً عن غسل الجنابة عن الوضوء. ومن الصعب جداً البناء على ذلك. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم. والحمد لله رب العالمين.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب الأغسال المسنونة حديث: 2.

ص: 48

(49)

المبحث الخامس: في التيمم (1)

اشارة

وفيه فصول:

(1) وهو لغةً القصد، كما صرح به غير واحد. ومنه قوله تعالى: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" (1) وقوله تعالى: "فتيمموا صعيداً طيباً"(2). وعند المتشرعة نفس الأعمال الخاصة التي تحصل بها الطهارة الترابية، كما يشهد به النصوص الشارحة له(3) وغيرها. ومن ثم لا يتعدى عندهم إلى ما يتيمم به بنفسه، بل بالباء ومن.

ويدل على مشروعيته الكتاب المجيد والسنة المتواترة وإجماع المسلمين. قال الله عز وجل في سورة النساء:" يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفوراً"(4).

وقال سبحانه وتعالى في سورة المائدة: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو

********

(1) سورة البقرة الآية: 269.

(2) سورة النساء الآية: 43، وسورة المائدة الآية: 6.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم.

(4) سورة النساء الآية: 43.

ص: 49

لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون"(1).

وقد وقع الكلام من المفسرين منا ومن العامة في تفسير الآيتين الكريمتين، وتوجيههما بنحو يطابق القواعد الفقهية المعول عليها عند الطائفتين. فإنهما ظاهرتان بدواً في أن موضوع التيمم أمور أربعة بنحو البدلية، مع أن كلاً منها ليس موضوعاً له شرعاً، لوضوح أن السفر والمرض لا يسوغانه إلا مع الحدث وتعذر استعمال الماء. وهو لا يناسب عطف الحدثين الأكبر والأصغر عليهما ب - (أو) الظاهر في استقلال كل منها بالسببية.

ومن ثم اضطر بعضهم إلى حمل (أو) الثانية على معنى الواو، نظير ما يدعى في قوله تعالى:" وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون"(2). لكنه - لو صح لغة - مخالف للظاهر جداً، ويصعب حمل الآية المستشهد بها عليه، فضلاً عن آيتي التيمم لمخالفته للسياق، فإن (أو) الأولى والثالثة ليست بمعنى الواو قطعاً.

مضافاً في الإشكال في الآيتين إلى أن التقييد بعدم وجدان الماء إن رجع للأخرين فقط لزم إطلاق مشروعية التيمم للمسافر والمريض وإن تيسر لهما استعمال الماء، وإن رجع للكل أشكل بأن شرط مشروعية التيمم مع المرض إضرار الماء لا عدم وجدانه وحمل عدم وجدان الماء على الكناية عما هو الأعم من الإضرار من استعماله بعيد جداً.

مع أن لازم رجوعه للكل لغوية ذكر السفر والمرض، لعدم خصوصيتهما في مشروعية التيمم مع عدم وجدان الماء أو لزوم محذور منه، بل ذلك يجري في كل مكلف وإن كان حاضراً صحيحاً. وإن حكي عن أبي حنيفة عدم مشروعية التيمم له،

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

(2) سورة الصافات الآية: 147.

ص: 50

لدعوى قصور الآية عن شموله.

كما أن لازم رجوعه للكل الاستغناء عن ذكر ملامسة النساء بذكر الجنابة في صدر الكلام... إلى غير ذلك مما قيل في مقام الإشكال في تفسير الآيتين الشريفتين.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): "حكى الأردبيلي في آيات الأحكام عن كشف الكشاف أن الآية من معضلات القرآن" ونحوه حكى في تفسير المنار عن تفسير روح المعاني للآلوسي. وعن محمد عبده من المتأخرين: "وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيراً فلم أجد فيها غناءً، ولا رأيت قولاً فيها يسلم من التكلف".

وقد التزم برجوع التقييد بعدم وجدان الماء للأخيرين فقط مع إطلاق مشروعية التيمم للمسافر والمريض ولو مع وجدان الماء، نظير حالهما في الصوم. وتبعه في ذلك صاحب المنار. ونعى محمد عبده على الفقهاء الغفلة عن ذلك، وتقييدهم شرعية التيمم للمسافر بتعذر الماء، حتى شددوا فيه، وفي وجوب طلبه في السفر وما وضعوه لذلك من الحدود. مدعياً وضوح هذا المعنى وسلامة الآية عليه من أي ركاكة أو ضعف في التأليف، وأنه لا وجه لحمل الآية على ما يختاره الفقيه وإن لزم ما لزم من ضعف وركاكة. كما لا وجه لعدها من المعضلات. بل يلزم أخذ الحكم من ظاهرها.

لكن لا يخفى أن ما ذكره في السفر وارد في المرض، وهل يلتزم بكونه سبباً لتشريع التيمم وإن لم يضر معه الماء، كما حكي عن بعض شذاذ العامة؟! وهل يمكن دعوى ظهور الآيتين في ذلك؟! وإذا أمكن تنزيل المرض على ما يضرّ به الماء أمكن تنزيل السفر على ما يفقد به الماء، كما يحصل كثيراً في العصور السابقة.

على أنه لم يشر للإشكال الأول، وهو أن السفر والمرض إنما يجب معهما التيمم مع الحدث، فكيف يعطف سبب الحدث عليهما؟! وما نعاه على الفقهاء إنما يتجه إذا لم يكن لهم دليل على الحكم المخالف للظاهر، وإلا فلابدّ لهم من الجمع بين الأدلة عرفاً، ولو بالخروج عن ظاهرها.

ولعل الأولى في توجيه الآيتين الشريفتين أن المراد من القيام إلى الصلاة في الآية

ص: 51

الثانية هو القيام من النوم، كما تضمنه موثق ابن بكير: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قوله تعالى:" إذا قمتم إلى الصلاة "ما يعني بذلك؟ قال: إذا قمتم من النوم..."(1).

وذلك يناسب حمل الجنابة على الاحتلام. بل لعل الإجناب لغة خروج المني، وإلحاق الجماع به في حصول الجنابة شرعي، كما يناسبه ما في لسان العرب من تفسير الجنابة بالمني. بل قد يستشعر من بعض النصوص.

وحينئذٍ يكون صدر الآية متعرضاً لحدث النوم والاحتلام وعليهما يحمل فرض السفر والمرض، من دون حاجة للتصريح معهما بفرض الحدث كما يحمل السفر على صورة فقد الماء، والمرض على صورة الإضرار به، لمناسبتهما لهما ارتكازاً وبه يحافظ على خصوصية عنوانهما. وحينئذ يتجه عطف حدث الغائط أو الملامسة بعد تقيدها بفقد الماء على المرض والسفر، أو على القيام من النوم الذي حمل عليه صدر الآية، لكونهما موضوعين مستقلين للتيمم في قبال ذلك.

وعليه يستفاد من مجموع الآية مشروعية التيمم للحدث بالنوم والاحتلام، مع السفر الذي لا ماء معه، والمرض الذي يضربه الماء، وللحدث بالغائط والملامسة مع عدم الماء. وتلحق بقية الأفراد - كالمحتلم الحاضر الفاقد للماء، والمريض الملامس للنساء الذي يضرّ به الماء - بفهم عدم الخصوصية، أو بفهم مناط الحكم المستفاد من النصوص وغيرها.

وأما الآية الأولى فهي كالثانية إلا في عدم تعرض صدرها للحدث الأصغر، وليس هو محذوراً، بعد ما ظهر من عدم استيفاء الآيتين لتمام الأفراد على كل حال. بل بناء على سببية فقد العقل للحدث الأصغر، يكون فرض السكر فيها مساوقاً لفرض الحدث الأصغر، سواءً أريد به سكر النوم أم سكر الشراب، كما روي كل منهما(2).

وبذلك يندفع الإشكال في الآيتين الشريفتين. وقد أشار إلى ما ذكرنا في الجملة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(2) تفسير العياشي ج: 1 ص: 242، ومجمع البيان ج: 3 ص: 51.

ص: 52

في البحار والجواهر. ولا مجال لإطالة الكلام فيه وفي تعقيب ما ذكره مشايخنا (قدس الله أسرارهم) في المقام. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 53

ص: 54

(55)

الفصل الأول: في مسوغاته

ويجمعها العذر المسقط لوجوب الطهارة المائية (1)، وهو أمور:

(الأول): عدم وجدان (2) ما يكفيه من الماء (3) لوضوئه، أو غسله.

(1) كما تقدم في الفصل الرابع من مباحث المياه عند الكلام في الشك في إطلاق الماء. فراجع(1). ويأتي في المسألة الحادية عشر إن شاء الله تعالى ما ينفع في المقام.

(2) قد أطلق الأصحاب (رضي الله عنهم) مسوغية عدم وجدان الماء للتيمم. وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً، من غير فرق فيه عندنا بين السفر والحضر، بل في الخلاف والمنتهى الإجماع عليه بالخصوص. كما أنه في الأخير الإجماع أيضاً على عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير ".وما نسب للسيد المرتضى من وجوب الإعادة على الحاضر - لو صدقت النسبة - ليس خلافاً في ما نحن فيه من مسوغية عدم وجدان الماء للتيمم.

وكيف كان فيقتضيه - مضافاً إلى الإجماع المذكور - الكتاب المجيد والسنة المستفيضة، بل المتواترة. نعم مرادهم بعدم الواجدان عدم واجدية المكلف له. ويأتي أن المراد به في ظاهر الكتاب المجيد عدم العثور عليه. وأنه يكفي في البناء على مشروعية التيمم.

(3) فإن المنساق من إطلاق عدم وجدان الماء هو عدم وجدان الماء الكافي لم

********

(1) مصباح المنهاج كتاب الطهارة ج: 1 ص: 439.

ص: 55

يجب على المكلف من وضوء أو غسل، بحيث يتحقق به الطهارة ولا أثر لوجدان ما دون ذلك، حتى لو قيل بجريان قاعدة الميسور في الوضوء والغسل، أو مطلقاً، لنهوض إطلاق مشروعية التيمم بفقد الماء بالحكومة عليها بعد ظهوره في إرادة الماء الكافي في الطهارة.

مضافاً إلى أن جريان قاعدة الميسور بلحاظ أعضاء الوضوء والغسل - لو قيل به - لا يقتضي تمامية الطهارة به. وذلك يستلزم مشروعية التيمم ولو منضماً للطهارة المائية الناقصة، لأن الشرط هو الطهارة التامة. على أنه لا قائل منّا بجريان قاعدة الميسور بالنحو المذكور.

ويشهد به في الجملة - مضافاً إلى ذلك - ما تضمن وجوب التيمم على الجنب إذا كان معه من الماء ما يكفيه لوضوئه(1) والظاهر عدم الخلاف فيه عندنا، بل ظاهر غير واحد وصريح آخر الإجماع عليه.

نعم قال العلامة في نهاية الأحكام:" لو وجد من الماء ما لا يكفيه لوضوئه لم يجب استعماله، بل تيمم... أما الجنب فيحتمل مساواته للمحدث. ووجوب صرف الماء إلى بعض أعضائه، لجواز وجود ما يكمل طهارته. والموالاة ساقطة هنا، بخلاف المحدث".

فإن كان مراده باحتمال صرف الماء إلى بعض أعضائه الاجتزاء به في الصلاة من دون حاجة للتيمم أشكل بما سبق. وإن كان مراده به ضم التيمم إليه لصلاة الوقت، ويكون غسل بعض الأعضاء من أجل احتمال إتمام الغسل للصلوات الآتية. فهو ليس خلافاً في المقام. ولا يخلو عن قوة، بناء على ما هو الظاهر من تمامية ملاك الطهارة المائية مع تعذر الماء، ولزوم حفظ القدرة بتهيئة المقدمة قبل الوقت، ووجوب الاحتياط مع الشك في القدرة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم.

ص: 56

(57)

(مسألة 1): إن علم بفقد الماء لم يجب عليه الفحص عنه (1)، وإن احتمل وجوده في رحله أو في القافلة لزمه الفحص (2)

(1) لعدم الموضوع له. ويأتي في آخر المسألة ما يأتي في المقام.

(2) على المعروف من مذهب الأصحاب، فإنه عين الطلب الذي صرحوا بوجوبه، وعدم الاجتزاء بالصلاة بدونه، حتى ادعى الإجماع عليه في الخلاف والغنية والتذكرة والمنتهى وجامع المقاصد وكشف اللثام والمدارك والرياض وظاهر المعتبر وعن التنقيح وغيره.

وكلام بعضهم وإن اختص بالمسافر، إلا أن الظاهر كونه بسبب غلبة ابتلائه بفقد الماء، أو لأنه الفرد الأخفى بسبب صعوبة الطلب عليه، أو لما فيه من التفصيل الذي تضمنته النصوص. حتى أن ما عن الأردبيلي من استحباب الطلب - لو صدقت النسبة - لا يراد به إلا استحبابه للمسافر، لبعض النصوص الآتية، لا لأنه مقتضى الأصل الأولي.

وكيف كان فيقتضيه موثق السكوني عن الإمام الصادق عن أبيه عن علي (عليهم السلام): "قال يطلب الماء في السفر إن كانت الحزونة فغلوة، وإن كانت سهولة فغلوتين. لا يطلب أكثر من ذلك"(1).

وقد يستدل عليه أيضاً بصحيح زرارة عن أحدهما (عليه السلام):" قال: إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل..."(2).

لكن رواه الشيخ بطريق آخر، وفيه: "فليمسك ما دام في الوقت" .فيكون أجنبياً عما نحن فيه. والظاهر اعتبار الطريق المذكور، إذ ليس فيه إلا القاسم بن عروة الذي تقدم تقريب الاعتماد على روايته عند الكلام في استحباب الغسل لدخول مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن هنا يتعين عدم التعويل على الصحيح المذكور للاضطراب في

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التيمم حديث: 2، 1.

ص: 57

روايته.

على أنه لا يعرف القول من أحد بما تضمنه الطريق الأول من وجوب الطلب في تمام الوقت، وإن استحسنه في محكي المعتبر.

إلا أن يحمل على إرادة الترخيص في تأخير الطلب والصلاة ما دام في الوقت، فيكون أجنبياً عما نحن فيه، كما قد يناسبه عدم تحديد مبدأ الطلب. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "إذ لا يظن إمكان الالتزام بأن مبدأه أول الوقت، ويمتد إلى وقت الفوت كما لا يظن الالتزام بأن مبدأه الصلاة، لأن ذلك يؤدي إلى عدم إرادة الصلاة إلا في آخر الوقت فراراً من كلفة الطلب" .وكيف كان فيكفي في وجوب الطلب موثق السكوني المعول عليه عند الأصحاب.

نعم في خبر علي بن سالم عن أبي عبد الله: "قلت له: أتيمم وأصلي... فقال له داود الرقي: أفأطلب الماء يميناً وشمالاً، فقال: لا تطلب الماء يميناً ولا شمالاً، ولا في بئر. إن وجدته على الطريق فتوضأ منه [به]، وإن لم تجده فامض"(1).

لكنه - مع ضعفه لجهالة علي بن سالم، وعدم وضوح كونه ابن أبي حمزة الذي عملت الطائفة برواياته في الجملة - محمول على الخوف، بقرينة حديث داود الرقي:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون في السفر فتحضر الصلاة وليس معي ماء، ويقال: إن الماء قريب منا، فأطلب الماء وأنا في وقت يميناً وشمالاً؟ قال: لا تطلب الماء، ولكن تيمم، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك، فَتضل ويأكلك السبع"(2). ومعتبر يعقوب بن سالم عنه (عليه السلام): "عن رجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك. قال: لا آمره أن يغرر بنفسه، فيعرض له لص أو سبع"(3). لظهورهما في أن عدم الطلب من المسافر من جهة الخوف، لا لعدم وجوبه في نفسه. ولاسيما مع قرب رجوع ما في خبر علي بن سالم من كلام داود الرقي مع الإمام (عليه السلام) إلى ما تضمنه حديث داود. ومع ظهور قوله (عليه السلام) في ذيل خبر علي بن سالم:" إن وجدته على الطريق

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 3، 1، 2.

ص: 58

فتوضأ منه [به]، وإن لم تجده فامض "في عدم وجوب طلب الماء خارج الطريق ولا في البئر حتى مع العلم بوجوده، ولا يظن بأحد الالتزام بذلك، وحمله على خصوص صورة الشك في وجوده ليس بأولى من حمله على صورة الخوف.

مضافاً إلى ما هو الظاهر من إعراض الأصحاب عن الخبر المذكور، لما سبق من إطباقهم على وجوب الطلب، حيث يكفي ذلك في وهنه. ومن هنا لا مخرج عن موثق السكوني، المعتضد باتفاق الأصحاب.

نعم هو مختص بالسفر، إلا أن إلغاء خصوصيته عرفاً قريب جداً، ولاسيما مع ظهور أن الطلب في السفر أشق منه في الحضر نوعاً، فوجوبه في السفر يستلزم وجوبه في الحضر بالأولوية العرفية الراجعة لمفهوم الموافقة. ومع ظهور الموثق في المفروغية عن وجوب الطلب، لعدم تعرضه له إلا في مقام تحديده، ولا منشأ للمفروغية ارتكازاً إلا الاهتمام بتحصيل الطهارة المائية خروجاً عن التكليف بها، ولا فرق في ذلك بين السفر والحضر.

على أنه قد يستفاد عموم وجوب الطلب من الآيتين الكريمتين، لأن عدم الوجدان عرفاً عبارة عن عدم العثور على الشيء بعد طلبه والفحص عنه، نظير عدم وجدان الضالة، لا ما يساوق عدم الجدة. ولاسيما بملاحظة التفريع المستفاد من الفاء في قوله تعالى:" فلم تجدوا ماء "،لظهور أن عدم الوجدان لو كان مساوقاً لعدم القدرة على الماء أو عدم واجديته فهو ليس مترتباً على حصول الحدث، بل قد يكون أسبق منه حصولاً، بخلاف ما لو كان بمعنى عدم العثور عليه بعد طلبه والفحص عنه، لظهور أن حصول الحدث لما كان سبباً للحاجة للماء كان الفحص عنه مرتباً عليه طبعاً، كما يكون عدم الوجدان المترتب على الفحص مترتباً عليه أيضاً.

وكأنه إلى هذا نظر في جامع المقاصد، حيث قال:" ولا ريب أن طلب الماء شرط لجواز التيمم. لظاهر قوله تعالى: "فلم تجدوا ماءً فتيمموا" ،وعدم الوجدان إنما يكون بعد الطلب".

ص: 59

ودعوى: أن موضوع التيمم ليس هو عدم الوجدان بهذا المعنى، بل بمعنى عدم القدرة على استعمال الماء، ولذا اكتفوا في التيمم بعدم القدرة على استعماله - ولو شرعاً لحرمة استعماله - وإن كان واجداً له بالمعنى المذكور. مدفوعة بأن عدم الوجدان بالمعنى المذكور وإن لم يكن موضوعاً للتيمم، بل موضوعه - كما تقدم قريباً ويأتي - هو سقوط التكليف باستعماله ولو مع القدرة عليه، كما في موارد الحرج والضرر الذي يجوز تحمله، إلا أن المستفاد من الآيتين بالتقريب المتقدم وبضميمة الأدلة الأخر أن عدم وجدان الماء بالمعنى المذكور - وهو المترتب على الفحص - مصحح شرعاً للبناء على عدم التكليف باستعماله للاكتفاء بالتيمم، فلا يجوز ظاهراً ترك الوضوء والاجتزاء بالتيمم إلا به، كما يكفي هو في ذلك وإن احتمل وجود الماء والقدرة عليه واقعاً.

نعم مع العلم بعدم وجود الماء أو عدم القدرة عليه مع وجوده لا يجب الفحص، لكن ليس لصدق عدم الوجدان عرفاً، أو لأن المراد بعدم الوجدان في المقام ما يعمّ ذلك، بل لعدم الموضوع للطلب وعدم الحاجة له، بعد إحراز سقوط التكليف باستعمال الماء بالعلم.

ومن ذلك يظهر اختلاط الأمر على صاحب المدارك، حيث قال:" فإن عدم الوجدان لا يتحقق عرفاً إلا بعد الطلب، أو تيقن عدم الإصابة".

هذا ولو غض النظر عن جميع ما تقدم كفى وجوب الفحص الأصل. وتقريبه: أن مقتضى إطلاق دليل الطهارة المائية عدم أخذ القدرة شرعاً في موضوعها، وإنما هي شرط فعلية التكليف، فمع الشك فيها يجب الفحص أو الاحتياط، كما في سائر موارد الشك في القدرة العقلية، ولا مجال للبراءة.

إن قلت: مقتضى أخذ عدم وجدان الماء في موضوع التيمم أخذ وجدانه والقدرة عليه في موضوع الطهارة المائية، لأن التفصيل قاطع للشركة، فمع الشك في وجود الماء وفي القدرة عليه يشك في التكليف، والأصل البراءة، كما لو شك في تمامية استطاعة الحج. بل مقتضى استصحاب عدم الماء وعدم القدرة عليه ولو أزل

ص: 60

هو سقوط الطهارة المائية ومشروعية التيمم. وبه يستغنى، عن أصل البراءة.

نعم لا مجال لذلك مع سبق القدرة على الماء، لأن مقتضى استصحابها حينئذٍ هو وجوب الطهارة المائية وعدم مشروعية التيمم. لكنه يختص بما إذا كان الماء الذي يشك في القدرة عليه عين الماء الذي علم بسبق المقدرة عليه، أما إذا كان غيره فاستصحاب القدرة على الماء يكون من القسم الثالث لاستصحاب الكلي الذي لا يجري على التحقيق.

قلت: مجرد أخذ عدم القدرة على الماء أو غير ذلك في موضوع مشروعية التيمم لا يستلزم تقييد موضوع الطهارة المائية، لإمكان اجتماع مشروعية التيمم أو وجوبه مع تمامية موضوع الطهارة المائية وتمامية ملاكها، نظير الخطاب بالضد عند تعذر ضده الأهم. ولاسيما مع كون بدلية التيمم اضطرارية، حيث يناسب ذلك عدم وفائه بتمام ملاك المائية مع فعلية الملاك المذكور.

وحينئذٍ فاستصحاب عدم القدرة على الماء وإن أحرز موضوع التيمم، إلا أنه لا يحرز ارتفاع موضوع الطهارة المائية، بل ولا ارتفاع الخطاب بها، بل غايته أن يشك في فعلية الخطاب، للشك في القدرة المعتبرة عقلاً، الذي عرفت أن المرجع في مثله الاحتياط.

نعم ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن استصحاب عدم القدرة على الماء وإن لم يحرز عدم وجوب الطهارة المائية، إلا أنه حيث كان محرزاً لمشروعية الطهارة الترابية، وكانت مشروعيتها بعنوان البدلية عن الطهارة المائية، فهي صالحة للمعذرية عنها، ومانعة من حكم العقل بوجوب الاحتياط فيها مع احتمال القدرة عليها.

لكنه يشكل بأن البدلية المذكورة لما كانت اضطرارية، مبنية على عدم وفاء البدل بتمام ملاك المبدل، فإحرازها لا يصلح للمعذرية عن التكليف بالمبدل بعد إحراز موضوعه واحتمال فعليته تبعاً لاحتمال القدرة عليه، على ما تقدم توضيحه عند

ص: 61

(62)

إلى أن يحصل العلم والاطمئنان بعدمه (1)، وإن احتمل وجوده في الفلاة وجب عليه الطلب فيها بمقدار (2) رمية سهم في الأرض

الكلام في الشك في إطلاق الماء من الفصل الرابع من مباحث المياه(1).

هذا مضافاً إلى ما تقدم هناك - وأشرنا إليه تبعاً لسيدنا المصنف (قدس سره) هنا عند ذكر الجامع بين مسوغات التيمم - من أن موضوع التيمم ليس هو عدم القدرة على الماء، بل مجرد عدم التكليف بالطهارة المائية، ولا أصل يحرز ذلك، على ما تقدم توضيحه هناك، بل مقتضى حكم العقل تنجز احتمال التكليف به، تبعاً لاحتمال القدرة على امتثاله، كما سبق. فراجع وتأمل جيداً.

(1) أما بناء على عموم حجية الاطمئنان فظاهر. وأما بناء على عدمه - كما هو التحقيق - فقد يوجه بصدق عدم الوجدان بالمعنى المتقدم، وبأن تحري العلم والاقتصار عليه في مثل المقام مما يحتمل فيه الضياع والنسيان مستلزم للحرج بنحو يعلم بعدم تكليف الشارع به. ولاسيما بملاحظة تسامحه في طلب الماء للمسافر، فلم يكلف بما يلازم الاطمئنان بالعدم، فضلاً عن العلم.

نعم المتيقن من ذلك ما إذا تعذر تحصيل العلم، لاحتمال النسيان ونحوه. أما مع إمكان تحصيله باستكمال الفحص فالاكتفاء بالاطمئنان - بناء على عدم حجيته في نفسه - لا يخلو عن إشكال.

(2) فإن المعروف بين الأصحاب الاكتفاء بالغلوة والغلوتين، ونسب للمشهور في كلام جماعة، بل عن الغنية وظاهر التذكرة وعن إرشاد الجعفرية الإجماع عليه. ويقتضيه موثق السكوني المتقدم عند الكلام في وجوب الطلب. قال في المعتبر:" والتقدير بالغلوة والغلوتين رواية السكوني، وهو ضعيف، غير أن الجماعة عملوا بها. والوجه أنه يطلب الماء من كل جهة يرجى فيها الإصابة، ولا يكلف التباعد بما يشق.

********

(1) مصباح المنهاج كتاب الطهارة ج: 1 ص: 439.

ص: 62

ورواية زرارة تدل على أنه يطلب دائماً ما دام في الوقت حتى يخشى الفوات. وهو حسن. والرواية واضحة المعنى".

وهو كما ترى، إذ لا يقدح ضعف الرواية مع عمل الأصحاب بها، كما تقدم منّا غير مرة، وصرح به هو (قدس سره). على أن الظاهر اعتبار سند رواية السكوني المذكورة، لأن الشيخ (قدس سره) رواها بسنده الصحيح عن الصفار - الذي هو ثقة جليل - عن إبراهيم بن هاشم - الثقة بشهادة ولده وابن قولويه، ولأنهم ذكروا أنه أول من نشر حديث الكوفيين بقم، بنحو يظهر منهم قبول القميين لروايته حتى حكي عن ابن طاووس دعوى الاتفاق على وثاقته - عن النوفلي عن السكوني الثقتين، بشهادة علي بن إبراهيم وابن قولويه. ولما ذكره الشيخ (قدس سره) في العدة من عمل الأصحاب بروايات السكوني وإن كان عامياً، لوثاقته في نفسه. بل قد يظهر من ذلك عملهم بروايات النوفلي، لأنه هو الراوي لكتاب السكوني. وبها يخرج عن القاعدة المقتضية لما ذكره أولاً من الطلب ما لم يشق.

وأما رواية زرارة فهي عبارة عن صحيحه الذي تقدم عند الكلام في وجوب الطلب وتقدم اضطراب متنه وقوة احتمال حمله على بيان وقت الطلب، لا بيان مقداره فراجع. وحينئذ لا يعول عليها في قبال حديث السكوني.

ومنه يظهر ضعف ما في الخلاف وعن غيره من إطلاق وجوب الطلب الظاهر في أن حدّه اليأس. إلا أن يراد به وجوبه في الجملة في مقابل عدم وجوبه، كما لعله ظاهر بعضهم.

ومثله ما في المبسوط والنهاية من إطلاق وجوب الطلب رمية سهم أو سهمين، الظاهر في التخيير بينهما عملاً، الراجع لوجوب الطلب في مقدار رمية واحدة، واستحباب الزيادة فيه حتى يبلغ مقدار رميتين. إلا أن تحمل (أو) في كلامه على التقسيم إشارة إلى التفصيل المتقدم.

هذا والظاهر من النص تحديد مقدار السعي لتحصيل الماء، لا تحديد المكان

ص: 63

الحزنة (1)، وسهمين في الأرض السهلة، في الجهات الأربع (2) إن

الذي يبحث عن وجود الماء فيه، فلا يجتزأ بالعلم بعدم وجود الماء في مقدار سعة الغلوة أو الغلوتين إذا احتمل وجوده أبعد من ذلك، والإطلاع عليه بالطلب في المقدار المذكور بسبب امتداد البصر.

ثم إن مقتضى ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من جعل موضوع التحديد بالغلوة والغلوتين الفلاة عدم الفرق بين المسافر وغيره كالمتوطن في موضع من الفلاة. بل مقتضى إطلاق بعضهم العموم حتى لغير المسافر في غير الفلاة.

وهو غير ظاهر، لاختصاص الرواية بالمسافر، والتعدي لغيره يحتاج إلى دليل. ولا مجال لإلغاء خصوصية المسافر عرفاً بعد إمكان خصوصيته بمزيد من الإرفاق، لإجهاد السفر له، وحاجته للمبادرة بقطع المسافة.

نعم لا يختص بالمسافر سفراً يوجب القصر، بل يعم غيره، حتى من عمله السفر، أو كان بيته معه، كالأعراب الرحل. كما أن الموثق ينصرف أيضاً للفلاة، بلحاظ وصف الأرض بالسهولة والحزونة، ولا يعم ما إذا مرّ المسافر في طريقه بقرية أو مدينة، بل المرجع فيه القاعدة، المقتضية للطلب حتى اليأس، كأهل القرية أو المدينة التي مرّ بها.

(1) ظاهره كالنص إرادة وعورة الأرض. وعممه في جامع المقاصد والمسالك والرياض والجواهر وغيرها لما إذا كان فيها شجر. وهو غير ظاهر. إلا أن يستلزم صعوبة الطلب، فقد يلحق بالحزنة، لفهم عدم الخصوصية. فتأمل.

(2) كما صرح به جماعة كثيرة، ونسب للأشهر والمشهور، وهو المصرح به في معقد إجماع الغنية والتذكرة المشار إليه آنفاً. وقد يحمل عليه ما في المقنعة وعن الحلبي من الاقتصار على اليمين واليسار والأمام وإهمال الخلف، بلحاظ أنه قد عرف حاله عند سيره. كما ربما يكون الاقتصار في النهاية والوسيلة على اليمين واليسار بلحاظ أن

ص: 64

احتمل وجوده في كل واحدة منها، وإن علم بعدمه في بعض معين من الجهات الأربع لم يجب عليه الطلب فيها (1)، فإن لم يحتمل وجوده إلا في جهة معينة وجب عليه الطلب فيها دون غيرها (2)، والبينة بمنزلة

الأمام في الطريق المسلوك كثيراً ما يكون منكشفاً بحيث يعرف حاله بمجرد النظر.

وكيف كان فمن الظاهر أن النص إنما تضمن مقدار امتداد الطلب، دون الجهة التي يقع فيها. إلا أنه حيث كان موضوع الطلب ارتكازاً هو مورد احتمال وجود الماء فالمستفاد من إطلاق النص لزوم طلب الماء في جميع موارد احتمال وجوده بالامتداد المذكور، من دون تخصيص بجهة.

ولعل هذا هو مراد المشهور أو الكل، حيث لا إشكال ظاهراً في عدم إرادتهم الطلب في جهة لا يحتمل وجود الماء فيها، كما أن الظاهر عدم إرادتهم الاقتصار في الطلب على الخطوط المتجهة للجهات الأربع، من منزل المكلف، بل مرادهم من الطلب في كل جهة الطلب في تمام ربع الدائرة الواقع في تلك الجهة بحيث لو احتمل وجود الماء في جميع نقاط الدائرة لوجب استيعابها بالطلب والفحص.

هذا وأما احتمال كون مجموع السير غلوة ولو متفرقة في جميع الجهات، فهو مخالف للظاهر جداً. لقوة انصراف التحديد لإرادة مقدار امتداد السير، لا مجموعه.

(1) لعدم الموضوع له، كما تقدم فيما لو علم بعدم وجود الماء أصلاً.

(2) لما تقدم في سابقه. ومنه يظهر عدم وجوب الطلب في السفر أصلاً لو علم بعدم الماء، كما صرح به غير واحد، وفي مفتاح الكرامة: "لا أجد فيه خلافاً إلا من الشافعي في أحد وجهيه" وفي الحدائق: "والظاهر إنه لا خلاف فيه بين أصحابنا رضوان الله عليهم".

لكن عن قواعد الشهيد والمعالم والحبل المتين وجوب الطلب حينئذٍ، لإطلاق دليله. وهو كما ترى إذ لا موضوع للطلب مع العلم بعدم المطلوب حتى لو قيل بأن

ص: 65

(66)

العلم (1) فإن شهدت بعدم الماء في جهة أو جهات معينة لم يجب الطلب فيها.

(مسألة 2): في جواز الاستنابة في الطلب إشكال (2) إلا أن يحصل العلم من طلب غيره وإن لم يكن نائباً عنه.

وجوبه في المقام نفسي. ومع أن الظاهر أنه طريقي أو مقدمي، على ما يأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى. على أن النسبة لمن سبق لا تخلو عن إشكال.

(1) لظهور أن وجوب الطلب طريقي من أجل إحراز عدم الماء أو مقدمي من أجل الوصول للماء، فمع إحراز عدم الماء، بالبينة - بمقتضى عموم دليل حجيتها، الذي تقدم الكلام فيه في المسألة التاسعة عشرة من مباحث الاجتهاد والتقليد - يتعين سقوط وجوب الطلب والاجتزاء به في الخروج عما تقدم من القاعدة المقتضية للفحص.

(2) كما في التذكرة، بل منع في المنتهى من الاجتزاء بطلب الغير وإن كان قد أمره به. لكن صرح بجواز الاستنابة في جامع المقاصد والمسالك والروضة، وحكي عن الشهيد الأول. ويرجع إليه ما في نهاية الأحكام من الاجتزاء بطلب الغير الثقة إذا أمره أو أذن له، دون ما إذا لم يأذن له فيه.

هذا ولا يخفى أن المنساق من النص كون الطلب لأجل إحراز عدم الماء، وحيث كان إحرازه وظيفة المكلف الذي يريد التيمم كان ظاهره اعتبار إحرازه سواءً كان بطلبه بنفسه أم بطلب غيره، أم من دون طلب. وحينئذ يتعين اجتزاء المكلف بطلب الغير إذا حصل له اليأس من طلبه لوثوقه بصدقه ومعرفته، سواء استنابه أو أذن له أم لا، لأن الطلب طريقي من أجل إحراز عدم الماء، أو مقدمي من أجل الوصول له، فمع إحرازه عدمه لا موضوع لطلبه له بنفسه. أما مع عدم حصول اليأس من طلبه فالمتعين عدم اجتزائه به وإن حصل اليأس للطالب نفسه. لأن اجتزاءه به حينئذ يحتاج إلى دليل. ويدفعه الأصل المتقدم.

ص: 66

(مسألة 3): إذا أخل بالطلب وتيمم صح تيممه إن صادف عدم الماء (1).

ودعوى: أن مقتضى السيرة الاجتزاء بطلب الغير، لما هو المعلوم من عدم انشغال جميع أهل القافلة سابقاً بالطلب، خصوصاً النساء والعجزة ممن يصعب عليهم ذلك، بل يجتزئون بطلب غيرهم. مدفوعة بأن المتيقن منها ما إذا حصل اليأس للباقين من طلب غيرهم لا مطلقاً.

وأما ما ذكره غير واحد من أن الاستنابة إنما تكمن مشروعيتها في الواجبات النفسية والغيرية، حيث قد يتجه احتمال الاجتزاء في الامتثال بفعل النائب، أما في الواجبات الطريقية - ومنها المقام - فلا موضوع للنيابة، بل المعيار فيه اليأس الذي لابد من حصوله للمكلف نفسه من أي سبب فرض. فهو لا يخلو عن إشكال، بل الظاهر أن المعيار في جميع أقسام الواجب على ظهور دليل الخطاب فيما يعم فعل النائب وعدمه. على أنه قد أشرنا إلى احتمال كون وجوب الطلب مقدمياً من أجل تحصيل الماء. فتأمل جيداً.

(1) لتحقق موضوعه وهو عدم الماء، أو عدم وجوب الطهارة المائية، على ما تقدم عند الكلام في مقتضى الأصل في حكم الطلب. وأما الطلب فهو إما واجب طريقي من أجل معرفة الموضوع المذكور، أو واجب مقدمي من أجل تحصيل الماء للطهارة الواجبة، ولا موضوع له مع عدمه.

لكن صرح غير واحد بالبطلان، وفي الجواهر: "قطعاً وإجماعاً منقولاً إن لم يكن محصلاً. لما عرفت سابقاً من الأدلة الدالة على اشتراط صحة التيمم به. ولا فرق في ذلك بين أن يصادف عدم الماء بعد الطلب وعدمه. كما أنه لا فرق فيه بين العالم والجاهل والناسي وغيرهم، قضاءً للشرطية السابقة... فما عساه يظهر من بعض فروع التحرير من الحكم بالصحة لو صادف عدم الماء ليس في محله. مع احتمال إرادته ما ليس نحن فيه...".

ص: 67

(68)

(مسألة 4): إذا علم بوجود الماء خارج الحدّ المذكور وجب السعي إليه وإن بعد (1)

وهو كما ترى مبني على حمل الأمر بالطلب على كونه مقدمياً بلحاظ شرطيته لمشروعية التيمم، أو لصحته كطهارة ترابه. لكنه خلاف المنسبق من دليل الطلب. وأما الإجماع المدعى فهو - لو تم - قد يرجع إلى عدم الاجتزاء بصلاته ظاهراً لاحتمال وجود الماء، لا عدم الاجتزاء بها واقعاً وإن صادف عدم وجود الماء. نعم لابد من تحقق قصد القربة، كما يأتي.

(1) كما في التذكرة والمنتهى ونهاية الأحكام وجامع المقاصد والروض وكشف اللثام والمدارك وغيرها. وكأنه لإطلاق دليل الطهارة المائية المفروض القدرة عليها، بعد حمل تحديد الطلب على صورة الشك. ومن ثم قيل إنه واجب طريقي.

لكن الظاهر أن طلب الشيء ليس عبارة عن الفحص عنه، ليختص بحال الشك فيه، بل هو السعي له ومحاولة تحصيله، والفحص عنه مع الشك فيه لازم لذلك، لأنه مقدمة له. فيكون وجوب الطلب مقدمياً من أجل تحصيل الطهارة المائية، لا طريقياً، والواجب الطريقي هو الفحص في ضمن الحدّ لا غير. وإلا فكون عدم وجدان الماء في داخل الحدّ طريقاً محرزاً لعدمه مطلقاً ولو في خارجه لا يناسب المرتكزات ويصعب حمل النص عليه جداً.

وحينئذٍ يكون مرجع التحديد تقييد القدرة المعتبرة في فعلية وجود الطهارة المائية بالقدرة في ضمن الحدّ، ومقتضاه عدم وجوب الطلب فيما زاد على الحدّ وإن علم بوجود الماء فيه.

ولعله إليه يرجع ما في الجواهر من أن دليل التحديد مقيد لعدم الوجدان بما إذا كان في الحدّ، وهو صادق حتى مع العلم بوجوده في خارج الحدّ، لولا الإجماع أو غيره.

ص: 68

إلا أن يلزم منه مشقة عظيمة (1)، وكذا الحال إذا حصل الاطمئنان بوجود الماء في خارج الحدّ (2) على الأحوط وجوباً.

اللهم إلا أن يقال: التحديد وإن اقتضى تقييد القدرة المعتبرة في الطهارة المائية بالقدرة على الماء الموجود في الحدّ دون الموجود خارجه، إلا أن دليل التحديد ينصرف إلى ما إذا لم يعلم بوجود الماء، أما مع العلم بوجوده في مكان معين فالسعي لتحصيله ليس طلباً عرفاً، لابتناء الطلب عرفاً على الفحص عن المجهول. ومع قصور دليل التحديد يتعين الرجوع لإطلاق دليل الطهارة المقتضي لوجوب السعي لتحصيل الماء من مكانه المعلوم.

نعم إذا علم بوجود الماء خارج الحدّ مع الجهل بموضعه بنحو يحتاج إلى طلبه والفحص عنه كان مقتضى دليل التحديد عدم وجوب طلبه والفحص عنه.

(1) بحيث يدخل في نفي الحرج المسقط للتكليف. لكن الإنصاف أن اعتبار ذلك مقلل لفائدة التحديد جداً.

(2) كما قد يستفاد مما في التذكرة من وجوب طلب الماء إذا دل عليه في خارج الحدّ، وما في كشف اللثام من إطلاق وجوبه عند أمارة تدل عليه من خضرة وقصد طير ونحوهما، إذا دل عليه. وفي الجواهر: "قد يتردد في الظن الذي تطمئن به النفس، بل هو علم عرفي، من حيث عدم احتمال شمول الرواية لمثله".

وهو قريب لو كان وجوب الطلب طريقياً لإحراز عدم الماء مطلقاً. حيث يبعد جداً عموم جعل عدم العثور على الماء في داخل الحدّ طريقاً لإحراز عدمه مطلقاً ولو في خارج الحدّ لما إذا حصل الاطمئنان بوجوده في خارج الحدّ. بل لو قيل بحجية الاطمئنان في نفسه فالأمر أظهر. أما بناء على ما سبق منّا فينحصر الوجه فيه بعموم الإنصراف المشار آنفاً لصورة الاطمئنان، كما هو غير بعيد.

هذا وفي جامع المقاصد وكشف اللثام والروض الاكتفاء بظن وجود الماء في

ص: 69

(70)

(مسألة 5): إذا طلب الماء قبل دخول الوقت فلم يجد لم تجب إعادة الطلب بعد دخول الوقت (1)،

خارج الحدّ في وجوب طلبه. ولا يظهر وجهه مع إطلاق دليل التحديد حتى لو حمل كون وجوب الطلب طريقياً. إلا أن يدعى قيام الظن مقام العلم في الشرعيات. وهو كما ترى.

وأضعف منه ما عن المنتهى من الاكتفاء بتوهم وجوده الذي هو دون الشك. لأنه إلغاء لدليل التحديد رأساً، إذ مع عدم احتمال وجوده لا يجب الطلب حتى في داخل الحدّ. وإن كان الموجود في المنتهى - فيما عثرت عليه - هو وجوب توهم قرب الماء منه، لا مع توهم مطلق وجوده، فيخرج عما نحن فيه.

(1) لأن الطلب حيث يكشف عن عدم الماء في الحدّ فلا يفرق في كشفه عنه بين أوقات وقوعه. خلافاً لما في المعتبر والمنتهى والمدارك. ومقتضى ما صرحوا به من عدم وجوب الطلب مع العلم بعدم الماء اختصاص ذلك بما إذا احتمل وجود الماء، إما لاحتمال قصور في الطلب والفحص، أو لاحتمال تجدد الماء وإن كان احتمال أحد الأمرين لا يعتنى به لو كان الطلب في الوقت.

وحينئذٍ فقد استدل عليه في الجواهر وغيره بوجوه:

الأول: ظاهر ما دل على وجوبه، حيث لا يجب إلا في الوقت فلا يجزيء إلا إذا وقع بعده.

وفيه: أنه بعد أن كان المفروض عدم قدح الاحتمال الحاصل مع الطلب في الوقت فلابد أن يكون اكتفاء الشارع بالطلب مبنياً على اكتفائه في إحراز عدم القدرة على الماء باليأس الحاصل منه، فمع بقاء اليأس المذكور بعد الوقت لا موضوع للفحص. ومجرد عدم وجوب الطلب قبل الوقت لا ينافي الاجتزاء بفائدته المستمرة بعده.

ص: 70

على أن عمدة دليل وجوب الطلب هو حديث السكوني، ولا ظهور له في الخطاب به وإيجابه ليختص بما بعد الوقت، بل المفروغية عنه الظاهرة في توقف مشروعية التيمم عليه ولو ظاهراً.

الثاني: توقف صدق عدم الوجدان حين التيمم على الطلب بعد الوقت، ولاسيما بعد ظهور الآية في اعتبار عدم الوجدان حين القيام للصلاة وإرادة التيمم لها.

وفيه: أن المراد بعدم الوجدان إن كان هو عدم القدرة على الماء فقد سبق أن الاجتزاء بالطلب يستلزم الاجتزاء في إحراز عدم القدرة باليأس الحاصل من الطلب، وهو الباقي بعده حين القيام للصلاة. وإن كان هو عدم العثور عليه المتفرع على الفحص - كما سبق منّا عند الكلام في وجوب الطلب - فمن الظاهر أن عدم الوجدان بالمعنى المذكور ليس موضوعاً لوجوب التيمم، بل هو مصحح للبناء على تحقق موضوعه بلحاظ استلزامه اليأس، والمفروض حصوله في محل الكلام بعد الوقت وحين القيام للصلاة.

كيف ولو بني على الجمود على ذلك لزم عدم الاجتزاء بالطلب بعد الوقت مع الفصل المعتد به بينه وبين التيمم للصلاة، خصوصاً إذا كان بداع آخر كالشرب والتنظيف. ولا يظن التزام أحد بذلك.

الثالث: صحيح زرارة المتضمن الأمر بالطلب مادام في الوقت. وكأنه لحمله على إرادة بيان وقت الطلب، لا أمده ومقداره، لما سبق عند الكلام في وجوب الطلب. وهو كما ترى لعدم التعرض في الصحيح لمبدأ وقت الطلب، بل منتهى وقته فلا ينافي تقديمه على الوقت.

الرابع: إنه لو اكتفي به قبل الوقت لزم الاكتفاء بالطلب الواحد لأيام كثيرة. وفيه: أنه لا محذور في البناء على ذلك، بل صرح به غير واحد، كما يأتي. ومن هنا لا مخرج عما سبق.

ص: 71

إلا أن يحتمل العثور على الماء لو أعاد الطلب لاحتمال تجدد وجوده احتمالاً معتداً به فتجب إعادته حينئذٍ (1)، وإذا انتقل عن ذلك المكان فلا إشكال في وجوب الطلب مع احتمال وجوده (2).

(1) لما سبق من أن الاكتفاء بالفحص حين الطلب بلحاظ الاجتزاء باليأس الحاصل منه، فمع ارتفاع اليأس يتعين عدم الاجتزاء به. وأما استصحاب عدم تجدد الماء فلا مجال للتعويل عليه لما سبق عنه الكلام في دليل وجوب الطلب. ومنه يظهر لزوم إعادة الطلب مع الاحتمال المذكور حتى لو وقع بعد الوقت.

(2) كما قطع به غير واحد. واستدل عليه سيدنا المصنف (قدس سره) بإطلاق النص. وفيه: أن حديث السكوني وارد لبيان مقدار الطلب، وظاهره المفروغية عن وجوبه من دون أن يكون له إطلاق في ذلك. فالعمدة ما سبق من القاعدة المقتضية لوجوب الطلب.

نعم قد يدعى عدم وجوب الطلب مع عدم انتقاض التيمم الحاصل قبل الانتقال. للنصوص المتضمنة عدم انتقاض التيمم إلا بالحدث أو إصابة الماء(1) ، كصحيح زرارة: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): يصلي الرجل بتيمم واحد صلاة الليل والنهار كلها؟ فقال: نعم، ما لم يحدث أو يصب الماء"(2) ، وغيره. فإن مقتضى إطلاقها عدم انتقاض التيمم مع عدم إصابة الماء ولو كان لعدم الطلب.

لكنه وارد لبيان أن التيمم من شأنه الاستمرار، من دون نظر لمشروعيته في نفسه وتحقق موضوعها، وهو عدم التكليف بالطهارة المائية. وحينئذٍ لا ينهض بنفي وجوب الطلب بعد ما سبق من أن مقتضى النص والأصل وجوبه احتياطاً للطهارة المائية الواجبة بالأصل والتامة الملاك، والتي يرجع الشك في وجود الماء للشك في

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19، 20 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 72

(مسألة 6): إذا طلب بعد دخول الوقت لصلاة يكفي لغيرها من الصلوات (1)، فلا تجب إعادة الطلب عند كل صلاة إن لم يحتمل العثور مع الإعادة احتمالاً معتداً به (2).

(مسألة 7): المناط في السهم والرمي والقوس والهواء والرامي هو المتعارف المعتدل، الوسط في القوة والضعف (3).

القدرة عليها، لا للشك في تحقق موضوعها وتمامية ملاكها.

نعم لو طلب المتيمم في المقام الماء فلم يجده، وأحرز أن وظيفته التيمم، لكن احتمل بطلان تيممه لمروره في الطريق بالماء بنحو يقدر على استعماله وإن لم يره لعدم طلبه له، كان مقتضى استصحاب عدم القدرة على الماء عدم انتقاض تيممه، فله أن يصلي به. فلاحظ.

(1) كما يظهر مما تقدم من المسألة السابقة.

(2) لأن الطلب لا يوجب اليقين، وإنما يحصل معه اليأس الذي يجتمع مع الاحتمال غير المعتد به. بل لم يستبعد في جامع المقاصد الاكتفاء بالظن القوي، لأن مناط أكثر الشرعيات الظن. وإن لم يخل ما ذكره عن الإشكال، لعدم وضوح التعويل في الشرعيات على الظن من دون دليل خاص، ومعه يلزم الاكتفاء بمطلق الظن وإن يكن قوياً. فلاحظ.

(3) لأن ذلك هو المفهوم من الإطلاق في مقام التحديد فيما يتردد بين الأقل والأكثر بعد العلم بعدم إرادة المسمى. ومع اختلاف أفراده في المساحة يتعين الاكتفاء بالأقل، خلافاً لما في كشف اللثام من تعيين الأبعد، وفي الجواهر من التردد بينه وبين الوسط. لصدق الإطلاق بالأقل.

هذا وفي كشف اللثام:" ثم ما ذكرناه في معنى الغلوة هو المعروف. وفي العين والأساس أن الفرسخ التام خمس وعشرون غلوة. وفي المغرب المعجم عن الأجناس

ص: 73

(74)

(مسألة 8): يسقط وجوب الطلب في ضيق الوقت (1). كما يسقط إذ

عن ابن شجاع أن الغلوة قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة ذراع. وفي الارتشاف أنها مائة باع، والميل عشرة غلاء ".ولا يخفى أن التقديرات المذكورة لا تنافي ما سبق، بل هي مبنية على بيان مقداره. نعم هي تحتاج إلى إثبات بتجربة واستقراء غير ميسور لنا.

(1) كما صرح به غير واحد. وهو ظاهر بناءً على أن ضيق الوقت من مسوغات التيمم ولو مع القدرة على الماء. وأما بناء على عدمه فيدل عليه صحيح زرارة المتقدم عند الكلام في وجوب الطلب، بناءً على روايته هكذا:" فليطلب الماء ما دام في الوقت... "(1) كما قد يشير إليه في حديث داود الرقي:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون في السفر، فتحضر الصلاة وليس معي ماء، ويقال: إن الماء قريب منا، فأطلب الماء وأنا في وقت يميناً وشمالاً؟ قال: لا تطلب..."(2). لإشعار تنصيص السائل على بقاء الوقت بمفروغيته عن عدم وجوب الطلب مع ضيق الوقت. مضافاً إلى صدق عدم وجدان الماء، فإنه وإن توقف على الفحص - كما سبق - إلا أنه يكفي فيه أدناه.

وبعبارة أخرى: المراد بعدم الوجدان عدم وجدان الماء الذي يحتاجه، وهو خصوص الماء الذي يؤدي به الصلاة في الوقت، وهو في مفروض المسألة الماء القريب منه، الذي يكفي في الفحص عنه الفحص في المواضع القريبة، ومع العلم بعدمه فيها يستغنى عن الفحص، كما يستغنى عنه مع العلم بعدم الماء مطلقاً.

وأما التحديد بالغلوة والغلوتين فهو قاصر عن مفروض الكلام، لأن المراد به الطلب لأجل الصلاة الأدائية، ولا موضوع له في المقام.

ومن ذلك يظهر ضعف ما حكاه في التذكرة عن بعض علمائنا من وجوب السعي لتحصيل الماء مستدلاً بقوله تعالى: "فلم تجدوا".

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 74

(75)

خاف على نفسه أو ماله (1) من لصّ أو سبع أو نحو ذلك. وكذا إذا كان في طلبه حرج ومشقة لا تتحمل (2).

(مسألة 9): إذا ترك الطلب حتى ضاق الوقت عصى (3)، لكن

كما يظهر مما تقدم أنه لو وسع الوقت الفحص فيما دون الحدّ وجب، لا لنصوص التحديد، بل عملاً بالقاعدة المقتضية لوجوب الطلب، وليصدق عدم الوجدان بالمعنى المتقدم، وهو المترتب على الفحص. كما يظهر عدم اختصاص ما سبق بالمسافر، بل يجري في غيره مِن مَن يلزم من طلبه الماء فوت الوقت.

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه النصوص المتضمنة لعدم وجوب الطلب المحمولة على الخوف، كما صرح به في بعضها. وقد تقدمت عند الكلام في وجوب الطلب.

(2) لعموم نفي الحرج المقتضي لسقوط الطهارة المائية، الذي هو المعيار في مشروعية التيمم، كما سبق في أول هذا الفصل.

(3) الظاهر عدم الإشكال فيه في الجملة، وإن عبر جماعة بأنه أخطأ. والوجه فيه ما سبق من عموم موضوع الطهارة المائية، وعدم كون القدرة معتبرة فيها شرعاً، بل عقلاً من دون أن تكون دخيلة في ملاكها، فتعجيز النفس عنها بترك الطلب حتى يضيق الوقت بحكم المعصية.

نعم هو موقوف على سبق القدرة عليها، بأن يكون الماء موجوداً في الواقع بحيث يعثر عليه بالفحص، أما لو لم يكن موجوداً فلا تكليف بالطهارة المائية ولا تعجيز. لكن حيث فرض الجهل بالحال، وكان الاحتياط مع الشك في القدرة واجباً كان احتمال التكليف بها منجزاً وإن لم يكن التكليف ثابتاً، فالإقدام على التعجيز معه مردد بين التجري والمعصية لتكليف منجز. ولعله لذا عبر جماعة بأنه يكون مخطئاً. نعم بناء على وجوب الطلب نفسياً يلزم العصيان على كل حال. لكن تقدم ضعف ذلك.

ص: 75

الأقوى صحة صلاته حينئذٍ (1)

(1) كما صرح به المحقق وجماعة ممن تأخر عنه، بل في المدارك والحدائق أنه المشهور، وعن الروض نسبته لفتوى الأصحاب. والعمدة فيه صدق عدم الوجدان بالتقريب المتقدم في المسألة السابقة.

لكن لا يبعد انصرافه عن صورة التفريط، كما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره). ولاسيما بملاحظة وجوب الطلب.

وقد يستشكل فيه بابتناء الأبدال الاضطرارية على لزوم تحصيل الميسور من المصلحة، ودخل التفريط في ذلك بعيد جداً، فلو تم الانصراف كان فهم عدم الخصوصية كافياً في التعميم.

اللهم إلا أن يقال: الظاهر ابتناء البدلية في المقام - زائداً على ذلك - على الامتنان، كما يناسبه قوله تعالى: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون"(1) ، بناء على رجوع التعليل بتمامه للتيمم - كما لعله الظاهر - أو رجوع التعليل بإتمام النعمة له، مع رجوع ما قبله لأصل اعتبار الطهارة في الصلاة، كما في مجمع البيان.

وكذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):" جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "،ونحوه مما يظهر منه اختصاص هذه الشريعة السمحة بالتيمم(2). ومثله قوله في صحيح رفاعة:" إذا كانت الأرض مبتلة ليس فيها تراب ولا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم منه، فإن ذلك توسيع من الله عز وجل"(3) ، وقوله (عليه السلام): "إذا كنت في حال لا تقدر إلا على الطين فتيمم به فإن الله أولى بالعذر"(4).

ومرجع ذلك إلى ابتناء تشريع التيمم على الاكتفاء بالميسور من المصلحة في

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 4، 7.

ص: 76

الوقت امتناناً على المكلفين بذلك، في مقابل الإلزام بالقضاء بالطهارة المائية المستلزم للضيق. ولاسيما مع تجمع القضاء بطول المدة. وذلك لا يناسب التعدي لصورة التفريط مع فرض انصراف الإطلاق. ومن ثم يشكل الاجتزاء بالتيمم في محل الكلام.

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) - مع اعترافه بقصور أدلة التيمم عن صورة التفريط - ذكر أن الإجماع القطعي والنص الوارد في النفساء، المتضمن أن الصلاة لا تترك بحال، دلا على عدم سقوط الصلاة، ولازم ذلك مشروعية التيمم في المقام.

ويشكل بأنه لا مجال لدعوى الإجماع على الاجتزاء بالتيمم في المقام بعد ما سبق من أن أول من صرح بالاجتزاء بالتيمم فيما عثرنا عليه المحقق، وما يأتي من تصريح بعضهم بعدم الاجتزاء به. كما أن الإجماع على عدم سقوط الصلاة بحال - لو تم - لا يشمل - على ما يأتي في حكم فاقد الطهورين - صورة تعذر الطهارة التي منها المقام، بناء على قصور دليل بدلية التيمم عنه، لأن المراد بالطهور ليس إلا استعماله بالوجه المشروع الذي تترتب عليه الطهارة، ومقتضى إطلاق الخطاب بالطهارة المائية انحصار الطهارة بها، وبعد فرض قصور دليل مشروعية التيمم عن صورة التفريط يتعين تعذر الطهارة بتعذر الطهارة المائية.

وأما النص فهو صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في النفساء التي يستمر بها الدم، المتضمن جريان حكم المستحاضة عليها، وبيان وظيفة المستحاضة، وفيه:" قلت: والحائض؟ قال: مثل ذلك سواء، فإن انقطع الدم، وإلا فهي مستحاضة تصنع مثل النفساء سواء ثم تصلي، ولا تدع الصلاة على كل حال، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الصلاة عماد دنياكم"(1).

ومقتضى المناسبة بين التعليل والحكم المعلل أن يكون المراد بقوله (عليه السلام) فيه: "ولا تدع الصلاة على كل حال" التأكيد على وجوب المحافظة على الصلاة بعد الفراغ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 77

عن مشروعيتها، والردع عن التسامح في أدائها استثقالاً لوظيفة المستحاضة المذكورة فيه، فلا ينهض بإثبات المدعى من وجوب الصلاة في المقام بعد أن لم تثبت مشروعيتها من الخارج، ليستلزم مشروعية التيمم لها، كما ذكره (قدس سره). وإنما ينهض بذلك لو كان المراد به بيان مشروعية الصلاة ووجوبها مهما كان حال المكلف وبمقدار طاقته. لكن المناسب حينئذٍ تعليله بمثل قوله (عليه السلام): "الميسور لا يسقط بالمعسور" ،لا بالنبوي المذكور.

هذا مضافاً إلى أنه (قدس سره) قد ذكر في حكم فاقد الطهورين أن ما تضمن عدم سقوط الصلاة بحال لا ينهض ببيان مشروعية الصلاة من دون طَهور، لأن مقتضى ما تضمن ركنية الطهور كون الصلاة الفاقدة له ليست بصلاة، وحينئذٍ يتعين قصوره عن المقام، لما تقدم في توجيه قصور الإجماع. ومن هنا لا مجال للخروج عما سبق من عدم الاجتزاء بالتيمم.

غايته أنه لا طريق لإحراز عدم مشروعيته، لما سبق من أن عدم الواجدان ليس موضوعاً للتيمم، ليكون قصور إطلاقه عن شمول المقام مستلزماً لعدم مشروعية التيمم وتعذر الصلاة بتعذر الطهارة المستلزم لوجوب القضاء، بل هو مصحح للبناء على تحقق موضوعه، وهو تعذر الطاهرة المائية أو سقوط التكليف بها، فقصوره في المقام إنما يستلزم عدم إحراز مشروعية التيمم من دون أن يحرز عدم مشروعيته، بل هو تابع لفعلية التكليف بالطهارة المائية واقعاً قبل التفريط، المنوط بوجود الماء واقعاً الذي هو غير محرز أيضاً. وقد سبق أيضاً أنه لا مجال لاستصحاب عدم وجود الماء.

ومن هنا يتعين الجمع بين الأداء بالتيمم والقضاء بالطهارة المائية، خروجاً عن مقتضى العلم الإجمالي. إلا أن ينكشف بعد الصلاة بالتيمم عدم الماء في داخل الحدّ، فلا يجب القضاء.

بل لو قيل بأن وجوب الطلب مقدمي، لكونه شرطاً في صحة التيمم، اتجه بطلان التيمم مع ذلك أيضاً، وتعين القضاء.

ص: 78

وإن علم أنه لو طلب لعثر (1). لكن الأحوط استحباباً القضاء خصوصاً في الفرض المذكور.

(مسألة 10): إذا ترك الطلب في سعة الوقت وصلى بطلت صلاته وإن تبين عدم وجود الماء (2). نعم لو حصل منه قصد القربة مع تبين عدم الماء - بأن

لكن صاحب الجواهر مع بنائه على ذلك بنى على مشروعية التيمم في المقام، وإجزاء الصلاة به. وكأنه للبناء على سقوط شرطيته حينما يضيق الوقت. ولم يتضح وجهه.

هذا وقد حكم في النهاية والمبسوط والخلاف والدروس ومحكي السرائر بأن من صلى بتيمم من دون طلب إعادة الصلاة. وربما حمل ذلك منهم على سعة الوقت. لكنه قد لا يناسب كلماتهم. والأمر سهل.

(1) لا يبعد أن يكون مراده بذلك ما إذا كان الماء في محل لا يسعه الوصول إليه مع إدراك الصلاة الأدائية بسبب التفريط في الطلب. وحينئذٍ يبتني الإجزاء وعدمه في المقام على ما سبق الكلام فيه من عموم عدم الوجدان لصورة التفريط وعدمه، وحيث سبق المنع منه يتعين المنع من الصحة في المقام، خصوصاً إذا كان عالماً بوجود الماء حين التيمم والصلاة، حيث لا يصدق عدم الوجدان حينئذٍ، بل يدخل في ضيق الوقت عن استعمال الماء، الذي يأتي منّا الإشكال في مسوغيته للتيمم مع عدم التفريط، فضلاً عن التفريط.

وأما لو كان المراد ما إذا كان الماء في موضع قريب يسعه الوصول إليه وإدراك الصلاة الأدائية، إلا أنه بسبب ترك الطلب لم يعلم به وتخيل عدمه، فالأمر أشكل، لصدق الوجدان والقدرة على استعمال الماء، فلا يسقط التكليف بالطهارة المائية. ومعه لا وجه لمشروعية التيمم.

(2) مراده بذلك بطلانه من حيثية عدم تحقق قصد القربة، لعدم إحراز مشروعية

ص: 79

(80)

نوى التيمم والصلاة برجاء المشروعية (1) - فالأقوى صحتها (2).

(مسألة 11): إذا طلب الماء فلم يجد فتيمم وصلى، ثم تبين وجوده في محل الطلب - من الرمية أو الرميتين أو الرحل أو القافلة - صحت صلاته، ولا تجب الإعادة، ولا القضاء (3).

التيمم بعد تنجز احتمال وجود الماء بمقتضى وجوب الطلب، لا عدم مشروعية التيمم والصلاة واقعاً، وإلا لم يناسب ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الثالثة، ويأتي منه هنا.

(1) أو كان غافلاً عن وجوب الطلب، بتخيل كفاية عدم واجدية الماء تحت اليد في مشروعية التيمم، أو نحو ذلك.

(2) وعليه يحمل ما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الثالثة، وتقدم منّا وجهه.

(3) يظهر من بعض كلماتهم المفروغية. ولعله لذا حكي عن بعضهم أنه اتفاقي. وكيف كان فالظاهر أن مرادهم ما إذا استكمل الطلب بالوجه المتعارف، وكان عدم العثور على الماء لوجوده في مكان يحتاج العثور عليه فيه لعناية زائدة خارجة عن المتعارف.

وحينئذٍ فقد يستدل لصحة التيمم بصدق عدم الوجدان. لكن تقدم أن عدم الوجدان ليس هو الموضوع الواقعي للتيمم، وإنما هو مصحح للبناء ظاهراً على تحقق الموضوع، فمع انكشاف وجود الماء ينكشف عدم مشروعية التيمم وبطلانه.

ومثلها دعوى: أن موضوع التيمم ليس هو وجود الماء واقعاً، بل وجوده بنحو يقدر على استعماله، وهو غير حاصل مع تعذر العثور عليه. لاندفاعها - بعد تسليم أن ذلك هو موضوع التيمم - بأن عدم العثور على الماء في محل الكلام لا يستلزم عدم القدرة على استعماله، لأن عدم العثور قد يكون مسبباً عن الإيهام أو الغفلة، من دون أن يرجع إلى قصور في الطاقة.

فلعل الأولى أن يقال: استعمال الماء وإن كان مقدوراً، إلا أن ضياعه بالنحو

ص: 80

المذكور مانع من محركية الأمر بالطهارة المائية وسقوطه عن الفعلية، لا من جهة توقف الاندفاع عن الأمر على العلم بجعله وبتحقق موضوعه - كما هو الحال في جميع موارد الجهل - بل لتوقفه على الإحاطة بطريقة الامتثال والالتفات إليها، وهو غير حاصل في المقام. ولذا لا يصلح الأمر المذكور للمحركية مع العلم بوجود الماء بالنحو المذكور، ومع عدم محركية الأمر بالطهارة وسقوطه عن الفعلية تتعين مشروعية التيمم، كما سبق عند الكلام في وجوب الطلب.

نعم يشكل الاكتفاء بعدم محركية الأمر بالطهارة المائية من جهة الغفلة والجهل فقط، إما اعتقاد عدم وجوبها، أو لاعتقاد العجز عنها، لتخيل عدم وجود الماء مثلاً أو نحو ذلك، لعدم الدليل على ذلك بعد عدم سقوط الأمر بها عن الفعلية بذلك، لظهور أدلة مشروعية التيمم في ترتبه على سقوط الأمر بالطهارة المائية واقعاً.

ولذا لا يظن بأحد احتمال مشروعية التيمم وإجزائه في حق من لم يعلم بوجوب الطهارة المائية أو بمشروعيتها. مضافاً إلى موثق أبي بصير أو صحيحه: "سألته عن رجل كان في سفر وكان معه ماء، فنسيه فتيمم وصلى، ثم ذكر أن معه ماء قبل أن يخرج الوقت قال: عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة"(1). فإنه بناء على ما يأتي في الفصل الخامس من مشروعية التيمم مع سعة الوقت في الجملة لا وجه لوجوب الإعادة في النص إلا ما ذكرنا.

إلا أن يحمل على الاستحباب، كالنصوص الدالة على الإعادة فيمن لم يجد الماء إذا تيمم وصلى ثم وجد الماء(2). لكنه لا شاهد له. ومجرد وجود الشاهد له فيمن لم يجد الماء ثم وجده لا يكفي بعد احتمال الفرق.

وأما ردّه بضعف السند فهو في غير محله، إذ ليس في سنده إلا عثمان بن عيسى الذي ثبتت وثاقته، وإنما الكلام في رجوعه للحق بعد وقفه. على أن الحديث مجبور

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 5

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم.

ص: 81

بعمل المشهور، كما في الذكرى.

لكن ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن الخطأ إن كان مانعاً من استعمال الماء بحكم العقل كان كافياً في مشروعية التيمم وصحته، كما لو اعتقد المكلف خطأ ضيق الوقت فلم يطلب الماء، أو اعتقد كون الماء مغصوباً أو نحوهما، لكون الحكم المذكور موجباً لسلب القدرة عقلاً، بخلاف ما لو لم يكن مانعاً منه، كما إذا اعتقد عدم وجود الماء فتبين وجوده.

وهو مبني أولاً: على أن موضوع التيمم هو عدم القدرة على استعمال الماء، وثانياً: على تعميم عدم القدرة للداعي العقلي الناشئ عن الخطأ في الاعتقاد.

وقد سبق عند الكلام في وجوب الفحص، المنع من الأول. وأما الثاني فهو موقوف على الإطلاع على ما يساق دليلاً على أخذ عدم القدرة على استعمال الماء في موضوع التيمم، لينظر في عمومه للداعي العقلي المذكور، ولم يتضح الدليل المذكور.

فالأولى تقريب ما ذكره بما سبق من أن مسوغ التيمم هو سقوط التكليف بالطهارة المائية عن المحركية، لوضوح حصول ذلك مع الداعي العقلي المذكور.

ويناسب ما ذكرنا ظهور جملة من النصوص في مشروعية التيمم مع الخوف من الطلب، أو من ضيق الوقت عنه، أو من الضرر في استعماله، مع وضوح أن الخوف ارتكازاً ليس من سنخ الطريق للأمر المخوف منه، ليمكن دعوى كونه محرزاً للحرمة. غاية الأمر أنه منشأ لوجوب الاحتياط، بنحو يمنع من محاولة استعمال الماء عقلاً.

ولعل الأولى أن يقال: سبق أن المعيار في مشروعية التيمم ثبوتاً على سقوط الطهارة المائية عن الفعلية واقعاً، لتعذرها، أو لمزاحمتها لتكليف آخر، أو تخفيفاً من الشارع وامتناناً، كما في موارد الضرر الذي لا يجب دفعه، أو الحرج، أو غيرهما من موارد ثبوت ترخيص الشارع في ترك الطهارة المائية.

ومقتضى ذلك بدواً عدم البناء عملاً على مشروعية التيمم إلا مع ثبوت سقوط

ص: 82

الطهارة بقطع أو طريق شرعي أو أصل.

كما أن مقتضى الأصل حينئذ عدم صحة التيمم لو صادف عدم سقوط الطهارة المائية واقعاً، لخطأ القطع أو الأصل، كما لو كان عنده ماء اعتقد خطأ أنه ماء مضاف، أو في حرز مقفل قد ضاع مفتاحه، أو قامت البينة أو الاستصحاب على ذلك، ثم تبين أنه ماء مطلق، أو في مكان غير مقفل.

نعم إذا كان الخطأ موجباً لتعذر الطهارة المائية حقيقة تعين سقوطها ومشروعية التيمم وصحته واقعاً، كما لو اعتقد خطأ غصبية الماء الذي عنده، حيث يتعذر التقرب باستعماله وإن كان حلالاً واقعاً، فتتعذر الطهارة المائية، وكذا الحال في سائر موارد تنجز احتمال حرمته بإمارة أو أصل أو غيرهما.

كما أنه قد تضمنت جملة من النصوص الاكتفاء بخوف فوت الوقت وخوف الضرر في مشروعية التيمم، ومقتضاها بدواً كونه موجباً لسقوط الطهارة المائية واقعاً.

لكن مقتضى الجمع بينها وبين ما تضمن إناطة ذلك بفوت الوقت ونفس الضرر كون الخوف مصححاً ظاهرياً لترك الطهارة المائية، لا مسقطاً لها واقعاً، فإنه أولى عرفاً من الجمع بينهما بالبناء على كون كل من الواقع والخوف مسقطاً لها واقعاً. بل لا إشكال ظاهراً في عدم سقوطها واقعاً بالخوف مع عدم تحقق الأمر المخوف واقعاً.

وحينئذٍ فحيث لم يكن الخوف ارتكازاً من سنخ الطريق للأمر المخوف، وإنما يكون العمل عليه لمحض الاحتياط للواقع للاهتمام به، فمن الظاهر أن الاحتياط المذكور لا يقتضي الاجتزاء بالتيمم حتى مع بقاء الجهل بالحال وعدم انكشاف الخلاف، بل يقتضي الجمع بينه وبين الإعادة أو القضاء بالطهارة المائية، لاحتمال عدم تحقق الأمر المخوف وعدم مشروعية التيمم واقعاً.

إلا أنه حيث لا إشكال في ظهور النصوص المذكورة في عدم الإعادة وفي

ص: 83

(84)

(مسألة 12): إذا كانت الأرض في بعض الجوانب حزنة وفي بعضها سهلة يلحق كلا حكمه من الرمية والرميتين (1).

(الثاني): عدم التمكن من الوصول إلى الماء (2) لعجز عنه، ولو كان عجزاً شرعياً (3)،

الاجتزاء بالتيمم إذا وقع مع الخوف وإن لم يصادف تحقق الواقع المخوف كشف ذلك عن أن موضوع التيمم واقعاً ليس هو خصوص سقوط الطهارة المائية واقعاً - كما سبق منّا - بل الأعم منه ومن ثبوت العذر الظاهري في تركها.

نعم المتيقن من ذلك ما إذا كان العذر راجعاً إلى التحفظ والفرار من محذور شرعي - كالتصرف في ملك الغير من دون عذر - أو عرفي، كما لو خيف العطش أو غيره، وهو المناسب لما يأتي في المسوغ الثاني، ولا يعم ما إذا ابتنى العذر على مجرد الخطأ في البناء على سقوط الطهارة المائية من دون أن يلزم منها محذور يلزم الاحتياط منه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) عملاً بإطلاق النص، لما سبق من أن النص ناظر لامتداد الطلب، لا للجهات التي يطلب فيها، واستفادة استيعاب الجهات من شاهد الحال، وحينئذٍ يكون مقتضى المعيار في الحزونة والسهولة على الجهة التي يقع الطلب فيها، لا على تمام الجهات التي يقع فيها.

(2) بلا خلاف أجده، كما في الجواهر، وفي المعتبر أنه إجماع، وظاهر غير واحد المفروغية عنه. لسقوط الطهارة المائية بالعجز عن استعمال الماء، وهو كاف في تحقق موضوع التيمم، كما تقدم.

(3) يعني: بأن لزوم محذور شرعي من الوصول إليه واستعماله، كما لو كان الماء مغصوباً يحرم استعماله، أو توقف على عمل محرم، كما لو كان في بيت مغصوب أو نحوه. والوجه فيه ظاهر بناء على أن وجوب الطهارة المائية مشروط شرعاً بالقدرة،

ص: 84

وأن المراد بالقدرة ما يعم القدرة الشرعية، حيث يكون مقتضى إطلاق دليل المحذور الشرعي حرمته حال المزاحمة للطهارة المائية، فيستلزم العجز عنها، ويسقط الأمر خطاباً وملاكاً، ويتعين التيمم بناء على ما سبق من مشروعيته بمجرد سقوط الطهارة المائية. من دون نظر لأهمية المحذور المفروض، لعدم الفرق في إطلاق الخطاب به بين مراتب أهميته، ومع فعلية الخطاب يرتفع به موضوع الطهارة المائية مهما كانت مهمة.

أما بناء على ما سبق من عدم اشتراط الطهارة المائية شرعاً بالقدرة، فقد يشكل الحال مع أهمية الطهارة المائية من المحذور المفروض حيث لا يكون التزاحم بينهما مسقطاً لوجوب الطهارة المائية، ليشرع التيمم، بل مسقطاً للمحذور المفروض، ومع سقوطه لا عجز عن الطهارة المائية.

بل قد يشكل الأمر مع تساويهما في الأهمية، بناء على إناطة مشروعية التيمم بالعجز عن الطهارة المائية، لأن مقتضى التزاحم حينئذٍ التخيير، ومعه لا عجز عن الطهارة المائية، ليشرع التيمم. نعم بناء على ما سبق من إناطة مشروعية التيمم بسقوط الطهارة المائية يتعين مشروعية التيمم مع التساوي والتخيير، لرجوع التخيير لسقوط الطهارة المائية.

وأما مع احتمال أهمية كل من الأمرين فترك الطهارة المائية فراراً من المحذور المفروض وإن كان جائزاً عقلاً - كما هو الحال في سائر موارد التزاحم مع احتمال الأهمية في كل من الطرفين - إلا أنه لا يحرز مشروعية التيمم، لعدم إحراز سقوط الطهارة المائية شرعاً واقعاً، إلا أن يصرف الماء قبله، وبدونه قد يتعين الإتيان بالطهارة المائية، تحصيلاً للفراغ اليقيني من التكليف بالصلاة - الذي قد يكون أهم - وإن لزم المحذور المذكور. وأولى بذلك ما إذا دار الأمر بين التساوي وأهمية خصوص الطهارة المائية، حيث لا يجوز التفريط بالطهارة المائية عقلاً.

لكن أصرّ سيدنا المصنف (قدس سره) على سقوط الطهارة المائية مطلقاً من دون نظر لأهميتها وعدمها، بدعوى: أن ليس المراد من وجدان الماء الذي جعل عدمه مسقط

ص: 85

للطهارة مطلقاً هو الوجدان الخارجي بل خصوص الوجدان الذي لا يلزم منه محذور أصلاً، لأنه هو المنصرف من إطلاق الآية.

ولذا لا ريب في عدم صدقه مع وجدان الماء إذا كان أمانة، ولو كان المراد به مطلق الوجدان لزم صدقه بذلك، وإن لم يجز استعماله في الطهارة ووجب التيمم، لأهمية حرمة الأمانة من وجوب الطهارة المائية.

ويشكل بأنه قد يتجه انصراف الوجدان عن وجدان ما يكون استعماله تعدياً على حق الغير فيه، كالأمانة والمغصوب، لا عن كل ما يلزم من استعماله محذور ولو لم يرجع لحق الغير في الماء، كما لو كان في مكان مغصوب أو لزم من استعماله تفويت واجب آخر أو نحوهما، فإنه بعيد جداً. ولاسيما مع عطف عدم الوجدان في الآيتين الشريفتين على المرض، حيث يناسب ذلك كون المراد من عدم الوجدان ما يقابل الضرر اللازم من المرض، لا ما يعمه.

ومثله ما في المنتهى من حمل الوجدان على التمكن من استعمال الماء، ومع وجوب صرف الماء في وجه آخر شرعاً لا يكون متمكناً من صرف الماء.

إذ فيه: أنه لو تم انصراف الوجدان إلى ما يمكن معه استعمال الماء في الطهارة فهو مختص بالتمكن الخارجي، لا ما يعمّ الشرعي الذي يخل به وجوب صرف الماء في وجه آخر، بل مقتضى إطلاق الوجدان صدقه حينئذٍ، فتجب الطهارة المائية وتزاحم الواجب الآخر، ويتعين الترجيح بالأهمية، كما سبق.

هذا وقد تردد في كلماتهم أن ما لا بدل له مقدم في مقام التزاحم على ماله بدل. ولم يتضح الوجه في عموم ذلك.

ودعوى: أنه مع جعل البدل يمكن الجمع بين التكليفين باختيار البدل، فيتعين. مدفوعة بأن الجمع بين التكليفين باختيار البدل موقوف على مشروعية البدل عند التزاحم، وهو إنما يتم مع كون البدلية عرضية، كما في أطراف الواجب التخييري، والأفراد الطولية للواجب الموسع، بل لا تزاحم بين التكليفين في ذلك.

ص: 86

وكذا مع كون البدلية طولية قد أخذ فيها تعذر ذي البدل، وكان المراد من التعذر ما يعم التعذر الشرعي بمزاحمة تكليف آخر. وفيما عدا ذلك يحتاج إلى دليل مثبت بالخصوص.

ومن الظاهر عدم كون المقام من الأول، وأن بدلية التيمم اضطرارية. كما أنه لم يثبت كونها من الثاني، لعدم وضوح كون موضوع البدلية تعذر الطهارة المائية بالمعنى الذي يصدق بمزاحمة أي تكليف شرعي، بل هو خلاف إطلاق أدلة وجوب الطهارة المذكورة. كما لا يناسب إناطة مشروعية التيمم بأمور ليس ذلك منها.

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره) في التنبيه الخامس من تنبيهات حكم الإنائين المشتبهين من طهارته: "وعلل في بعض الأخبار تقديم مراعاة سائر الواجبات والمحرمات على الطهارة المائية بأن الله جعل للماء بدلاً. فتأمل".

ولو تم الخبر المذكور نفع في المقام. كما ينفع أيضاً بمقتضى عموم التعليل في سائر موارد التزاحم بين ما له بدل وما لا بدل له. غير أنه لم أقف على الخبر المذكور عاجلاً، كما صرح بذلك سيدنا المصنف (قدس سره) أيضاً.

نعم تضمن بعض النصوص تعليل عدم وجوب الطهارة المائية في بعض موارد المزاحمة ببدلية التراب للماء، ففي صحيح ابن يعفور وعنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلواً ولا شيئاً تغرف به، فتيمم بالصعيد، فإن رب الماء هو رب الصعيد، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم"(1). وفي موثق سماعة:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته. قال: يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء، فإن الله عز وجل جعلهما طهوراً: الماء والصعيد"(2).

فإنه بعد المفروغية عن عدم كون بدلية الصعيد عرضية، بل هي طولية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التيمم حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 87

أو ما بحكمه (1)، بأن كان الماء في إناء مغصوب (2)، أو لخوفه على

اضطرارية، يكون التعليل بالبدلية ظاهراً في المفروغية عن أنه يكفي في تحقق موضوع البدلية محذور ارتكاب الحرام من دون خصوصية للمورد، وإلا فلو كان مختصاً بالمورد كان تعبدياً لا فائدة في بيانه، وهو خلاف ظاهر التعليل جداً.

وكذا لو كان مختصاً بما كان مثله في الأهمية، لأن الخصوصية المذكورة مغفول عنها عرفاً، فلا تفهم من التعليل. مع أنه لا يتيسر للمكلف غالباً تعين مرتبة أهمية التكليف، فلا يكون التعليل عملياً.

ومن ثم لا يبعد استفادة عموم تشريع التيمم فراراً عن المحذور الشرعي من التعليل المذكور. بل لا يبعد ظهور الموثق في العموم للمحذور العرفي الذي يصعب تحمله، كخوف العطش الذي لا يخشى معه التلف، لعموم قلة الماء لذلك. ولاسيما ما تضمنته النصوص من جواز الجماع على غير ماء لمن كان شبقاً(1)... إلى غير ذلك مما يظهر منه عدم أهمية خصوصية الماء في الطهارة، ورفع الشارع الأقدس اليد عنها لكل غرض له أهمية شرعية أو عرفية.

كما أن الظاهر عموم التعليل لما إذا كان المحذور بحيث يحسن الاحتياط له وإن لم يكن معلوم الحصول، لتطبيق التعليل على خوف قلة الماء، وقد سبق أن الخوف ليس طريقاً ظاهرياً محرزاً للعذر، فالاجتزاء بالتيمم معه لابد أن يبتني على عموم موضوع التيمم واقعاً له. فراجع ما سبق في المسألة الحادية عشرة، وتأمل جيداً.

(1) لعل المراد به ما كان عذراً شرعاً مسوغاً لترك الطهارة المائية، وإن لم يستلزم العجز الشرعي، لعدم وجوب مراعاته وعدم وجوب تركها لأجله، كما يأتي في بعض الأمثلة التي ذكرها (قدس سره).

(2) لعدم الإشكال ظاهراً في أهمية حرمة التصرف في ملك الغير من الطهارة

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب التيمم.

ص: 88

نفسه (1)،

المائية، ولا أقل من احتمال أهميتها من دون احتمال العكس، وقد عرفت كفاية ذلك في مشروعية التيمم حتى لو لم يتم العموم المتقدم.

نعم قد لا يحرم تفريغ الإناء من الماء، وذلك كما إذا كان الماء للمكلف ولم يكن وضعه في الإناء مستنداً له، لأن حرمة التصرف في ملك الغير ليست بنحو تقتضي منع الإنسان عن التصرف في ملكه، لأنه ضرر عليه منفي بمقتضي القاعدة.

إلا أنه يمكن الجمع بين الحقين باستئذان المالك، أو يكون التفريغ مضراً بالإناء، فيلزم تزاحم الضررين، ويتعين الصلح، أو الرجوع للحاكم الشرعي لحل المشكلة.

كما أنه لو كان وضع الماء في الإناء بفعل المكلف بنحو يكون متعدياً بذلك فالماء لا حرمة له، لأنه لا حرمة لعرق الظالم. إلا أن يكون إبقاء الإناء مشغولاً بالماء تصرفاً فيه أيضاً، فيجب عقلاً تفريغه منه بأقل تصرف ممكن، لوجوب التخلص من الحرام، نظير الخروج من الأرض المغصوبة. فلاحظ.

(1) كما يقتضيه حديث داود الرقي: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أكون في السفر، فتحضر الصلاة وليس معي ماء، ويقال: إن الماء قريب منّا، فأطلب الماء وأنا في وقت يميناً وشمالاً؟ قال: لا تطلب الماء، ولكن تيمم، فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك، فتضل ويأكلك السبع"(1). ومعتبر يعقوب بن سالم:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك. قال: لا آمره أن يغرر بنفسه، فيعرض له لص أو سبع"(2). مضافاً إلى ما سبق من العموم المستفاد من التعليل في الصحيح والموثق.

وأما أهمية وجوب حفظ النفس، فهو إنما يقتضي مشروعية التيمم مع استلزام محاولة الوصول للماء تلفها، لا مع الخوف من ذلك، بل غاية ما يقتضيه الخوف لزوم

********

(1) ،

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب التيمم حديث: 1، 2.

ص: 89

(90)

أو عرضه (1)، أو ماله من سبع (2)، أو عدو، أو لص، أو ضياع، أو غير ذلك.

(الثالث): خوف الضرر من استعمال الماء (3) بحدوث مرض أو زيادته،

الاحتياط بترك الوصول للماء من دون أن يحرز به مشروعية التيمم، بل اللازم حينئذٍ الاحتياط بضم الإعادة له، لما سبق في المسألة الحادية عشرة من عدم أمارية الخوف، وأن الاجتزاء معه بالتيمم مستفاد من نصوص الأمر بالتيمم، ومنها النصوص السابقة.

(1) للعموم السابق. مضافاً إلى استفادته مما يأتي في المال لو تم.

(2) لاستفادته من العموم المتقدم. مضافاً إلى أمرين الأول: ما قد يستفاد من ذكر اللص في معتبر يعقوب المتقدم، فإنه وإن كان مسبوقاً بالنهي عن التغرير بالنفس، إلا أنه حيث كان المتيقن من اللص من يطلب المال، فالخوف على النفس منه لابد أن يكون لاحتمال حصول القتل منه مقدمة لتحصيل المال، فيكون ظاهراً في المفروغية عن الاهتمام بالمال، وإلا كان اللازم بذله ليصل للماء آمناً من القتل.

الثاني: مضافاً إلى عموم قاعدة نفي الحرج، لما في تعريض المال للضياع وأخذ اللص من الحرج غالباً. وما في الحدائق من معارضة عموم نفي الحرج بما دل على وجوب الطهارة المائية. كما ترى، لحكومة العموم المذكور على عموم وجوبها، كما في سائر عمومات الأحكام الثانوية مع عمومات الأحكام الأولية.

وأما دعوى: أن وجوب حفظ المال أهم من وجوب الطهارة المائية. فهي مندفعة بعدم ثبوت وجوب حفظ المال شرعاً إلا إذا لزم التبذير، وهو غير حاصل في المقام ونحوه مما كان تضييع المال لغرض عقلائي، كالطهارة المائية. بل يشكل صدقه بدون ذلك مع تعريضه لأخذ اللص، لأن اللص ينتفع به فلا تبذير، كما لو وهبه.

(3) بلا إشكال فيه في الجملة، ودعوى الإجماع عليه في الجملة كثيرة في كلام الأصحاب. ويقتضيه - مضافاً إلى عموم نفي الحرج والضرر - الآيتان الشريفتان، فإنهم

ص: 90

وإن تضمنتا فرض المرض، القاصر عن صورة توقع حصوله أو حصول الضرر على البدن باستعمال الماء من دون أن يصدق المرض معه، كبتر العضو، إلا أن الظاهر إلغاء خصوصية مفادها عرفاً والتعميم لذلك، وأن المفهوم منها عرفاً أن منشأ مشروعية التيمم تجنب محذور الضرر على البدن، ولذا اختصت بالمرض الذي يضرّ به استعمال الماء.

مضافاً إلى النصوص الكثيرة الواردة في المجدور والكسير ومن به القروح و الجروح ومن يخاف على نفسه من البرد(1). وإلى ما يستفاد في بعض النصوص من مشروعية التيمم لكل محذور شرعي أو عرفي، كما يظهر مما سبق.

هذا والأدلة مختلفة في تحديد هذا المسوغ، فظاهر بعضها أن المسوغ هو الضرر الواقعي، كما هو الحال في قاعدة نفي الضرر، وظاهر بعضها أن المسوغ هو خوف الضرر، كما هو ظاهر مثل صحيح داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في الرجل يصيبه الجنابة وبه جروح أو قروح أو يخاف على نفسه من البرد. فقال: لا يغتسل ويتيمم"(2). وقريب منه صحيح البزنطي عن الرضا (عليه السلام).

وأما ما تضمن جواز التيمم للمريض ومن به الجروح والقروح ونحوها - كصدر الصحيحين - فبعد أن لم يكن العنوان المذكور فيه بنفسه مسوغاً للتيمم لعدم الإشكال في عدم مسوغيته مع العلم بعدم الضرر، فلابد من التصرف فيه وتنزيله على أحد الأمرين من دون معين لأحدهما.

وكيف كان فقد يقرب كون الموضوع هو الضرر الواقعي بأن المفهوم عرفاً من ذكر الخوف كونه طريقاً أو عذراً للاحتياط للواقع، لا أنه بنفسه موضوع للحكم.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الأمر بالتيمم في الصحيحين المتقدمين وقع في سياق الأمر بالتيمم لذي الجروح والقروح الذي لا إشكال في كونه حكم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 8.

ص: 91

(92)

أو بطئه أو على النفس أو بعض البدن (1)، ومنه الرمد المانع من استعمال الماء،

واقعياً، والتفكيك بين المقامين بعيد جداً.

ففيه: أن التفكيك وإن كان بعيداً لمخالفته لقرينة السياق، بل ممتنع بعد وحدة النهي عن الغسل والأمر بالتيمم في الجواب، إلا أن ذلك إنما يمنع من إرادة كل من الخصوصيتين في مقام الاستعمال، ولا يمنع من حمل النهي والأمر على القدر المشترك بين الواقعين والظاهرين، كما لو قيل: إذا كان ثوبك من شعر ما لا يؤكل لحمه أو قامت البينة على ملاقاته للنجاسة فانزعه ولا تصل فيه.

نعم تقدم في المسألة الحادية عشرة تقريب الإجزاء واقعاً مع الخوف، وأنه يبتني على عموم موضوع التيمم له واقعاً. فراجع.

(1) كل ذلك لإطلاق الأدلة المتقدمة. لكن اقتصر في الشرايع ومحكي التحرير على المرض الشديد، وفي العروة الوثقى على ما يعسر تحمله، بل في المعتبر: "ولا يستبيحه مع خوف المرض اليسير، كوجع الرأس والضرس" .وفيه: أنه خروج عن إطلاق المرض بلا وجه.

نعم قد لا يصدق المرض في مثل وجع الرأس والضرس إذا كان موقتاً بسبب استعمال الماء، فيخرج عن موضوع الأدلة الخاصة المتقدمة، ولا يستباح به التيمم إلا مع لزوم الحرج.

كما أنه لو لم يكن استعمال الماء مضراً بالمرض خرج عن منصرف الأدلة الخاصة المتقدمة. ولعله المراد مما في المبسوط قال: "وكل مرض لا يخاف معه التلف ولا الزيادة فيه مثل الصداع ووجع الضرس لم يجز التيمم" .ولذا يشكل ما في الجواهر من عده مخالفاً في المسألة.

بقي في المقام أمران:

الأول: أنه تضمن بعض النصوص الأمر بالإعادة لمن تيمم لخوف الضرر، وهو

ص: 92

حديث عبد الله بن سنان المروي صحيحاً في الفقيه ومرسلاً في الكافي والتهذيبين: "أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة، فيخاف على نفسه التلف إن اغتسل. فقال: يتيمم ويصلي، فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة"(1).

لكنه معارض بالنصوص الكثيرة المتضمنة عدم الإعادة على من صلى بتيمم(2). وهي وإن كانت واردة في فاقد الماء، إلا أن من القريب جداً إلغاء خصوصيته. بل هو مقتضى عموم التعليل في بعضها ببدلية التيمم، كصحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أجنب فتيمم بالصعيد وصلى ثم وجد الماء. قال: لا يعيد. إن رب الماء رب الصعيد فقد فعل أحد الطهورين"(3) ، ونحوه غيره(4). فإن مقتضاه عموم إجزاء الصلاة بالتيمم المشروع.

بل هو مقتضى الإطلاقات المقامية لعمومات مشروعية التيمم، كالآيتين الشريفتين وغيرها، وخصوص النصوص الواردة في المرض(5) ، ومنها ما ورد فيمن يخاف على نفسه من البرد كالصحيحين المتقدمين، فإن عدم التنبيه فيها للإعادة مع الغفلة عنها موجب لقوة ظهورها في الإجزاء. ولاسيما مع ما هو المعلوم من كثرة الابتلاء بذلك، حيث يمتنع معه خفاء الحكم على الأصحاب الذين لم يفرقوا في الإجزاء بينه وبين غيره من مسوغات التيمم.

هذا وفي النهاية والمبسوط وعن التهذيبين والمهذب والإصباح والروض وجوب الإعادة على من أجنب مختاراً. واستدل لهم بالحديث السابق.

لكن ظاهر التهذيبين عدم الاستدلال بالحديث المذكور، بل ابتناء المسألة على النصوص الآتية، وحمل هذا الحديث عليها جمعاً لو كان حجة في نفسه، قال في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب التيمم.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 15، 13.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم.

ص: 93

(94)

التهذيب بعد طعنه الخبر بالإرسال: "ولو صح الخبر على ما فيه لكان محمولاً على من أجنب نفسه متعمداً وخاف على نفسه التلف، فإنه يتيمم ويصلي ويعيد الصلاة. وإن كان الأولى له أن يغتسل على كل حال حسب ما نذكره بعد" .وأشار بذلك إلى ما يأتي منه عند التعرض للفرع الآتي، وفي الاستبصار: "ولو صح الخبر على ما فيه لكن محمولاً على من أجنب نفسه مختاراً، لأن من كان كذلك ففرضه الغسل على كل حال، فإن لم يتمكن تيمم وصلى ثم أعاد إذا تمكن من استعماله. والذي يدل على أن من هذه صفته فرضه الغسل على كل حال ما أخبرني به الشيخ..." ثم ذكر النصوص الآتية.

ومن هنا يشكل استفادة الاعتماد على الحديث منه. وكيف كان فلا مجال لحمل الحديث على ذلك، لقوة ظهوره فيمن لم يتعمد الجنابة. ومن هنا كان الأقرب حمله على الاستحباب، كالنصوص المتضمنة للإعادة فيمن لم يجد الماء.

الثاني: مقتضى إطلاق النصوص المتقدمة عدم الفرق بين متعمد الجنابة وغيره، وفي الجواهر أنه المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً. بل هو مقتضى إطلاق معاقد جملة من الإجماعات المتقدمة إليها الإشارة، كإطلاق الأدلة المتقدمة.

لكن في الهداية والمقنعة والخلاف وعن أبي علي وجوب الغسل على من تعمد الجنابة وإن خاف على نفسه. وقد يستظهر من الكافي لذكره للنصوص الآتية. وهو الذي جرى عليه في التهذيبين لولا ما سبق منه في الفرع السابق. بل في الخلاف الإجماع عليه بعد أن نسب الخلاف لجميع الفقهاء، وإن ذكر في الجواهر أنه محكي عن أصحاب الرأي وأحمد في إحدى الروايتين.

واستدل عليه بمرفوع علي بن أحمد عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن مجدور أصابته جنابة. قال: إن كان أجنب هو فليغتسل وإن كان احتلم فليتيمم"(1) ، ونحوه مرفوع إبراهيم بن هاشم(2).

وبصحيح سليمان بن خالد وأبي بصير وعبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام):

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب التيمم حديث: 1، 2.

ص: 94

" أنه سئل عن رجل كان في أرض باردة يتخوف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع؟ قال: يغتسل وإن أصابه ما أصابه. قال: وذكر أنه كان وجعاً شديد الوجع، فأصابته جنابة وهو في مكان بارد، وكانت ليلة شديدة الريح باردة، فدعوت الغلمة فقلت لهم: أحملوني فاغسلوني، فقالوا: إنا نخاف عليك، فقلت لهم: ليس بدّ. فحملوني ووضعوني على خشبات، ثم صبوا عليّ الماء فغسلوني"(1).

وصحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء، وعسى أن يكون الماء جامداً، فقال: يغتسل على ما كان. حدثه رجل أنه فعل ذلك فمرض شهراً من البرد، فقال: اغتسل على ما كان، فإنه لابد من الغسل. وذكر أبو عبد الله (عليه السلام) أنه اضطر إليه وهو مريض، فأتوه به مسخناً فاغتسل، وقال: لابد من الغسل"(2). والأخيران وإن لم يصرح فيهما بالتفصيل المذكور، إلا أنهما محمولان على من أجنب نفسه، بقرينة ذكر اغتسال الإمام (عليه السلام) المنزه عن الاحتلام.

لكن لو تم تنزيهه (عليه السلام) عن الاحتلام، إلا أنه يبعد جداً إقدامه على الجماع في مثل هذا الحال. ومن ثم كان ذيلهما من المشكل الذي يردّ علمه لأهله. مع أن صدر الصحيح الثاني ظاهر أو منصرف للجنابة غير المتعمدة، نظير ما تقدم في صحيح عبد الله بن سنان، وصدر الأول مطلق والذيل لا ينهض بتقييده حتى لو تم حمله على الجنابة المتعمدة، لأن مجرد ثبوت الحكم في المتعمد لا ينافي عمومه لغيره.

فالعمدة في الحكم المذكور المرفوعان، حيث يقرب انجبارهما بعمل من عرفت من مشايخ الطائفة. ولاسيما مع ما في الخلاف من دعوى إجماع أصحابنا على ذلك، خلافاً لجميع الفقهاء، حيث يقرب اشتهار الحكم في العصور الأولى بين الطائفة، وإن لم تصل كلماتهم لنا، لعدم وصول كتبهم.

نعم الحكم المذكور غريب جداً لا يناسب أدلة بدلية التيمم، حيث يظهر منها مشروعية التيمم لما دون ذلك من المحاذير، كما تقدم. كما لا يناسب ما تضمن جواز

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب التيمم حديث: 3، 4.

ص: 95

الجماع لفاقد الماء ومشروعية التيمم له(1). ولاسيما مع ظهور بعض النصوص المتقدمة فيمن يخاف التلف، لورود مرفوع علي بن أحمد في المجدور الذي تضمن بعض النصوص أنه مات بسبب الغسل(2) ، ولقوله (عليه السلام) في الصحيح الأول:" يغتسل وإن أصابه ما أصابه".

مضافاً إلى أمرين:

الأول: أن مثل هذا الحكم المخالف للقواعد العامة المعروفة، ولجميع فقهاء المخالفين أو أكثرهم، لو كان ثابتاً مع كثرة الابتلاء به، لكان له من الظهور ما يمنع من انعقاد شهرة المتأخرين على خلافه وإعراضهم عنه مع ذهاب من عرفت من أعيان الأصحاب له.

الثاني: أنه يظهر من الشيخ في المبسوط العدول عنه. ويظهر من كلامه في التهذيبين نهوض الصحيحين به. بل اقتصر عليهما في الخلاف ولم يذكر المرفوعين، مع أن الصحيحين بعيدان عن الحكم المذكور، حيث قد يكشف ذلك عن ابتناء الفتوى على الخطأ في مفاد الصحيحين، لا على الاعتماد على المرفوعين. ومن ثم كان مفاد النصوص المذكورة من المشكل، الذي يتعين ردّ علمه لأهله (عليهم السلام).

هذا ولو تم لم يبعد البناء على رفع اليد عنه فيمن يخشى التلف بصحيح عبد الله ابن سنان المتقدم المتضمن الصلاة بالتيمم ثم الإعادة، كما تقدم من التهذيبين وصرح به في النهاية، لأنه أصرح من بقية النصوص في خصوص من يخاف التلف.

بل لا مجال لرفع اليد عما هو المعلوم نصاً وفتوى من عدم جواز تعريض النفس للتلف بمثل هذه النصوص. وكذا الحال في سائر موارد الضرر المحرم. وغاية الأمر هو الاحتياط بالغسل لمن لا يخشى منه الضرر المحرم. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14، 27 من أبواب التيمم حديث: 12.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3، 5 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 96

وأما إذا أمكن غسل ما حول العين فالأحوط الجمع بين الوضوء والتيمم (1). كما أن منه خوف الشين (2) الذي يعسر تحمله وهو الخشونة المشوهة للخلقة، والمؤدية في بعض الأبدان إلى تشقق الجلد.

(1) كما تقدم منه (قدس سره) في المسألة الأربعين في فصل أحكام الجبيرة من الوضوء. وتقدم منا التفصيل بين ما إذا كان الماء مضراً بما يغسل كالجفن، وما إذا كان مضراً بما لا يغسل كداخل العين، وأنه يكفي في الأول الوضوء الناقص بغسل ما حولها، وفي الثاني التيمم. وكذا الحال في غير المعين مما له ظاهر وباطن.

(2) ففي جامع المقاصد أنهم أطبقوا على جواز التيمم لخوف الشين، ونسبه في موضع آخر للأصحاب، وفي المدارك لقطعهم، وهو ظاهر نسبته في المنتهى إلى علمائنا، وفي الجواهر أنه لا يعرف فيه خلافاً بينهم.

وكيف كان فإن أريد منه الموقت الذي يحصل لكثير من الناس في الشتاء، فهو خارج عرفاً عن المرض، ولا وجه لمسوغيته للتيمم. إلا أن يلزم من استعمال الماء ما يوجب الحرج.

ولعله إليه يرجع ما في جامع المقاصد والجواهر وفي موضع من المنتهى من تقييده بالفاحش، ونفى عنه البأس في المدارك، وجعله الأولى في كشف اللثام. قال في الجواهر:" وإليه يرجع ما عن جماعة من التقييد بما لا يحتمل عادة، بل في الكفاية أنه نقل عن بعضهم الاتفاق على أن الشين إذا لم يغير الخلقة ويشوهها لم يجز التيمم".

وإن أريد منه غير ذلك مما يستند لخلل في المزاج ويهيج باستعمال الماء - كبعض الأمراض الجلدية المعروفة في عصورنا - فالظاهر دخوله في المرض، ولا وجه لعده في قباله، كما لا وجه لتقييده بالفاحش أو نحوه مما تقدم. نعم لابد من كونه ضرراً معتداً به عرفاً.

ص: 97

(98)

(الرابع): خوف العطش (1) على نفسه (2) أو على نفس محترمة (3) من استعماله، والمراد من النفس المحترمة ما يكون من شأن المكلف الاحتفاظ

(1) وهو مذهب أهل العلم كافة، كما في المعتبر وكل من يحفظ عنه العلم، ومنهم علماؤنا أجمع، كما في المنتهى، وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً عن علمائنا، بل وعن كل من يحفظ عنه العلم ".ويشهد له جملة من النصوص، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" أنه قال في رجل أصابته جنابة في السفر، وليس معه إلا ماء قليل، ويخاف إن هو اغتسل أن يعطش. قال: إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة، وليتيمم بالصعيد، فإن الصعيد أحب إلي"(1) ، وصحيح الحلبي: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الجنب يكون معه الماء القليل، فإن هو اغتسل به خاف العطش أيغتسل به أو يتيمم؟ قال: بل يتيمم. وكذلك إذا أراد الوضوء"(2) ، وموثق سماعة المتقدم في المسوغ الثاني وغيرها.

(2) وهو المتيقن من النص والفتوى.

(3) المذكور في كلام جملة من الأصحاب الرفيق والحيوان المحترم. وأكثر النصوص ظاهر أو صريح في خوف العطش على نفسه كالصحيحين المتقدمين. نعم في موثق سماعة:" الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته "(3) ومقتضى إطلاقه عموم مشروعية التيمم لكل مورد يخاف المكلف فيه نقص الماء عما من شأنه أن يحمل له في السفر، كشربه وشرب من يتعلق به من أتباعه، من دون فرق بين من تجب نفقته وغيره. والمسلم وغيره وكذا ما يتعلق به من الحيوانات مما من شأنه الاهتمام بحفظه.

ودعوى: أنه لا يمكن الالتزام بالإطلاق المذكور، لشموله لما إذا خيف قلة الماء عن سائر حوائجه، كطبخه وتنظيفه، فيلزم الاقتصار فيه على المتيقن، وهو شربه بنفسه.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب التيمم حديث: 1، 2، 3.

ص: 98

بها والاهتمام بشأنها - كدابته (1) وشاته ونحوهما - مما يكون تلفه موجباً للحرج أو الضرر (2).

مدفوعة بأن المنصرف أو المتيقن من خوف قلة الماء خوف العطش بقلته، خصوصاً في السفر في العصور السابقة التي لا يتيسر فيها نقل الماء بمقادير كبيرة، بل يقتصر على ما لابد منه لضرورة الشرب والطهارة. كما أن المتيقن من ذلك أتباع المكلف ممن يكون من شأنه نقل الماء له في سفره، وكذا توابعه من الحيوانات، دون من هو غير مرتبط به ممن يمر عليه ويصادفه في سيره ويرغب في مواساته بمائه، وإن كان محترماً.

نعم مقتضى القواعد العامة وجوب حفظ الماء - ومشروعية التيمم - إذا توقف عليه حفظ النفس المحترمة، لأهمية حفظها من الطهارة المائية بلا كلام وهو داخل في المسوغ الثاني. وكذا جواز حفظه - ومشروعية التيمم - لكل مورد يكون عدم حفظ الماء وصرفه في الطهارة موجباً لضرر المكلف أو الحرج عليه، كما لو كان معرضاً لأن يطلب منه الماء، بنحو ينبغي له إعطاؤه، بحيث لو لم يفعل تضرر أو استهين به.

لكن ذلك مختص بما إذا علم بترتب الضرر والحرج، ولا يكفي الخوف إلا في مورد النصوص المتقدمة، وكذا الخوف على النفس المحترمة إذا رجع إلى احتمال مصادفة نفس يخشى عليها، أما لو رجع إلى الخوف على نفس موجودة معلومة فالظاهر كفايته.

(1) وأولى من ذلك أتباعه، كعياله ورفيقه في الطريق. ولعل عدم ذكره (قدس سره) لهم لأنهم أظهر من مثل الدابة، وأريد من ذكر الدابة بيان الفرد الخفي.

(2) الظاهر كفاية كون المتعرض للعطش من أتباعه وممن يهتم بنقل الماء لأجله، لما سبق من إطلاق الموثق، أما مع غض النظر عنه، وجعل المعيار على الضرر والحرج فاللازم عدم الاكتفاء بالخوف، كما سبق.

ص: 99

(100)

(الخامس): توقف تحصيله على الاستيهاب الموجب لذله (1)، وهوانه، أو شرائه بثمن يضر بحاله (2)، ويلحق به كل مورد يكون الوضوء

(1) لما في ذلك من الضرر والحرج المنفيين في الشريعة، فإن مقتضاهما سقوط الطهارة المائية، فيشرع التيمم للملازمة المشار إليها آنفاً، بل قد يلزم منهما التوهين المحرم المزاحم لوجوب الطهارة المائية، حيث لا إشكال ظاهراً في كونه أهم منها. مضافاً إلى عموم تشريع التيمم لكل مورد يلزم من وجوب الطهارة المائية محذور شرعي أو عرفي بالتقريب المتقدم في المسوغ الثاني.

نعم الظاهر وجوب القبول لو وهب له لكونه قادراً حينئذٍ على الطهارة المائية، وفي الجواهر: "لا إشكال عندهم بل ولا خلاف - بل في الحدائق نسبته إلى ظاهر الأصحاب - في وجوب القبول عليه لو وهب له الماء" .وكذا لو وهب له الثمن. إلا أن يلزم منهما المنة بالنحو الموجب لوهنه فيحرمان عليه، أو للحرج عليه فيجوز له تركهما.

(2) من الظاهر وجوب شراء الماء مع توقف استعماله على ذلك. نعم مقتضى قاعدة نفي الضرر عدم وجوب شرائه بأكثر من ثمن المثل، بل حتى بثمن المثل إذا كان كثيراً معتداً به، لأن الطهارة وإن ابتنت على صرف الماء، إلا أنه غالباً ليس له مالية معتد بها، فمع غلاء الماء يكون صرفه في الطهارة ضرراً منفياً بالقاعدة.

لكن يجب الخروج عن ذلك بصحيح صفوان: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل احتاج إلى وضوء للصلاة، وهو لا يقدر على الماء، فوجد بقدر ما يتوضأ به بمائة أو بألف درهم، وهو واجد لها، أيشتري ويتوضأ أو يتيمم؟ قال: لا بل يشتري. قد أصابني مثل ذلك فاشتريت وتوضأت، وما يسؤني [يسرني] بذلك مال كثير" (1) مؤيداً بمرسل العياشي عن الحسين ابن طلحة: "سألت عبداً صالحاً (عليه السلام) عن قول الله عز وجل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 100

(101)

فيه حرجياً (1)، لشدة حر أو برد، أو نحو ذلك.

(السادس): أن يكون مبتلى بواجب يتعين صرف الماء فيه (2) على نحو

:" أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً "ما حدّ ذلك؟ قال: فإن لم تجدوا بشراء وبغير شراء. قلت: إن وجد قدر وضوء بمائة ألف أو بألف وكم بلغ. قال: ذلك على قدر جدته"(1).

ومقتضى إطلاق الأول وجوب الشراء ولو كان بأضعاف ثمن المثل مع واجديته له، كما صرح به جماعة، وفي الخلاف دعوى الإجماع على وجوب الشراء بثمن لا يضره كائناً ما كان وعن المهذب البارع نسبته لفتوى فقهائنا.

فما عن ابن الجنيد من عدم وجوب الشراء إذا كان غالياً، أو إن زاد على ثمن المثل كثيراً، وما عن نهاية الأحكام من احتمال عدم وجوبه إن بيع بالغبن، لأن بذل الزائد ضرر. ضعيف جداً.

بل مقتضى إطلاقه وجوب الشراء مع الجدة وإن أضر بحاله، بحيث كان لا يناسب وضعه الحالي، كما لو صرف تسعة أعشار ماليته مثلاً من دون أن يصير فقيراً شرعاً.

إلا أن يخرج عن الإطلاق في ذلك بقاعدة نفي الضرر، لأن الإضرار بالحال نحو من الضرر زائد على الضرر المالي المتمحض في صرف المال الذي يستفاد من الصحيح عدم منعه من وجوب الشراء. مضافاً إلى قاعدة نفي الحرج، وظهور تسالم الأصحاب على سقوط الطهارة المائية مع الإضرار بالحال أو الإجحاف. فلاحظ.

(1) لقاعدة نفي الحرج.

(2) فيقع التزاحم بين وجوب الواجب المذكور ووجوب الطهارة المائية، وحيث لا بدل للواجب المذكور تعين تقديمه، إما لما قيل من أن ما لا بدل له مقدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 26 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 101

لا يقوم غير الماء مقامه (1)، مثل إزالة الخبث (2)، فيجب عليه التيمم وصرف

على ما له بدل مطلقاً، أو لخصوصية في المقام تقتضي ذلك، على ما تقدم توضيحه في المسوغ الثاني.

(1) أما لو قام غيره مقامه كان لكل منهما بدل واحتاج ترجيحه على الطهارة المائية لإثبات أهميته منها، أو النظر في موضوع بدلية بدل كل منهما.

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، المدعى عليه الإجماع صريحاً أو ظاهراً في كلام جماعة. قال في التذكرة:" لو قصر الماء عن إزالة النجاسة عن بدنه والوضوء وكفى أحدهما صرف في إزالة النجاسة إجماعاً... وكذا الغسل لو كانت النجاسة على الثوب "وفي المعتبر بعد الحكم بذلك في الوضوء قال:" ولا أعلم في هذه خلافاً بين أهل العلم... وكذا لو كان عليه غسل... وكذا لو كانت النجاسة في ثوبه وعليه حدث غسل "وقريب منه في المنتهى. وقد علل في كلام جماعة بأن للطهارة الحدثية بدل.

لكن استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) فيه تارة: بأن الطهارة الخبيثة حيث لم تكن واجبة لنفسها، بل لأجل تقييد الصلاة بها، لها بدل أيضاً، حيث يجب مع تعذرها الصلاة في الثوب النجس أو عارياً على الخلاف.

وأخرى: بأن التزاحم إنما يكون بين الواجبات الاستقلالية. وأما الواجبات الضمنية من الأجزاء والشرائط فمقتضى القاعدة سقوط المركب مع تعذر بعضها. غير أن الإجماع لما قام على عدم سقوط الصلاة في المقام، ولا يعلم بأن الواجب هو الصلاة مع الطهارة الحدثية المائية أو الخبيثة يلزم التعارض، وبعد التساقط يتعين البناء على عدم وجوب أحد الأمرين لولا العلم بوجوب أحدهما، المستلزم لدوران الأمر في الواجب بين التعيين والتخيير، ومقتضى الأصل البراءة من التعيين في كل منهما والبناء على التخيير.

ص: 102

ويندفع الأول بأن الصلاة عارياً أو بالثوب النجس ليست بدلاً عن الصلاة بالثوب الطاهر، نظير بدلية الصلاة بالتيمم عن الصلاة بالطهارة المائية، بل هي ميسور منها ارتكازاً، ووجوب الميسور يبتني على اكتفاء المولى بملاك أصل الماهية بعد تعذر استيفاء ملاك التقيد، وهو راجع إلى أن الطهارة الخبيثة لا بدل لها.

وأما الثاني فيندفع - بعد تسليم أن المرجع عند دوران الواجب بين التعيين والتخيير البراءة من التعيين - بأن سقوط قيد الواجب عند تعذره والاكتفاء بفاقد القيد مبني ارتكازاً على الاكتفاء بالميسور عند تعذر الواجب التام، تحصيلاً لملاك أصل الماهية بعد تعذر ملاك القيد، ولازم ذلك أنه مع تعذر تحصيل القيدين معاً وإمكان تحصيل أحدهما يتعين التزاحم بينهما ووجوب أحدهما والترجيح بينهما، على نحو التزاحم في الواجبين الاستقلاليين.

وإنما يتم ما ذكره فيما إذا كان سقوط القيد لتبدل الموضوع والملاك، كما إذا وجب يوم الجمعة صلاة ركعتين ببياض في المسجد، وعلم يوم السبت بعدم وجوب القيدين معاً، ودار الأمر بين التخيير بينهما وتعيين أحدهما. ومن البعيد جداً ابتناء سقوط القيد في المقام على ذلك.

على أن التعارض إنما يلزم في مثل ذلك مع إطلاق دليل كل من القيدين بنحو يشمل المورد الذي يعلم فيه بعدم وجوب الجمع بينهما، حيث يتعين حينئذٍ ترجيح أقوى الدليلين، ومع عدمه يتعين تساقط الإطلاقين، والرجوع مع العلم بوجوب أحد القيدين للأصل الجاري عند الدوران بين التعيين والتخيير. أما مع عدم الإطلاق لكل منهما وانحصار الأمر بإطلاق وجوب المركب التام، المفروض بتعذر القيد، فلا تعارض في البين، بل إن علم حينئذٍ بوجوب أحد القيدين في الجملة يتعين الرجوع للأصل المتقدم.

ومن هنا كان الظاهر تمامية ما ذكروه من كون المقام من صغريات التزاحم بين ما له بدل وما لا بدل له. نعم تقدم في المسوغ الثاني الإشكال في عموم ترجيح ما ل

ص: 103

الماء في إزالة الخبث، والأولى أن يصرف الماء أولاً في إزالة الخبث (1) ثم التيمم.

بدل له. وإن تقدم أيضاً تقريب ذلك في خصوص الطهارة المائية، للتعليل المستفاد من بعض نصوصها. فراجع.

هذا وقد يستدل على تقديم الطهارة الخبيثة بمعتبر أبي عبيدة - بناء على ما تقدم عند الكلام في مطهرية الماء المضاف من الحدث من العمل برواية سهل بن زياد -:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المرأة الحائض ترى الطهر وهي في السفر وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها، وقد حضرت الصلاة. قال: إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله، ثم يتيمم وتصلي..."(1). فإن مقتضى إطلاقه لزوم غسل الفرج وإن كان الماء بقدر الوضوء اللازم مع حدث الحيض.

وقد يستشكل فيه بوجهين:

الأول: ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أنه مبني على عدم إغناء غسل الحيض عن الوضوء، الذي هو محل إشكال، بل سبق منّا المنع عنه.

ودفعه بعض مشايخنا (قدس سره) بأن غسل الحيض وإن كان مغنياً عن الوضوء، إلا أن التيمم بدل الغسل لا يغني عنه. ولم يتضح منشأ ذلك، بل هو خلاف إطلاق أدلة البدلية، ومنها الحديث المذكور، لأن مقتضى إطلاقه الاجتزاء بتيمم واحد.

الثاني: أن أهمية إزالة الخبث من الوضوء في مورد الرواية الذي يكون فيه بعض الرافع لا يستلزم أهميتها من الوضوء أو الغسل إذا كانا تمام الرافع، كما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) أيضاً.

(1) حيث لا إشكال في جواز ذلك حتى مع احتمال التساوي بينهما أو احتمال الأهمية من الطرفين، فيكون فاقداً للماء حقيقة، ومعه يشرع التيمم قطعاً، لعدم التفريط في استعمال الماء، فلا مجال لاحتمال عدم الإجزاء الذي يأتي الكلام فيه في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 104

(السابع): ضيق الوقت عن تحصيل الماء (1)، أو عن استعماله (2)

المسألة الواحدة والأربعين، وتقدم منا نظير ذلك في المسوغ الثاني.

(1) فقد تقدم في المسألة الثامنة سقوط وجوب الطلب مع ضيق الوقت. وتقدم في المسألة التاسعة الإشكال في مشروعية التيمم مع التفريط في الطلب في سعة الوقت.

(2) كما في التذكرة والمنتهى والروضة والرياض والجواهر وظاهر المختلف وعن الجامع، وفي الرياض أنه الأشهر. لكن في المعتبر وكشف اللثام وظاهر جامع المقاصد وعن ابن عصفور عدم مشروعية التيمم حينئذٍ.

وقد يستدل للأول بوجوه:

الأول: عموم عدم سقوط الصلاة بحال، فإنه بعد سقوط الطهارة المائية بالتعذر فعدم سقوط الصلاة - بمقتضى العموم المذكور - مستلزم لمشروعية التيمم، لعدم الإشكال في عدم وجوب الصلاة الفاقدة للطهور حينئذٍ. ويظهر الجواب عنه مما تقدم في المسألة التاسعة من عدم ثبوت العموم المذكور.

الثاني: أن المستفاد من النصوص والفتاوى الملازمة بين سقوط الطهارة المائية ومشروعية التيمم، وحيث تسقط الطهارة المائية في المقام بالتعذر يتعين مشروعية التيمم.

وفيه: أن المتيقن من الملازمة المذكورة ما إذا وجبت الصلاة ووجبت الطهارة لها، أما مع احتمال سقوط الصلاة بتعذر الطهارة المائية فمشروعية التيمم من أجل تحقيق القدرة على الصلاة وإبقاء الخطاب بها أول الكلام.

الثالث: أن المراد من عدم الوجدان الذي هو موضوع التيمم هو عدم وجدان مالا محذور في استعماله، وفوت الأداء محذور مانع من صدق عدم الوجدان في المقام. لكنه ممنوع كما سبق في أول الكلام في المسوغ الثاني.

ص: 105

(106)

ومثله دعوى أن المراد به وجدان الماء والتمكن من استعماله لأداء الصلاة. حيث يظهر مما سبق هناك المنع منه أيضاً. غاية الأمر أن يدعى انصراف عدم الوجدان لعدم وجدان ما يمكن استعماله في الطهارة في مقابل مالا يمكن استعماله فيها، كما لو كان نجساً أو في بئر لا يمكن إخراجه منها والتعدي لسائر موارد عدم القدرة ولو للزوم المحذور مستفاد من قرائن وأدلة أخر تقصر عن المقام.

وكذا دعوى: أن عدم لزوم المحذور وإن لم يكن قيداً في عدم الوجدان الذي هو موضوع التيمم، إلا أنه بنفسه موضوع لمشروعية التيمم، كما سبق عند الكلام في المسوغ الثاني.

لاندفاعها بأن المتيقن من ذلك ما إذا علم بوجوب الصلاة، ولا عموم له يقتضي وجوب الصلاة في مورد الشك، فهو راجع إلى تحديد موضوع بدلية التيمم وسعتها في فرض الخطاب بالصلاة، لدفع وجوب ارتكاب المحذور من أجل تحصيل الطهارة المائية، لا لتحديد القدرة على الصلاة وسعتها لكل مورد يقدر فيه على التيمم من أجل إحراز عموم الخطاب بالصلاة حينئذٍ، لتحرز مشروعية التيمم، كما هو الحال في المقام.

الرابع: أن تشريع التيمم إنما هو من أجل أهمية الوقت، وذلك يناسب عمومه للمقام. لكن مجرد ذلك لا يكفي في فهم تشريعه في المقام بعد ظهور دليل تشريعه الأولي - كالآيتين، بل جميع الأدلة - في قصور دليل تشريعه واختصاصه بغير صورة وجدان الماء والقدرة على استعماله بالمقدار الحاصل في محل الكلام.

ولاسيما وأن مقتضى هذا الوجه مشروعية التيمم وإجزاء العمل معه حتى مع التفريط والتعمد بعدم المبادرة للطهارة المائية حتى ضاق الوقت عنها، كما حكم بذلك غير واحد ممن ذهب إلى مسوغية ضيق الوقت للتيمم.

ومن الظاهر أن ذلك أبعد عن المرتكزات من عدم مسوغية ضيق الوقت للتيمم وسقوط الأداء في محل الكلام، حتى ساق في حاشية المختلف استبشاعه دليل

ص: 106

على عدم مشروعية التيمم بضيق الوقت. وهناك بعض الوجوه، الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ظهور وهنها، ولاسيما بملاحظة ما تقدم.

هذا مضافاً إلى أنه لا ينبغي التأمل في أن المسوغ المذكور ليس بنحو يفهم من النصوص والأدلة بلا تكلف ولا تعمل، وحيث كان مما يشيع الابتلاء به جداً، فلو كان ثابتاً لكان المناسب التعرض له سؤالاً وجواباً من المتشرعة والمعصومين (صلوات الله عليهم)، ولكثرت النصوص الواردة فيه. بل ينبغي كثرة النصوص الواردة في فروعه الابتلائية، كما وردت في فروع بقية المسوغات المهمة الشايعة الابتلاء، مع أنه ليس لذلك عين ولا أثر، وهو مما يوجب الوثوق أو الاطمئنان بعدم ثبوت المسوغ المذكور.

ويزيد ذلك ظهوراً بملاحظة إهمال قدماء الأصحاب التعرض لذلك، حيث لم يعرف تحرير هذه المسألة قبل المحقق في المعتبر وابن عمه ابن سعيد في الجامع، مع وضوح عدم دخول هذا المسوغ في المسوغات المذكورة في كلمات القدماء، بل المنساق من بعض كلماتهم عدم ثبوت هذا المسوغ. فإن ذلك لا يناسب ثبوت المسوغ المذكور مع شيوع الابتلاء بالمسألة، بل هو كاشف عن تسالمهم على عدم ثبوته.

وبالجملة: سبر النصوص وكلمات قدماء الأصحاب، وظهور عدم الإشارة فيها لهذا المسوغ، مع شيوع الابتلاء به وبفروعه، يشرف بالإنسان على القطع بعدم ثبوته.

هذا مضافاً إلى إشعار بعض النصوص بذلك أو دلالتها عليه. ففي صحيح عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): "...وإن رأت الطهر في وقت الصلاة، فقامت في تهيئة ذلك، فجاز وقت صلاة ودخل في وقت صلاة أخرى فليس عليها قضاء وتصلي الصلاة التي دخل وقتها" (1) وقريب منه موثق محمد بن مسلم(2) وفي موثق الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في المرأة تقوم في وقت الصلاة فلا تقضى طُهرها حتى تفوتها الصلاة ويخرج الوقت، أتقضي الصلاة التي فاتتها؟ قال: إن كانت توانت قضتها،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 1، 5.

ص: 107

بحيث يلزم من الوضوء وقوع الصلاة أو بعضها (1) في خارج الوقت، فيجوز التيمم في جميع الموارد المذكورة.

وإن كانت دائبة في غسلها فلا تقضي" (1) حيث لم يشر فيها إلى وجوب التيمم لو لم يسع الوقت الغسل، مع التعرض فيها لفرض ضيق الوقت. ومن هنا يشكل البناء على مشروعية التيمم لضيق الوقت.

نعم لا إشكال في رجحان الاحتياط بالأداء بالتيمم، ثم القضاء في خارجه. لكنه يختص بما إذا علم بعدم إدراك الأداء - ولو بإدراك ركعة - مع الطهارة المائية، وإلا كان اللازم المبادرة لذلك، لوجوب الاحتياط مع الشك في القدرة، ولا يجوز الاحتياط بالتيمم، بمجرد احتمال عدم إدراك الأداء مع الماء.

ثم إنه لو بني على مشروعية التيمم لضيق الوقت ففي عموم ذلك لما إذا فرط المكلف بعدم المبادرة كلام قد يظهر مما يأتي في المسألة الوحدة والأربعين إن شاء الله تعالى.

(1) الكلام في ذلك مبني على مسوغية ضيق الوقت للتيمم من أجل إدراك الصلاة الأدائية. ومن الظاهر أم مقتضى التوقيت وجوب إيقاع تمام الصلاة في الوقت، ومقتضى ذلك مشروعية التيمم في الفرض.

نعم المعروف من مذهب الأصحاب المدعى عليه إجماعهم إدراك الصلاة الأدائية بإدراك ركعة من الوقت. واستدل عليه بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: "قال: فإن صلى ركعة من الغداة ثم طلعت الشمس فليتم الصلاة، وقد جازت صلاته، وإن طلعت الشمس قبل أن يصلي ركعة فليقطع الصلاة، ولا يصلي حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها"(2) ، وخبر الأصبغ:" قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب الحيض حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب المواقيت حديث: 3.

ص: 108

من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة "(1) وفي الذكرى عن الشيخ في الخلاف:" قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر. قال: وكذلك روي عن أئمتنا عليهم السلام"(2). وحينئذ قد يدعى عدم مشروعية التيمم في الفرض، لإمكان إدراك الصلاة الأدائية التامة بالطهارة المائية.

لكن ظاهر الموثق مجرد لزوم إتمام الصلاة وعدم قطعها، من دون أن يدل على وجوب الشروع فيها لو علم بالحال، فضلاً عن كونها أدائية واجدة لمصلحة الوقت في الجملة، أو تامة، ليتوهم عدم مشروعية التيمم.

وأما خبر الأصبغ والنبوي فهما وإن كانا ظاهرين في إدراك مصلحة الوقت بذلك، خصوصاً خبر الأصبغ للتصريح فيه بأنها تامة، إلا أن ضعفهما مانع من التعويل عليهما. ودعوى انجبارهما بعمل الأصحاب. ممنوعة لعدم وضوح اعتمادهم عليهما، خصوصاً النبوي الذي لم يرو مسنداً من طرقهم. بل يمكن اعتمادهم على الموثق لتوهم تمامية دلالته.

إذا عرفت هذا فإن تمّ التنزيل المذكور، كان مقتضاه عدم مشروعية التيمم لإدراك تمام الصلاة في الوقت مع التمكن من إدراك ركعة في الوقت بالطهارة المائية، لأن مقتضى التنزيل المذكور عدم فوت الوقت من الطهارة المائية ليشرع بالتيمم.

إن قلت: المتيقن من التنزيل المذكور من ضاق وقته عن تمام الصلاة، ولا إطلاق فيه يشمل سعة الوقت، ليكون للمكلف تأخير الصلاة، بحيث يقع منها في الوقت ركعة واحدة، لظهور "من أدرك" في فرض ضيق الوقت، وحينئذٍ لا مخرج عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب المواقيت حديث: 2.

(2) ذكرى الشيعة ج: 2 ص: 355. وذكره باختلاف كثير في وسائل الشيعة ج: 3 باب: 30 من أبواب المواقيت حديث: 5.

ص: 109

(110)

(مسألة 13): إذا خالف المكلف عمداً فتوضأ في مورد يكون الوضوء فيه حرجياً (1) - كالوضوء في شدة البرد - صح وضوؤه (2) وإذ

مقتضى أدلة التوقيت الأولية من وجوب إيقاع تمام الصلاة في الوقت، فإذا لم يتيسر في ذلك مع الطهارة المائية يتعين التيمم.

قلت: لو تم ظهور "من أدرك" في ذلك أو كونه المتيقن منه، إلا أن قوله (عليه السلام) في خبر الأصبغ: "فقد أدرك الغداة تامة" كاف في جواز التأخير اختياراً، لظهوره في وفائه بتمام ملاك الصلاة الأدائية، إما لكونه فرداً منها، أو بدلاً عنها، ومع ذلك لا وجه لحرمة اختياره. فإن بني على عدم التعويل على الخبر المذكور، والاقتصار على الموثق فقد سبق عدم ظهوره في التنزيل المذكور، وهو خلاف المفروض في محل الكلام.

وأظهر من ذلك ما إذا لزم وقوع بعض الصلاة خارج الوقت على كل حال، إلا أنه مع التيمم يكون الواقع منها في الوقت أكثر، حيث لا يلزم من التيمم تحصيل تمام الصلاة في الوقت الذي هو مقتضى أدلة التوقيت الأولية، ليتجه مشروعيته.

ودعوى: أن المستفاد من أدلة التوقيت وجوب إيقاع الصلاة في الوقت بنحو العموم الانحلالي الراجع لوجوب إيقاع كل جزء منها في الوقت، فيجب إيقاع ما يمكن من أجزائها فيه ولو بترك الطهارة المائية والانتقال للتيمم.

ممنوعة جداً بل ظاهر الأدلة المذكورة وجوب إيقاعها بتمامها فيه بنحو العموم المجموعي، فمع تعذره لا يجب المبادرة بالميسور. ولذا كان الوجه في وجوب المبادرة لمقدار الركعة منحصراً بالنصوص المتقدمة، ولولاها لم يجب قطعاً.

(1) أو اغتسل في مورد يكون الغسل فيه حرجياً.

(2) كما مال إليه في الجواهر، وصرح به غير واحد لأن الحرج وإن كان رافعاً للتكليف، إلا أنه لا يوجب قصور موضوعه تخصيصاً، بل هو عرفاً من سنخ العذر الرافع للإلزام مع بقاء الملاك والرجحان، فيتعين صحة الطهارة المائية وإمكان التقرب

ص: 110

خالف في مورد يكون الوضوء فيه محرماً - كالرمد الذي يضر به الماء (1) - بطل وضوؤه (2)، وإذا خالف في مورد يجب فيه حفظ الماء - كما في الأمر الرابع - فإن نوى الوضوء بنفس إراقة الماء على الوجه بطل (3)، وإن أراقه على الوجه ثم رده من الأسفل إلى الأعلى ونوى الوضوء بالغسل من الأعلى إلى الأسفل صح إذا تيسر له ذلك (4). وكذا الحال في بقية الأعضاء.

بها بلحاظ ذلك.

(1) إما للبناء على حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً، أو لكون الإضرار في الرمد بنحو يقتضي تعرض العين للخطر والتلف، حيث لا يبعد البناء على الحرمة حينئذٍ.

(2) لامتناع التقرب بما هو محرم. من دون فرق بين كون المحرم هو الفعل الوضوئي بنفسه، كما لو كان بنفسه استعمالاً للإناء المغصوب أو إناء الذهب وكون المحرم هو أثره التوليدي كالإضرار، لمبعدية الثاني بلحاظ ترتب الأثر المحرم عليه وإن لم يحرم لنفسه. نعم لابد في البطلان من التفاته للحرمة وإقدامه على مخالفتها، كما نبّه (قدس سره) في المسألة الآتية.

(3) لأن الإراقة بنفسها إتلاف للماء ومنافية لوجوب حفظه، فتحرم ولا يمكن التقرب بها.

(4) لأن العصيان إنما يكون بالإراقة، ولا عصيان في ردّ الماء بعدها، ولا في الغسل به، ليمتنع التقرب به. لكن إذا ابتنت نية الوضوء على نية إكماله له بالوجه المستلزم للعصيان امتنع التقرب به ارتكازاً وتعين بطلانه. وإنما يصح إذا لم تبتن على ذلك، كما إذا أتى بكل جزء بنية الإكمال بالوجه الحلال، بأن كان يعتقد بقدرته على إكمال وضوئه بماء آخر، ثم عدل وأكمله بعد ذلك بالوجه المحرم. وقد تقدم منا نظير ذلك في شرائط الوضوء عند الكلام في اعتبار الإباحة. فراجع.

ص: 111

(112)

(مسألة 14): إذا خالف فتطهر بالماء لعذر من جهل أو نسيان أو غفلة صح وضوؤه في جميع الموارد المذكورة (1) عدا ضيق الوقت، أما إذا توضأ في ضيق الوقت فإن نوى الأمر الأدائي بطل (2)، وإن نوى الأمر المتعلق بالوضوء فعلاً صح، من غير فوق بين العمد والخطأ.

(مسألة 15): إذا آوى إلى فراشه وذكر أنه ليس على وضوء جاز له التيمم حينئذٍ (3) وإن تمكن من استعمال الماء، بل لا يبعد أيضاً جواز التيمم

(1) لتيسر التقرب بعد فرض وجود العذر، فيصح العمل بعد عدم كون تشريع التيمم واقعاً في الفروض المذكورة منافياً لتمامية ملاك الطهارة المائية.

(2) لعدم الأمر بالأداء مع الطهارة المائية. لكن الظاهر أنه لا يعتبر في عبادية الوضوء إيقاعه بقصد امتثال أمره أو أمر الغاية التي توقع به، بل يكفي إيقاعه بوجه قربي ولو بقصد أمر لا واقع له، وهو حاصل في المقام. وقد تقدم في المسألة الواحدة والسبعين من مقصد الوضوء، وفي المسألة التاسعة عشرة من مقصد غسل الجنابة، ما ينفع في المقام. فراجع.

ويناسب ذلك النصوص الواردة في الحائض التي تتطهر للصلاة فيخرج الوقت، وقد تقدم بعضها في آخر المسوغ السابع، حيث يظهر منها صحة الغسل من دون تنبيه للتفصيل في النية. فلاحظها.

(3) ففي الحدائق: "الظاهر أنه لا خلاف في استحباب التيمم للنوم ولو مع وجود الماء" .ويشهد له مرسل الفقيه والتهذيب عن الصادق (عليه السلام): "قال: من تطهر ثم آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده. فإن ذكر أنه ليس على وضوء، فتيمم من دثاره كائناً ما كان، لم يزل في صلاة ما ذكر الله" (1) ونحوه أو عينه حديث المحاسن عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الوضوء حديث: 2.

ص: 112

(113)

لصلاة الجنازة وإن تمكن من استعمال الماء وإدراك الصلاة (1).

حفص بن غياث عنه(1) (عليه السلام).

ويختص موردهما بما في المتن من تيمم المكلف في فراشه مع نسيان الوضوء، دون الغسل، ودون تعمد عدم الوضوء حتى يأوي إلى فراشه، فضلاً عن التيمم قبل أن يأوي إلى فراشه. ومنه يظهر الإشكال في إطلاق ما سبق من الحدائق. ولاسيما مع ما في معتبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "قال: لا ينام المسلم وهو جنب، ولا ينام إلا على طهور، فإن لم يجد الماء فليتمم بالصعيد..."(2). نعم مقتضى المرسل جواز التيمم من دثاره وإن لم يكن فيه غبار. وكان المناسب لسيدنا المصنف (قدس سره) التنبيه على ذلك.

(1) قال في الجواهر:" على المشهور نقلاً وتحصيلاً. بل في الذكرى نسبته إلى الأصحاب، والتذكرة إلى علمائنا وظاهره الإجماع، كما عنه في المنتهى ذلك أيضاً. بل في الخلاف دعوى الإجماع صريحاً".

لموثق سماعة:" سألته عن رجل مرت به جنازة وهو على غير وضوء، كيف يصنع؟ قال: يضرب بيديه على حائط اللبن فليتيمم به"(3) ، وصحيح حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: الطامث تصلي على الجنازة، لأنه ليس فيها ركوع ولا سجود. والجنب يتيمم ويصلي على الجنازة"(4) ، ومرسل الصدوق:" وفي خبر آخر أنه يتيمم إن أحب "(5) والرضوي:" إن كنت جنباً وتقدمت للصلاة عليها فتيمم أو توضأ وصل عليها"(6).

لكن الموثق منصرف إلى صورة خوف الفوت، لظهوره في كون مرور الجنازة موجباً لتحير السائل وسؤاله، ولو كان الوضوء متيسراً له لا موجب لتحيره. ودعوى:

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 11، 4.

(3و4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 5، 2، 4.

(6) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 20 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 1.

ص: 113

أن التحير من جهة الجهل بالحكم، لا من جهة خوف الفوت. مدفوعة بعدم مناسبة ذلك للجواب بالتيمم، بل كان المناسب الجواب بالتخيير بينه وبين الوضوء، حيث لا إشكال في مشروعية الوضوء وأفضليته ولاسيما وإن ذلك هو المناسب لحال من مرت به جنازة وهو على غير وضوء، لغلبة عدم انتظار المصلين له حتى يتوضأ، أو خوف ذلك.

وحديث حريز ومرسل الصدوق حيث اقتصر فيهما على التيمم فكما يمكن حملهما على بيان مشروعيته، وأنه أحد فردي التخيير، خروجاً عن ظهوره البدوي في تعينه كذلك يمكن حملهما على تعينه بلحاظ خوف الفوت وعدم إدراك الصلاة مع الوضوء.

فلم يبق إلا الرضوي الذي لم يثبت كونه رواية عن معصوم، فضلاً عن أن يكون حجة، ليخرج به عن عموم أو أصالة عدم مشروعية التيمم مع تيسر الطهارة المائية.

وأما ما في الجواهر من احتمال اختصاص ذلك بالتيمم الذي هو بدل عن الطهارة المائية مبيح لسائر غاياتها، دون ما كان مستحباً في نفسه من دون ملاحظتها، كما في المقام. فهو بعيد جداً، بل المنساق من التيمم في المقام وغيره البدلية المذكورة، بل هو ظاهر موثق سماعة، لتنبيه السائل فيه على عدم كونه على وضوء. كيف ولولا ذلك لزم استحباب الجمع بينهما، عملاً بالأمر بكل منهما.

ولعله لذا اقتصر في التهذيب والمراسم والمعتبر وظاهر المبسوط والنهاية والاقتصاد على صورة خوف الفوت، وحكي ذلك عن ظاهر المرتضى وعن أبي علي والقاضي والراوندي والدروس والبيان. وهو المناسب لخبر الدعائم عن علي (عليه السلام): "إنه سئل عن الرجل يحضر الجنازة وهو على غير وضوء ولا يجد الماء. قال: يتيمم ويصلي عليها إذا خاف أن يفوته"(1).

نعم لا بأس بالإتيان بالتيمم مع عدم خوف الفوت برجاء المطلوبية.

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 19 من أبواب صلاة الجنازة حديث: 2.

ص: 114

(115)

الفصل الثاني: فيما يتيمم به

الأقوى جواز التيمم بما يسمى أرضاً (1)،

(1) كما هو مقتضى إطلاق الآيتين الكريمتين وبعض النصوص المشتملة على لفظ الصعيد(1) ، بناء على أنه مطلق الأرض، كما حكي عن جماعة كثيرة من أهل اللغة، وفي مجمع البيان:" قال الزجاج لا أعلم خلافاً بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض. وهذا يوافق مذهب أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر، سواء كان عليه تراب أو لم يكن".

ويناسبه قوله تعالى:" فتصبح صعيداً زلقاً"(2). ففي مجمع البيان: "الزلق الأرض الملساء المستوية لا نبات فيها ولا شيء. وأصل الزلق ما تزلق عنه الأقدام فلا تثبت عليه" وكذا قوله تعالى: "وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً"(3). والنبوي:" يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة على صعيد واحد"(4). فإن المنظور في الأول الأرض التي لا نبات فيها، وفي النبوي وحدة الأرض وعدم التفاضل فيها بين الناس، من دون خصوصية في الموردين للتراب أو نحوه.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التيمم حديث: 2، وباب: 14 منها حديث: 1، 12، 15، 17، وباب: 25 منها حديث: 1، 3.

(2) سورة الكهف الآية: 40.

(3) سورة الكهف الآية: 8.

(4) معالم الزلفى باب: 22 في صفة الحشر ص: 145.

ص: 115

مضافاً إلى إطلاق الأرض في جملة من النصوص - كقوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي والحسين بن أبي العلاء: "لأن رب الماء هو رب الأرض"(1) ، وما تضمن جعل الأرض طهوراً(2) ، وما تضمن الأمر بتأخير التيمم معللاً بأنه إن فاته الماء لم تفته الأرض(3) - وإلى موثق سماعة المتقدم في الوضوء لصلاة الجنازة المتضمن التيمم بحائط اللبن، وإلى التعليل في حديث السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام):" أنه سئل عن التيمم بالجص، فقال: نعم. فقيل: بالنورة؟ فقال: نعم، فقيل: بالرماد؟ فقال: لا، إنه ليس يخرج من الأرض إنما يخرج من الشجر"(4) ، وقريب منه ما عن الراوندي بسنده عن علي (عليه السلام) وزاد: "فقيل له: أيتيمم بالصفا الناتية [الثابتة خ. ل] على وجه الأرض؟ قال: نعم"(5).

هذا والمحكي عن جماعة الاختصاص بالتراب والمنع من الحجر، وعن ظاهر الغنية الإجماع عليه. لكن قال في الغنية:" ولا يجوز إلا بتراب طاهر، ولا يجوز بالكحل ولا بالزرنيخ ولا بغيرهما من المعادن، ولا بتراب خالطه شيء من ذلك بالإجماع ".وهو وإن اقتصر على التراب إلا أنه ذكره في مقابل المعادن وما اختلط بها، لا في مقابل الحجر ونحوه من أقسام الأرض. ولعله مراد غيره ممن نقل ذلك عنه من القدماء. ولعله لذا كان ظاهر بعضهم وصريح آخرين الإجماع على الاكتفاء بمطلق الأرض. بل في الروضة: أنه لا قائل بالمنع مطلقاً وفي الروض الإجماع على إجزائه في الجملة. نعم يأتي عن بعضهم التفصيل فيه بين وجود التراب وعدمه.

وكيف كان فقد يستدل لهم باختصاص الصعيد بالتراب، كما هو المحكي عن جماعة من أهل اللغة. كما يناسبه قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة:" فلما أن وضع الوضوء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب التيمم حديث: 1، 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب التيمم حديث: 1.

(5) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 6 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 116

عمن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحاً، لأنه قال: (بوجوهكم) ثم وصل بها: (وأيديكم منه) أي من ذلك التيمم، لأنه علم أن ذلك أجمع لم يجر على الوجه، لأنه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها"(1) ، لأن الذي يعلق بالكف هو التراب لا الحجر.

ودعوى: أن الغبار أيضاً يعلق بالكف، والحجر والصخر واللبن ونحوهما لا تخلو من الغبار. مدفوعة بأن الصحيح إنما تضمن علوق الصعيد، والغبار ليس منه قطعاً، بل ليس الصعيد العالق إلا التراب.

وكذا النصوص المتضمنة طهورية التراب، كقوله (عليه السلام): "إن الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً" (2) وغيره(3). لظهورها في الإشارة إلى طهورية الصعيد التي تضمنتها الآيتان اللتان هما الأصل في تشريع التيمم.

وخصوص بعض النصوص كخبر علي بن مطر عن بعض أصحابنا: "سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل لا يصيب الماء أو التراب أيتيمم بالطين؟ قال: نعم صعيد طيب، وماء طهور" (4) لظهوره في انحصار الطهور بالتراب، ولذا ينتقل بتعذره للطين من دون أن ينبه فيه لقيام الحجر والصخر ونحوها مقام التراب وتقدمها على الطين. والنبوي المسند في محكي الخصال والعلل: "قال الله عز وجل: جعلت لك ولأمتك الأرض كلها مسجداً، وترابها طهوراً"(5) ، ونحوه النبوي المرسل في محكي عوالي اللئالي(6) ، فإن العدول في التيمم الذي هو امتناني من الأرض إلى التراب مع ما فيه التضييق ظاهر في عدم التيمم بغيره من أقسام الأرض.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 4، وباب: 9 منها حديث: 4، 6، وباب: 14 منها حديث: 13، وباب: 24 منها حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 6.

(5و6) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 3، 8.

ص: 117

وبذلك يخرج عن إطلاق الأرض في النصوص المتقدمة. وموثق سماعة مختص بمورده. وخبر السكوني والراوندي ضعيفان غير مجبورين بعمل المشهور فيما هما ظاهران فيه من جواز التيمم بالجص والنورة بعد الإحراق.

ودعوى: أن الحجر تراب اكتسب رطوبة لزجة وعملت حرارة الشمس فيه حتى تحجر من دون أن يخرج عن حقيقة التراب. مدفوعة بعدم شمول التراب له عرفاً وإن لم يخرج عنه حقيقة.

لكن الإنصاف أنه يصعب جداً الخروج بتصريح بعض اللغويين عما هو الأشهر بينهم المعتضد بالاستعمالات المتقدمة من عموم الصعيد لمطلق الأرض.

وأما صحيح زرارة فمضمونه لا يخلو عن إشكال. أولاً: لما هو المعروف نصاً وفتوى من عدم وجوب مسح الوجه بالتراب، بل يستحب نفضه لو علق بالكف، كما يأتي في المسألة الثانية والعشرين إن شاء الله تعالى. وثانياً: لأن مقتضاه الاكتفاء بمسح الوجه بموضع التراب من الكف وإن لم يستوعب الجبين بإسداله، وهو مخالف للنص والفتوى.

قال سيدنا المصنف (قدس سره):" فلابد من حمله على إرادة تلقين الاستدلال لزرارة في قبال العامة. ولعله مبني على مقدمات مطوية مسلمة عندهم. كما لا يبعد أن يكون المراد من السؤال في صدر الصحيح أيضاً ذلك".

وأما النصوص المتضمنة لطهورية التراب فهي لا تنافي طهورية مطلق الأرض التي تضمنتها النصوص الأخر. وجعلها قرينة على اختصاص الصعيد بالتراب ليس بأولى من جعل نصوص طهورية مطلق الأرض قرينة على عمومه لمطلق الأرض. بل لعل الثاني أولى، لأن حمل الأرض على خصوص التراب بعيد جداً، بل لا يناسب الحكم في جملة منها بكونها مسجداً، بخلاف تنزيل هذه النصوص على أن ذكر التراب لأنه أظهر أفراد الصعيد لا لاختصاصه به، فإنه ليس بذلك البعد.

وأما حديث علي بن مطر فهو ضعيف في نفسه يسهل تنزيله على فرض كون

ص: 118

الشخص في أرض ترابية تصير طيناً بنزول الماء عليها.

كما أن النبويين - مع ضعفهما - مخالفان للنصوص الأخر التي أطلق فيها جعل الأرض طهوراً، والتي هي أكثر عدداً وأقوى سنداً وأعلى متناً. ولاسيما وعن مجالس ابن الشيخ الطوسي رواية نبوي ثالث هكذا:" وجعل لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما كنت أتيمم من تربتها [ترابها] وأصلي عليها"(1). وهو لا ينافي عموم طهورية الأرض.

وأما الجمود في موثق سماعة على مورده فهو بعيد جداً، لإلغاء خصوصيته عرفاً. إلا أن يدعى الفرق بين اللبن والحجر بدخول اللبن في التراب عرفاً، كما يأتي في المدر.

كما أن خبر الراوندي وإن كان ضعيفاً، إلا أن الظاهر اعتبار حديث السكوني. إذ ليس في طريقه من يغمز فيه إلا أحمد بن محمد بن يحيى، الذي ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه لم يوثق في كتب الرجال، وأحمد بن الحسين بن سعيد المعروف بدندان، الذي قال فيه النجاشي: "روى عن جميع شيوخ أبيه إلا حماد بن عيسى فيما زعم أصحابنا القميون. وضعفوه وقالوا هو غال. وحديثه يعرف وينكر" كما حكى عن محمد بن الحسن بن الوليد تضعيفه، وأن الصدوق وابن نوح تبعاه في ذلك، وقال الشيخ فيه وفي أحمد بن بشير: "وهما ضعيفان. ذكر ذلك ابن بابويه".

لكن الظاهر وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى، كما تقدم عند الكلام في مفهوم العدالة من مباحث الاجتهاد والتقليد.

كما أن الظاهر أن منشأ تضعيف القميين - ومنهم محمد بن الحسن - لأحمد بن الحسين تهمتهم إياه بالغلو، التي عقبها ابن الغضائري بقوله: "وحديثه فيما رايته سالم" .كما قد يظهر من نسبة النجاشي التضعيف لهم توقفه فيه. بل مقتضى اقتصار الشيخ وابن الغضائري على نسبة القميين له الغلو كون نسبة النجاشي التضعيف للقميين

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 119

سواءً أكان تراباً (1) أم رملاً (2).

مبنية على نسبتهم الغلو له، لا على تضعيفهم له زائداً على ذلك، وذلك لما هو المعروف من تشدد القميين في أمر الغلو، فيحكمون بالضعف من أجله كبروياً، كما يتشددون فيه صغروياً. كما أن ظاهر الشيخ أن تضعيفه له مبني على تضعيف الصدوق المبني هو وتضعيف ابن نوح على تضعيف ابن الوليد، كما تقدم في كلام النجاشي.

ومن هنا لا يركن للتضعيف المذكور في مقابل ما يظهر من ابن الغضائري من تبرئته وقبول حديثه، المعتضد بكونه من رجال كامل الزيارات والمؤيد برواية بعض الأعيان عنه. ومن ثم لا مجال للبناء على انحصار التيمم بالتراب.

وأضعف من ذلك ما في المقنعة والنهاية وإشارة السبق والمراسم والسرائر وعن الجامع من تقييد التيمم بالحجر بحال الاضطرار وفقد التراب، بل جعله في المراسم في مرتبة الثلج والوحل.

إذ فيه: أنه إن تم عموم الصعيد له مفهوماً، أو إطلاق طهورية الأرض، أجزأ مطلقاً، وإلا فلا دليل على إجزائه مع فقد التراب. ولعله لذا احتمل في كشف اللثام كون الحكم المذكور منهم على سبيل الاحتياط لا الجزم.

(1) وهو المتيقن من النصوص والفتاوى، وإن عرفت العموم لغيره. وقد يستفاد من الجمع بين نصوصه ودليل الصعيد والأرض كونه أفضل الأفراد. فتأمل.

(2) الظاهر أن المراد بالتراب في كلام غير واحد ما يعم الرمل، لمقابلتهم التراب بالحجر، بل هو كالصريح من بعضهم. نعم لا يخلو عمومه له لغة عن إشكال، فإنه وإن فسر التراب في كلام بعض أهل اللغة بما نعم من الأرض، إلا أنه قد يقابل بالرمل في بعض استعمالات كقوله: "عدد الرمل والحصى والتراب" بل في الناصريات: "وفي الجمهرة لأبي عبيدة [عن أبي عبيدة. ظ] أن الصعيد هو التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ ولا رمل" .ومقتضاه مباينة الرمل للتراب والصعيد معاً. لكن الظاهر

ص: 120

أم مدراً (1) أم حصى (2) أم صخراً أملس. ومنه أرض الجص والنورة

من الاستعمالات الكثيرة العموم له، كما يأتي في مسألة تطهير الإناء من الولوغ.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في جواز التيمم به لكثرة الابتلاء به، خصوصاً في الجزيرة العربية، بل هو الشايع في الحجاز، فلو كان البناء على عدم طهوريته شرعاً لظهر وبان وكثرت الأسئلة والفروع المتعلقة بذلك. ولذا لم أعثر على مخالف فيه عدا ما في إشارة السبق وعن كشف الغطاء من عدم جواز التيمم به إلا مع فقد التراب. ويظهر الحال فيه مما تقدم في الحجر.

وأما مثل مسحوق الصخر، فإن تم عموم التراب للرمل فهو شامل له أيضاً، وإلا كفى فيه ما تقدم من عموم طهورية الأرض.

(1) وهو قطع الطين اليابس. والحكم بجواز التيمم به مصرح به في كلام غير واحد، ونقل عن جماعة كثيرة، وفي كشف اللثام: "لا نعرف في المدر خلافاً، وإن لم يذكره الأكثر" .وعن مجمع البرهان: "ينبغي أن يكون لا نزاع فيه" .وكأنه لما سبق من عدم وضوح المنع مطلقاً في الحجر، فكيف به؟!.

وكيف كان فالوجه فيه ظاهر بناء على العموم المتقدم. مضافاً إلى ما قد يدعى من دخوله في التراب، بدعوى: أن المراد منه ذات التراب المحفوظة عرفاً فيه، والانسحاق وصف زائد عليه، وبذلك اختلف المدر عن الحجر. فتأمل.

كما يشهد به بالخصوص موثق سماعة، المتضمن التيمم بحائط اللبن لصلاة الجنازة، والذي تقدم الكلام فيه. لكن في إشارة السبق عدم جواز التيمم به إلا مع فقد التراب. ويظهر حاله مما سبق.

(2) الكلام فيه يبتني على العموم المتقدم. نعم يشكل بلحاظ عدم استيعابه للكفين. إلا أن يكون صغاراً لا ينافي الاستيعاب عرفاً، أو يكون في ضمن التراب أو نحوه.

ص: 121

(122)

قبل الاحتراق (1)، ولا يعتبر علوق شيء منه باليد (2). وإن كان الأحوط استحباباً الاقتصار على التراب مع الإمكان.

(1) فيجوز التيمم به على المشهور نقلاً وتحصيلاً كما في الجواهر، وعن مجمع البرهان: "لا ينبغي النزاع فيه" .وهو متجه بناء على العموم المتقدم، لعدم خروجهما عن الأرض عرفاً ويقتضيه خبر الراوندي ومعتبر السكوني بالأولوية.

لكن في السرائر: "ولا يجوز التيمم بجميع المعادن وتعداد ذلك يطول. وقد أجاز قوم من أصحابنا التيمم بالنورة. والصحيح الأول" .وقد يظهر منه إرادة النورة قبل الإحراق، لعدم دخل الإحراق في المعدنية. وحينئذ يشكل بأنه لو صدق عليها المعدن بمعنى فليس بحيث تخرج عن الأرض.

وفي النهاية وعن المفاتيح اشتراط التيمم بهما بفقد التراب. قال في كشف اللثام: "وهو ضعيف، لأنها أن دخلت في الصعيد جاز التيمم بها مطلقاً، وإلا لم يجز مطلقاً. إلا أن يكون احتاط بذلك، لاحتمال اختصاص الصعيد بالتراب، فإن أرض النورة ليست غير الحجر على ما يعرف به" .لكنه لو تم في أرض النورة لا يتم في أرض الجص، لأنها ليست حجراً.

(2) قال في الجواهر: "في المشهور بين الأصحاب نقلاً مستفيضاً وتحصيلاً، بل في جامع المقاصد الإجماع عليه، وفي آيات الأحكام للفاضل الجواد الإجماع أيضاً على عدم اعتباره لليدين، بل في ظاهر المنتهى... الإجماع أيضاً، ككنز العرفان".

خلافاً لما عن البهائي ووالده والمفاتيح وشرحه والحدائق وغيرها. وهو ظاهر ما عن ابن الجنيد من لزوم المسح بما ارتفع على اليدين من الصعيد.

ويستدل لهم بقوله تعالى: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" (1) ونحوه النصوص المتضمنة للمسح بالأرض، كقوله (عليه السلام) في صحيح الحلبي: "فليمسح

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

ص: 122

من الأرض وليصل"(1) ، وفي صحيح ابن سنان:" فليمسح من الأرض وليصل "(2) لظهور (من) في التبعيض، ولا يكون المسح بالأرض إلا بعلوق شيء منها باليد، ليكون المسح به حين إمرارها على الممسوح. بل هو صريح صحيح زرارة المتقدم عند الكلام في تحديد مفهوم الصعيد.

وهو المناسب لطهورية الأرض، لأن المنساق منها حصول الطهر بمماستها، كما في الاستجمار وتطهير باطن القدم بالمشي عليها، وكما في طهورية الماء.

وفيه: أن ذلك لا يناسب ما تضمنته النصوص وادعي الإجماع عليه ممن عدا ابن الجنيد من رجحان النفض.

ودعوى: أن النفض لا يستلزم زوال العالق البتة - كما في حاشية المدارك - فلا مانع من وجوب المسح بالغبار الباقي بعده.

مدفوعة أولاً: بظهور الأدلة المتقدمة في المسح بالصعيد والأرض، لا بالغبار، فإذا رفعنا اليد عن ذلك بنصوص النفض لم يبق لاعتبار الغبار دليل.

وثانياً: بأن عدم استلزام النفض لزوال الغبار لا ينافي ظهور أدلته في عدم اعتبار بقاء الغبار، لشمول إطلاقها لصورة زواله وإرادة ما عدا ذلك تحتاج إلى عناية. بل العلوق قد لا يستلزم حصول الغبار في الكفين، كما لو كانت الأرض ندية بأدنى نداوة، ولاسيما إذا كانت رملية.

وثالثاً: بأن الغبار لو حصل بضرب الأرض بالكفين فهو يزول بمسح الوجه بهما، ولا يبقى منه لمسح ظهر الكفين، بناء على ما هو الظاهر من عدم تجديد ضرب الأرض لهما.

ومنه يظهر الإشكال فيما يظهر من بعضهم من الجمع بين لزوم العلوق واستحباب النفض. إذا لو كان المراد به أن المستحب هو النفض الذي لا يزيله،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 4، 7.

ص: 123

أشكل بما ذكرنا من أنه مناف لإطلاق أدلته، وأن العلوق قد لا يستلزم التأثر بالغبار، خصوصاً في مسح ظهر الكفين.

ولو كان المراد به عدم لزوم المسح بالعالق وإن لزم أصل العلوق. فهو أولى بالإشكال إذ لا دليل على وجوب العلوق إلا ما دل على المسح بالعالق، فمع رفع اليد عن الثاني لا مجال لاستفادة الأول من الدليل المذكور.

ومن هنا يقرب أن يكون المصحح لتعدية المسح للصعيد ب - (من) ملاحظة أثر الصعيد المعنوي أو الادعائي الحاصل من وضع اليد عليه قبل مسح الوجه واليدين بها. وقد حاول غير واحد توجيهه بوجوه آخر، وإن كانت غير خالية عن الإشكال.

وأما صحيح زرارة فقد سبق الإشكال في مضمونه، بنحو لا ينهض معه للتأييد، فضلاً عن الاستدلال. كما أن طهورية الأرض في المقام تعبدية، ولا مجال لتوجيهها بما يناسب طهورية الماء، خصوصاً بعد ما عرفت.

هذا وقد يستدل على وجوب العلوق بما تضمن الأمر بالنفض، لتوقف النفض على العلوق. وحمله على إرادة النفض في فرض العلوق لا بنحو يقتضي العلوق. مخالف لإطلاق دليله.

لكنه كما ترى مخالف للمنساق من الدليل المذكور ونحوه مما يتضمن الأمر بشيء لا موضوع له في بعض الأحوال، حيث يستفاد منه الأمر به معلقاً على وجود موضوعه، لا مطلقاً بنحو يقتضي حفظ موضوعه وتحقيقه، فإذا قيل: إذا صليت فحل أزرار قميصك، وإذا سافرت فأرح دابتك، وإذا لبست الثوب فرد أكمامه إلى نصف الذراع، لم يفهم من إطلاق الأوامر المذكورة لزوم الصلاة بقميص ذي أزرار، والسفر على الدابة، وتجاوز الأكمام عن نصف الذراع، لعدم الموضوع للأمور المذكورة بدونها، بل لا يستفاد إلا وجوب الأمور المذكورة على تقدير تحقق موضوعها. وكذا في المقام.

ص: 124

(125)

(مسألة 16): لا يجوز التيمم بما لا يصدق عليه اسم الأرض (1) وإن كان أصله منها (2)، كالرماد (3) والنبات (4)

(1) لظهور الأدلة في اختصاص الطهورية بالصعيد أو الأرض أو التراب، ويشهد له التعليل في معتبر السكوني ومسند الراوندي المتقدمين في أول الفصل. مضافاً إلى أن مطهرية الشيء تحتاج إلى دليل، والأصل عدمها.

(2) لظهور الأدلة في اعتبار كونه أرضاً حين التيمم. وأما التعليل في الحديثين المذكورين فالمراد به ما لا يخرج عن الأرض عرفاً، بقرينة عدم تطبيقه على الرماد، وإن كان يخرج من الأرض بمعنى.

(3) إجماعاً كما عن المنتهى. ويقتضيه - مضافاً إلى ما سبق - معتبر السكوني ومسند الراوندي المتقدمان. لكنهما بقرينة التعليل مختصان برماد غير الأرض. ولذا قد يدعى جواز التيمم برماد الأرض ولو فرض حصوله. إلا أنه لا مجال له مع خروجه عن الأرض عرفاً، لما سبق. ولذا منع في التذكرة من التيمم برماد التراب حينئذٍ. وأما إطلاق التيمم به في محكي نهاية الأحكام والموجز الحاوي فقد يحمل على عدم فرض عدم خروجه عن أسم الأرض. وإلا أشكل بما سبق.

(4) وإن كان منسحقاً بحيث يشبه التراب. قال في الجواهر:" إجماعاً محصلاً منقولاً ومستفيضاً ".ويقتضيه - مضافاً إلى ما سبق - التعليل في معتبر السكوني ومسند الراوندي، لأن مقتضى ارتكازية التعليل أن منشأ افتراق الرماد في عدم جواز التيمم عن الجص والنورة هو افتراق منشئه عن منشئهما في ذلك.

ودعوى: أنه لا يصدق عليه التراب حينئذ، فيدل على جواز التيمم به ما دلّ على جواز التيمم بالتراب. مدفوعة أولاً: بأن صدق التراب عليه ليس حقيقياً، ولذا لابد فيه من الإضافة ولا يصدق مع الإطلاق. وثانياً: بأن التراب الذي يجوز التيمم به هو تراب الأرض، الذي يصدق عليه الصعيد، كما يظهر من أدلة المسألة، فلا يعم

ص: 125

والمعادن (1)، كالعقيق والفيروزج ونحوهما مما لا يسمى أرضاً،

المورد.

هذا وفي موثق عبيد بن زرارة:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الدقيق يتوضأ به؟ قال: لا بأس بأن يتوضأ به وينتفع به"(1). وربما يحمل الوضوء به على التيمم.

لكنه ليس بأولى من حمله على الغسل به نظير الغسل بالسدر، بل الثاني أقرب، بل أنسب بالجواب، لأن قوله (عليه السلام): "وينتفع به" مشعر بدفع محذور السرف الذي لا مجال لتوهمه في التيمم به، بخلاف الغسل به لما يستلزمه من إتلافه، كما أشير إليه في بعض النصوص، كمعتبر إسحاق بن عبد العزيز: "سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن التدلك بالدقيق بعد النورة فقال: لا بأس. قلت: يزعمون أنه إسراف قال: ليس فيما أصلح البدن إسراف..."(2).

(1) إجماعاً محكياً في الغنية وصريح المنتهى وظاهره وعن الخلاف إن لم يكن محصلاً. كذا في الجواهر. وحيث لا شاهد له من النصوص فمن القريب جداً ابتناؤه على خروجه عن الأرض عرفاً، لا لعدم جواز التيمم بالمعدن تعبداً وإن لم يخرج عن الأرض تخصيصاً لعموم طهوريتها. فإنه بعيد جداً، ولا أقل من عدم الدليل عليه بعد عدم وضوح قيام إجماع تعبدي بالغ مرتبة الحجية على ذلك، لقرب حمله على ما ذكرنا.

ومن هنا لا يهم تحديد المعدن في المقام، بل المهم صدق الأرض، فمع إحرازه يجوز التيمم، وإن صدق المعدن، ومع إحراز عدمه لا يجوز التيمم. وكذا مع الشك بناء على ما هو الظاهر من أن المرجع في المقام قاعدة الاشتغال، لأن الشرط هو الطهارة، فيرجع الشك في المقام للشك في المحصل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 38 من أبواب آداب الحمام حديث: 4.

ص: 126

وفي الخزف (1)

هذا وعن ابن أبي عقيل جوازه في الكحل والزرنيخ اللذين من الأرض. فإن ابتنى ذلك منه على دعوى صدق الأرض عليهما فهي في غاية الإشكال، بل المنع، كما في المعتبر وغيره. وإن ابتنى على دعوى: جواز التيمم بهما وإن لم تصدق الأرض عليهما، فهي أشكل.

وأما التعليل في معتبر السكوني ومسند الراوندي فقد سبق عدم نهوضه بذلك، ولذا لا يظن به ولا بغيره جواز التيمم بمثل الذهب والفضة والحديد ومشتقات النفط وغيرها.

ثم إن بعض مشايخنا (قدس سره) قرب جواز التيمم بالجواهر كالفيروزج والياقوت والماس ونحوها، مدعياً صدق الأرض عليها، من دون أن ينافي ذلك غلاء ثمنها لخصوصيتها من حيثية اللون أو الأثر أو عزة الوجود أو غير ذلك مما لا نعلمه. لكنه لا يخلو عن إشكال.

ولا أقل من الشك الذي سبق أن مقتضى الأصل معه عدم صحة التيمم. نعم يتجه ما ذكره في مثل در النجف الأشرف، فإنه لا يخرج عن كونه حصى. بل قد يدعى ذلك في مثل العقيق أيضاً. كما أنه بناء على مختاره من جريان البراءة مع الشك يهون الأمر كثيراً.

(1) فقد جوز التيمم به في التذكرة والقواعد وجامع المقاصد والروض ومحكي نهاية الأحكام ومجمع البرهان. لدعوى عدم خروجه عن الأرض. قال في التذكرة: "ولهذا جاز السجود عليه" .وصريح المنتهى وظاهر الدروس الإشكال فيه والتوقف.

وعن ابن الجنيد المنع، لخروجه عن اسم الأرض وفي المدارك أنه أحوط. وفي المعتبر أنه الأشبه. قال: "ولا يعارض بجواز السجود، لأنه قد يجوز السجود على م

ص: 127

ليس بأرض، كالكاغذ [كالقرطاس]".

لكنه كما ترى، لأن السجود على ما ليس بأرض إنما يجوز إذا كان مما أنبتت غير المأكول والملبوس. وجواز السجود على القرطاس إما لأنه من ذلك، أو للنص الخاص، وحيث لم يكن الخزف من النبات، ولم يرد فيه نص خاص، انحصر الوجه في جواز السجود عليه بكونه من الأرض.

نعم لو فرض الشك في صدق الأرض عليه كان مقتضى الأصل جواز السجود عليه ظاهراً، وعدم جواز التيمم به.

أما الأول فلرجوع الشك المذكور للشك في قيد الواجب، حيث يشك في أن تقييد السجود بالأرض، هل يراد به تقييده بخصوص ما لم يطبخ منها، أو بالأعم منه ومما طبخ، والتحقيق في مثله الرجوع للبراءة، ومقتضاها في المقام عدم مانعية الطبخ ورفع اليد عن احتمال التقييد بعدمه.

وأما الثاني فلما سبق من رجوع الشك في المقام للشك في المحصل، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

ودعوى: أن الاستصحاب في المقام وارد على قاعدة الاشتغال. ممنوعة، لأن المراد بالاستصحاب إن كان هو استصحاب كونه أرضاً أشكل بأنه من استصحاب المفهوم المردد - الذي لا يجري على التحقيق - لرجوع الشك المذكور لإجمال مفهوم الأرض.

وإن كان هو استصحاب صحة التيمم به وجوازه وضعاً. فهو من الاستصحاب التعليقي الذي لا يجري أيضاً، لأن صحة التيمم فعلاً مشروطة بوقوعه، وقبله إنما يصح معلقاً لا غير.

وإن كان هو استصحاب الطهورية شرعاً أشكل بأن الطهورية ليست مجعولة شرعاً، بل هي منتزعة من الحكم شرعاً بترتب الطهارة على استعمال الطهور، فلا مجال

ص: 128

لاستصحابها.

مضافاً إلى الإشكال في الجميع بعدم إحراز بقاء الموضوع، لأن الشك في صدق الأرض على الخزف مساوق لاحتمال تبدل الموضوع حقيقة، بحيث يكون اللاحق متولداً من السابق عرفاً، نظير تولد الرماد من الخشب، والزرع من البذر، لا بقاء له مع تغير صفته، ومع الاحتمال المذكور لا يجري الاستصحاب.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لاحتمال تبدل الموضوع بالنحو المذكور في الخزف والجص والنورة ونحوها مما يحصل بطبخ الأرض وتعريضها للنار بنحو تترتب عليه بعض الآثار التكوينية، وإن كان هو مقتضى تعبير بعضهم بالاستحالة. إذ لا ريب في وحدة الموضوع وعدم تبدل الحقيقة عرفاً، وأن ذلك ليس كالرماد والخشب.

نعم قد يوجه عدم صدق الأرض عليه بالبناء على أن عنوان الأرض غير منتزع من مقام الذات والحقيقة عرفاً بحيث لا يزول إلا بزوالها، بل هو منتزع من حالة خاصة في الذات زائدة عليها تزول بالنار ونحوها، نظير عنوان الشجر الذي يزول بالقطع وعنوان الحجر الذي يزول بالانسحاق والطحن وعنوان التراب الذي يزول بجعله طيناً وعنوان الماء الذي يزول بصيرورته ثلجاً أو مضافاً بالخلط ونحوه... إلى غير ذلك من العناوين التي لا يتوقف زوالها عرفاً على تبدل الذات.

ولا أقل من دعوى: أن المفهوم من عنوان الأرض في أدلة التيمم والسجود ذلك، وإن أمكن أن يراد منه الأعم في إطلاقات أخر شرعية أو عرفية، إما للاشتراك اللفظي، أو لانصراف دليل الحكمين إلى ذلك بنحو يمنع من شمول الإطلاق للحالة الطارئة بسبب النار. وحينئذٍ لو فرض الشك لا مجال للمنع من الاستصحاب من جهة عدم إحراز الموضوع، بل ينحصر المنع عنه بما ذكر أولاً.

ومنه يظهرانه لا مجال للاستدلال على صدق الأرض مع الإحراق بأنه لو لم تصدق لزم طهارة الأرض المتنجسة بصيرورتها خزفاً أو نحوه، لأن الاستحالة من جملة المطهرات، مع أنه لا يحتمل التزام أحد من الفقهاء بذلك. إذ يتوقف ذلك على أن

ص: 129

يكون عنوان الأرض منتزعاً عرفاً من مقام الذات، أما لو كان منتزعاً من حالة خاصة فيها تزول بالطبخ فزواله لا يستلزم الاستحالة والطهارة، كما لا يخفى.

وكيف كان فالظاهر عدم منع الطبخ من صدق الأرض بالمعنى الذي هو موضوع الحكمين، لما هو المعلوم من شيوع الصخور البركانية، ويصعب جداً البناء على عدم صدق الأرض بالمعنى المذكور عليها بحيث لا يجوز التيمم بها ولا السجود عليها.

مضافاً إلى أمرين:

الأول: عموم التعليل في معتبر السكوني ومسند الراوندي المتقدمين، لأن مقتضاه عموم الأرض التي يصح التيمم بها لمثل الجص والنورة مما يطبخ. بل قد يدل التعليل المذكور على عدم قادحية التحول لمثل الرماد، وأن المنع من التيمم بالرماد لأن أصله لا يسجد عليه. فتأمل. ويأتي أنه لا مجال للأشكال في دليل التعليل بهجر الأصحاب له في مورده.

الثاني: بعض النصوص الأخرى الواردة في السجود كصحيح الحسن بن محبوب: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ثم يجص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إلي بخطه إن الماء والنار قد طهراه"(1). لظهوره في جواز السجود على الجص، وحيث كان ظاهر السائل مفروغيته عن جوازه ذاتاً لولا النجاسة فالظاهر أن منشأ المفروغية صدق الأرض عليه، لا ثبوت ذلك تعبداً وإن لم يكن أرضاً.

وصحيح محمد بن الحسين:" ان بعض أصحابنا كتب إلى أبي الحسن الماضي (عليه السلام) يسأله عن الصلاة على الزجاج. قال: فلما نفذ كتابي إليه تفكرت وقلت: هو مما أنبتت الأرض، وما كان لي أن أسال عنه. قال: فكتب إلي: لا تصل على الزجاج، وإن حدثتك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 81 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 130

والجص والنورة بعد الإحراق (1) إشكال، ومع الانحصار فالأحوط

نفسك أنه مما أنبتت الأرض، ولكنه من الملح والرمل، وهما ممسوخان "(1) لظهوره أو إشعاره في أن التحول الحاصل بتصنيع الزجاج لا يخل بالسجود عليه لو لم يكن أصله ممسوخاً، مع وضوح أن التحول للزجاج أبعد عن الأصل من تحول الأرض بالطبخ خزفاً أو غيره.

(1) فقد منع من التيمم بهما معاً في جامع المقاصد والمسالك والروض ومحكي التنقيح وفوائد الشرايع وحاشية الميسي. كما منع من التيمم بالنورة الشيخ في الخلاف وجماعة كثيرة، بل نسبه في الجواهر للأكثر.

وعلله في جامع المقاصد بالاستحالة حتى جعلهما بمنزلة الرماد. وهو ممنوع جداً كما تقدم. كما قد يعلل بعدم صدق الأرض حينئذٍ. ولعله إليه يرجع ما في المسالك من التحاقهما بعد الإحراق بالمعدن. وإلا فالمعدنية أمر تابع للذات، ولا دخل للإحراق فيها قطعاً.

وكيف كان فيظهر مما تقدم في الخزف المنع من عدم صدق الأرض عليهما. ولاسيما بلحاظ معتبر السكوني ومسند الراوندي المتقدمين. وما في الجواهر من عدم الجابر لهما إنما يخل لو كانا معاً ضعيفين، وقد سبق اعتبار حديث السكوني.

نعم لو ثبت هجره تعين سقوطهما عن الحجية. لكنه لا مجال له مع ذهاب جماعة لجواز التيمم بهما معاً، كما في المراسم والمعتبر والتذكرة وعن المرتضى ومجمع البرهان. كما ذهب للجواز في الجص في الوسيلة وعن محكي الجامع، ويحتمله كلام جماعة. ولاسيما مع قرب كون منشأ من أعرض عنه البناء على معارضته لظهور الأدلة في حصر الطهورية بالأرض التي هي أرجح منه، مع الغفلة عن عدم التعارض بينهما، بل هو من سنخ الحاكم عليها الموسع لموضوعها لظهوره في أن المراد من الأرض م

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 12 من أبواب ما يسجد عليه حديث: 1.

ص: 131

(132)

وجوباً التيمم والصلاة ثم القضاء (1).

(مسألة 17): لا يجوز التيمم بالنجس (2)

يعم مثل هذا الحال. فلاحظ.

هذا وفي المفاتيح:" والأحوط اعتبار التراب الخالص... أما مع فقده فيجوز بغبار الثوب ونحوه، ثم بالجص والنورة، ثم بالطين... ثم بالحجر أو الخزف "ويظهر الحال فيه مما تقدم في الحجر.

(1) بناء على وجوب القضاء في فاقد الطهورين. أما بناء على عدمه فلا قضاء. على أن ذلك إنما يتجه مع تعذر الغبار والطين، أما بدونه فالمناسب له (قدس سره) الإلزام بالاحتياط بالجمع بين التيمم بالجص أو النورة والتيمم بالغبار، فإن تعذر فبالطين، من دون حاجة للقضاء، كما يظهر مما يأتي منه (قدس سره) في المسألتين التاسعة عشرة والعشرين.

(2) بلا خلاف أجده فيه، كما في المنتهى والجواهر ونفي الخلاف فيه في الناصريات، بل ادعى الإجماع عليه في ظاهر المدارك وصريح التذكرة وجامع المقاصد وكشف اللثام ومحكي شرح الجعفرية.

وقد يستدل عليه - مضافاً إلى ذلك - بما تضمنته الآيتان الشريفتان من تقييد الصعيد بالطيب، بناء على أن المراد به الطاهر، كما في المقنعة والغنية والتذكرة ومفردات الراغب، والتبيان ومجمع البيان، وظاهر المنتهى، ونسبه في جامع المقاصد للمفسرين قيل: وحكى عن أكثرهم. ولعله الظاهر، لأنه مقتضى المناسبة الارتكازية بين الحكم والموضوع، ولأن ذلك أنسب بالطيب في لسان الشارع من الطيب العرفي، وهو الذي من شأنه أن يُنبِت في مقابل السبخة.

وأما حمله على الحلال كما عن سفيان الثوري. فيبعده أن الأمر بالتيمم يقصر عن الحرام، فلا يحتاج معه للتقييد بالحلية. نعم في كفاية ذلك في إحراز الظهور، الذي

ص: 132

هو المعيار في الاستدلال إشكال.

هذا وقد يستدل بقاعدة أن فاقد الشيء لا يعطيه، التي هي من القواعد الارتكازية، كما تقدم عند الكلام في اعتبار طهارة أحجار الاستنجاء.

لكنه كما ترى، لأن القاعدة المذكورة - لو تمت - تقتضي اعتبار الطهارة الخبيثة في المطهر من الخبث، لا من الحدث، كما في المقام. إلا أن يدعى أن المرتكزات المتشرعية تقضي بأن الطهارة الحدثية فرع الطهارة الخبيثة، فلا يصلح للمطهرية من الحدث ما لا يصلح للمطهرية من الخبث لنجاسته. فتأمل.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) - وسبقه إليه في الجملة في جامع المقاصد - من الاستدلال بما تضمن من النصوص الكثيرة طهورية الأرض أو التراب أو التيمم، بدعوى: أن الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ورتب على ذلك عدم اعتبار الطهارة في الغبار، لعدم صدق الأرض والصعيد والتراب عليه.

لاندفاعه - مضافاً إلى أنه لا معنى لطهارة التيمم، بل ولا لطهوريته إلا مجازاً، لأن الطهور ما تستند له الطهارة في عملية التطهير، لا نفس عملية التطهير - بأن الطهور هو المطهر، كما اعترف هو به، وتقدم منّا في مبحث طهورية الماء، واعتبار طهارته إنما هو بضميمة الإجماع أو القاعدة المشار إليها، لا لأخذه في مفهوم الطهورية لغة. على أنه لو سلم فالنصوص المذكورة إنما تدل على طهارة الأرض والتراب ومطهريتهما، لا على اعتبار طهارتهما في مطهريتهما.

نعم لا يرد ذلك على الاستدلال بما تضمن أنه لا صلاة إلا بطهور(1) الذي لو تم لعم الغبار، كما يعمه ما تضمن طهورية التيمم. وإنما يرد عليه الوجه الأول لا غير.

وكيف كان فيكفى في إثبات المدعى ما سبق من الإجماع بل ظهور المفروغية عن ذلك، المناسبة للمرتكزات المتشرعية.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة حديث: 1.

ص: 133

(134)

ولا المغصوب (1) ولا الممتزج بما يخرجه عن اسم الأرض (2).

(1) إجماعاً محكياً في التذكرة والمنتهى إن لم يكن محصلاً. كما في الجواهر. لأن حرمة التصرف في المغصوب مانعة من التقرب بالضرب، بناء على لزوم النية وقصد التقرب مقارناً له، الذي يأتي الكلام فيه في أول الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

أما بناء على عدم لزوم قصد التقرب به فوجهه غير ظاهر. والإجماع لا ينهض به، لقرب كونه مبنياً على لزوم التقرب به. نعم لو انحصر حينئذٍ التيمم بالمغصوب لا يجب، لتوقفه على التصرف المحرم إلا أن يعلم بأهمية وجوب الطهور من حرمة الغصب، ولا طريق لذلك. ومثل ذلك ما إذا كان التيمم موجباً للتصرف المحرم في الأرض أو الفضاء المغصوبين، نظير ما تقدم في الوضوء.

وبذلك يظهر أنه لو حصل قصد التقرب بالتيمم بالمغصوب - للجهل به أو الغفلة عن حرمته - صحّ التيمم، كما هو الحال في جميع موارد اجتماع الأمر والنهي في العبادات، على ما أوضحناه في محله من الأصول. وتقدم نظيره في المسألة الرابعة والستين من فصل شرائط الوضوء.

(2) إنما يصدق ذلك مع استهلاك الأرض في الخليط، ولا ريب في عدم جواز التيمم حينئذٍ، لما تقدم من عدم جواز التيمم بغير الأرض.

بل الظاهر عدم الجواز مع عدم استهلاك كل منهما في الآخر أيضاً، وفي مفتاح الكرامة:" لا أجد فيه خلافاً "لظهور الأدلة في اعتبار كون المتيمم به أرضاً، بحيث ينسب للأرض وحدها، لا لمجموع الأمرين منها ومن غيرها.

وأما ما في المنتهى من الاكتفاء بغلبة الأرض، لبقاء الاسم، ولأنه يتعذر في بعض المواضع. فهو كما ترى. لأن المراد ببقاء الاسم إن كان هو صدق عنوان الأرض وحدها فهو ممنوع في غير صورة استهلاك الخليط. وإن كان هو صدقه في الجملة ولو منضماً لغيره فهو - مع عدم اختصاصه بصورة غلبة الأرض - لا يكفي لما عرفت.

ص: 134

وتعذره في بعض المواضع لا يكفي في الخروج عن ظاهر الأدلة المتقدم.

ومثله ما إذا كان الخليط متميزاً - كالتبن والشعير - بناء على ما هو الظاهر من اعتبار استيعاب الأرض للكف، لأن التراب وإن لم يخرج بذلك عن اسم الأرض، إلا أنه يخل بالاستيعاب.

لكن عن المنتهى: "لو اختلط التراب بما لا يعلق باليد - كالشعير - جاز التيمم منه، لأن التراب موجود فيه والحائل لا يمنع من التصاق اليد به فكان سائغاً".

فإن كان مراده عدم مانعية الحائل من التصاق اليد بالتراب في بقية المواضع لغوصه بالتراب بالضرب. فهو لا يكفي بعد ما ذكرنا من اعتبار الاستيعاب. وإن كان مراده عدم مانعية الحائل من التصاق اليد بالتراب حتى في موضعه، لدفنه بالتراب بسبب الضرب والتحريك، بحيث يكون التراب فوقه مستوعباً لتمام الكف. فهو - مع عدم اطراده - لا يكفي في المقام، لظهور الأدلة في لزوم مماسة الكف للأرض بالضرب، لا بالتحريك بعده. فتأمل.

ومثله ما في الجواهر من الاكتفاء بالاستيعاب العرفي وعدم قدح الحائل القليل، كما لا يخل به عدم وصول بعض الكف للأرض وإن لم يكن حائل، لصدق وضع الكف على الأرض حينئذٍ. مع إنه قد يتعذر الخلوص في مثل ذلك أو يتعسر في كثير من الموارد.

للإشكال فيه بأن الاستيعاب المذكور تسامحي لا عرفي حقيقي. والعفو عما ليس من شأنه الوصول للأرض بالضرب، كأصول الأصابع، لاستفادته من الاكتفاء بالضرب في النصوص، لا يستلزم العفو عما من شأنه الوصول للأرض بالضرب.

وأما تعذر الخلوص في كثير من الموارد. فهو لا ينهض بالقرينية على حمل الأدلة على ما يعمه مع تيسره في كثير منها، كما لعله ظاهر.

ص: 135

نعم لا يضر إذا كان الخليط مستهلكاً فيه عرفاً (1)، ولو أكره على المكث في المغصوب ففي صحة التيمم في أرضه إشكال (2).

(1) كما في المبسوط والشرايع وغيرهما. ونسب للمشهور. لصدق التيمم بالأرض، فيدخل في الإطلاق. وأطلق بعضهم عدم جواز التيمم بما يخلط بغير الأرض، وظاهر الغنية الإجماع عليه، بل صرح في الخلاف بعدم جواز التيمم بتراب خالطه غير الأرض غلب عليه أو لم يغلب. ولعل مرادهم غير صورة الاستهلاك.

(2) وقد صرح غير واحد بجوازه. قال في جامع المقاصد: "لأن الإكراه أخرجه عن النهي فصارت الأكوان مباحة، لامتناع التكليف بما لا يطاق إلا ما يلزم منه ضرر زائد على أصل الكون. ومن ثم جاز له أن يصلي وينام ويقوم".

ودعوى: لزوم البقاء على الحالة التي حبس عليها، لوقوعها قهراً عليه، ويحرم إحداث غيرها، لأنه تصرف محرم يقوم به باختياره. مدفوعة بأن البقاء على تلك الحالة تصرف اختياري أيضاً، ولذا لا يجوز اختياره لو منع منه المالك وإذن في غيره.

نعم قال سيدنا المصنف (قدس سره): "لكنه يتم بالنسبة إلى الفضاء، حيث إن اليد لابد أن تشغل المقدار الذي يسعها من الفضاء، سواءً كان المتصل بالأرض أم غيره، أما بالنسبة إلى الأرض فلا يتم، لأن الضرب على الأرض تصرف فيها زائد على التصرف في الفضاء، فلا يجوزه الاضطرار إلى شغل الفضاء بالجسم. ومن ذلك يظهر الإشكال في جواز الصلاة والنوم".

إلا أنه يشكل بما أشار إليه في الجواهر من منافاته لقاعدة العسر والحرج.

ودعوى: أنها تنافي الامتنان في حق المالك. مدفوعة بأنها إنما تنافيه مع لزوم الإضرار بالمالك عرفاً، إما مالياً كما لو استلزم التصرف نقصاً في المكان، أو اعتبارياً بانتهاك حرمته، والأول خارج عن محل الكلام، والثاني غير لازم عرفاً بعد كون المتعدي على المالك هو الحابس دون المحبوس.

ص: 136

مضافاً إلى ما هو المعلوم بملاحظة مرتكزات المتشرعة من عدم التضييق على المحبوس بالاقتصار على أقل ما يمكن من التصرف في المكان، ولو بالوقوف على رجليه، بل على رجل واحدة. ولاسيما مع قرب شيوع ابتلاء المؤمنين بذلك في عصور الأئمة (عليهم السلام) من قبل ولاة الجور، فلو كان البناء على الاقتصار على أقل أنحاء التصرف لظهر وبان، وكثرت الأسئلة في الفروع المترتبة على ذلك.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) في تقريب جواز التيمم أن الضرب على الأرض ليس تصرفاً زائداً عرفاً على أصل الكون، لأن المحرم هو الاستيلاء والتملك، دون مثل الضرب ووضع اليد على حائط الغير أو لباسه أو نحو ذلك، لانصراف التصرف عنه.

بل يمكن أن يقال: إن دليل حرمة التصرف في مال الغير هو التوقيع المروي في الاحتجاج الضعيف بالإرسال، والذي تضمنه الموثق أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسه(1) ، وهو ظاهر في الاستيلاء والتملك، دون مطلق التصرف بنحو يشمل مثل الضرب.

لكنه يشكل - بعد تسليم ما ذكره في الموثق - بأن التوقيع مروي في كتاب إكمال الدين، عن أربعة من مشايخه الذين قد ترضى عليهم جميعاً عن محمد بن جعفر الأسدي الثقة(2) ، ولا ينبغي التأمل مع ذلك في حجيته. وانصراف التصرف عن مثل الضرب ممنوع جداً، ولذا لا يظن به ولا بغيره البناء على جواز التيمم بتراب الغير مع عدم الحبس والاضطرار وعليه يبتني ما يأتي منه في المسألة الآتية.

نعم قامت السيرة على جواز وضع اليد على حائط الغير من جهة الطريق، وعلى ثيابه في الجملة مع تعرضه للزحام، ونحو ذلك مما يحتاج تجنبه إلى عناية، ول

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 3 من أبواب مكان المصلي حديث: 1، وج: 19 باب: 1 من أبواب القصاص حديث: 3.

(2) وسائل الشيعة ج: 6 باب: 3 من أبواب الأنفال حديث: 6.

ص: 137

(138)

(مسألة 18): إذا اشتبه التراب المغصوب بالمباح وجب الاجتناب عنهما (1)،

مجال للبناء على عموم جواز مثل هذه التصرفات في موارد حجب المالك لماله وعدم تعريضه لها. فالعمدة في الجواز ما سبق.

(1) للعلم الإجمالي بحرمة أحدهما. وحينئذٍ يتعين التيمم بتراب آخر. ومع عدمه فمع وجود المرتبة اللاحقة - كالغبار - يقع التزاحم بين وجوب التيمم بالتراب وحرمة التصرف بالمغصوب.

وقد ادعى بعض مشايخنا (قدس سره) رافعية الثاني للأول، ولزوم الانتقال للمرتبة اللاحقة، لأن الوجدان مأخوذ في موضوع التيمم بالتراب، كما هو مقتضى ما تضمن أن من كان في حال لا يجد إلا الطين يتيمم به(1) ، ومع استلزام إحرازه التصرف المحرم في المغصوب لا يصدق الوجدان، فيتعين الانتقال للمرتبة اللاحقة.

لكن مجرد أخذ عدم وجدان التراب في موضوع المرتبة اللاحقة لا يستلزم أخذ الوجدان في موضوع المرتبة السابقة، نظير ما تقدم في الطهارة المائية مع الترابية، بل في جميع الأبدال الاضطرارية. على أن تعميم عدم الوجدان لصورة تعذر الإحراز يحتاج إلى عناية.

فلعل الأولى تقريب جواز الانتقال للمرتبة اللاحقة بأنه يلزم في المقام التزاحم بين حرمة التصرف في المغصوب المقتضية لاجتناب الترابين معاً ووجوب التيمم بالتراب، ولا طريق لإحراز أهمية وجوب التيمم بالتراب، وذلك كافٍ في جواز تركه والانتقال للمرتبة اللاحقة، لأن المناسبات الارتكازية تقضي بأن موضوع تشريع البدل الاضطراري جواز ترك المبدل منه، لا تعذره، نظير ما تقدم في المسألة الحادية عشرة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم.

ص: 138

بل من القريب جداً أهمية الاحتياط الملزم للتصرف في مال الغير من وجوب التيمم بالتراب. ولا أقل من احتمال أهمية ترك التيمم بالتراب في المقام والانتقال للمرتبة اللاحقة.

هذا كله مع وجود المرتبة اللاحقة. وأما مع عدم وجودها واستلزام ترك التيمم بالمشتبهين لفقد الطهورين الذي كان التحقيق معه سقوط الأداء فقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن القدرة معتبرة في أصل الطهور عقلاً لا شرعاً، ولازم ذلك دوران الأمر في المقام بين محذورين، حيث يدور الأمر في التيمم بكل من الترابين بين الوجوب والحرمة، وحيث لا يتمكن من الامتثال القطعي يتعين عقلاً الامتثال الاحتمالي لكل من التكليفين بالتيمم بأحد الترابين وترك التصرف في الآخر، ولا يجب القضاء، لعدم إحراز عنوان الفوت. واستصحاب عدم الإتيان بالفرد المباح لا يحرز أن الواجب هو الفرد الآخر، ليحرز عنوان الفوت.

ولا يخفى أن ذلك مبني على أن التيمم بالمغصوب في فرض جوازه عقلاً في المقام باطل واقعاً، إذ لو صح - كما هو التحقيق في المقام ونحوه من موارد اجتماع الأمر والنهي - كان امتثال التكليف بالتيمم قطعياً لا احتمالياً. وحينئذٍ لو غض النظر عن ذلك أشكل ما ذكره.

أولاً: بأن التنزل للموافقة الاحتمالية مع الدوران بين محذورين ليس واجباً بحكم العقل، بل هو قهري، وإنما الثابت بحكم العقل هو التخيير بين المحتملين وعدم الإلزام بأحدهما مع عدم المرجح.

وثانياً: بأن التيمم بهما معاً أو تركه كذلك محقق للامتثال الاحتمالي في كل منهما بنفسه، وإنما يستلزم المخالفة القطعية لأحد التكليفين المعلومين بالإجمال، وهما التكليف بوجوب التيمم بغير المغصوب والتكليف بترك التيمم بل مطلق التصرف بالمغصوب منهما، وحينئذٍ حيث كانت المخالفة القطعية لأحد التكليفين مستلزمة للموافقة القطعية للآخر فلا وجه للمنع منها والإلزام بالموافقة الاحتمالية لكل منهما،

ص: 139

(140)

وإذا اشتبه التراب بالرماد فتيمم بكل منهما صح (1)، بل يجب ذلك مع الانحصار (2)، وكذلك الحكم إذا اشتبه الطاهر بالنجس (3).

ولذا كان التحقيق أن التخيير في الدوران بين المحذورين مع تعذر الوقائع استمراري لا ابتدائي.

وثالثاً: بأن مقتضى استصحاب الحدث وعدم التيمم بالمباح بطلان الصلاة ووجوب القضاء، كما لو تيمم بما يتردد بين الأرض وغيرها.

ومن هنا فالظاهر ابتناء المسألة على أهمية أحد التكليفين من تحريم التصرف بالمغصوب ووجوب الطهور للصلاة.

فمع إحراز أهمية الأول أو احتماله من دون أن يحتمل أهمية الثاني يتعين اجتناب كلا الترابين وجريان حكم فاقد الطهورين، ولو تيمم بأحدهما بطل لتعذر التقرب به مع ذلك. ومع إحراز أهمية الثاني أو احتماله من دون أن يحتمل أهمية الأول يتعين وجوب التيمم بأحدهما أو بهما معاً - على الكلام المتقدم في مسألة اجتماع الأمر والنهي - والاجتزاء به وعدم وجوب القضاء. ومع إحراز تساويهما أو احتمال الأهمية في كل منهما يتعين التخيير بين الأمرين.

والأقرب الأول. وعليه يبتني إطلاق سيدنا المصنف (قدس سره) وغيره عدم جواز التيمم، ثم الثالث. وأما الثاني فبعيد جداً. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) للعلم الإجمالي بتحقق التيمم بالتراب، بناء على ما هو التحقيق من الاجتزاء بالامتثال الإجمالي. كما تقدم في المسألة الثالثة من مباحث التقليد.

(2) لوجوب الطهارة مع القدرة شرعاً، المقتضي لوجوب التيمم بالتراب الواقعي، ووجوب إحرازها عقلاً، المقتضي لوجوب الجمع بين التيممين في المقام.

(3) لعين ما سبق. ولا مجال لقياسه باشتباه الماء الطاهر بالنجس، حيث ورد إهراقهما والانتقال للتيمم. لاحتمال خصوصيته. ولاسيما مع قوة احتمال الفرار به عن

ص: 140

(141)

(مسألة 19): إذا عجز عن التيمم بالأرض لأحد الأمور المتقدمة في سقوط الطهارة المائية يتيمم بالغبار (1) المجتمع على ثوبه

النجاسة.

(1) بلا خلاف ظاهر، بل لعله إجماعي، كما هو مقتضى نسبته لعلمائنا في المعتبر والتذكرة. والنصوص مستفيضة ففي صحيح زرارة: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أرأيت المواقف إن لم يكن على وضوء كيف يصنع ولا يقدر على النزول؟ قال: يتيمم من لبده أو سرجه أو معرفة دابته، فإن فيها غباراً ويصلي" (1) ونحوه غيره مما يأتي بعضه.

هذا والمعروف من مذهب الأصحاب أنه إنما يجوز التيمم به مع فقد التراب، بل مطلق الصعيد. بل ظاهر التذكرة الإجماع عليه. لكن أطلق المرتضى في جمل العلم والعمل جواز التيمم بالغبار، كما أطلق جوازه بالتراب، حيث قد يظهر من ذلك اتحادهما رتبة، كما نسب له في كلام غير واحد.

ويشكل بمخالفته لعموم وجوب التيمم بالأرض والصعيد والتراب ونحوها حيث لا تشمل الغبار عرفاً. والنصوص المتضمنة جواز التيمم به مختصة بصورة فقد تلك الأمور.

وأما ما عن إرشاد الجعفرية من أن الغبار تراب، فإذا نفض أحد هذه الأشياء عاد إلى أصله وصار تراباً.

فإن كان المراد به صورة تكثف الغبار بالنفض بحيث يصدق عليه التراب فلا إشكال في جواز التيمم به حينئذٍ كسائر أفراد التراب، وخرج عن محل الكلام من التيمم بالغبار. وإن كان المراد ما إذا لم يصدق عليه التراب، لقلته - كما هو محل الكلام - فمجرد كون أصله تراباً لا ينفع في مساواته له.

ومنه يظهر الإشكال فيما في المنتهى من الجمع بين الاستدلال لجواز التيمم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 141

بالغبار بآيتي الصعيد، قال: "وهو التراب، فأينما وجد كان مجزياً" ،والحكم بعدم جواز التيمم به إلا بعد فقد التراب.

وقد يتراءى من غير واحد الاكتفاء به مع فقد التراب خاصة ولو مع وجود الحجر، بل هو المصرح به فيما تقدم من المفاتيح، حيث جعل الغبار مرتبة ثانية والحجر في آخر المراتب، كما قد نسب للمراسم. وإن كان الظاهر خطأ النسبة، وأن مورد كلامه ما إذا أمكن جمع التراب من الغبار بالنفض، وأما كالتيمم بالغبار فهو عنده متأخر حتى عن الوحل.

كما أن الظاهر ابتناء كلام الآخرين ممن حكم بجواز التيمم بالغبار مع عدم التراب إما على عدم جواز التيمم بغير التراب من أقسام الأرض، أو على أن المراد بفقد التراب ما يعم فقد سائر أقسام الأرض.

وكيف كان فيشكل ما في المفاتيح بأن الحجر إن دخل في إطلاق أدلة التيمم بالصعيد والأرض ونحوهما تعين تقديمه على الغبار، وإلا فلا دليل على صحة التيمم به حتى في آخر المراتب، كما تقدم نظيره.

هذا وظاهر المقنعة والمبسوط والنهاية والمنتهى وجوب النفض، وهو ظاهر صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إذا كنت في حال لا تقدر إلا على الطين فتيمم به، فإن الله أولى بالعذر، إذا لم يكن معك ثوب جاف أو لبد تقدر أن تنفضه وتتيمم به"(1).

لكن المراد بذلك إن كان هو النفض من أجل تهيج الغبار مع عدم وجوده بدونه، بحيث لا حاجة له مع وجوده، فهو مقتضى تعبير جمهور الأصحاب بالتيمم بالغبار.

نعم مقتضى إطلاق بعضهم - كالمراسم - التيمم بالثوب عدم اعتباره. وإن كان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 7.

ص: 142

أو عرف دابته أو نحوهما (1)، إذا كان غبار ما يصح التيمم به، دون غيره

بعيداً. ولاسيما وأنه مقتضى أكثر النصوص المتضمنة للأمر بالتيمم بالغبار أو بالشيء المغبر. عدا معتبر زرارة عن أحدهما (عليه السلام):" إن خاف على نفسه من سبع أو غيره وخاف فوات الوقت فليتيمم يضرب بيده على اللبد أو البرذعة ويتيمم ويصلي"(1). ولابد من حمله على صورة وجود الغبار فيه، جمعاً مع النصوص الأخر. ولاسيما بملاحظة ارتكاز أن التيمم به لكونه من المراتب الاضطرارية للتيمم بالأرض.

نعم قد يصعب التقييد في خبر حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: من آوى إلى فراشه ثم ذكر أنه على غير طهر تيمم من دثاره وثيابه كان في صلاة ما ذكر الله"(2) ، لظهور أن الدثار والثياب المعدة للنوم قد لا يكون فيها غبار، وقد يصعب نفضها لو كان فيها غبار، فعدم التنبيه في الحديث للنفض قد يكون ظاهراً في عدم لزومه.

لكن الحديث - مع ضعفه، لاشتمال سنده على الإرسال - مخالف للقاعدة، لعدم أخذ تعذر الطهارة المائية فيه، فلا ينهض بالاستدلال في المقام، بل يقتصر فيه على مورده.

وإن كان المراد بذلك وجوب النفض من أجل تكثير الغبار حتى مع وجوده. فيأتي الكلام فيه عند الكلام في وجوب اختيار ما غباره أكثر.

وإن كان المراد بذلك وجوبه تعبداً وإن لم يكن له دخل في ظهور الغبار ولا في كثرته، فهو بعيد جداً، والصحيح منصرف عنه ككلام من تقدم، لأن المناسبات الارتكازية تقضي بأن النفض إنما يراد لتهيج الغبار لا لنفسه.

(1) من دون ترجيح كما هو صريح بعضهم وظاهر الأكثر. وقد يظهر من النهاية تقديم البرذعة واللبد على الثوب، كما يظهر من السرائر العكس. ودليلهما غير

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 5، 11.

ص: 143

(144)

كغبار الدقيق ونحوه (1)، ويجب مراعاة الأكثر فالأكثر (2)، وإذا أمكنه نفض الغبار وجمعه على نحو يصدق عليه التراب تعين ذلك (3).

(مسألة 20): إذا عجز عن التيمم بالغبار تيمم بالوحل (4) وهو الطين.

ظاهر، بل يدفعهما إطلاق أكثر النصوص، خصوصاً مثل صحيح أبي بصير المتقدم.

(1) كما صرح به في المنتهى وحكي عن جماعة، بل لعله مراد الكل. فإن الرجوع للعرف وكلمات اللغويين يقضي بعدم صدق الغبار على غبار غير التراب إلا بنحو التقييد، نظير الماء المضاف. ولا أقل من عدم وضوح صدقه بنحو الإطلاق. ولأن المنصرف من نصوصه كونه الميسور من التيمم بالصعيد، المناسب لكونه مرتبة منه.

(2) وفي الجواهر:" بل ظاهر جماعة إيجابه، وهو لا يخلو عن قوة ".وكأنه بلحاظ وروده مورد الاضطرار المبني على الرجوع لقاعدة الميسور المبتنية على ملاحظة الأقرب للمطلوب الاختياري، فإن ذلك إذا لم يوجب تقييد الإطلاق فلا أقل من كونه موجباً لانصرافه إليه.

لكن الإنصاف أن ذلك إنما يقتضي اختيار المكلف له بطبعه مع وجوده والتفاته إليه، لا لزوم تحصيله بتحري مواقع الغبار وإثارته وملاحظة التفاضل بينها في كمية الغبار، فإن ذلك مغفول عنه فعدم التنبيه عليه في النصوص ظاهر في عدم وجوب ذلك.

ودعوى: ظهور صحيح أبي بصير المتقدم في وجوب تكثير الغبار بالنفض. ممنوعة، بل الظاهر منه أن الغرض من النفض إثارة الغبار الكامن في الثوب واللبد حيث يختفي الغبار بسبب استعمالها. بل التخيير فيه بين الثوب واللبد مع غلبة كون اللبد أكثر قد يظهر في عدم وجوب اختيار ما غباره أكثر.

(3) لدخوله في التيمم بالصعيد المقدم رتبة على الغبار، كما يظهر مما سبق.

(4) إجماعاً محصلاً منقولاً مستفيضاً صريحاً وظاهراً. كذا في الجواهر. ويقتضيه صحيح أبي بصير المتقدم وموثق زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: إن كان أصابه الثلج

ص: 144

فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره أو من شيء معه، وإن كان في حال لا يجد إلا الطين فلا بأس أن يتيمم منه "(1) وقريب منه صحيح رفاعة(2) ونحوها غيرها.

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن لولا هذه النصوص لكان مقتضى الإطلاقات جوازه في عرض التراب، لصد ق الصعيد والأرض عليه. لكن لا يخلو ما ذكره عن إشكال، حيث لا يبعد انصراف الأرض عن الطين. نعم في مرسل علي بن مطر:" سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل لا يصيب الماء ولا التراب أيتيمم بالطين؟ قال: نعم صعيد طيب وماء طهور"(3) ، ونحوه مرسلة الكليني(4) وخبر زرارة الآتي. ومقتضى التعليل فيها جواز التيمم به في عرض التراب. والأمر سهل بعد لزوم الخروج عن الإطلاق لو تم بالنصوص السابقة.

هذا وقد تقدم عن السرائر أن التيمم بالطين مقدم على التيمم بالغبار، ونحوه حكي عن المهذب. ويشهد له خبر زرارة عن أحدهما (عليه السلام): "قلت له: رجل دخل الأجمة ليس فيها ماء وفيها طين ما يصنع؟ قال: يتيمم فإنه الصعيد قلت: فإنه راكب ولا يمكنه النزول من خوف وليس هو على وضوء قال: إن خاف على نفسه من سبع أو غيره وخاف فوات الوقت فليتيمم يضرب بيده على اللبد أو البرذعة ويتيمم ويصلي"(5).

وقد يستشكل فيه بضعف السند، حيث رواه سعد بن عبد الله الأشعري عن الحسن بن علي عن أحمد بن هلال. والحسن بن علي مشترك بين جماعة بعضهم غير ثابت التوثيق، وأحمد بن هلال ضعيف ملعون.

ويندفع بأن من القريب أن يكون الحسن بن علي هو الزيتوني، الذي لا يبعد وثاقته لأنه من رجال كامل الزيارة. وأما أحمد بن هلال فقد تقدم في مبحث الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر قبول روايته.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 2، 4، 6.

(4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 8، 5.

ص: 145

ومثله الإشكال فيه بشذوذه لمخالفته للأخبار الكثيرة المعتبرة المشهورة بين الأصحاب. لاندفاعه بأن النصوص بين ما أطلق فيه التيمم بالغبار عند عدم التراب أو عند انحصار الأمر به، وما أطلق فيه التيمم بالطين عند عدم وجدان غيره، وما جمع فيه بين الأمرين.

أما الأولان فهما خارجان عما نحن فيه، إذ لابد من تقييد أحدهما بالآخر، إما بتقييد التيمم بالغبار بما إذا فقد الطين، أو العكس، ولا مرجح للثاني.

وأما الثالث فالصريح منه في تقديم الغبار هو صحيح أبي بصير المتقدم، ويقابله خبر زرارة المتقدم. والباقي منه موثق زرارة المتقدم وصحيح رفاعة المشار إليه آنفاً ومرفوع عبد الله بن المغيرة(1) المطابقان له مضموناً. وهي وإن كانت قد تظهر بدواً في تقديم الغبار لتطابق صحيح أبي بصير، إلا أن تنزيلها على العكس لتطابق خبر زرارة ليس بعزيز، بحمل قوله (عليه السلام):" وإن كان في حال لا يجد إلا الطين... "على الاستدراك عن الأمر بالتيمم بالغبار لا على فرض تعذره. ولاسيما بملاحظة التعليل في نصوص التيمم بالطين بأنه الصعيد، فإنه يناسب تقديمه على الغبار، ومع ذلك لا مجال لردّ خبر زرارة بالشذوذ.

نعم لا ينبغي التأمل في ترجيح صحيح أبي بصير عليه بقوة السند، وكذا الدلالة، لإمكان حمل الذيل فيه على استئناف السؤال عن حكم الراكب الذي لا يقدر على النزول من دون تفريع على وجوب التيمم بالطين وفرض تعذره، كما قد يناسبه قوله (عليه السلام):" وليس هو على وضوء "حيث لا موجب للتنبيه عليه لو كان تفريعاً على الحكم السابق.

فإن ذلك وإن كان مخالفاً للظاهر في نفسه، إلا أنه قد يمكن الحمل عليه بقرينة صحيح أبي بصير الذي هو كالنص في تقديم الغبار على الطين. مضافاً إلى ظهور إعراض المشهور عن ظاهر خبر زرارة، وعملهم على ما يطابق صحيح أبي بصير.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 10.

ص: 146

هذا والمصرح به في النهاية والمعتبر ومحكي البيان وجوب إزالة الطين العالق باليدين من قبل المسح بهما، وهو ظاهر الفرك المذكور في المبسوط والخلاف، بل في المقنعة:" فيمسح إحداهما بالأخرى حتى لا يبقى فيهما نداوة، وليمسح بهما وجهه".

ولعله إليه يرجع ما في الوسيلة وعن التحرير من أنه يتركه على يديه قليلاً حتى ييبس ثم ينفضه ويتيمم، وإلا فاعتبار جفافه بنفسه خال عن الشاهد قطعاً، بل قد يخل بالموالاة المعتبرة عندهم. وأشكل منه ما في التذكرة وعن كشف الالتباس من أن العمل على ذلك مع سعة الوقت وعلى ما سبق من الشيخ مع خوف ضيقه، فإنه تفصيل بلا فاصل.

إذا عرفت هذا فلا ينبغي التأمل في جواز الإزالة عملاً بالإطلاق، بل حيث كان عدمه موجباً لتطيين الجبهة وهو أمر مرغوب عنه كان عدم التنبيه لعدم جواز الإزالة موجباً لظهور الإطلاقات في جوازها. وإنما الكلام في وجوبه، حيث قربه سيدنا المصنف (قدس سره) بأنه مقتضى اعتبار مباشرة الماسح للمسوح في التيمم.

لكنه يشكل بأن دليل المباشرة مختص بما إذا لم يكن الحائل من سنخ الأمر الذي يتيمم به، بحيث يكون حيلولته مقتضى الوضع الطبعي للتيمم به. ولذا يشكل إثبات وجوب إزالة التراب العالق باليد بسبب ضرب الأرض بها.

بل قد يدعى أن مقتضى الإطلاقات المقامية في المقام عدم وجوب الإزالة، لأنه حيث كان من طبيعة الطين اللصوق باليد فعدم التنبيه على إزالته يوجب ظهور أدلة التيمم به في عدم وجوبها. ومن ثم قد يدعى ظهور كلام من أطلق التيمم بالطين - كما نسبه في الوسيلة للمشايخ - في عدم وجوب الإزالة.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لذلك بعد ما سبق من أن تطيين الجبهة أمر مرغوب عنه حيث تكون الإزالة مقتضى الوضع الطبيعي، فلا يحتاج للتنبيه عليها لو كانت واجبة. ولا أقل مع ذلك من كونها مقتضى الأصل. بل لو قيل بوجوب النفض مع التيمم بالتراب كان الاستئناس به في المقام لوجوب الإزالة قريباً جداً.

ص: 147

(148)

وإذا أمكن تجفيفه والتيمم به تعين ذلك (1).

(مسألة 21): إذا عجز عن الأرض والغبار والوحل كان فاقداً للطهور والأحوط له الصلاة في الوقت والقضاء في خارجه (2).

نعم لا ينبغي التأمل في عدم وجوب المداقة في الإزالة، لاحتياجه إلى عناية، فعدم التنبيه عليه يوجب ظهور أدلة المقام في عدمه. وأظهر من ذلك عدم وجوب إزالة الرطوبة، وإن تقدم من المقنعة. فلاحظ.

(1) بلا إشكال، حيث يتحقق به التيمم الاختياري.

(2) بل ربما قيل بوجوبه، كما نسب للمبسوط والنهاية، وإن كان صريح بعض فقرات كلام الشيخ (قدس سره) فيهما وجوب القضاء لا غير. فلاحظ كلامه فيهما فيمن لا يجد إلا الثلج، وفي المبسوط فيمن يحبس في القيد أو في موضع نجس وفي المصلوب من مبحث التيمم. ولعله لذا اعترف بعضهم بعدم معرفة القائل بذلك.

وكيف كان فقد يوجه بإنه مقتضى العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين الملزم بالاحتياط بفعلهما، بناء على ما هو الظاهر من عموم المنجزية للعلم الإجمالي التدريجي.

ويشكل بعدم ثبوت العلم الإجمالي، لاحتمال سقوطهما معاً، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولو سلم أمكن دعوى انحلاله ببعض الوجوه الآتية المقتضية لوجوب أحد الأمرين. ومن هنا يلزم النظر في أمرين:

الأول: وجوب الأداء فقط. وقد حكاه المرتضى (قدس سره) في الناصريات عند جده الناصر ولم يرتضيه. بل المعروف من مذهب الأصحاب سقوطه، ونسب للأكثر في الرياض، وللمشهور في محكي كشف الالتباس. بل في جامع المقاصد أنه ظاهر مذهب الأصحاب، وفي الروض أنه ظاهرهم بحيث لا نعلم فيه مخالفاً، وفي المدارك أنه مذهبهم لا نعلم فيه مخالفاً صريحاً.

ص: 148

ويقتضيه عموم دليل اعتبار الطهارة في الصلاة كقوله (عليه السلام): "لا صلاة إلا بطهور" (1) وغيره. فإن مقتضاه عموم اعتبار الطهارة لحال تعذرها، المستلزم لتعذر الصلاة بتعذرها، وسقوطها بذلك. ومجرد ورود نظير اللسان المذكور في غير الطهارة مما ثبت سقوط شرطيته في حال التعذر كالفاتحة(2) ، بل في غير الشروط من المستحبات، كالصلاة في المسجد لجار المسجد(3) ، لا يقتضي الخروج عن ظاهره في المقام.

ولاسيما مع ظهور الأدلة في أهمية شرطية الطهارة في الصلاة، حتى كان ظاهر بعض النصوص حرمة الصلاة تكليفاً بدونها، ففي موثق مسعدة بن صدقه عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أفما يخاف من يصلي من غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفاً" (4) حيث لا مجال مع ذلك لاستبعاد سقوط الأداء، فضلاً عن الخروج به عما عرفت من القاعدة.

لكن قد يستدل على وجوب الأداء تارة: بقاعدة الميسور. وأخرى: بالاستصحاب. وثالثة: بما تضمن أن الصلاة لا تسقط بحال.

ويندفع الأول بما تكرر غير مرة من عدم ثبوت قاعدة الميسور عموماً، على ما حققناه في مبحث الأقل والأكثر الارتباطين من الأصول.

كما يظهر مما ذكرناه هناك ضعف الثاني، لأن المتيقن سابقاً إنما هو وجوب التام، وهو معلوم الارتفاع وأما وجوب الناقص فهو محتمل الحدوث بعد التعذر. وتمام الكلام هناك.

وأما الثالث فيندفع بما تقدم في المسألة التاسعة من عدم ثبوت عموم عدم سقوط الصلاة بحال بنحو ينفع في أمثال المقام مما تعذر فيه بعض ما يعتبر فيها. فراجع.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 1، وغيره.

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 1 من أبواب القراءة في الصلاة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من أبواب أحكام المساجد حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 149

هذا وقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن التعذر كغيره من الأعذار - كالجهل والنوم - لا يقتضي سقوط الوجوب، بل العذر في ترك الواجب، فإذا شك في ركنية المتعذر جزءاً كان أو شرطاً فقد شك في ثبوت العذر بترك الباقي مع فرض وجوبه بتبع وجوب التام المتعذر جزؤه أو شرطه. نعم لو كان التعذر موجباً لسقوط الوجوب احتاج إثبات وجوب الباقي للتشبت بما سبق.

لكنه يشكل بأن الباقي بعد التعذر هو الملاك لا التكليف الفعلي، وموضوع الملاك هو التام، لا الناقص. وكذا الحال في سائر الأعذار غير الجهل. مع أن بقاء الوجوب الضمني بتبع بقاء وجوب التام المتعذر - لو تم - لا ينفع في محركيته، لأن محركية الوجوب الضمني إنما تكون يتبع محركية الوجوب التام، كما هو مقتضى الارتباطية، فمع عدم محركية الوجوب التام يتعين عدم محركية الوجوب الضمني.

نعم قد يستأنس لوجوب الأداء في المقام بما ورد من وجوب صلاة المطاردة والمسابقة وعدم وجوب القضاء معها، لبعد التمكن من ذلك الحال في الطهارة، خصوصاً في مثل حرب صفين التي ورد أنهم صلوا فيها خمس صلوات بالتكبير(1).

لكن لو تم أن التكبير صلاة لا بدل عنها فلا وجه لاستبعاد تعذر التيمم لها ولو بالغبار، الذي ورد بعض نصوصه في المواقف وفيمن يخاف النزول، كما سبق. ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من القاعدة المقتضية لعدم وجوب الأداء.

الثاني: وجوب القضاء فقط، كما سبق من المبسوط والنهاية واختاره في المقنعة والناصريات والسرائر وغيرها، وفي الجواهر: "كما هو الأشهر بين المتقدمين والمتأخرين، بل المشهور كما عن كشف الالتباس".

لعموم ما دل على قضاء ما فات(2) ، لصدق الفوت في المقام. ولا وجه لقياسه بالصبي والمجنون والحائض بعد عدم، صدق الفوت في حقهم، لعدم تمامية ملاك

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 4 من أبواب الخوف والمطاردة.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 2، 4، 6 من أبواب قضاء الصلوات.

ص: 150

الوجوب، بخلافه في المقام، لأن الأمر بالصلاة وإن سقط بالتعذر، إلا أن القدرة على الصلاة ليست إلا شرطاً في الخطاب والتكليف عقلاً من دون أن تكون مأخوذة في الموضوع ودخلية في الملاك، ولذا لا ريب في تمامية الملاك وصدق الفوت في موارد التزاحم.

لكنه يشكل أولاً: بعدم ثبوت عموم وجوب قضاء ما فات، وإنما ورد الأمر بالقضاء في موارد خاصة، كالنسيان وبطلان العمل وغيرهما مما لا يشمل المقام.

نعم في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "أنه قال: أربع صلوات يصليها الرجل في كل ساعة: صلاة فاتتك فمتى ذكرتها أديتها..."(1) ، وصحيحه الآخر:" قلت له: رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر. قال: يقضي ما فاته كما فاته..."(2).

لكن الأول وارد لبيان وقت قضاء الفائت بعد الفراغ عن وجوبه، لا لبيان وجوب قضاء الفائت، ليكون مقتضى إطلاقه وجوب قضاء كل ما فات. وكذا الحال في الثاني، فإنه وارد لبيان لزوم مطابقة القضاء للفائت بعد الفراغ عن وجوبه، لا لتشريع وجوب قضاء الفائت، لينفع بإطلاقه فيما نحن فيه.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا (قدس سره) على عموم وجوب القضاء بنحو يشمل المقام بصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "أنه سئل عن رجل صلى بغير طهور، أو نسي صلوات لم يصلها، أو نام عنها. قال: يقضيها إذا ذكرها في أي ساعة ذكرها من ليل و نهار"(3).

وتقريب دلالته من وجهين:

الأول: أن وجوب القضاء على من صلى بغير طهور يقتضي وجوبه على من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 2 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 6 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 1 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

ص: 151

ترك الصلاة أصلاً لتعذرها بنفسها أو تعذر الطهور لها، كما في المقام.

الثاني: أن الظاهر إلغاء خصوصية النسيان عرفاً، وأن ذكره لعدم كون ترك الصلاة متعمداً من شأن المسلم الملتزم، وليس ذكر النسيان إلا توطئة وتمهيداً لبيان عموم وجوب القضاء بترك الصلاة، ومقتضى عمومه حينئذٍ عموم وجوبه لصورة الترك عن عذر، كما في المقام.

لكن يندفع الأول بأن منصرف السؤال عمن صلى بغير طهور ما إذا كانت وظيفته الصلاة بطهور، فصلى بدونه نسياناً أو عصياناً أو غفلة. لظهور عدم وجوب القضاء على من صلى بغير طهور لو كان ذلك مقتضي وظيفته. وحينئذٍ فالأولوية إنما تثبت فيمن ترك الصلاة رأساً مع كونه مكلفاً بها، لا من تركها لعدم تكليفه بها شرعاً، كالصبي والحائض، أو عقلاً لتعذرها عليه، كما في المقام. ومنه يظهر قصور الحديث عن فاقد الطهورين لو صلى بغير طهور احتياطاً أو للبناء على وجوب الأداء عليه خطأ لاجتهاد أو تقليد أو غفلة أو نحوها.

كما يندفع الثاني بأن إلغاء خصوصية النسيان عرفاً إنما يتم فيمن كانت وظيفته الصلاة فتركها لعذر أو بدونه، لا فيمن لم يخاطب بها - شرعاً أو عقلاً - كما في المقام، وفهم عموم الحديث له ممنوع جداً.

وثانياً: بأنه هذا ولو ثبت العموم المذكور أمكن الخروج عنه بما ورد في المغمى عليه من النصوص النافية للقضاء المتضمنة لمثل قولهم (عليهم السلام):" كلما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر"(1). فإن القضاء وإن لم يكن من سنخ العقوبة الساقطة بالتعذر، إلا أن تطبيق الكبرى المذكورة عليه في النصوص لابد أن يبتني على تنزيله منزلتها، لأنه عرفاً من سنخ التدارك، وفيه نحو من الثقل والكلفة، على ما تقدم في أوائل مباحث المسلوس والمبطون، ومقتضى ذلك سقوطه في المقام، عملاً بعموم الكبرى المذكورة.

ودعوى: لزوم كثرة التخصيص، لكثرة موارد وجوب القضاء مع غلبة الله

********

(1) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 3 من أبواب قضاء الصلوات حديث: 1.

ص: 152

تعالى، وهو موجب لإجمال هذه النصوص. ممنوعة جداً. فإن ما ورد من وجوب القضاء مع النسيان وبطلان العمل خطأ راجع إلى الغلبة في مقام الإثبات، لا إلى العجز ثبوتاً الذي هو ظاهر هذه النصوص. ولا أقل من لزوم حملها عليه جمعاً.

نعم ورد وجوب القضاء مع النوم. لكن في كونه من موارد العجز عرفاً إشكال، ولو كان أشكل نسبة الغلبة معه إلى الله تعالى، بل هو عرفاً مسبب عن الإنسان نفسه، لإمكان تحفظه من ترك الصلاة فيه بمحاولة الاستيقاظ، أو تأخير النوم ولو بعناية. على أنه لو كان منها فهو لا يستلزم كثرة التخصيص للنصوص المذكورة بحيث يستلزم إجمالها بالعرض وسقوطها عن الحجية في العموم بنحو ينفع في المقام.

ومن هنا ذهب المحقق والعلامة في جملة من كتبه وابن سعيد - فيما حكي عنه - وجماعة ممن تأخر عنهم إلى عدم وجوب القضاء، وحكاه في المعتبر قولاً للمفيد.

نعم ذلك كله يختص بما إذا كان فقد الطهور عرفاً مستنداً لغلبة الله تعالى، كما في المحبوس ونحوه، دون ما إذا كان مستنداً للمكلف، ولو لاختياره السفر لمكان يفقد فيه الطهورين. إذ لا مجال معه لتطبيق الكبرى المذكورة، فلو تم عموم يقتضي القضاء لزم البناء عليه.

وأظهر من ذلك ما إذا لم يبادر للصلاة عصياناً أو غفلة حتى فقد الطهورين، حيث قد يستفاد فيه وجوب القضاء من مثل صحيح زرارة المتقدم بالأولوية التي تقدم تقريبها.

هذا وعن المفيد في رسالته إلى ولده والموجز وكشف الالتباس أن على فاقد الطهورين ذكر الله تعالى بمقدار الصلاة والاكتفاء عن الأداء والقضاء. وفي كشف اللثام أنه لا بأس به. قال في الجواهر: "وكأنه فهم منه إرادة الندب" .وحينئذٍ يبتني على ثبوت قاعدة التسامح وعمومها لمثل فتوى بعض العلماء بالاستحباب، وإلا فلا دليل على استحباب ذلك بالخصوص، فضلاً عن وجوبه، كما نبه له في الجواهر. وحمله على الحائض قياس. فلاحظ والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 153

(154)

وإذا تمكن من الثلج ولم تمكنه إذابته والوضوء به، ولكن أمكنه مسح أعضاء الوضوء به على نحو يتحقق مسميالغسل (1)، وجب واجتزأ به (2).

(1) تقدم في أول فصل الوضوء أنه لا يعتبر في الوضوء والغسل تحقق مسمى الغَسل، بل مجرد إصابة الماء للبشرة ولو بمثل الدهن الذي لا يتحقق به الغسل عرفاً، وأن ذكر الغسل في الأدلة ليس لتوقف تحقق الطهارة عليه، كما هو ظاهرها بدواً، بل لتحقق إصابة الماء للبشرة به، كما يستفاد ذلك من بعض النصوص. فراجع.

(2) كما في الاستبصار والمعتبر والقواعد وغيرها. بل في جامع المقاصد: "لا إشكال في هذا الحكم، لأن المتمكن من الطهارة المائية لا يجزيه التيمم".

ويقتضيه - بعد العمومات - صحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن الرجل يجنب في السفر لا يجد إلا الثلج قال: يغتسل بالثلج أو ماء النهر"(1) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام):" سألته عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجاً أو صعيداً أيهما أفضل، أيتيمم أم يمسح بالثلج وجهه؟ قال: الثلج إذا بل رأسه وجسده أفضل، فإن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمم"(2) ، ونحوه خبره(3).

ولابد من حمل الأفضلية في الأخيرين على الإلزام، أو الترخيص في ترك الغسل في فرض الحرج، بناء على التحقيق من أن مشروعية التيمم للحرج لا يرفع مشروعية الطهارة المائية.

لكن في المقنعة: "فإن حصل في أرض قد غطاها الثلج، وليس له سبيل إلى التراب، فليكسره وليتوضأ بمائه. فإن خاف على نفسه من ذلك وضع بطن راحته اليمنى على الثلج وحركها عليه تحريكاً باعتماد، ثم يرفعها بما فيها من نداوته فمسح بها وجهه كالدهن..." ،وذكر كيفية الوضوء ثم الغسل مع الحاجة إليه. ونحوه في

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التيمم حديث: 1، 3، 4.

ص: 154

أنه مع تعذر الماء والتراب يلزم الوضوء والغسل بالغسل بنداوة الثلج في المبسوط، وبالمسح بها مثل الدهن في النهاية والوسيلة. وربما حكي ذلك عن غيرهم. وهو كما ترى صريح في تأخر ذلك عن التيمم.

وقد استشكل فيه في المعتبر وغيره بأنه إن تحقق به مسمى الغسل المعتبر في الطهارة بالماء كان مساوياً للماء ومقدماً على التراب، وإلا لم يكن وجه للاجتزاء به في تحقق الطهارة حتى مع فقد التراب.

لكن الظاهر أن مرادهم ما إذا تحقق أدنى ما يعتبر في الطهارة المائية، كما قد يناسبه التعبير بالغسل في المبسوط، ويناسبه أيضاً ما تقدم منا من أن المعتبر في الطهارة الحدثية ليس هو الغسل العرفي، بل مطلق وصول الماء للبشرة ولو بمثل الدهن.

ولا يبعد أن يكون تقديمهم التراب عليه رخصة لا عزيمة، لغلبة لزوم الحرج من استعمال الماء بالوجه المذكور، فيسقط وينتقل للتيمم. أما مع تعذر التراب فأهمية الطهارة بنظرهم تقتضي عدم الاكتفاء في سقوطها بمثل هذا الحرج ولزوم تحصيلها باستعمال الثلج.

وكأن الفرق مبني على ما تقدم في المسوغ الثاني من أن المستفاد من الأدلة عدم أهمية خصوصية الطهارة المائية والاكتفاء في سقوطها بكل محذور شرعي أو عرفي له أهمية معتد بها. ولا دليل على ذلك، في أصل الطهارة التي يتوقف عليها صحة الصلاة المعلومة الأهمية، والتي ورد أنها لا تترك بحال(1). فتأمل.

نعم ما تقدم من المقنعة قد تضمن الترتيب مع تعذر الماء والتراب بين الوضوء بماء الثلج والمسح بنداوته مع أنه لو تحقق أدنى ما يعتبر في الطهارة المائية بالمسح تعين التخيير بينهما.

لكن لا يبعد كون الترتيب بينهما شرعياً، بلحاظ أفضلية الأول، لأنه الأقرب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 155

وإذا كان على نحو لا يتحقق الغسل فالأحوط له أيضاً الجمع بين التيمم والمسح به (1) والصلاة في الوقت.

للإسباغ، أو عرفياً، بلحاظ كون الأول أسهل وأيسر مع التمكن منه، لسرعة الجفاف في الثاني. ويأتي تمام الكلام في ذلك.

(1) اختلفت عبارات الأصحاب في فرض عدم تحقق أدنى ما يعتبر في الطهارة المائية من التمسح بالثلج. فقد صرح في المعتبر وغيره بعدم تحقق الطهارة به لا وضوءاً أو غسلاً، ولا تيمماً، لأن الوضوء والغسل إنما يكون بالغسل والمفروض عدم تحققه، والتيمم إنما يكون بالأرض لا بالثلج.

وفي المنتهى ومحكي نهاية الأحكام أنه يمسح به أعضاء الوضوء وعليه قد يحمل ما تقدم من المقنعة وغيرها، وإن كان الأظهر ما سبق. وعلله في المنتهى بأن الواجب أمران: إمساس جسده بالماء وإجراؤه عليه، فلا يسقط الثاني بتعذر الأول.

وهو راجع إلى قاعدة الميسور التي تكرر منا عدم تمامية الدليل عليها. مع أنه حيث كان المفروض عدم حصول ما يعتبر في الضوء والغسل فالإمساس مقدمة للواجب لا جزء منه، وقاعدة الميسور إنما تقتضي الاكتفاء ببعض الواجب عند تعذره بتمامه، لا الاكتفاء بمقدمته عند تعذره. وأشكل من ذلك ما في التذكرة من تعليله بأنه أشبه بالوضوء. لوضوح أنه بالقياس أشبه.

نعم قد يستدل له ببعض النصوص كالصحيحين المتقدمين وخبر علي بن جعفر المشار إليه آنفاً. وخبر معاوية بن شريح: "سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده فقال: يصيبنا الدمق والثلج، ولا نجد إلا ماء جامداً، فكيف أتوضأ به أدلك به جلدي؟ قال: نعم"(1).

لكن صحيح محمد بن مسلم ظاهر في تحقق الغسل المعتبر في الطهارة المائية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 156

بالثلج. ولاسيما بلحاظ التخيير بينه وبين الغسل بماء النهر. وذلك هو الظاهر مما في صحيح علي بن جعفر وخبره من فرض تحقق البلل للرأس والجسد، واشتراط التيمم بتعذر الاغتسال. كما أن ظاهر التوضؤ بالثلج في خبر معاوية هو التوضؤ المعهود الذي يبل فيه الأعضاء بالماء، وليس السؤال إلا لتوهم لزوم صب الماء وعدم الاكتفاء ببلها بدلكها بالثلج ابتداء. وأشكل من ذلك ما في المنتهى من الاستدل بالنصوص المتضمنة إجزاء الماء القليل في الوضوء والغسل، وأنه يكفي إمساس الماء، ومثل الدهن(1).

إذ فيه: أن النصوص المذكورة صريحة أو كالصريحة في إجزاء ذلك اختياراً، كما سبق منّا.

هذا ومقتضى النصوص المذكورة لو تم الاستدلال بها كالتعليلين المتقدمين تقديم ذلك على التيمم. لكن في المختلف وعن نهاية الأحكام أن ذلك إنما يكون مع فقد التراب وتعذر التيمم.

وقد يستدل له بصحيح الحلبي المروي في المحاسن:" عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: سألت عن الرجل يجنب في الأرض فلا يجد إلا ماء جامداً، ولا يخلص إلى الصعيد قال: يصلي بالمسح، ثم لا يعود إلى تلك الأرض التي يوبق فيها دينه "(2) وقريب منه مرسل المقنع(3).

بدعوى: أنه حيث فرض فيه عدم الصعيد فلابد أن يكون المراد بالمسح هو التمسح بالثلج، ويكون متأخراً رتبة عن التيمم. كما أنه حيث تضمن النهي عن العود إلى تلك الأرض فلابد من عدم تحقق ما يعتبر في الطهارة المائية الاختيارية بالمسح المذكور.

لكن كما يمكن ذلك يمكن حمل المسح على المسح بالبرذعة أو الثوب أو نحوهم

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 52 من أبواب الوضوء، وباب: 31 من أبواب الجنابة.

(2) المحاسن ص: 372 طبع طهران، وص: 308 طبع النجف الأشرف.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 28 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 157

(158)

(مسألة 22): يستحب نفض اليدين بعد الضرب (1)، وأن يكون

مما يتحقق به التيمم بالغبار، الذي هو مرتبة اضطرارية من التيمم، وليست الصلاة بالمسح بالثلج من الشيوع بحيث توجب انصراف المسح إليه، بل المسح بالبرذعة ونحوها أشيع في النصوص والفتوى. ولاسيما مع عدم ظهور استدلال الأصحاب بالحديث المذكور في المقام، خصوصاً القدماء، لما سبق من ظهور كلام جملة منهم في كون استعمال الثلج محققاً لما يعتبر في الطهارة المائية الاختيارية، وأنه لا يبتني على المسح به مباشرة، بل بنداوته العالقة باليد بعد وضعها وتحريكها باعتماد عليه.

هذا وفي القواعد أنه لو لم يتحقق مسمى الغسل بالثلج تيمم به بعد فقد التراب، وفي المراسم وعن المرتضى التيمم بنداوة الوحل أو الثلج. قال في المعتبر:" وإليه أومأ ابن الجنيد في المختصر ".وقد يستدل بصحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألت عن رجل أجنب في سفر، ولم يجد إلا الثلج أو ماء جامداً. فقال: هو بمنزلة الضرورة، يتيمم. ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه"(1).

لكنه كما ترى لانصراف التيمم للتيمم بالتراب، لأنه معناه شرعاً، فحمله على التيمم بالثلج بعيد جداً إن لم يقطع بخلافه. ومثله الاستدلال بصحيح الحلبي المتقدم، بحمل المسح فيه على التيمم بالثلج. فإنه بلا شاهد. بل لو تم حمله على المسح بالثلج فالمناسبات الارتكازية تقضي بإرادة مسح تمام البدن به كالغسل، لأنه من مراتبه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) كما نسبه في المختلف لمن عدا ابن الجنيد من أصحابنا، وفي المدارك: "هذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفاً، وأسنده في المنتهى إلى علمائنا، مؤذناً بدعوى الإجماع عليه".

ويقتضيه جملة من النصوص. كموثق زرارة: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التيمم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 9.

ص: 158

فضرب بيده على الأرض ثم رفعهافنفضها..."(1) ، وصحيح ليث عن أبي عبد الله (عليه السلام) في التيمم قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين ثم تنفضهما..."(2) ، وصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" تضرب بيدك مرتين ثم تنفضهما... "(3) وغيرها.

وظاهر الأصحاب المفروغية عن حمل النصوص المذكورة على الاستحباب، للإجماع على عدم وجوبه. وما تقدم من استثناء ابن الجنيد من الإجماع على عدم الاستحباب ليس لبنائه على الوجوب - كما ادعي - بل لبنائه على الحرمة، الذي استفيد من حكمه بلزوم المسح بما يعلق من اليدين، كما صرح به غير واحد، وإلا فعدم الوجوب إجماعي، كما في التذكرة، ونبّه له في المدارك، بل تنبيههم لخلاف ابن الجنيد في المنع دون إشارة لاحتمال القول بالوجوب يكشف عن المفروغية عنه بنحو يستغني عن التنبيه للإجماع عليه.

هذا وقد استشكل بعض مشايخنا (قدس سره) في الإجماع المذكور بأنه لا طريق لإثباته إلا ما تقدم من التذكرة والمدارك، وهو إجماع منقول ليس بحجة. ولاسيما مع ظهور كلام جماعة ممن تقدم على المحقق في الوجوب، فقد ذكر في بيان كيفية التيمم في المقنع والهداية والمقنعة والنهاية والمبسوط والغنية والمراسم، وظاهر كلامهم إرادة الكيفية الواجبة التي لا يصح التيمم بدونها، بل في إشارة السبق:" ويحب فيه ضرب كفيه جميعاً على ما يتيمم به بعد القصد إليه بنية، ونفضهما ومسح الوجه بهما...".

لكن ظهور المفروغية ودعوى الإجماع كما كانا منهم بعد الإطلاع على النصوص الظاهرة بدواً في الوجوب كانا بعد الإطلاع على كلمات الأصحاب المتقدمة، فلولا المفروغية عن حملها عن الاستحباب كالنصوص - لجريها على بيان مضمونها - لم يتجه منهم المفروغية ودعوى الإجماع المذكورتان، خصوصاً في مثل هذه المسألة العملية الشايعة الابتلاء، بل كان المناسب البناء أو الإجماع على الوجوب بعد تطابق ظاهر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 3.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 2، 4.

ص: 159

(160)

ما يتيمم به من ربى الأرض وعواليها، ويكره أن يكون من مهابطها (1)،

النصوص وفتاوى قدماء الأصحاب عليه، لا الخلاف في استحباب النفض أو حرمته لاحتمال وجوب المسح بالتراب العالق بالكفين.

على أن ذلك قد يكون مقتضى الجمع بين النصوص، لخلو أكثرها عن التعرض للنفض، مع أن الغالب هو التيمم بالتراب ونحوه مما يعلق بالكف فلو كان النفض واجباً للزم التنبيه عليه، فقد يكون ظهور إغفاله في عدم وجوبه أقوى من ظهور الأمر به في بعض النصوص وفعله في بعضها في الوجوب.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في حمل النصوص على الاستحباب. بل قد يحتمل حملها على مجرد الرخصة شرعاً، لتجنب تتريب الوجه المرغوب عنه نفسياً لدفع توهم وجوب المسح بالعالق. وإن كان هو خلاف ظاهر الأمر في النصوص المذكورة بدواً. فلاحظ.

ثم إن الظاهر عدم الخصوصية للنفض، بل إنما يراد به إزالة التراب العالق بالكفين، فلا يكفي مسمى النفض بدونه، كما يقوم مقام النفض كل ما يحقق ذلك كمسح أحدى اليدين بالأخرى أو ضربها بها، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في موثق زرارة في حكاية تيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):" فضرب بيديه على الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرى ثم مسح بجبينه..."(1).

وكأن ما في النهاية والمبسوط من الجمع بين نفض اليدين ومسح إحداهما بالأخرى يبتني على التأكد من زوال التراب العالق بالكفين، وإلا فلا شاهد له من النصوص، ولذا قال المحقق في نكت النهاية: "أما الجمع بين الأمرين فلا أعرفه".

(1) إجماعاً، كما في الخلاف والمعتبر. كما ادعى الإجماع على الثاني في التذكرة وجامع المقاصد، ونبّه غير واحد على عدم تفريق العامة بين الأمرين، بنحو يظهر منه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 9.

ص: 160

وأن يكون من تراب الطريق (1).

أنه من متفردات الإمامية. قال في المعتبر: "والوجه أن العوالي يغسلها السيول فهي أبعد عن ملاقاة النجاسات. ويؤيده النقل عن أهل البيت وإن ضعف سنده" .وتبعه في التعليل المتقدم في التذكرة وجامع المقاصد وكشف اللثام وغيرها.

وأما النقل فكأن المراد به ما ذكره الصدوق (قدس سره) قال: "وقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: الصعيد الموضع المرتفع والطيب [الموضع] الذي ينحدر عنه الماء" (1) ونحوه الرضوي(2). ولو تم يتعين حمل الأمر بالتيمم بالصعيد الطيب على بيان أفضل الأفراد. هذا وأما الاستدلال عليه بما يأتي في الأمر اللاحق فهو ظاهر الوهن.

(1) لخبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) لا وضوء من موطأ. قال النوفلي: يعني ما تطأ عليه برجلك"(3). وفي خبره الآخر عنه (عليه السلام):" نهى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يتيمم الرجل بتراب من أثر الطريق"(4).

********

(1) معاني الأخبار [باب معنى المحاقلة والمزابنة والعرايا...] ص: 269 طبع النجف الأشرف.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التيمم حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 6 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 161

ص: 162

(163)

الفصل الثالث: كيفية التيمم أن يضرب بيديه على الأرض (1)،

(1) فلا يكفي تعريض الأعضاء للتراب من دون الاستعانة باليدين قطعاً، كما يظهر من النصوص والفتاوى المفروغية عنه. وعن المقاصد العلية نقل الاتفاق على أنه لو تعرض لمهب الريح لم يصح تيممه.

كما لا يكفي أخذ التراب باليدين من الأرض أو من الريح أو غيرها من دون وضعهما على الأرض. لظهور النصوص البيانية وغيرها في لزوم وضعهما عليها أو ضربهما عليها، بل المفروغية عنه.

وكذا الحال في كلمات الأصحاب. بل في جامع المقاصد والمدارك الإجماع عليه.

فما عن العلامة في نهاية الأحكام من أنه قرب الاجتزاء بأخذ التراب من الريح والمسح به لا يلتفت إليه. وأشكل من ذلك ما عنه من جواز الحدث بعد الضرب. ويأتي عند الكلام في اشتراط النية في التيمم ما ينفع في المقام.

وإنما الكلام في أمرين:

الأمر الأول: هل يعتبر ضرب الأرض أو يكفي مطلق الوضع والمماسة لها؟ فالأول صريح المدارك وعن المقاصد العلية وغيره وظاهر كل من عبر بالضرب، وهو الأكثر كما في مفتاح الكرامة، والمشهور كما في كشف اللثام، وفي الذكرى أن عليه معظم عبارات الأصحاب. والثاني قد يكون مقتضى إطلاق الوضع في المبسوط والنهاية والشرايع والقواعد ومحكي الجامع.

ص: 163

ولعله لاختلاف الأخبار، حيث تضمنت أكثر النصوص البيانية وغيرها التعبير بالضرب(1). كما تضمنت جملة من النصوص الحاكية لتيممهم (عليهم السلام) في مقام التعليم بالوضع، ففي صحيح داود بن النعمان: "فقلنا له: فكيف التيمم؟ فوضع يديه على الأرض ثم رفعهما..."(2) ، ونحوه غيره.

لكن في جامع المقاصد:" واختلاف الأخبار وعبارات الأصحاب في التعبير بالضرب والوضع يدل على أن المراد بهما واحد، فلا يشترط في حصول مسمى الضرب كونه بدفع واعتماد، كما هو المتعارف ".ويشكل بأن ذلك خروج عن ظاهر الضرب في كلام من عرفت.

نعم لا يبعد ذلك فيمن سبق منه التعبير بالوضع لأنه عبر بالضرب أيضاً في مطاوي كلامه، فلا يبعد حمل الوضع في كلامه على خصوص الضرب. وإن أبيت عن ذلك تعين البناء على كون الخلاف حقيقياً عملياً كما يظهر من الذكرى.

ومنه يظهر الحال في النصوص، فإنه حيث كان الضرب أخص من الوضع تعين حمل نصوص الثاني على نصوص الأول، والبناء على وجوب الضرب، كما هو ظاهر المشهور. ولاسيما وأن أكثر نصوص الوضع قد تضمنت حكاية فعل المعصوم (عليه السلام)، كصحيح داود المتقدم، وهو مجمل لإمكان حصول الضرب منه عليه السلام وقد عبر الراوي بما هو أعم منه وهو الوضع.

نعم في صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) الحاكي لقصة عمار وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له:" أفلا صنعت كذا؟ ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد..."(3) ، فإن التعبير بذلك لما كان في كلام الإمام (عليه السلام) كان ظاهراً في إجزاء مضمونه، لوروده في مقام بيان ما هو المشروع. إلا أنه قد يحمل على خصوص الضرب بقرينة قوله (عليه السلام): "ثم أهوى" الظاهر في سرعة إنزال اليدين. ولاسيما مع تعبيره (عليه السلام)

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11، 12 من أبواب التيمم.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 4، 8.

ص: 164

بالضرب في حكاية نفس الواقعة في موثقه المروي من مستطرفات السرائر(1) المتقدم في آخر الكلام في النفض.

لكن قرب في الدروس الاكتفاء بالوضع وعدم اعتبار الاعتماد، ونحوه في الذكرى قال: "والظاهر أنه غير شرط، لأن الغرض قصد الصعيد، وهو حاصل بالوضع" .وكأنه يشير إلى إطلاق قوله تعالى: "فتيمموا صعيداً طيباً"(2).

وهو كما ترى، لأن الإطلاق المذكور كما لا يقتضي خصوصية الضرب لا يقتضي خصوصية الوضع، بل مقتضاه الاكتفاء بأخذ التراب باليد، وكما لزم تقييده بنصوص الوضع يلزم تقييده بنصوص الضرب التي هي أخص.

ونحوه ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن الضرب مطابق للوضع، وخصوصية الدفع والاعتماد مستفادة منه بقرائن خارجية مفقودة في المقام، للقطع بعدم دخله هنا.

إذ فيه: أن الاختلاف بين الأمرين مفهوماً مع كون الضرب أخص ليس مورداً للإشكال. ولاسيما مع اختلافهما في اللزوم والتعدية. وأما القطع بعدم دخل الخصوصية المذكورة، فهو غير حاصل لنا. ولاسيما بملاحظة أن عدم دخل خصوصية الضرب ليس بأولى من عدم دخل خصوصية أصل الوضع والاكتفاء بمجرد مماسة اليدين للتراب ولو بتناوله له بهما، ولا يظن به الاكتفاء بذلك. ومن هنا لا مخرج عما سبق.

الأمر الثاني: أن المعروف لزوم الضرب بكلتا اليدين، وفي الجواهر:" إجماعاً محصلاً ومنقولاً "،وعن مجمع الفائدة أنه ظاهر كلام الأصحاب، وفي المدارك وعن إرشاد الجعفرية الإجماع عليه.

لكن في كشف اللثام أنه المشهور. وكأنه لما في التذكرة من احتمال الاجتزاء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 9.

(2) سورة النساء الآية: 43، سورة المائدة الآية: 6.

ص: 165

بالمسح بكف واحدة، وعن نهاية الأحكام من الإشكال في ذلك، حيث يظهر منهما احتمال الاجتزاء بالضرب بكف واحدة.

ويشهد للأول النصوص الكثيرة(1) المتضمنة وضع اليدين معاً. وما تضمنته بعضها من إفراد اليد محمول على الجنس بقرينة ما تضمنه من مسح اليدين معاً ففي موثق زرارة:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن التيمم، فضرب بيده الأرض، ثم رفعها فنفضها، ثم مسح بها جبينه وكفيه مرة واحدة"(2) ، ونحوه غيره.

وأما روايته لها في التهذيب هكذا: "فضرب بيده اليمنى الأرض" (3) فلا مجال للتعويل عليه مع ما تضمنه من مسح اليدين بها معاً. ولاسيما مع روايته لها في الاستبصار هكذا: "فضرب بيديه على الأرض، ثم رفعهما فنفضهما، ثم مسح على جنبيه"(4). ومع أنه رواها فيهما بسنده عن الكليني، والموجود في الكافي كما ذكرناه أولاً.

نعم في صحيح أبي أيوب الخزاز عن أبي عبد الله (عليه السلام):" فقلت له: كيف التيمم؟ فوضع يده على المسح ثم رفعها فمسح وجهه، ثم مسح فوق الكف قليلاً"(5). لكن حيث لا إشكال في لزوم مسح كلا الكفين، فالظاهر إرادة ضربهما معاً وإفراد اليد محمول على إرادة الجنس أيضاً ولاسيما بقرينة النصوص الأخر. ولا أقل من إجماله، فلا يخرج به عن بقية النصوص. ومثله قوله (عليه السلام) في معتبر زرارة المتقدم: "فليتيمم يضرب بيده على اللبد أو البرذعة ويتيمم ويصلي"(6). ولاسيما مع عدم وروده في بيان كيفية التيمم، بل في بيان ما يتيمم به عند الضرورة.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11، 12 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 3.

(3) التهذيب ج: 1 ص: 211.

(4) الاستبصار ج: 1 ص: 171.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 166

(167)

وأن يكون دفعة واحدة (1) على الأحوط وجوباً، وأن يكون بباطنهما (2)

(1) وفي الحدائق أنه ظاهر الأخبار وكلام الأصحاب. وفي جامع المقاصد:" لأن المفهوم من: أهوى بيديه، وتضرب بكفيك، كونهما دفعة "وما ذكره غير بعيد، إذ الباء لما كانت للآلة فالمنصرف من أمثال التعبير المذكور كونها لبيان آلة الضرب الواحد، ووحدة الضرب بالكفين لا تكون إلا بالدفعة. ولا أقل من الإجمال فيلزم الاحتياط، كما ذكرناه في نظائر المقام من موارد الشك في المحصل.

ودعوى: أنه مع الإجمال يتعين الرجوع إلى إطلاق الآية المقتضى للاجتزاء بالمسح من دون اعتبار الضرب، ويقتصر في تقييده على المتيقن وهو أصل الضرب بالكفين، من دون اعتبار الدفعة.

مدفوعة بأن الآية الشريفة وإن كانت ظاهرة بدواً في شرح التيمم بتمامه، إلا أن الجمع عرفاً بينها وبين النصوص المتعرضة للضرب ليس بتقييدها بالنصوص المذكورة، بل بحملها على بيان جزء التيمم وهو المسح وحمل النصوص على بيان الجزء الآخر، وهو الضرب، فمع إجمالها من حيثيته لا مجال للرجوع إلى إطلاق الآية، لعدم شرحها للتيمم من حيثيته. فلاحظ.

(2) كما في المقنعة وجامع المقاصد وعن المرتضى وأبي يعلى والعجلي والشهيد وغيرهم وفي الذكرى:" لأنه المعهود من الوضع والمعلوم من عمل صاحب الشرع ".وقال سيدنا المصنف (قدس سره):" بل عن بعض المحققين: أنه وفاقي، وعليه عمل المسلمين في الأعصار والأمصار من دون شك".

والعمدة فيه: أن التيمم من سنخ الأعمال، فالظاهر إضافته إلى اليد كون المراد بها الباطن، لأنه المتعارف في العمل دون الظاهر. ومن هنا كان هو المنصرف من إطلاق الأصحاب، ومن النصوص البيانية وغيرها. ولاسيما قوله (عليه السلام) في صحيح الكاهلي الوارد في بيان التيمم:" ثم مسح كفيه إحداهما على ظهر الأخرى"(1). فإن التنبيه على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 167

(168)

ثم يمسح بهما جميعاً (1)

ظهر الكف في الممسوح وإطلاق الماسح ظاهر في إرادة الباطن منه.

بل لما كان الضرب والمسح بالظاهر خارجاً عن المتعارف مبنياً على نحو من العناية فعدم تنبيه الرواة عليه في النصوص البيانية موجب لظهور إطلاقهم اليد في إرادة الباطن، وحيث كانت هذه النصوص واردة لبيان التيمم فظاهرها وجوب الكيفية المذكورة وحينئذٍ تنهض بتقييد إطلاق الضرب لو تم. كما ينهض بإثبات المدعى صحيح المفضل بن عمر الآتي في فصل شروط التيمم عند الكلام في تحديد مبدأ النية. ولو فرض الشك كفى الأصل، بناء على ما سبق في اعتبار الدفعة.

(1) كما هو ظاهر كثير من عبارات الأصحاب، وفي التذكرة أنه الأظهر من عباراتهم، وفي الجواهر: "هو المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، بل لعله مجمع عليه".

ويقتضيه جملة من النصوص البيانية وغيرها، ففي صحيح ليث عن أبي عبد الله (عليه السلام) في التيمم: "قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين، ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك"(1). وبهما يخرج عن إطلاق المسح في الآيتين الشريفتين.

بل قد يدعى أن المنصرف من إطلاق المسح في الآيتين هو مسح الوجه واليدين بالصعيد نفسه، نظير الغسل بالماء، فدلالة النصوص على وجوب مسحهما باليدين بعد حملهما لأثره الخارجي أو المعنوي تكشف عن أن الآيتين الشريفتين واردتان لبيان أصل وجوب المسح من دون نظر لكيفيته، ليكون لهما إطلاق من هذه الجهة وتكون النصوص من سنخ المقيد لهما يرجع إليه عند الشك، بل يكون المرجع معه الأصل الذي تكرر غير مرة أنه يقتضي الاحتياط. فتأمل جيداً.

وكيف كان فقد احتمل في التذكرة ومحكي نهاية الأحكام الاجتزاء بالمسح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 168

تمام جبهته (1)

بواحدة، بل عن الأردبيلي في مجمع البرهان استظهاره، وظاهر المدارك التوقف. وكأنه لإفراد اليد في بعض النصوص المتقدمة عند الكلام في وجوب الضرب باليدين معاً. لكن سبق أنها محمولة على إرادة الجنس، فلا تنهض برفع اليد عن النصوص السابقة.

هذا وعن ابن الجنيد لزوم المسح باليمنى مستدلاً - كما في المختلف - بأن الغسل في الوضوء باليمنى، فكذا يكون المسح بها في التيمم. وهو كما ترى قياس لا ينهض بنفسه دليلاً، فضلاً على أن يخرج به عما سبق. على أن المقيس عليه ممنوع كما تقدم.

نعم تقدم في موثق زرارة على رواية التهذيب:" فضرب بيده اليمنى الأرض ثم رفعها فنفضها ثم مسح بها جبينه وكفيه مرة واحدة ".لكن تقدم عدم التعويل على ذلك. على أن مقتضى الجمع بينه وبين بقية النصوص التخيير لا تعين اليمنى، كما هو ظاهر ما تقدم عن ابن الجنيد من الاستدلال. نعم نسب له بعضهم الاكتفاء بالمسح بها.

(1) إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً بل متواتراً. كذا في الجواهر. وفي المستند أنه محل وفاق بين المسلمين، بل هو ضروري الدين. وفي كشف اللثام:" وادعى الحسن تواتر الأخبار بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حين علم عماراً مسح بهما جبهته وكفيه ".وفي جامع المقاصد:" ومسح الجبهة من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى - والذي يلي آخر الجبهة - متفق على وجوبه بين الأصحاب. والأخبار الكثيرة دالة عليه مثل قول أبي جعفر (عليه السلام) في موثق زرارة: ثم مسح جبهته وكفيه مرة واحدة".

لكن الجبهة لم ترد إلا في الموثق المذكور(1) على رواية التهذيب والاستبصار بسنده عن الحسين بن سعيد. مع أنه روى فيهما بسنده عن الكليني ما يقارب الحديث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 169

المذكور، وفيه:" جبينه "،كما أن الموجود في الكافي:" جبينيه ".ومن القريب جداً كونهما حديثاً واحداً - كما ادعاه غير واحد - لتقارب لسانهما، ولاشتراكهما في الإمام المروي عنه (عليه السلام)، وفي ثلاثة من رجال السند البزنطي وابن بكير وزرارة.

وأما بقية النصوص فكثير منها قد تضمن المسح على الوجه، وأما الباقي فقد تضمن الجبين أو الجبينين على اختلاف نسخ الأحاديث، حيث لم أعثر على حديث تتفق نسخه أو رواياته في ذلك، فقد تقدم اختلاف موثق زرارة برواية الكليني بين التهذيبين والكافي، كما أن صحيح عمرو بن أبي المقدام روي في الوسائل عن الشيخ هكذا:" ثم مسح على جبينيه..."(1) ، والموجود في الطبعة الحديثة من التهذيبين هكذا: "ثم مسح على جبينه" وصحيح زرارة رواه في الوسائل عن الفقيه بالوجهين(2) والموجود في الطبعة الحديثة من الفقيه: "جبينيه" ،وصحيحه الآخر رواه في الوسائل عن مستطرفات السرائر هكذا: "ثم مسح بجبينه" (3) والموجود في الطبعة الحجرية من السرائر: "بجبينيه".

وكأن الأصحاب فهموا من الجميع مسح الجبهة، لأن الجبين وإن أطلق على جانب الجبهة فالجبينان جانباها، إلا أنهما قد يطلقان أيضاً عليها أو على ما يعمها.

ففي لسان العرب: "والجبين فوق الصدغ. وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها. ابن سيدة: والجبينان حرفان مكتنفا الجبهة من جانبيها فيما بين الحاجبين مصعداً إلى قصاص الشعر. وقيل: هما ما بين القصاص إلى الحجاجين(4). وقيل: حروف الجبهة ما بين الصدغين(5) متصلاً عدا الناصية. كل ذلك جبين واحد. قال: وبعض يقول: هما جبينان. قال الأزهري وعلى هذا كلام العرب. والجبهتان الجبينان".

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 6، 8، 9.

(4) الحجاجين: منبت الحاجبين.

(5) الصدغ ما انحدر من الرأس إلى مركب اللحيين. وقيل: هو ما بين العين والأذن. وقيل: الصدغان ما بين لحاظي العينين إلى أصل الأذن... ويسمى أيضاً الشعر المتدلي عليه صدغاً. لسان العرب.

ص: 170

وجبينيه (1)

وفي القاموس: "والجبينان حرفان مكتنفا الجبهة من جانبيها فيما بين الحاجبين مصعداً إلى قصاص الشعر. أو حروف الجبهة ما بين الصدغين متصلاً بحذاء الناصية كله جبين".

وعليه ما ورد في موثق عمار: "قال علي (عليه السلام): لا تجزي صلاة لا يصيب الأنف ما يصيب الجبين"(1) ، وفي صحيح عبد الله بن المغيرة:" لا صلاة لمن لم يصب الأنف ما يصيب جنبيه"(2). وما تضمن من النصوص رشح الجبين عند الموت(3) ، حيث لا يراد منه إلا رشح الجبهة. وقول زهير.

وانصره بمطرد الكعوب *** يقيني بالجبين ومنكبيه

ولو غض النظر عن ذلك فوجوب مسح الجبين أو الجبينين يستلزم مسح الجبهة، لأنه لا يراد به مسحه وحده، أو مسح الجبينين وحدهما، لأنه المنصرف من مسح الوجه الذي تضمنته الآيتان وأكثر النصوص، لكونه في جانبه وخروج أكثره عنه، بل مقتضى الجمع بين الجميع إرادة مسح الجبينين متصلاً بالجبهة، ويكون إغفال الراوي لها للمفروغية عنها. وكأن ما في الفقيه والهداية من الاقتصار على ذكر الجبينين والحاجبين مبني على أحد الوجهين المذكورين ويأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. فلاحظ.

(1) كما في جامع المقاصد وكشف اللثام والمدارك وعن مجمع البرهان وغيرها، بل عنه أنه المشهور. وفي كشف اللثام: "ويمكن أن يدخل في مقصود الأكثر" .وكأنه لتعبير جماعة بمسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف كما في المقنعة وجمل العلم والعمل والمبسوط والنهاية وإشارة السبق والغنية والمراسم والوسيلة والسرائر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 4 من أبواب السجود حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 4 من أبواب السجود حديث: 7.

(3) الكافي ج: 3 ص: 130، 134، 135.

ص: 171

وعن ابن سعيد وغيره، بل في أمالي الصدوق أنه مضى عليه مشايخنا (قدس سرهم)(1). بل ربما يدعى أنه مراد من اقتصر على ذكر الجبهة - كالفاضلين والشهيدين وغيرهما، بل نسب لأكثر المتأخرين - كما قربه في الجواهر، لقرائن يأتي التعرض لها.

وقد استدل عليه بالنصوص المتضمنة للجبينين، بل للجبين أيضاً بعد القطع بعدم إرادة مسح جبين واحد. فإن المراد من هذه النصوص إما مسح جانبي الجبهة، ويكون مسح الجبهة مستفاداً بالتبع، كما سبق، أو من الإجماع. أو ما يعم مسح الجبهة، لأن المراد بالجبين أو الجبينين ما يعمها وجانبيها.

لكن استفادة ذلك ممن أطلق مسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف لا يخلو عن إشكال، لأن قصاص الشعر عرفاً منبته من جانب الجبهة، لا من تمام الوجه. وهو الأظهر في اللغة قال في لسان العرب: "وقصاص الشعر... نهاية منبته ومنقطعه على الرأس في وسطه. وقيل قصاص الشعر حدّ القفا. وقيل: هو حيث تنتهي نبتته من مقدمه ومؤخره. وقيل: قصاص الشعر نهاية منبته من مقدم الرأس ويقال: هو ما استدار به كله من خلف وأمام وما حواليه" .وفي القاموس: "وقصاص الشعر حيث تنتهي نبتته من مقدمه ومؤخره" .ونحوه في مجمع البحرين. ويناسبه تسمية الناصية بالقصة.

كما يناسب ذلك تحديدهم الأسفل بطرف الأنف، لا ما يستدير إلى الصدغين حيث يظهر من ذلك اختصاص المحدود بالجبهة. وهو المناسب أيضاً لقوله (عليه السلام) في موثق عمار: "ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد"(2).

وأشكل من ذلك استفادته ممن خص المسح بالجبهة. فإن القرائن التي ذكره

********

(1) قال":"فإذا أراد الرجل أن يتيمم ضرب بيديه على الأرض مرة واحدة، ثم ينفضهما، فيمسح بهما وجهه، ثم يضرب بيده اليسرى الأرض، فيمسح بها يده اليمنى من المرفق إلى أطراف الأصابع، ثم يضرب بيمينه الأرض فيمسح بها يساره من المرفق إلى أطراف الأصابع. وقد روي أن يمسح الرجل جبينه وحاجبيه ويمسح على ظهر كفيه. وعليه مضى مشايخنا" ".

(2) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 9 من أبواب السجود حديث: 4.

ص: 172

في الجواهر ترجع إلى أنه يظهر عدم الخلاف بينهم وبين من اقتصر على الجبين أو الجبينين، واستدلالهم على الجبهة بنصوص الجبين، وعدم توجههم لعلاج التعارض بين نصوص الجبهة ونصوص الجبين، فإنه استظهر من ذلك كله أن مرادهم بالجبهة ما يعمّ الجبينين.

وهو كما ترى، إذ كما يمكن ابتناء كلامهم على ذلك يمكن ابتناؤه على حمل الجبين والجبينين على الجبهة، كما يناسبه ما تقدم من لسان العرب وغيره. بل لا يعهد استعمال الجبهة فيما يعم الجبينين لا عرفاً ولا لغة.

ومن هنا يشكل إثبات القول بوجوب مسح الجبينين مع الجبهة قبل جامع المقاصد. إذ لم يصرح بالجبينين إلا الصدوق في الفقيه والهداية وعن الكاتب وظاهر العماني. وحمل كلامهم على خصوص الجبهة غير عزيز، لما تقدم.

ولاسيما مع ما تقدم من الصدوق من تخصيص المنتهى بالحاجبين دون ما يحاذيهما عرضاً في جانبي الوجه، ومع قوله في المقنع:" امسح بهما بين عينيك أسفل حاجبيك ".بل ظاهر المحكي عن الكاتب، حيث قال:" ومهما وصلت إليه من الوجه أجزأ من غير أن يدع جبينه وموضع سجوده "،إذ يقرب جداً كون عطف موضع السجود تفسيرياً، ولاسيما وفي أحدى نسختي المختلف في نقل كلامه جبهته بدل جبينه، كما أن ذلك هو ظاهر العماني أيضاً بقرينة ما تقدم عنه من تواتر الأخبار في تيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين علم عماراً بمسح جبهته.

ومن ذلك يتضح أن الأصحاب (رضي الله عنهم) فهموا من نصوص الجبين والجبينين الجبهة، وهو مبني على ما تقدم. بل هو الظاهر من النصوص المذكورة بعد العلم بعدم إرادة مسح جانبي الجبهة أو أحدهما فقط، لأن استعمالهما في مجموع الجبهة وجانبيها بعيد جداً، ولا شاهد له من اللغة.

وأما ما تقدم من لسان العرب، فهو ظاهر في إرادة استعماله في خصوص الجبهة. إلا أن يراد بالصدغين الشعر المتدلي إلى العذار، حيث يكون العموم مستفاد

ص: 173

من قوله المتقدم:" وقيل حروف الجبهة ما بين الصدغين متصلاً عدا الناصية ".لكنه بعيد عن مساق كلامه المتقدم جداً، حيث يظهر من صدره أن الجبين ما بين العين والأذن. وحينئذ فما بين الجبينين ليس إلا الجبهة. ولاسيما وأن ظاهر ما تقدم منه في تفسير الصدغين أن إطلاقهما على الشعر بتبع إطلاقهما على ما تدلى عليه بل حيث ذكر ذلك في حروف الجبهة فظاهره إرادة أطرافها البارزة منها، وخصوصاً مع ما سبق من عدم معهودية إطلاق الجبهة على ما يعم الجانبين، حيث يتعين في كلامه المذكور إرادة أن الجبين مطابق للجبهة بمعناها المعهود، لا الأعم منه ومن الجانبين.

وأما حمل النصوص على إرادة الجانبين فقط، مع إغفال الراوي للجبهة للمفروغية عنها. فهو وإن تقدم منا احتمالاً، إلا أنه بعيد جداً عن ظاهر الكلام.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من حمل النصوص المذكورة على بيان الحدّ العرضي دون الطولي، ويكون بيانه ببيان طرفيه، مع المفروغية عن المتوسط بينهما، وهو الجبهة.

إذ فيه: أن قوة ظهور النصوص في إرادة تمام الممسوح غير قابلة للإنكار، خصوصاً مع كونها بيانية حاكية لما وقع من تيممهم (عليهم السلام) في مقام التعليم، ولا ملزم بتكلف ذلك بعد إمكان حمل الجبين على خصوص الجبهة الذي هو أحد معنييه، الذي شاع استعماله فيه، وقد فهمه الأصحاب منه، كما تقدم.

على أن حمل النصوص على الجبين بالمعنى المقابل للجبهة مستلزم لكون المسموح عرضاً في التيمم أوسع من المغسول في الوضوء، لوضوح أن ما بين الإبهام والوسطى الذي يجب غسله في الوضوء لا يستوعب الجبينين بالمعنى الأول المتقدم من لسان العرب، بل يسع بعضهما لا غير.

وهو مما تأباه الآيتان ونصوص التيمم المتضمنة للوجه جداً، خصوص

ص: 174

قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة:" فلما أن وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل مسحاً، لأنه قال: بوجوهكم"(1). كما تأباه كلمات جماعة من الأصحاب، حيث ذكروا في ردّ القول بوجوب مسح تمام الوجه أن التيمم مبني على التخفيف. نعم بناء على ما يأتي من سيدنا المصنف (قدس سره) في المسألة الرابعة والعشرين في تحديد الجبين لا مجال للإشكال المذكور.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد ملاحظة جميع ما تقدم في الجبين في حمل النصوص على خصوص الجبهة. ولأجله يقرب كون منشأ اختلاف النصوص في تثنية الجبين وإفراده وإبداله بالجبهة هو النقل بالمعنى أيضاً، لا اختلاف الروايات أو خطأ النسخ فقط.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا موجب لما تكلفه في الحدائق في توجيه ما عليه الأصحاب من الاقتصار على الجبهة من حمل نصوص الجبين عليها مجازاً للمجاورة. فإن المجاز المذكور بعيد جداً مع عدم القرينة المتصلة، بل يظهر مما تقدم أن الاستعمال المذكور ليس مجازياً. فلاحظ.

هذا والمنقول عن الصدوق الأول وجوب مسح تمام الوجه. قال في الذكرى: "وفي كلام الجعفي إشعار به" وهو الذي ذكره الصدوق الثاني في الأمالي فيما تقدم من كلامه، ونسبه في المقنع للرواية بعد أن اختار ما تقدم من مسح ما بين العينين إلى الحاجبين.

وقد يستدل له بالنصوص الكثيرة المتضمنة مسح الوجه. ولاسيما صحيح ليث عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في التيمم قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك"(2). وموثق سماعة:" سألته عن التيمم فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين(3). فإن مسح الذراعين يناسب كون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 175

الممسوح في التيمم تمام المغسول في الوضوء.

كما هو صريح صحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التيمم فضرب بكفيه الأرض ثم مسح بها وجهه، ثم ضرب بشماله الأرض، فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع، واحدة على ظهرها، وواحدة على بطنها، ثم ضرب بيمينه الأرض، ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه. ثم قال: هذا التيمم على ما كان فيه الغسل وفي الوضوء الوجه واليدين إلى المرفقين وألقى [وأبقى] ما كان عليه مسح الرأس والقدمين فلا يؤمم بالصعيد"(1).

وكأن الصدوقين (قدس سرهما) اعتمدا على هذه النصوص، حيث أفتيا بمضمونها في الوجه واليدين أيضاً، كما نسبه في السرائر إلى بعض أصحابنا.

لكن لا مجال للتعويل عليها في مقابل النصوص الكثيرة المصرحة بمسح الجبهة أو الجبين، والأكثر منها التي اقتصر فيها على مسح الكفين. ولاسيما مع ترجحها بموافقتها لظاهر الكتاب لمكان الباء، كما أشير إليه في صحيح زرارة عن أبي جعفر(2) (عليه السلام)، وبمخالفة العامة، على ما حكاه عنهم غير واحد.

مضافاً إلى أن اشتهار النصوص المذكورة رواية وعملاً، وقلة النصوص الأول، بل ندرة صحيح محمد بن مسلم، كما في المعتبر وإلى هجر النصوص عملاً، حيث لم يعرف العمل بهما إلا ممن سبق. ولاسيما مع اقتصار الصدوق الثاني في ذلك على خصوص الأمالي و على اضطراب في كلامه، كما تقدم. ومن هنا يتعين طرح النصوص الأول، أو حملها على التقية، كما ذكره الشيخ وغيره.

هذا وربما تجمع بين الطائفتين بالبناء على التخيير - كما في المعتبر واستحسنه في المدارك - أو على الاستحباب، كما استحسنه في الذكرى واحتمله في الروض والمدارك أيضاً. وكذا في المنتهى ومحكي كشف الرموز، لكن في خصوص اليدين. إلا أنه بعيد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 176

(177)

من قصاص الشعر إلى الحاجبين والى طرف الأنف الأعلى (1) المتصل بالجبهة، والأحوط مسح الحاجبين أيضاً (2)،

جداً عن مساق النصوص بمجموعها، كما قد يظهر بالتأمل.

وأما النصوص التي أطلق فيها مسح الوجه مع الكفين فيسهل حملها بقرينة نصوص الجبين ونحوها على إرادة مسحه في الجملة بالمقدار المعهود منه، وهو خصوص الجبهة.

(1) كما قيده به غير واحد. والمراد به ما يلي الجبهة. ويقتضيه ما تقدم. وما عن الجعفرية وحاشية الإرشاد من أنه لو نزل حتى بلغ المارن كان أولى. غير ظاهر الوجه. وأشكل منه ما عن بعضهم من لزوم مسحه.

(2) فقد تقدم من الصدوق في الفقيه والهداية الفتوى بذلك. قال في الذكرى بعد أن حكى ذلك عنه:" ولا بأس به ".واختاره في جامع المقاصد، وتقدم من أمالي الصدوق أنه الذي مضى عليه المشايخ. بل مقتضى قول العلامة في المنتهى:" لا يجب مسح ما تحت شعر الحاجبين بل ظاهره، كالماء "المفروغية عنه. وهو المناسب لتحديدهم الممسوح بطرف الأنف لوضوح أنه أسفل من الحاجبين.

بل قد يستظهر ممن عبر بالجبهة، بناء على أنها مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية، كما عن الخليل وذكره غير واحد قولاً، بل اقتصر عليه بعضهم. وأما تعريفها بأنها موضع السجود فمن الظاهر عدم كونه حقيقياً.

هذا ويظهر مما تقدم أن اللازم مسح عظم الجبهة بتمامه منحدراً للأسفل، ومسح الحاجب إنما يجب بالمقدار الذي يستلزم ذلك، دون ما قد ينزل عن ذلك كما قد يتفق لبعض من يغلظ حاجباه.

لكن قد يظهر من الروض التوقف، لاقتصاره على نقله عن بعض من سبق. بل في الروضة أن ما يجب مسحه منهما ما يتوقف عليه من باب المقدمة، وإلا فل

ص: 177

(178)

ثم مسح تمام ظاهر (1)

دليل، وعن الكفاية أن المشهور عدم وجوب مسحهما. ومقتضاه خروجهما عن الجبهة بتمامهما. وهو في غاية المنع.

(1) كما هو ظاهر الأصحاب أو صريحهم، المدعى عليه إجماعهم. للنصوص الكثيرة المتضمنة مسح الكفين(1).

لكن في السرائر: "وقد ذهب قوم من أصحابنا إلى المسح على اليدين من أصول الأصابع إلى رؤوس الأصابع" .وكأنه لصحيح حماد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه سئل عن التيمم فتلا هذه الآية:" والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "،وقال:" فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق "قال: فامسح على كفيك من حيث موضع القطع. وقال: وما كان ربك نسياً"(2). لأن موضع القطع هو أصول الأصابع. وربما ينزل عليه قوله في صحيح أبي أيوب:" ثم مسح فوق الكف قليلاً "(3) وفي صحيح داود بن النعمان:" فمسح وجهه ويديه وفوق الكف قليلاً"(4). بحمل قوله (عليه السلام): "قليلاً" على بيان الممسوح من الكف، لا مما زاد عليها.

لكن الأول ضعيف في نفسه بالإرسال غير ظاهر الانجبار بعمل الأصحاب، إذ لو تمت النسبة فمن القريب ندرة القائل بذلك، بعد ما سبق من الأصحاب. والصحيحان إن لم يكونا ظاهرين في مسح ما زاد على الكف بدواً، ولاسيما الثاني منهما، فلا أقل من لزوم حملهما على ذلك بقرينة النصوص الكثيرة الظاهرة في مسح تمام الكفين، والتي يصعب جداً تنزيلها على بعضهما، ولاسيما خصوص الأصابع. على أنه لا مجال للخروج عما عليه جمهور الأصحاب، تبعاً لظاهر النصوص الكثيرة،

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 178

الكف اليمنى (1) من الزند إلى أطراف الأصابع بباطن الكف اليسرى (2)، ثم مسح تمام ظاهر الكف اليسرى كذلك بباطن الكف اليمنى.

في مثل هذه المسألة التي يكثر الابتلاء بها ويمتنع عادة خفاء الحكم فيها.

(1) الاقتصار على الكفين هو المعروف من مذهب الأصحاب المدعى عليه الإجماع في كلام غير واحد. ويشهد به النصوص الكثيرة. وعليها يحمل إطلاق المسح على اليدين في خبر زرارة(1). خلافاً للصدوق الأول وولده في الأمالي، فقد تقدم عنهما عند الكلام في مسح الوجه الحكم باستيعاب اليدين ظاهرهما وباطنهما للمرفقين. وتقدم الكلام في دليليهما، وضعفه.

كما أنهم صرحوا بأن المسح لظاهر الكفين دون باطنهما، بل هو معقد الإجماعات المشار إليها. ويقتضيه قوله (عليه السلام) في صحيح الكاهلي: "ثم مسح كفيه إحداهما على ظهر الأخرى"(2). كما قد يظهر عدم وجوب مسحهما معاً من قوله (عليه السلام) في موثق زرارة:" ثم مسح جبينيه وكفيه مرة واحدة"(3) ، وفي صحيح عمرو بن أبي المقدام: "ومسح على جبينيه وكفيه مرة واحدة"(4).

هذا وفي المقنع:" ثم تدلك أحدى يديك بالأخرى فوق الكف قليلاً ".وفي الفقيه في بيان تيمم الجنب:" ومسح على ظهر يديه فوق الكف قليلاً ".وكأن الزيادة على الكف مستحبة، أو مقدمة علمية، لأنه (قدس سره) في الفقيه لم يسبق منه ذكر الرواية المتضمنة لذلك، بل الرواية المتضمنة لمسح الكف لا غير.

وكيف كان فهو مقتضى الجمع بين النصوص المتضمنة المسح على الكف أو على ظهرها وما تقدم في صحيحي أبي أيوب وداود بن النعمان. نعم لم يتضح وجه ما في الفقيه من اقتصاره على ذلك في تيمم الجنب، دون التيمم بدل الوضوء.

(2) يستفاد كون المسح بباطن الكف مما تقدم من لزوم الضرب به.

********

(1و2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 7، 1، 3، 6.

ص: 179

(180)

(مسألة 23): لا يجب المسح بتمام كل من الكفين، بل يكفي المسح ببعض كل منهما (1) على نحو يستوعب الجبهة والجبينين.

(مسألة 24): المراد من الجبهة الموضع المستوي (2)، والمراد من الجبين ما بينه وبين طرف الحاجب (3).

(مسألة 25): الأحوط وجوباً تعدد الضرب، فيضرب ضربه للوجه وضربة للكفين (4).

(1) كما في جامع لمقاصد والحدائق والجواهر ومحكي الروض وغيرها. لإطلاق النصوص، وخصوص صحيح زرارة:" ثم مسح جبينه [جبينيه] بأصابعه"(1).

(2) كما يظهر مما تقدم من لسان العرب في تعريف الجبين ومما عن الخليل من أنها مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية، وهو المفهوم منها عرفاً.

(3) لا يخفى أن طرف الحاجب حدّ الجبهة عرفاً ولا يخرج عنها بمقدار معتد به بحيث يعد شيئاً في قبالها، مع أن الذي يظهر من اللغويين أنه بالمعنى المقابل للجبهة عبارة عن صفحة الوجه المسامته للجبهة. ففي مفردات الراغب "فالجبينان جانبا الجبهة" ،وفي مجمع البيان: "والجبين ما عن يمين الجبهة وشمالها، وللوجه جبينان الجبهة بينهما" ،ونحوه ما تقدم من لسان العرب وكأنه هو الذي فهمه في جامع المقاصد، حيث قال: "وهما المحيطان بالجبهة يتصلان بالصدغين".

ومن ثم سبق منا أن البناء على وجوب غسل الجبينين يستلزم كون الممسوح في التيمم أوسع عرضاً من المغسول في الوضوء، أما ما ذكره (قدس سره) هنا فيكون أقل كثيراً. فلاحظ.

(4) ففي الذكرى أن ظاهر المفيد في كتاب الأركان لزوم الضربتين مطلقاً. وربم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 8.

ص: 180

حكي ذلك عن رسالة علي بن بابويه. لكن في الذكرى أنه اختار ثلاث ضربات واحدة للوجه، وأخرى لليد اليمنى تمسح من المرفق، وثالثة لليسرى تمسح للمرفق أيضاً. وهو المطابق لما تقدم من ولده في المجالس على اضطراب في كلامه المتقدم ولما ذكره في المقنع رواية. وتقدم عند الكلام في مسح الوجه أن الرواية المذكورة هي صحيح محمد بن مسلم الذي تقدم عدم التعويل عليه، بل يلزم حمله على التقية أو الاستحباب.

فالكلام إنما هو فيما تقدم عن المفيد. وقد يستدل له بصحيح إسماعيل بن همام عن الرضا (عليه السلام): "قال: التيمم ضربة للوجه، وضربة للكفين"(1) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام):" سألته عن التيمم فقال: مرتين مرتين، للوجه واليدين"(2) ، وصحيح ليث المرادي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "في التيمم قال: تضرب بكفيك على الأرض مرتين، ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك"(3).

لكن صحيح ليث - مع اشتماله على مسح الذراعين الذي تقدم الكلام فيه - كالصريح في تقدم الضربتين معاً على مسح الوجه، وليس هو المدعى في المقام، بل تخلل مسح الوجه بينهما. ومجرد عدم القائل بذلك لا يقتضي تنزيله على المدعى، بنحو ينهض دليلاً له، بل يتعين البناء على إجماله، أو حمله على الاستحباب، كما لم يستبعده بعض مشايخنا (قدس سره).

وأما صحيح محمد بن مسلم فهو لا يخلو عن إجمال، إذ كما يمكن حمله على إرادة الضربتين من المرتين، وتفريقهما على الوجه واليدين، مع كون التكرار للتأكيد، فيطابق القول المذكور، كذلك يمكن حملهما على اللف والنشر، بإرادة أربع ضربات: اثنتان للوجه، واثنتان لليدين، كما عن بعض العامة(4). بل يمكن حمل المرتين على المسحتين، ويكون التأكيد لدفع توهم وجوب مسح الرأس والرجلين أيضاً.

ودعوى: أن التيمم ثلاث مسحات، لأن لكل يد مسحة ولا يمسحان دفعة.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 3، 1، 2.

(4) حكاه عن بعض العلماء في بداية المجتهد ج: 1 ص: 68 على ما نقل عنه.

ص: 181

مدفوعة بأن اتحاد اليدين سنخاً يصحح مثل ذلك، كما ورد في المرسل عن ابن عباس في الوضوء:" إنه قال غسلتان ومسحتان"(1).

نعم صحيح إسماعيل ظاهر في المدعى. وحمله على إرادة تقديم الضربتين على المسح، نظير ما تقدم في صحيح ليث - كما ذكره بعض مشايخنا - بعيد جداً لا يناسب تفريق الضربتين على الوجه واليدين.

هذا وقد أطلق الصدوق في المقنع والهداية والمرتضى في جمل العلم والعمل ومحكي شرح الرسالة والسيد في الغنية الاكتفاء بضربة واحدة للوجه واليدين، وإن أشار في الغنية لرواية التفصيل الآتية، وجعله مقتضى الاحتياط. كما أن القول المذكور هو ظاهر الكليني، حيث اقتصر على ذكر النصوص الآتية دليلاً له. وهو المحكي عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد والمفيد في الغرية، وظاهر القاضي وجماعة من متأخري المتأخرين.

ويقتضيه النصوص البيانية المتضمنة لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام تعليم عمار، والردع عما صنعه من التمعك في التراب عندما أجنب، ولتيمم الأئمة (عليهم السلام) ابتداء، أو بعد نقل ما صنعه عمار، وكذا النصوص المتضمنة لشرحهم (عليهم السلام) للتيمم قولاً(2) ، حيث لم تتضمن إلا ضربة واحدة قبل مسح الوجه واليدين، فإنها كالصريحة في وحدة الضرب.

وهناك قول بالتفصيل بين ما إذا كان التيمم بدلاً عن الوضوء فتكفي ضربة واحدة، وما إذا كان بدلاً عن الغسل فلابد من ضربتين. وبذلك صرح في الفقيه والمقنعة والمبسوط والنهاية والخلاف وإشارة السبق والمراسم والوسيلة والشرايع والقواعد والمنتهى وعن شرح الرسالة للمرتضى وغيرها. بل نسب للمشهور تارة، وللأكثر أخرى.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 25 من أبواب الوضوء حديث: 9.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11، 13 من أبواب التيمم.

ص: 182

ويستدل عليه بأنه مقتضى الجمع بين نصوص المرة ونصوص المرتين. إما لأن المتيقن من الأولى ما كان بدلاً عن الوضوء، ومن الثانية ما كان بدلاً عن الغسل، فيتعين الجمع بذلك بين النصوص رفعاً للتنافي بينها. وأما لأنه مقتضى بعض النصوص، التي تصلح أن تكون شاهد جمع بين الطائفتين.

ويشكل الأول بأنه لا يخرج عن الجمع التبرعي الذي لا مجال للتعويل عليه في مقام الاستدلال. ولاسيما بملاحظة أن أكثر نصوص المرة البيانية واردة في تعقيب قصة عمار الواردة في الجنابة.

وأما الثاني فهو موقوف على النظر في النصوص المذكورة فمنها: صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "قلت له: كيف التيمم؟ قال: هو ضرب واحد للوضوء والغسل من الجنابة تضرب بيدك مرتين، ثم تنفضهما نفضة للوجه ومرة لليدين"(1) ، بناء على أن الواو في قوله:" والغسل "ليست بعاطفة، بل استئنافية، وأن المراد أن التيمم للوضوء ضربة واحدة، وللغسل ضربتان. ولاسيما بناء على روايته في المعتبر وبعض نسخ الخلاف هكذا:" هو ضربة واحدة للوضوء وللغسل [والمغسل خ. ل] من الجنابة تضرب...".

لكنه كما ترى مخالف لظاهر الحديث جداً. كيف ولازمه التفكيك في الجواب بين التيممين، فلم يبين في كيفية التيمم عن الوضوء إلا وحدة الضرب، بينما بين في كيفية التيمم عن الغسل تمام كيفيته، كما هو مقتضى السؤال. كما أن لازمه أيضاً التفكيك بينها بالتعبير عن الضرب في الأول بالمصدر، وفي الثاني بالفعل... إلى غير ذلك مما يجعل الحمل المذكور مستهجناً.

ومن هنا كان ظاهر الواو العطف، بل هو كالمقطوع به، ويكون المراد بقوله (عليه السلام):" ضرب واحد "بيان وحدة كيفية التيمم في المقامين، فيكون من أدلة القول الأول. وما في المعتبر وبعض نسخ الخلاف لم يثبت. نعم هو مناسب لسوق الشيخ (قدس سره) في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 183

التهذيب الحديث المذكور دليلاً على التفصيل المدعى. إلا أن ذلك لا ينهض دليلاً على صحة النسخة المذكورة. ولاسيما بعد ملاحظة ابتناء استدلال الشيخ على مخالفة الظاهر في الحديث الآتي أيضاً.

ومنها: صحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التيمم، فضرب بكفيه الأرض، ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها، ثم ضرب بيمينه الأرض ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه. ثم قال: هذا التيمم على ما كان فيه الغسل، وفي الوضوء الوجه واليدين إلى المرفقين وألقى [أبقى] ما كان عليه مسح الرأس والقدمين، فلا يؤمم بالصعيد"(1).

بناء على أن الغسل في قوله (عليه السلام): "هذا التيمم على ما كان فيه الغسل وفي الوضوء" بضم الغين، فتكون الواو عاطفة، والمقابلة بين الغسل والوضوء بلحاظ تعدد الضرب فيما كان بدل الغسل ووحدته فيما كان بدل الوضوء.

وهو كما ترى تكلف مستهجن، بل يشكل - مضافاً إلى ما سبق من تضمنه شرح التيمم على خلاف ما عليه فتوى الأصحاب ونصوصهم -.

تارة: بأن صدره الذي حمل على التيمم بدلاً عن الغسل قد تضمن ثلاث ضربات، لا ضربتين، كما هو المدعى.

وأخرى: بأنه لا إشعار فيه بأن وجه المقابلة بين ما كان بدل الغسل وما كان بدل الوضوء هو تعدد الضرب ووحدته.، إذ لم يتعرض للضرب عند ذكر الوضوء.

وثالثة: بركاكة التعبير عن المدعى بقوله: "على ما كان فيه الغسل" ،بل حقه أن يقال: "على من كان عليه الغسل" .وكذا عطف الوضوء على ذلك بمفرده، وعدم الربط بين قوله: "الوجه واليدين..." وما قبله، بل عدم تمامية تركيب جملة به... إلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 12 من أبواب الوضوء حديث: 5.

ص: 184

غير ذلك مما يقطع معه بزيادة الواو بين الوضوء والغسل.

بل في الجواهر: "ولعل بعض النسخ بدون الواو على ما قيل، بل فيما حضرني من نسخة الوافي ذلك" .نعم ذلك لا يناسب استدلال الشيخ بالرواية على التفصيل المذكور. ومن ثم كان الأظهر زيادتها، والتباس الأمر على الشيخ في إثباتها.

وعليه يكون الغَسل بفتح الغين، ويكون مضمون ذيل الحديث: أن الذي يتيمم ويمسح من الأعضاء هو موضع الغسل في الوضوء، دون موضع المسح فيه. وعليه يتجه جرّ الوجه اليدين، لكونهما بدلاً من الموصول في قوله: "هذا التيمم على ما كان..." .كما أن قوله: "الرأس والقدمين" بدل من قوله: "ما كان عليه مسح" .وهو الذي فهمناه منه فيما سبق عند التعرض لمختار علي بن بابويه في مسح الوجه.

ومنها: ما في المنتهى من أن الشيخ روى في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "ان التيمم من الوضوء مرة واحدة، ومن الجنابة مرتان".

لكن صرح غير واحد بأن ذلك وهم منه (قدس سره) في فهم كلام الشيخ، وأن كتب الحديث خالية عن ذلك، وإنما أشار الشيخ لمضمون الصحيحين السابقين اللذين استظهر منهما التفصيل المدعى، ففي التهذيب بعد أن روى الصحيحين السابقين ونصوص التعدد، ونبّه إلى خلوّ نصوص التعدد من التفصيل، وأجاب عنه بأنه مقتضى الجمع بين النصوص، قال: "مع أنا قد أوردنا خبرين مفسرين لهذه الأخبار، أحدهما عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، والآخر عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وأن التيمم من الوضوء مرة واحدة ومن الجنابة مرتان" .وربما يكون العلامة (قدس سره) قد حاول في المنتهى نقل مضمون الصحيح حسب اجتهاده وما فهمه منه.

ومنها: ما أرسله في الغنية والمعتبر ومحكي جمل العلم والعمل وشرح الشرايع للصيمري من ورود روايات بالتفصيل وبتعدد الضرب فيما هو بدل عن غسل الجنابة.

ص: 185

لكن من القريب جداً كون المراد بها الصحيحين السابقين، بل هو كالمقطوع به بعد ملاحظة استدلال الشيخ وجماعة بهما، وتصريح المحقق في المعتبر بأن من تلك الروايات صحيح زرارة المتقدم.

نعم من الغريب جداً استدلالهم بالصحيحين مع ظهور ضعف دلالتهما. ولاسيما مع عدم اختصاص الفتوى بذلك من الشيخ وأتباعه، حيث قد يحتمل متابعة من بعده له في تكلف حمل الصحيحين على ذلك، لحسن ظنهم به، كما هو أهله، بل سبقه إلى الفتوى بذلك المفيد في المقنعة والصدوق في الفقيه والمرتضى في شرح الرسالة، كما تقدم، مع وضوح اختلاف الأذواق والمشارب بينهم.

اللهم إلا أن يكون التشبث بالصحيحين لتأييد ما ارتكز في أذهانهم - خصوصاً القدماء - من محاولة الجمع بين النصوص مهما أمكن، ولموافقة القول المذكور بدواً للاحتياط، ولمناسبته لكون الوضوء أخف من الغسل، حيث كان ذلك بمجموعه هو الدافع المهم لهم في البناء على القول المذكور ومحاولة الاستدلال له، لا وضوح دلالة الصحيحين المذكورين على التفصيل، كما يناسب ذلك ظهور اضطراب بعضهم في الفتوى، كالصدوق والمفيد والمرتضى.

ومن هنا لا يتضح لنا دليل التفصيل المذكور. ولاسيما مع أن عمدة نصوص المرة النصوص البيانية الواردة في تعقيب قصة عمار حينما أجنب، فحملها على التيمم بدلاً عن الوضوء خروج بها عن مورد صدورها.

مضافاً إلى إطلاق ما تقدم في صحيح زرارة من أن التيمم ضرب واحد، وإلى خصوص ما تضمن عدم الفرق بين التيمم بدلاً عن الوضوء والتيمم بدلاً عن الغسل، وهو موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن التيمم من الوضوء والجنابة ومن الحيض للنساء سواء؟ فقال: نعم"(1). ومن ذلك كله يظهر ضعف التفصيل المذكور، وتعذر الجمع به بين النصوص.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 6.

ص: 186

ومن ثم فقد يجمع بينها بأحد وجهين:

الأول: تقديم نصوص التعدد وتقييدها لإطلاق النصوص الأخر الشارحة للتيمم قولاً كخبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):" في التيمم قال: تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما وتمسح بها وجهك ويديك"(1) ، وحمل النصوص البيانية على بيان الكيفية من دون نظر إلى حيثية الضرب، أو على إهمال الراوي لبيان الضربة الأخرى وإن أتي بها في مقام البيان، كما قد يؤيده عدم التعرض فيها لبعض ما يعتبر في التيمم، نظير النصوص البيانية الواردة في الوضوء، كما قيل، ولازم ذلك البناء على وجوب الضربتين مطلقاً.

لكن قد يوهن بندرة القول بذلك، حيث لم ينقل إلا عن ظاهر المفيد في الأركان كما سبق. كما أن ذلك بعيد جداً عن مساق النصوص المذكورة، خصوصاً البيانية منها، لقوة ظهورها في بيان تمام الكيفية المعتبرة، فعدم التعرض فيها إلا لضربة واحدة مع كثرتها يجعلها كالنص في عدم وجوب ما زاد عليها خصوصاً ما تضمن منها حكاية الإمام (عليه السلام) لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام تعليم عمار، ردعاً له عن تيممه بالتمعك بالتراب، فإنه كالأساس في شرح التيمم وبيانه عملاً وذلك يناسب استيفاءه لتمام ما يعتبر فيه، فكيف يمكن مع ذلك أن يهمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الضربة الثانية، أو يهملها الإمام (عليه السلام) في مقام حكاية فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو كانت واجبة.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من حمل النصوص المذكورة على عدم بيان تمام كيفية التيمم، بل لردع عمار عما توهمه من لزوم مماسة الجسم للتراب ومباشرته له وبيان لزوم توسط اليدين في إيصال أثر التراب من دون نظر لمقدار الضرب جمعاً مع نصوص التعدد.

وجه الإشكال: أن فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وارد لتعليم عمار للتيمم لجهله المطلق به، وهو لا يناسب إهمال شيء معتبر فيه. وأما الاستشهاد لذلك بإهمال هذه النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 7

ص: 187

لبعض ما يعتبر في التيمم. فهو غير ثابت.

غاية الأمر أنه لم يتعرض فيها للمسح من الأعلى. لكن لو تم وجوبه فمن القريب أن يكون إهماله اتكالاً على انصراف المسح إليه ولو لمعهودية ذلك في الوضوء. كما أنه قد تضمن بعض النصوص الضرب على البساط والمسح، ولا ريب في الاتكال فيه على وضوح اعتبار كون التيمم بالأرض من الآية والنصوص والإجماع، ولا كذلك الضرب في المقام، كما لعله ظاهر.

هذا وقد يدعى نصوصية بعض تلك النصوص في عدم وجوب إعادة الضرب. وهو صحيح زرارة الحاكي لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيه: "ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد ثم مسح جبينه [جبينيه] بأصابعه وكفيه إحداهما بالأخرى، ثم لم يعد ذلك"(1) ، حيث دلّ على عدم الإعادة بالضرب ثانياً.

لكنه - كما ترى - مخالف للظاهر جداً، بل ظاهره إما عدم إعادة مسح إحدى الكفين بالأخرى، لبيان عدم وجوب مسح باطن الكفين مع مسح ظاهرهما، أو عدم إعادة تمام ما فعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو التيمم بمجموعه، كما هو الأقرب، فيدل على اكتفاء الجنب عند تعذر الماء بتيمم واحد، لا عدم إعادة خصوص الضرب في ضمن التيمم الواحد، كما هو محل الكلام. فالعمدة ما سبق.

الثاني: حمل نصوص التعدد على الاستحباب، كما عن شرح الرسالة للمرتضى (قدس سره)، ولم يستبعده في الذكرى، واستحسنه في المعتبر وإن ذكر في صدر كلامه أن التفصيل أجود الأقوال الثلاثة المتقدمة. وهو وإن كان مقتضى الجمع العرفي في موارد اختلاف النصوص في الأقل والأكثر.

إلا أنه قد يوهن في خصوص المقام بعدم ظهور بناء قدماء الأصحاب عليه وعدم التفاتهم إليه. وبعدم الإشارة إليه في النصوص البيانية على كثرتها. وبأن عمدة نصوص التعدد صحيح إسماعيل بن همام المتقدم في أدلة تعدد الضرب وصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 8.

ص: 188

(189)

وأحوط منه استحباباً أن يمسح (1) الكفين مع الوجه في الضربة الأولى من دون فرق بين ما هو بدل الوضوء وما هو بدل الغسل.

(مسألة 26): إذا تعذر الضرب والمسح بالباطن انتقل إلى الظاهر (2)،

زرارة المتقدم في أدلة للتفصيل، وقوة ظهورهما في الوجوب غير خفية. فتأمل.

ومن هنا كان الأقرب هو العمل بنصوص وحدة الضرب لأنها أشهر رواية ولتضمنها شرح التيمم عملاً في أصل تشريعه، أما نصوص التعدد فهي منحصرة بصحيح إسماعيل وصحيح زرارة على اضطراب في الثاني، وهما إلى الشذوذ وأقرب.

ولاسيما مع موافقتها للمشهور بين العامة المنسوب لأعيانهم من الصدر الأول، كعمر والحسن البصري والشعبي ومالك والليث بن سعد والثوري وأبي حنيفة والشافعي، ولم ينقل المرة إلا عن قليل منهم، وهو كاف في ترجيح نصوص المرة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) المناسب بناء على ما ذكره (قدس سره) وجوب الاحتياط بذلك، لظهور نصوص المرة في اعتبار كون المسح بأثر الضربة الأولى، وهو غير محرز مع الضربة الثانية، لاحتمال صيرورته بأثرها عرفاً لا بأثر الأولى.

(2) كما في جامع المقاصد وعن الذكرى وإرشاد الجعفرية والمقاصد العلية وغيرها. وقد استدل عليه سيدنا المصنف (قدس سره) بالإطلاق بعد قصور دليل اعتبار الباطن عن صورة التعذر.

لكن المراد بالإطلاق إن كان هو إطلاق الآيتين الكريمتين فالظاهر من الآية الثانية، بقرينة قوله تعالى:" فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه"(1) ، ومن الأولى(2) بمقتضى المناسبات الارتكازية، مباشرة الأعضاء الممسوحة لما يتيمم به، كمباشرة

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

(2) سورة النساء الآية: 43.

ص: 189

الأعضاء المغسولة في الوضوء للماء، وليس اليد إلا واسطة يمكن الاستغناء عنها، ولذا جرى عليه عمار في الجملة بطبعه.

وحيث دلت النصوص والإجماع على إرادة المسح بأثر ما يتيمم به، الحاصل في اليدين بضربهما على الصعيد، وعدم الاجتزاء بمباشرة الصعيد للأعضاء الممسوحة، كشف عن عدم إرادة ظاهر الآيتين وسوقهما لبيان الممسوح لا غير من دون نظر لكيفية استعمال الصعيد، فلا مجال للتمسك بإطلاقهما لإثبات الاكتفاء بمباشرة الصعيد للأعضاء الممسوحة عند انحصار الأمر به، فضلاً عن إثبات الاكتفاء بالضرب والمسح بظاهر اليدين عند تعذر تحقيقهما بباطنهما.

وإن كان هو إطلاق نصوص الأمر بالضرب، فمن الظاهر أن أكثر النصوص لا إطلاق لها، لورودها في حكاية فعل المعصوم (عليه السلام) وينحصر الإطلاق في خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "في التيمم قال: تضرب بكفيك الأرض ثم تنفضهما وتمسح بهما وجهك ويديك"(1). وهو منصرف بالقرائن المتقدمة للضرب بالباطن ودعوى: أن الانصراف مختص بحال الاختيار. ممنوعة جداً، بل لا معنى لها.

وأما قصور دليل اعتبار الباطن عن حال التعذر فهو إنما يتجه لو كان الدليل منحصراً بالإجماع، وقد سبق الاستدلال عليه بالانصراف بنحو يصلح لتقييد الإطلاق لو تم. فراجع.

هذا وقد استدل له بعض مشايخنا (قدس سره) بصحيح زرارة الوارد في الحائض والنفساء، المتضمن أنها لا تدع الصلاة على حال(2) بدعوى: أن المستفاد منه عموم عدم سقوط الصلاة بحال.

لكن تقدم في المسألة التاسعة منع دلالة الصحيح المذكور على ذلك وعدم الدليل على العموم المذكور.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب الاستحاضة حديث: 5.

ص: 190

مع أنه قد اعترف بقصور العموم - لو تم - عن إثبات مشروعية الصلاة مع فقد الطهور، كما اعترف بأن مقتضى إطلاق دليل اعتبار الضرب بالباطن اعتباره حتى في حال التعذر المستلزم لتعذر التيمم حينئذٍ، فإن مقتضى الجمع بين الأمرين سقوط الصلاة في الفرض، خروجاً عن عموم عدم سقوط الصلاة بحال لو تم.

لكنه (قدس سره) حاول تقريب اقتضاء العموم المذكور الاجتزاء بالضرب بالباطن وصحة التيمم وعدم سقوط الصلاة حينئذٍ بأن مقتضى قولهم (عليهم السلام):" لا صلاة إلا بطهور "(1) توقف الصلاة على استعمال الطهور، وهو الماء والتراب، فإن تمكن المكلف من استعمال الطهور على الكيفية المستفادة من النصوص وجب، وإلا فالمرجع إطلاق الكتاب المقتضى لزوم مسح الوجه واليدين، فالمكلف قادر على الطهور، فلا تسقط الصلاة عنه، بل يجب عليه الإتيان بها مع استعمال الطهور بالوجه المذكور في الكتاب. وعلى ذلك يجري الحال في جميع موارد التعذر، كالأقطع وغيره.

إلا أنه يشكل بأن المستفاد من النصوص إن كان هو إطلاق التقييد بالكيفية المذكورة فيها لاستعمال الطهور - وهو التراب - بنحو يشمل حال التعذر - كما هو مبنى كلامه - لم ينفع إطلاق الكتاب في الاكتفاء بالكيفية المذكورة فيه لاستعمال الطهور وفي تحقق الشرط الركني للصلاة، لسقوط الإطلاق المذكور عن الحجية بالتقييد المفروض.

وإن كان هو تقييده بالكيفية المذكورة في الجملة ولو في خصوص حال القدرة، أو الأمر به بنحو تعدد المطلوب، كفى إطلاق الكتاب في تصحيح التيمم بالكيفية المذكورة فيه وفي تحقق الشرط الركني للصلاة بلا حاجة إلى عموم عدم سقوط الصلاة بحال المدعى في المقام.

على أن إطلاق الكتاب إنما يقتضي مباشرة أعضاء المسح للطهور، كما سبق، لا الضرب بظاهر اليد والمسح بها عند تعذر الضرب والمسح بالباطن، الذي هو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 191

المدعى.

وإن شئت قلت: عموم عدم سقوط الصلاة بحال - لو تم - إنما يقتضي مشروعية الصلاة ولو من دون طهور، فإن أمكن البناء على ذلك تعين البناء على مشروعية الصلاة في المقام ونحوه ولو من دون تيمم، وكان المرجع في مشروعية التيمم دليله، وإن لم يمكن ذلك، لثبوت ركنية الطهور، توقف البناء على مشروعية الصلاة في المقام ونحوه على ثبوت مشروعية التيمم، ولم ينهض بذلك العموم المذكور.

بل لابد فيه من الرجوع لدليل التيمم، فإن لم ينهض به كان مقتضى إطلاق دليل اعتبار الأمر المتعذر أو مقتضى استصحاب عدم الطهارة عدم مشروعية الصلاة. وإن نهض به تعين البناء على مشروعية الصلاة لإطلاق أدلتها من دون حاجة لعموم عدم سقوط الصلاة بحال.

نعم لو علم بعدم سقوط الصلاة بحال أو في خصوص المقام، وبعدم مشروعية الصلاة من دون طهور، لزم العلم بمشروعية التيمم بالوجه الميسور، وهو أمر آخر غير التمسك بإطلاقات الأدلة.

فالعمدة في المقام: ما هو المرتكز من ابتناء الطهارات الثلاث على الميسور - وإن لم تثبت قاعدة الميسور كلية في سائر التكاليف، كما تقدم غير مرة - بملاحظة النصوص وكلمات الأصحاب في مباحث الجبائر وفروع الأقطع والمسلوس والمبطون والمستحاضة، والتيمم بالغبار عند عدم التراب، بل تشريع التيمم عند تعذر الماء وغير ذلك، فإن ذلك يشرف بنا على القطع بمشروعية التيمم في المقام وأمثاله، وفي الاجتزاء بالمقام بالضرب والمسح بظاهر الكف.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الإشكال في الحكم المذكور، لمباينة الظاهر للباطن وعدم كونه ميسوراً له عرفاً. فهو يندفع بأن المناسبات الارتكازية تقتضي استناد الطهارة لمسح الوجه وظاهر الكفين، لا للضرب، بل هو شرط لتحققهما وإن كان هو جزءاً من التيمم، فالتنازل عن خصوصية الباطن في الضرب والمسح والاكتفاء

ص: 192

وكذا إذا كان نجساً نجاسة متعدية (1) ولم تمكن الإزالة، أما إذا لم تكن

بالضرب والمسح بالظاهر هو مقتضى الاكتفاء بالميسور عرفاً وارتكازاً. نعم يتجه ما ذكره في مثل بدلية مسح الرأس أو الخدين عن مسح الجبهة، أو مسح الذراعين عن مسح الكفين، أو مسح باطن الكفين عن مسح ظاهرهما.

هذا ولو غض النظر عما ذكرنا من الاكتفاء بالميسور، فإن فرض العلم بمشروعية التيمم في المقام تعين الجمع بين كل ما يحتمل دخله فيه، ولو بأن يضم للضرب والمسح بالظاهر مسح الأعضاء بالأرض مباشرة كالأقطع ومسحها بباطن كفي الغير بعد ضرب الأرض وغير ذلك، عملاً بقاعدة الاشتغال بالطهارة. وإن احتمل عدم مشروعيته تعين جريان حكم فاقد الطهورين، لاستصحاب عدم الطهارة.

نعم لو كان حكم فاقد الطهورين هو الجمع بين الأداء والقضاء كان الأحوط في الأداء التيمم بالجمع بكل ما يحتمل دخله فيه. ولعله لذا قال في الجواهر بعد أن مال للاجتزاء بالضرب والمسح بظاهر الكفين: "وإن كان الأحوط حينئذٍ الجمع بينه وبين الإتيان بكل ما يحتمل مدخليته حتى حكم فاقد الطهورين، إن لم يكن ذلك متعيناً. للبراءة اليقينية، كما في كل ما لم يتضح من الأدلة حكمه".

لكن الظاهر أن ذلك منه تشبث بالاحتمالات الفرضية التي هي بالوسواس أشبه. مع أنه لا وجه لتعينه لو كانت الاحتمالات معتداً بها بعد إمكان التمسك بالأصول التي يظهر الحال فيها بملاحظة ما تقدم وبالتأمل التام في أطراف المسألة.

(1) لما سبق من اعتبار طهارة ما يتيمم به. لكن يظهر من بعض مشايخنا أن المتيقن من دليل اعتبار طهارة ما يتيمم به هو طهارته في نفسه في رتبة سابقة على التيمم به، ولا يقدح نجاسته بسبب الضرب عليه والتيمم به.

وفيه أولاً: أن المعتبر في التيمم لما كان هو الضرب المبني على نحو من الدفع والاعتماد فهو متأخر زماناً عن ملاقاة رطوبة اليد النجسة الموجبة لتنجس ما يتيمم به.

ص: 193

متعدية ضرب به ومسح (1). وإذا كان على الممسوح حائل لا تمكن إزالته

نعم لا يتم ذلك فيما لو كانت اليد جافة بحيث لا يحصل التنجيس بمجرد الضرب، بل بعده بسبب الضغط على الجرح وانفتاقه وسيلان الدم أو القيح منه.

وثانياً: أن المناسبات الارتكازية تقضي بأن اعتبار طهارة ما يتيمم به بنحو يعم حال الاستعمال. ولذا لا ريب في اعتبار طهارة الماء في الطهارة المائية بالنحو المذكور، مع تشابه أدلة اعتبار الطهارة في المقامين.

(1) كما في جامع المقاصد ومفتاح الكرامة والجواهر، بل نفى في الأخير وجدان الخلاف فيه بين الأصحاب. ولا ينبغي التأمل فيه بناء على عدم اعتبار طهارة الماسح، على ما يأتي الكلام فيه في المسألة الثلاثين.

وأما بناء على اعتبارها، فحيث ينحصر الدليل على اعتبارها بالإجماع ونحوه مما لا إطلاق له، فإن كان الدليل على اعتبار الضرب والمسح بالباطن ظهور الأدلة في ذلك - كما تقدم - كان مقتضى إطلاقها لزوم الضرب به في المقام وعدم مانعية النجاسة، لفرض عدم إطلاق دليل مانعيتها، ليعارض إطلاق دليل لزوم الضرب والمسح بالباطن. وإن كان الدليل على اعتبار الضرب والمسح بالباطن. منحصراً بالإجماع - كما تقدم من سيدنا المصنف (قدس سره) - فحيث لا إطلاق له أيضاً لزم الجمع بين الضرب والمسح به والضرب والمسح بالظاهر.

اللهم إلا أن يدعى الإجماع أو القطع بسقوط اعتبار طهارة الماسح في المقام، ولذا جزم بوجوب المسح بالباطن هنا بعض من صرح باعتبار طهارة الماسح، كالمحقق الثاني في جامع المقاصد.

ومنه يظهر الإشكال في استدلال سيدنا المصنف (قدس سره) على وجوب المسح بالباطن في المقام بقوله: "لإطلاق الأدلة. ودليل اعتبار الطهارة لا يقتضي اعتبارها مع الاضطرار".

ص: 194

(195)

مسح عليه (1). أما إذا كان ذلك على الباطن الماسح فالأحوط وجوباً الجمع بين الضرب والمسح به والضرب والمسح بالظاهر (2).

(مسألة 27): المحدث بالأصغر يتيمم بدلاً عن الوضوء (3)، والجنب يتيمم بدلاً عن الغسل (4)، والمحدث بالأكبر غير الجنابة يتيمم

(1) بناء على ما يأتي في المسألة الواحدة والثلاثين من جريان حكم الجبيرة في التيمم.

(2) المناسب لما تقدم منه (قدس سره) من انحصار الدليل على تعيين الباطن بالإجماع، الذي لا إطلاق له يشمل صورة وجود الحائل، هو الاكتفاء بضرب الظاهر والمسح به، وعدم وجوب ضم الضرب والمسح بالباطن له، فضلاً عن الاكتفاء به، فإنه مخالف لدليل مانعية الحائل، كما نبه له في مستمسكه.

أما بناءً على ما سبق منا من أنه مقتضى ظاهر الأدلة، كمانعية الحائل، فالمتعين مع عدم وضوح الترجيح الجمع بين الأمرين، كما ذكره في المتن. ودعوى: أن مقتضى إطلاق دليل بدلية الجبيرة عن البشرة الاكتفاء بالضرب والمسح بالباطن مع الحائل عند تعذر الضرب والمسح به من دون حائل، الذي هو الواجب الأولي الاختياري.

مدفوعة: بأن إطلاق دليل بدلية الجبيرة يختص بالممسوح، دون الماسح على ما يأتي التعرض له في المسألة الواحدة والثلاثين. مع أن الحائل أعم من الجبيرة.

(3) كما هو صريح الآيتين الكريمتين وجملة من النصوص.

(4) كما هو صريح الآيتين الكريمتين وجملة من النصوص. كما أن ظاهرها أو صريحها الاكتفاء بالتيمم وعدم الحاجة لضم الوضوء. ولاسيما مثل صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "في رجل أجنب في سفر ومعه ماء قدر ما يتوضأ به. قال: يتيمم ولا يتوضأ"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 195

عن الغسل (1). والأحوط وجوباً أن يتيمم أيضاً عن الوضوء (2).

وكذا صحيح زرارة المتضمن لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ردع عمار عن التمعك بالتراب حينما أجنب، وفيه:" ثم أهوى بيديه إلى الأرض فوضعهما على الصعيد، ثم مسح جبينه [جبينيه] بأصابعه وكفيه إحداهما بالأخرى. ثم لم يعد ذلك"(1) ، بناء على أن المراد بقوله (عليه السلام): "ثم لم يعد ذلك" عدم إعادة التيمم بتمامه، كما هو الظاهر، وتقدم منا التنبيه له عند الكلام في وحدة الضرب وتعدده. وكيف كان فالظاهر المفروغية عن الحكم المذكور بينهم، وفي الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه" .كما أن الظاهر عدم توقف إجزائه عن الوضوء على نية الاستباحة عن الحدث الأصغر، كما في الجواهر. لإطلاق الأدلة المتقدمة. قال في الجواهر: "لكن حكى في جامع المقاصد عن ظاهر الشيخ وجوبه. ولعله لضعف البدل. وهو ضعيف جداً. كضعف ما حكاه عن ظاهره من إيجاب التعيين في الأحداث الصُّغَر لو اجتمعت".

(1) بلا إشكال ظاهر. ويقتضيه في الجملة ما تضمن أن الميت ييمم(2) ، وصحيح أبي بصير وموثق عمار وغيرهما من النصوص الآتية.

وظاهر الأصحاب عدم الفرق بين الأغسال في كيفية التيمم، وأنها جميعاً كالتيمم بدلاً عن الجنابة، بل صرح بذلك عن المقنعة. ويقتضيه في الجملة صحيح أبي بصير: "سألته عن تيمم الحائض والجنب سواء إذا لم يجدا ماءً؟ قال: نعم"(3). وقريب منه موثق عمار(4) المتقدم عند الكلام في تعدد الضرب ووحدته.

(2) كأنه لما تقدم منه (قدس سره) في المسألة التاسعة عشرة من مباحث الحيض من التوقف في إجزاء غسل غير الجنابة عن الوضوء. حيث يظهر منه (قدس سره) في مستمسكه ابتناء هذه المسألة على تلك المسألة، كما هو أيضاً ظاهر جماعة من الأصحاب. فإن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب غسل الميت حديث: 3.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 7، 6.

ص: 196

قيل بعدم إجزاء الغسل عن الوضوء تعين البناء على وجوب تيممين أحدهما بدل عن الغسل، والآخر بدل عن الوضوء. وبذلك صرح في القواعد وجامع المقاصد، وحكي عن جماعة ممن تأخر عن العلامة.

وقد وجهه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن المستفاد من الأدلة بدلية التيمم عن الوضوء والغسل، ولازم ذلك تعدد البدل تبعاً لتعدد المبدل. نعم لو كان المستفاد من الأدلة بدلية التراب عن الماء أمكن الاكتفاء بتيمم واحد بدلاً عن الأمرين اللذين هما طهارة مائية. لكنه خلاف ظاهر الأدلة. ولو سلم ظهورها في ذلك فلا إطلاق لدليل البدلية يقتضي قيام التراب باستعمال واحد مقام الماء في تمام استعمالاته.

لكن يشكل ما ذكره أولاً: بعدم وضوح ظهور الأدلة في بدلية التيمم عن الوضوء والغسل، لا بدلية التراب أو الأرض عن الماء، فإن الآيتين الشريفتين صالحتان للأمرين. والنصوص مختلفة المفاد، وإن كان ظاهر أكثرها بدلية التراب أو الأرض عن الماء، مثل ما تضمن أن الله جعل الأرض مسجداً وطهوراً(1) ، وما تضمن أن رب الماء هو رب الصعيد(2) ، وما تضمن أن الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً(3).

نعم ورد في صحيح زرارة فيمن لم يتوضأ أن التيمم أحد الطهورين(4) ، وفي صحيح محمد بن مسلم المتضمن عدم إعادة الجنب صلاته إذا تيمم لها، قال (عليه السلام):" إن رب الماء رب الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين"(5). وتنزيلهما على ما تقدم غير عزيز. ولاسيما بلحاظ أن الطهور ما يتطهر به، لا نفس الطهارة. ولا أقل من التوقف والتردد بين الأمرين.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب التيمم.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24، 25 من أبواب التيمم.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 197

وثانياً: أنه لا أثر لتعيين أحد الأمرين في محل الكلام، بل الأثر لظهور الأدلة في عموم البدلية أو إطلاقها بنحو يجتزأ بتيمم واحد عن كلا الطهارتين وعدمه، فمع الأول يتعين الاجتزاء بتيمم واحد، حتى لو كانت البدلية بين التيمم والوضوء أو الغسل، ومع عدمه يتعين تكرار التيمم ولو لأنه مقتضى أصالة الاشتغال بالطهارة.

ودعوى: أن تعدد المبدل منه يقتضي تعدد البدل. إنما تتجه لو ابتنت البدلية على اختصاص كل من الوضوء والغسل بتيمم، ولا شاهد لذلك من الأدلة، بل المستفاد منها مجرد وفاء التيمم بغرض كل منهما، وحينئذٍ لا مانع من وفاء تيمم واحد بذلك لو كان هو مقتضى الإطلاق.

ومن هنا يبتني الكلام على مسألة التداخل كما صرح في الجواهر، وقد ذكرنا في الأصول أن الأصل وإن كان هو عدم التداخل مع تعدد الأمر تبعاً لتعدد السبب، إلا أن ذلك يختص بالأمر النفسي كالأمر بالعتق في الظهار والقتل، لأن ظهور الأمر في كلا الدليلين في الاستقلالية مستلزم لتعدد المأمور به، لامتناع تعدد الأمر مع وحدة المأمور به إلا أن يكو ن أحد الأمرين مؤكداً للآخر من دون أن يكون مستقلاً عنه، وهو خلاف ظاهر الخطاب. ولا يجري ذلك فيما لو سيق الكلام لبيان مطلوبية السبب من أجل تحقيق المسبب لا لنفسه، لإمكان تحقيق السبب الواحد لمسببات متعددة، فلا مانع في المقام من قيام التيمم الواحد بأثر كل من الغسل والوضوء. وقد تقدم منّا نظير ذلك عند الكلام في اعتبار طهارة الأعضاء في الوضوء.

وبالجملة: حيث كان مقتضى القاعدة التداخل في أمثال المقام كان مقتضى الإطلاق الاكتفاء بتيمم واحد بدلاً عن الغسل والوضوء معاً. وما في جامع المقاصد من أن المبدل منه القوي إذا كان متعدداً فالمبدل الضعيف أولى بالتعدد. كما ترى لا ينهض بالخروج عما يقتضيه ظاهر الأدلة.

نعم لابد من البناء على عدم الفرق في الكيفية بين التيمم بدلاً عن الوضوء والتيمم بدلاً عن الغسل، أو إجزاء التيمم بإحدى الكيفيتين عن الأخرى، وإلا فل

ص: 198

موضوع للتداخل.

قال في المدارك: "وأعلم أن ظاهر كلام الأصحاب يقتضي تساوي الأغسال في كيفية التيمم. وبه صرح المفيد في المقنعة... ولم يذكر التيمم بدلاً من الوضوء. واستدل له الشيخ في التهذيب بما رواه عن أبي بصير... وعن عمار الساباطي... قال في الذكرى: وخرج بعض الأصحاب وجوب تيممين غير الجنب بناء على وجوب الوضوء هناك. والخبران غير مانعين منه لجواز التسوية في الكيفية لا الكمية. وما ذكره أحوط، وإن كان الأظهر الاكتفاء بالتيمم الواحد بناء على ما اخترناه من اتحاد الكيفية وعدم اعتبار نية البدلية، فيكون جارياً مجرى أسباب الوضوء أو الغسل المختلفة. ولو قلنا بإجزاء الغسل مطلقاً عن الوضوء - كما ذهب إليه المرتضى (رضي الله عنه) - ثبت التساوي مطلقاً من غير إشكال".

وقد يظهر منه - كالذكرى - أن الاجتزاء بتيمم واحد هو ظاهر الأصحاب، وأن القول بتعدد التيمم يبتني على تخريج لبعضهم. نعم ما ذكره (قدس سره) من ابتناء الاكتفاء بتيمم واحد على عدم اعتبار نية البدلية غير ظاهر الوجه، حيث لا مانع من نية بدلية التيمم الواحد عن الغسل والتيمم معاً.

هذا مضافاً إلى معتبر أبي عبيدة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عن المرأة الحائض ترى الطهر وهي في السفر، وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها، وقد حضرت الصلاة. قال: إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله، ثم تتيمم وتصلي. قلت: فيأتيها زوجها في تلك الحال؟ قال: نعم إذا غسلت فرجها وتيممت فلا بأس به"(1). فإن السؤال فيه لما لم يكن عن مشروعية التيمم، بل عن وظيفة الحائض الظاهر في إرادة تمام الوظيفة بل هو كالصريح بلحاظ ذكر غسل الفرج في الجواب فإطلاق الجواب ظاهر جداً في الاجتزاء بتيمم واحد. ولاسيما بملاحظة ذيله، المتضمن للترخيص في إتيان زوجها لها إذا تيممت، لقوة ظهوره في إرادة التيمم الذي يستباح به الصلاة، مع

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 199

(200)

وإذا تمكن من أحدهما المعين من الوضوء أو الغسل أتى به وتيمم عن الآخر (1)،

عدم الإشكال ظاهراً في أن المراد به تيمم واحد بدلاً عن الغسل لا غير.

هذا كله بناء على عدم إجزاء غسل غير الجنابة عن الوضوء. أما البناء على إجزائه عنه فالظاهر عدم الإشكال بينهم في الاجتزاء بتيمم واحد، كما سبق من المدارك.

لكن منع من ذلك بعض مشايخنا بدعوى: أن الثابت بالنص إنما هو إغناء الغسل عن الوضوء، لا إغناء التيمم الذي هو بدل عنه، بل يتعين عليه تيمم آخر بدلاً عن الوضوء.

وهو كما ترى، لأنه بعد فرض إجزاء الغسل عن الوضوء فإجزاء التيمم عنه مقتضى إطلاق البدلية المستفاد من الأدلة بألسنتها المتقدمة. ولاسيما بملاحظة أن إجزاء الغسل عن الوضوء ليس تعبدياً محضاً، بل لمطهريته، كما هو مقتضى قولهم (عليهم السلام):" وأي وضوء أطهر من الغسل "(1) وكما أن بدلية التيمم عن الغسل ليست تعبدية أيضاً، بل لمطهريته المستفادة مما دل على طهورية الأرض والتراب.

هذا كله مضافاً إلى معتبر أبي عبيدة المتقدم الذي سبق تقريب قوة ظهوره في اكتفاء الحائض بتيمم واحد، فإنه لو أمكن تكلف الخروج عنه بناء على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء بأن تعدد المبدل يقتضي تعدد البدل فلا مجال للخروج عنه بناء على إجزاء الغسل عن الوضوء كما لا يخفى. وإن كان الظاهر أنه لا مجال للخروج عنه على كلا المبنيين، لقوة ظهوره وعدم رجوع قضية تبعية تعدد البدل لتعدد المبدل إلى محصل ظاهر.

(1) لعدم مشروعية التيمم بدلاً عن الطهارة المائية إلا مع تعذرها، فلا يجزي عما لا يتعذر منها. هذا بناء على تعدد التيمم في الفرض أما بناء على وحدته لإجزاء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 33 من أبواب الجنابة حديث: 1.

ص: 200

الغسل عن الوضوء فالمتعين الاجتزاء بالتيمم مع تعذر الغسل ولو مع القدرة على الوضوء، عملاً بإطلاق دليل بدلية التيمم عن الغسل المقتضى لقيامه مقامه في الإجزاء عن الوضوء.

ودعوى: أن الطهارة الترابية مشروطة بتعذر الطهارة المائية فكيف يجزي التيمم عن الوضوء مع القدرة عليه في المقام.

مدفوعة بأن إجزاء التيمم عن الوضوء في المقام ليس لبدليته عنه، كي تتوقف على تعذره، بل لبدليته عن الغسل المفروض تعذره، وإجزاؤه حينئذٍ عن الوضوء في طول إجزاء الغسل عنه، لإطلاق دليل بدلية التيمم عن الغسل، كما سبق. وقد ثبت نظير ذلك في التيمم بدلاً عن غسل الجنابة.

أما بناء على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء، وأن الاكتفاء بتيمم واحد إنما هو للتداخل في نفس التيمم، فمن الظاهر أن تداخل التيممين فرع مشروعية التيمم عن الوضوء، ولا مجال لمشروعيته مع فرض القدرة على الوضوء.

نعم مقتضى إطلاق معتبر أبي عبيدة الاجتزاء بالتيمم في المقام مطلقاً ولو مع القدرة على الوضوء، لأن اقتصار الإمام (عليه السلام) على غسل الفرج ظاهر في عدم لزوم الوضوء لو كان الماء الذي عندها يكفي له، كما هو الحال في التيمم عن الجنابة.

ومقتضى ذلك البناء على الاكتفاء بالتيمم حتى بناء على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء. بل قد يجعل الحديث المذكور من أدلة إجزاء الغسل عنه. فلاحظ.

ثم إن مقتضى ذلك إجزاء التيمم بدلاً من الأغسال المندوبة عن الوضوء، حتى مع القدرة عليه. لعموم دليل إجزاء الغسل عن الوضوء لها. بل حتى على القول بعدم إجزائها عن الوضوء يتعين البناء على الاكتفاء بتيمم واحد وإجزائه عن الوضوء حتى مع القدرة عليه لمعتبر أبي عبيدة.

إلا أن يقتصر فيه على مورده وهو التيمم بدلاً عن غسل الحيض. أو يتعدى منه

ص: 201

وإذا تمكن من أحدهما غير المعين اغتسل وتيمم عن الوضوء (1).

لسائر الأغسال الواجبة دون المستحبة، اقتصاراً فيما خالف القواعد على المتيقن.

كما أنه لابد من ثبوت بدلية التيمم عن الأغسال المستحبة، الذي تقدم التعرض له في آخر الكلام في الأغسال المستحبة. فراجع.

(1) لأهمية الحدث الأكبر المقتضي لتقديم الغسل له على الوضوء للحدث الأصغر. ولا أقل من احتمال الأهمية فيتعين تقديمه، كما في سائر موارد التزاحم. وحينئذٍ يشرع التيمم بدلاً عن الوضوء بلا إشكال، بناء على عدم إجزاء الغسل عن الوضوء. وقد تقدم في المسوغ السادس تقريب جريان قواعد التزاحم في أمثال المقام عند الكلام في التزاحم بين إزالة الحدث وإزالة الخبث لقلة الماء. فراجع.

ص: 202

(203)

الفصل الرابع

يشترط في التيمم النية (1)، على ما تقدم في الوضوء (2)، مقارناً بها الضرب (3) على الأحوط وجوباً.

(1) إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً حدّ الإستفاضة إن لم يكن متواتراً منا ومن جميع علماء الإسلام، إلا من شذ. كذا في الجواهر. وقد تقدم في الوضوء ما ينفع في المقام.

(2) حيث تقدم هناك تحديد النية، وبيان منافياتها كالرياء، وغير ذلك.

(3) كما في المنتهى والذكرى وجامع المقاصد وغيرها القطع به، وفي المدارك أنه مذهب الأكثر، وعن الكفاية أنه الأشهر. والوجه فيه: أنه أول أجزاء التيمم، كما تقتضيه النصوص الكثيرة الشارحة للتيمم البيانية منها وغيرها مما تضمن بيانه بالقول(1).

وفي الوسيلة مقارنتها للمسح. وإليه يرجع ما في التذكرة وعن نهاية الأحكام والفخرية من جواز تأخيرها له. وكأنه لأن التيمم عندهم هو المسح، كما صرح به في المفاتيح. والضرب إما غير واجب - كما هو مقتضى ما تقدم عن نهاية الأحكام من جواز الحدث بعد الضرب - أو واجب في التيمم خارج عنه، لكونه شرطاً فيه.

وقد يستدل لهم تارة: بظاهر الآيتين الشريفتين، حيث لم يعد الضرب في سياق أجزاء التيمم. وأما ما في الجواهر من احتمال كون قوله تعالى:" فتيمموا "كناية عن

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11، 12 من أبواب التيمم.

ص: 203

الضرب، بقرينة اشتمال النصوص عليه. فهو - مع أنه خلاف الظاهر - لا ينفع في إثبات كونه جزءاً، لظهوره في كونه مقدمة للمسح المقصود بالأصل، لا جزءاً في مقابله، بقرينة تفريع المسح عليه بالفاء، كما قد يظهر بالتأمل. ويناسبه قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة بعد ذكر الآية:" فلما أن وضع الوضوء عمن لم يجد الماء اثبت بعض الغسل"(1). لظهوره في أن بدل الوضوء هو المسح لا غير.

وأخرى: بقوله (عليه السلام) في معتبر زرارة: "إن خاف على نفسه من سبع أو غيره، وخاف فوات الوقت، فليتيمم: يضرب بيده على اللبد أو البرذعة، ويتيمم ويصلي"(2). لظهور ذيله في أن التيمم بعد الضرب. ولا ينافيه ذكر التيمم قبل الضرب أيضاً، لقرب كون ذلك للتمهيد للتيمم بذكر مقدمته، جمعاً بين الصدر والذيل بعد ظهور وحدة المراد من التيمم فيهما.

ومثله قوله (عليه السلام) في موثق سماعة فيمن مرت به جنازة وهو على غير وضوء:" يضرب بيديه على حائط اللبن فليتيمم به"(3). وبذلك يتعين حمل النصوص المتضمنة للضرب في شرح التيمم على كون الضرب مقدمة له، لا جزءاً منه، فهو كتناول الماء في الوضوء. ولاسيما بملاحظة ارتكاز أن البدلية قائمة بين المسح والغسل، كما أشير إليه في صحيح زرارة المتقدم.

ويندفع الأول بأن ظاهر الآيتين ليس مجرد عدم جزئية الضرب للتيمم، ليجمع بينها وبين النصوص بأنه واجب ليس بجزء، بل عدم وجوبه أيضاً، وحيث كان ذلك مخالفاً للنصوص الظاهرة في وجوبه وجزئيته، فكما يتعين الخروج به عن ظهور الآية في عدم وجوبه، يتعين الخروج به عن ظهورها في عدم جزئيته.

وأما تفريع المسح على التيمم بالفاء في الآيتين فهو لا ينفع في إثبات عدم جزئية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 5.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من صلاة الجنازة حديث: 5.

ص: 204

(205)

الضرب لو كان المراد من التيمم الضرب، لأنه يكفي في التفريع كون المسح بالأثر الحاصل من الضرب وإن كان الضرب جزءاً أيضاً.

كما يندفع الثاني بأن معتبر زرارة لا يخلو عن إجمال، إذ كما يمكن حمله على أن التيمم بعد الضرب، عملاً بالذيل، وحمل الصدر على التمهيد له بذكر مقدمته - كما سبق - يمكن حمله على أن التيمم يبدأ بالضرب، عملاً بالصدر، وحمل الذيل على إرادة إكمال التيمم، نظير قولنا: غسل وجهه وتوضأ، أو: كبر وصلى.

كما أن من القريب حمل موثق سماعة على ذلك، أو على إرادة ما يعم الضرب من التيمم، ويكون شرحاً للمراد من قوله: "يضرب بيده" ،كما قد يناسبه التفريع المستفاد من الفاء، حيث يقرب كونه تفريعاً على السؤال، لا بياناً لما يراد بعد الضرب، وإلا كان الأنسب عطفه بالواو.

على أن الأمر في الحديثين لا يزيد على الاستعمال الذي هو أعم من الحقيقة، فلا يخرج به عن ظاهر النصوص الكثيرة الشارحة للتيمم، والظاهرة في كون الضرب جزءاً منه.

وأما ارتكاز أن البدلية قائمة بين المسح والغسل، فمقتضاه عدم خصوصية الضرب، بل يكفي كل ما يقتضي المسح بأثر التراب، كما هو الحال في الاغتراف بالنسبة إلى الغسل، وحيث كانت النصوص تأباه جداً، خصوصاً ما تعرض منها لتعدد الضرب، تعين رفع اليد عن الارتكاز المذكور، والعمل بظاهر النصوص، ورفع اليد بها عما يوهم خروج الضرب عن التيمم.

مضافاً في ذلك كله إلى صحيح المفضل بن عمر: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، ما تقول في المرأة تكون في السفر مع الرجال ليس فيهم لها ذو محرم، ولا معهم امرأة، فتموت المرأة، ما يصنع بها؟ قال: يغسل منها ما أوجب الله عليه التيمم، ولا تمس، ولا يكشف لها شيء من محاسنها التي أمر الله بسترها. قلت: فكيف يصنع

ص: 205

(مسألة 28): لا تجب فيه نية البدلية (1) عن الوضوء أو الغسل،

بها؟ قال: يغسل بطن كفيها، ثم يغسل وجهها، ثم يغسل ظهر كفيها"(1). لظهوره أو صراحته في أن بطن الكفين مما يجب عليه التيمم، وليس هو إلا بضربهما في الأرض قبل مسح الوجه بهما. وربما ينزل عليه صحيح زرارة المتقدم، بحمل المسح على ما يعم مماسة الأرض بالضرب عليها.

(1) كما في الجواهر. والعمدة فيه إطلاق أدلة تشريعه، وبه يخرج عن مقتضى قاعدة الاشتغال التي هي المرجع في أمثال المقام من موارد الشك في المحصل، حيث كان المطلوب هو الطهارة المترتبة عليه. ومنه يظهر ضعف ما في الوسيلة والذكرى وجامع المقاصد وعن جماعة من اعتبار نية البدلية، وجعله في الخلاف أحوط بعد أن قوى الاكتفاء بنية الاستباحة.

نعم حيث لا إشكال ظاهراً في اختلاف أثر التيمم باختلاف ما يقع بدلاً عنه، فأثر التيمم بدلاً عن الغسل غير أثر التيمم بدلاً عن الوضوء، فمع ثبوت كلا التيممين على المكلف لو لم يقصد أحدهما بعينه لا مجال لترتب كلا الأثرين على التيمم الواحد، لعدم المرجح، ويتعين بطلانه، وعدم صحته إلا مع تعيين ما يقع بدلاً عنه ليترتب أثره. ولعل هذا هو مراد من يدعى اختلاف حقيقة التيمم في المقام.

لكن ذلك إنما يقتضي اعتبار نية البدلية عن أحد الأمرين مع اجتماعهما، كما هو الحال بناء على ما سبق منهم من عدم الاكتفاء بتيمم واحد بدلاً عنهما لو قيل بعدم إجزاء غسل غير الجنابة عن الوضوء، ولا يقتضي اعتبار نية البدلية مع الانفراد، إما لوحدة الحدث، أو لإجزاء الغسل عن الوضوء المقتضي لإجزاء التيمم عنه، أو للاجتزاء بتيمم واحد حتى مع عدم إجزاء الغسل عن الوضوء، كما سبق. فلاحظ.

هذا وقد سبق في المسألة الثالثة والسبعين من مباحث الوضوء عند الكلام في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب غسل الميت حديث: 1.

ص: 206

بل تكفي نية الأمر المتوجه إليه، ومع تعدد الأمر لابد من تعيينه بالنية (1).

تداخل الوضوء والغسل مع اجتماع أسبابهما أن مقتضى التداخل اتحاد حقيقة الغسل وإن اختلف أثره. وعلى ذلك يتعين وحدة حقيقة التيمم الذي هو بدل عن الغسل، فلا يحتاج إلى نية البدلية.

بل حتى مع البناء على عدم رجوع التداخل لوحدة حقيقة الغسل يتعين البناء على وحدة حقيقة التيمم، لعين ما سبق في توجيه الاجتزاء بتيمم واحد عن الغسل والوضوء لو اجتمعا، فلا يحتاج إلى نية البدلية عن غسل بعينه، حتى لو قيل بلزوم تعيين سبب الغسل مع تعدده، الذي هو خلاف التحقيق.

نعم لو قيل بعدم الاجتزاء بتيمم واحد مع تعدد أسباب الغسل، بل يجب تعدد التيمم بتعددها، لعدم ملازمة التداخل في الغسل للتداخل في التيمم، فمع تعدد الإحداث يلزم تعيين الحدث الذي يراد التيمم عنه. لعين ما سبق بناء على تعدد التيمم بدلاً عن الوضوء والغسل مع اجتماعهما.

لكن المبنى المذكور ضعيف جداً. لمخالفته لإطلاق أدلة الطهورية، كما سبق نظيره عند الكلام في الاجتزاء بتيمم واحد عن غسل غير الجنابة لو قيل بإجزائه عن الوضوء. فراجع.

(1) كأنه لاعتبار قصد الامتثال، وقصد امتثال الأمر فرع تعيينه، أما الأمر المردد فلا وجود له ليمتثل. لكن ذلك إنما يتم - في الجملة - في الأوامر التعبدية، التي لا تسقط إلا بقصد امتثالها أو قصد ملاك المحبوبية المستكشف بها، ومن الظاهر أن أوامر الطهارة توصلية، ولذا تجزي الطهارة لغاية في الغايات الأخر التي لم تقصد بها.

وليس مرجع عبادية الطهارات إلى عبادية أوامرها، بل إلى لزوم إيقاعها بوجه عبادي، ومن الظاهر أنه يكفي في تحقق العبادية التقرب بالعمل بلحاظ التوصل به لامتثال الأمر وإن لم يعين ذلك الأمر مع تعدده ولو إجمالاً، بل وإن لم يكن الأمر

ص: 207

(208)

(مسألة 29): الأقوى أن التيمم رافع للحدث (1)

موجوداً، بل كان محتملاً، أو اعتقد المكلف وجوده خطأً.

هذا ولو فرض تعدد حقيقة التيمم باختلاف ما يقع بدلاً عنه من غسل أو وضوء، أو باختلاف الأمر به، فحيث لا مائز بين حقائقه إلا النية لزم تعيينه ولو من طريق تعيين الأمر الذي يراد امتثاله، لتتعين حقيقة ما وقع، ولا يشرع ما خلا عن التعيين، إذ لا وجود للمردد بين الحقيقتين. إلا أنه لا شاهد على ذلك، ومقتضى الإطلاق عدم اعتبار قصد شيء حتى التقرب لولا ما سبق من المفروغية عن عبادته.

(1) المعروف من مذهب الأصحاب أن التيمم ليس رافعاً للحدث، بل هو مبيح لما يتوقف على الطهارة مع بقاء الحدث على حاله. وقد ادعى الإجماع على ذلك منّا - بل من عامة المسلمين عدا الشاذ منهم - في كلام جماعة كثيرة تبلغ حدّ الاستفاضة، كما يظهر بمراجعة مفتاح الكرامة في بحث نية التيمم، ومسألة ما إذا تيمم الجنب ثم أحدث بالأصغر في أواخر مباحث التيمم.

ولا يظهر الخلاف في ذلك من القدماء إلا من السيد المرتضى في شرح الرسالة في المسألة المذكورة، وإن حاول بعضهم توجيهه بما لا ينافي الإجماع أو توجيه الإجماع بما لا ينافيه، ويأتي التعرض لكلامه في المسألة الأربعين إن شاء الله تعالى. كما لا يظهر الخلاف في ذلك من المتأخرين إلا من الشهيد في القواعد والدروس، بل حتى الذكرى على غموض في كلامه ومهما كان فالمعروف من مذهب الأصحاب (رضي الله عنهم) عدم رافعية التيمم للحدث.

بل في التذكرة والمنتهى والإرشاد وروض الجنان وعن التحرير والمقاصد العلية عدم جواز نية رفع الحدث، بل احتمل في التذكرة بطلان التيمم معها، وجزم به في المبسوط والمعتبر والقواعد وجواهر القاضي. فإن أرادوا به ما إذا نوى الرفع مع نية الاستباحة فهو أمر زائد على ما سبق من المشهور. وإن أرادوا به ما إذا اقتصر عليه

ص: 208

رجع إلى ما سبق من المشهور. اللهم إلا أن يدعى ملازمة نية الرفع لنية الاستباحة، فيرجع للأول.

وكيف كان فالعمدة في استدلالهم على عدم مشروعية نية الرفع - بعد الإجماع - أنه حيث لا إشكال في وجوب الطهارة المائية على المتيمم لو وجد الماء، وفي أن الطهارة المائية المذكورة ليست لحدث جديد، لعدم كون وجدان الماء من أسباب الحدث، بل للحدث الأول، تعين عدم رافعية التيمم له.

مضافاً إلى النصوص المتضمنة إطلاق الجنب على المتيمم. مثل ما رواه العامة من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمرو بن العاص لما صلى بأصحابه متيمماً: "صليت وأنت جنب"(1) ، وموثق ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قلت له: رجل أمّ قوماً وهو جنب وقد تيمم وهم على طهور. قال: لا بأس"(2). وربما استدل بغيرهما.

هذا ولكن مقتضى قوله تعالى بعد ذكر التيمم: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم" (3) ترتب الطهارة على التيمم. وهو أيضاً مقتضى النصوص المستفيضة بل المتواترة المتضمنة طهورية التراب والتيمم، وقوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم في متيمم أصاب الماء وقد صلى ركعتين: "يمضي في صلاته ولا ينقضها لمكان أنه دخلها وهو على طهر بتيمم"(4). وتشهد به مرتكزات المتشرعة، بل يظهر من الأصحاب المفروغية عنه، ولذا عدوا التيمم ثالث الطهارات.

وأما حمل جميع ذلك على إرادة أنه بحكم الطهارة في جواز الدخول في الغايات المعتبرة فيها، وليس طهارة حقيقية، بحيث يكون دليل جواز الدخول في تلك الغايات بالتيمم مخصصاً لعموم اعتبار الطهارة فيها بلسان الحكومة. فهو مما تأباه تلك الأدلة،

********

(1) كنز العمال ج: 5 ص: 143 حديث: 2943.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 17 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 3.

(3) سورة المائدة الآية: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 209

كالمرتكزات.

وحينئذ فمن الظاهر أن الطهارة تضاد الحدث، وسببها رافع له، فإذا كان التيمم مطهراً تعين رافعيته له.

لكن في الجواهر أن أدلة طهورية التراب لا تستلزم رافعية التيمم للحدث لعدم التنافي بينهما، وعلى ذلك جرى بعض مشايخنا (قدس سره) بعد أن استبشع القول بالإباحة بمعنى عدم المطهرية وإن ترتبت أحكامها، فالتزم بأن الجنب إذا تيمم فهو جنب متطهر، لا أنه غير جنب، ولا أنه مستبيح للصلاة من دون طهارة.

وفيه: أن طهورية التراب ترجع إلى كونه آلة لإحداث الطهارة، كما هو صريح ما تضمن مطهرية التيمم. ومن الظاهر أن الطهارة ليست إلا نحواً من النزاهة والنظافة تقابل نحواً من الكدر والقذر، وبلحاظ ذلك كان التقابل بينها وبين خبث النفس، أو النسب أو الأصل أو النجاسة الخبيثة، أو الأحداث الصغيرة والكبيرة من تقابل الضدين، فاجتماع الطهارة بالمعنى الذي يفيده الوضوء والغسل والتيمم مع الحدث من اجتماع الضدين الممتنع عقلاً. والالتزام في المقام به أبشع من الالتزام بعدم إفادة التيمم للطهارة وإنما يترتب عليه أحكامها، إذ ليس في ذلك إلا الخروج عن قوة ظهور الأدلة في إرادة مطهريته حقيقة وحملها على مطهريته حكماً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الجنب عرفاً وشرعاً كل من حصل له سبب الجنابة ولم يغتسل. فهو مسلم بالإضافة إلى العرف، لعدم إدراكهم مطهرية التيمم. وأما بالإضافة إلى الشرع فهو ممنوع لا يناسب الاعتراف بمطهرية التيمم شرعاً إن أريد بالجنب من ثبت له حدث الجنابة فعلاً، وإنما يتجه لو أريد به من ثبت له مقتضي الحدث، لأن تعرض التيمم للبطلان بوجدان الماء المستلزم لفعلية الحدث تبعاً للسبب الحاصل له سابقاً يصحح نسبة الحدث له اقتضاء. لكن ذلك يرجع لتحديد مفهوم الجنب عند الإطلاق، لا لاجتماع الحدث والطهارة فيه وفي غيره ممن يتيمم عند الحدث. ومن هنا لا مخرج عما ذكر من أن وضوح مطهرية التيمم وتضاد الطهارة مع

ص: 210

الحدث ملزم بالبناء على رافعيته له.

ولا مجال مع ذلك للاستدلال على عدم رافعيته بما تقدم من النصوص المتضمنة إطلاق الجنب على المتيمم، لعدم كثرتها وصراحتها بنحو يخرج بها عما ذكرنا. ولاسيما مع ما سبق من صدق الجنب عرفاً، بل وشرعاً بنحو من العناية، فإن الاستعمال أعم من الحقيقة ويكفي فيه أدنى مناسبة.

وأشكل من ذلك ما في الجواهر بأن مقابلة التيمم بالطهور في ذيل موثق ابن بكير كالصريح في بقاء الحدث. إذ فيه: أنه إن رجع إلى عدم مطهرية التيمم فهو لا يناسب ما اعترف به من دلالة الأدلة على طهورية التراب، إذ لا معنى لطهوريته مع عدم مطهرية استعماله، أما لو بني على مطهرية التيمم فلابد من كون المقابلة غير حقيقية، ولا مجال للاستشهاد بها.

وأما الإجماع المدعى على عدم رافعيته فلا ينهض بالاستدلال لوضوح أن ذلك أمر علمي محض لا يترتب عليه العمل، ولم تتضمنه النصوص، ليعلم رأي الأصحاب والمتشرعة فيه قبل عصر تدوين الفتاوى وتفريع الفروع والتدقيق في تخريجها، يوم كان فقه الطائفة منحصراً برواياتها، كي يحتمل أو يعلم بكونه إجماعاً تعبدياً مستنداً لرأي المعصوم.

وإنما ظهر القول بذلك عند ما بدأ الأصحاب بتفريع الفروع وتخريج وجوهها لمجاراة العامة ومقارنة أقوالنا بأقوالهم من حيثية الفتوى والاستدلال، ومستنده فيما يظهر منهم هو الوجه المتقدم، حيث ذكره الشيخ في الخلاف عاضداً له ببعض النصوص المتقدمة، وجرى عليه من بعده. فهو إجماع دليلي لا ينهض بالحجية.

وأما الوجه المتقدم الذي عرفت أنه عمدة الدليل في المقام فهو إنما يتم لو كان الحدث أمراً حقيقياً تكوينياً حيث لا يعقل عوده بعد ارتفاعه ووجوده بعد انعدامه إلا بتجدد سببه. أما حيث كان أمراً اعتبارياً فمن الممكن الحكم برجوعه بعد ارتفاعه، للحكم ببطلان الرافع، بلا حاجة إلى تجدد السبب، لأن الاعتبار خفيف المؤنة.

ص: 211

وبذلك يفرق بين رجوعه للحكم ببطلان الرافع المطهر ورجوعه بتجدد السبب، فالأول رجوع للفرد الأول المستند للسبب الأول، والثاني حدوث لفرد آخر مستندللسبب المتجدد.

ولذا كان الفرق واضحاً مفهوماً بين كون الارتداد مثلاً مبطلاً للطهارة وكونه سبباً للحدث. حيث يظهر الأثر العملي بينهما فيما لو ارتد الشخص ولم يكن قد أجنب أصلاً، فإنه لا يحكم بجنابته بالارتداد على الأول ويحكم بها على الثاني.

ونظير ذلك في الاعتباريات مسقطية التهاتر للدين، فيما لو باع المدين عيناً للدائن بقدر دينه في الذمة، حيث يسقط الدين ما دام البيع نافذاً، فإذا بطل بالتقابل أو بغيره من موجبات الفسخ، عاد الدين الأول وترتبت أحكامه، دون أحكام الملك الجديد بسب جديد، فلا يجب فيه الخمس مثلاً لو كان ميراثاً. فلاحظ.

وبذلك يجمع بين رافعية التيمم للحدث التي هي مقتضى مطهريته وبطلانه بوجدان الماء، فيكون رافعاً موقتاً معرضاً للبطلان، بحيث تسقط رافعيته ببطلانه ويعود ما ارتفع به. وإلى هذا يرجع ما ذكره الشهيد في القاعدة المائة والسادسة والسبعين من كتاب القواعد والفوائد. وربما يرجع إليه ما في الدروس قال:" ويجب فيه نية الاستباحة، لا رفع الحدث. إلا أن يقصد رفع الماضي ".ونحوه عن البيان. وإلا فظاهره في غاية الغرابة، لظهور أن المتيمم ليس مستمر الحدث - كالمستحاضة - ليكون له حدث ماض ولاحق. كما نبّه لذلك في جامع المقاصد.

كما لعله إلى ما ذكرنا نظر سيدنا المصنف (قدس سره) على إيهام في كلامه، كما يظهر بمراجعة ما ذكره في مسألة ما إذا أحدث المتيمم بدلاً عن الغسل حدثاً يوجب الوضوء. فراجع. بل به صرح بعض مشايخنا (قدس سره) في توجيه رافعية التيمم وإمكان القول بها، وإن اختار بعد ذلك أنه مبيح لا غير.

ص: 212

رفعاً ناقصاً (1)

(1) لأن بدلية التيمم عن الطهارة المائية اضطرارية، والمناسب للبدلية الاضطرارية عدم وفاء البدل بتمام ملاك المبدل، فإنه وإن أمكن وفاء البدل الاضطراري في حال الاضطرار بتمام ملاك المبدل في حال الاختيار، إلا أنه خلاف المنسبق من إطلاق دليل البدلية المذكورة.

ومن ثم يفهم منه - كما سبق - فعلية ملاك المبدل وتحقق موضوعه في حال الاضطرار بنحو لا يجوز تفويته بإيقاع النفس في الاضطرار، مع أنه لا محذور في ذلك لو كان البدل الاضطراري وافياً بملاكه.

ويشهد به أيضاً قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم فيمن أجنب في السفر ولم يجد إلا الثلج:" هو بمنزلة الضرورة يتيمم ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه"(1).

ويناسب ذلك استحباب إعادة الصلاة به في جملة من الموارد التي تضمنتها النصوص(2) ، وكراهة إمامة المتيمم للمتوضئين التي تضمنتها بعض النصوص أيضاً(3) ، واستحباب تحمل المشقة الشديدة في استعمال الماء التي تضمنتها نصوص آخر(4).

وبذلك يخرج عن إطلاق طهورية الأرض، خصوصاً ما تضمن أن التراب أو التيمم أحد الطهورين، وأن رب الماء هو رب الصعيد، ونحو ذلك مما يظهر منه بدواً مساواة التراب والتيمم للماء وللطهارة المائية في الطهورية المعهودة المطلوبة. ولاسيما ما كان منها مسوقاً للردع من استئناف الصلاة بالتيمم أو إعادتها بوجدان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 9.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14، 16 من أبواب التيمم.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 17 من أبواب صلاة الجماعة.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب التيمم.

ص: 213

لا يجزي مع الاختيار (1)، لكن لا تجب فيه نية الرفع ولا نية الاستباحة للصلاة (2) مثلاً.

الماء(1) ، حيث يظهر منه عدم الموضوع للاستئناف لوفاء التيمم بالمطلوب. إلا أنه لابد من الخروج عن جميع ذلك، وحمله على مجرد تحقق أصل الطهارة المطلوبة ولو بأدنى مراتبها التي يتحقق بها الإجزاء، بقرينة ما تقدم. فلاحظ.

(1) يعني مع القدرة على الطهارة المائية، أو مع فعلية التكليف بها، على ما سبق الكلام فيه في تحديد موضوع التيمم. لكن عدم إجزاء الرفع الناقص حال الاختيار فرع تحققه، وهو غير معلوم، بل لما كان مقتضى أدلة تشريع التيمم عدم مشروعيته إلا مع الاضطرار كان مقتضاها عدم حصول الرفع الناقص به في غير هذا الحال. ولذا لا إشكال في عدم الاجتزاء بالتيمم الحاصل حين القدرة على الطهارة المائية وفعلية التكليف بها حتى بعد تعذرها وسقوط التكليف بها وإن لم يتحقق الحدث الناقض له، بل لابد من إعادته حينئذٍ. وكذا بطلان التيمم بوجدان الماء حتى لو تعذر بعد ذلك، فيجب إعادته، ولا يجزي التيمم الأول. ومن ثم كان الأولى له (قدس سره) أن يقول بدل ذلك: يجزي مع الاضطرار.

(2) لعدم الدليل على وجوب أحد الأمرين. وإطلاق الأدلة الشارحة للتيمم بدفعه. لكن صرح غير واحد بوجوب نية الاستباحة. بل في جامع المقاصد: "ولا ريب في اعتبار قصد الاستباحة، لامتناع حصولها بدون النية" .وهو كما ترى مصادرة، بل مقتضى إطلاق دليل تشريعه حصولها ولو مع عدم النية. ويظهر تفصيل الكلام في ذلك مما تقدم منا في المسألة الواحدة والسبعين من مبحث الوضوء عند الكلام في النية، فإن الكلام في المقامين على نهج واحد.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14، 21 من أبواب التيمم.

ص: 214

(215)

(مسألة 30): يشترط فيه المباشرة (1) والموالاة (2)

(1) كما هو ظاهر الأصحاب ونفى في المنتهى الخلاف فيه، وظاهر كشف اللثام وصريح الحدائق دعوى الإجماع عليه، ونفى الريب فيه في المدارك. وهو كذلك لظهور نسبته للمكلف في الآيتين وغيرهما في مباشرته له، كما هو المقطوع به من النصوص البيانية أيضاً. وقد تقدم نظير ذلك في الوضوء.

(2) كما عن جماعة التصريح به، ونسبه في المنتهى إلى علمائنا، وفي الذكرى والحدائق نسبته للأصحاب، وفي المدارك إلى قطعهم، وفي جامع المقاصد والروض أن الدليل عليه الإجماع. وقد استدل عليه بوجوه:

الأول: ما في الخلاف والمعتبر من أن التيمم إنما يشرع في ضيق الوقت، فلو لم يوال فيه لخرج الوقت وفاتت الصلاة. وفيه - مع أن ذلك لا يقتضي اعتبار الموالاة في التيمم شرطاً، بل وجوبها فيه كوجوبها في الغسل لو وقع في ضيق الوقت، وأنه موقوف على عدم مشروعية التيمم في السعة -: أن المراد بضيق الوقت هو ضيقه عن الطهارة المائية، وهو لا يستلزم الموالاة المعتبرة في التيمم عندهم قطعاً.

الثاني: أن ذلك مقتضى البدلية، ولعله عليه يبتني ما في الدروس من عدم اعتبارها فيما كان بدلاً عن الغسل، وعن نهاية الأحكام احتماله. وفيه - مع مخالفته لإطلاق معاقد الإجماعات وجملة من أدلتهم في المقام - أن البدلية إنما تقتضي قيام البدل مقام المبدل في المشروعية والأثر، لا اشتراكهما في الأجزاء والشرائط.

الثالث: التيمم البياني عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) قال في الذكرى: "فيجب التأسي" .ويشكل بأن التيممات البيانية وإن صدرت في مقام شرح ماهية التيمم، فتكون ظاهرة في لزوم متابعتها، ومن القريب جداً وقوعها بنحو المولاة. إلا أن من القريب أيضاً انصراف البيان فيها للكيفية من حيثية مقدار الممسوح وكيفية المسح. ولاسيما بلحاظ صدور كثير منها في مقابل تمعك عمار بالتراب، وإنما وقعت

ص: 215

بنحو المولاة لعدم المقتضي للتراخي بعد أن كان المراد بيان تمام الأجزاء، لا لكونها شرطاً في الواجب، ولذا لم ينبه الراوي لهذه الجهة في مقام حكاية الفعل، حيث يناسب ذلك جداً انصراف البيان لغيرها.

الرابع: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن جعل الماهية المخترعة المركبة موضوعاً لعنوان كالتيمم والوضوء والغسل والصلاة وغيرها ظاهر في كونها عملاً واحداً، ولابد في وحدته عرفاً من اتصال أجزائه بنحو لا يفصل بينها بما يخل بهيئتها عرفاً لينتزع منها صورة واحدة تكون هي موضوع ذلك العنوان، فالموالاة بالمعنى المذكور من لوازم جعل العنوان للعمل المركب، بحيث يكون من الماهيات المخترعة. وما دل في الغسل على جواز تفريقه تعبد خاص يقتصر على مورده، لمخالفته لمقتضى الأصل. ولعله إلى هذا يرجع ما في الجواهر من أن التفريق المنافي لهيئة التيمم وصورته مانع من صدق الاسم.

وفيه: أن الوحدة لما لم تكن حقيقية، بل اعتبارية فهي تابعة لاعتبار من بيده الاعتبار، وهو يختلف من حيثية اعتبار الاتصال وعدمه باختلاف الموارد، كما تختلف في ذلك الماهيات العرفية فيعتبر فيها الاتصال تارة، كما في الثوب والسيارة، والمحاضرة، ولا يبتني عليها أخرى، كما في الدولة والأسطول، والحرب.

وحينئذ إذا كان مقتضى الإطلاق أو الدليل الخاص جواز الفصل الطويل لم يخل بالوحدة المذكورة، ولا بصدق العنوان الواحد على الأجزاء المتفرقة. ولذا لم يمنع جواز التفريق في الغسل والحج والعمرة والكفارة وغيرها من اعتبار الوحدة وصدق العنوان على مجموع أجزائها مع الفصل الطويل المخل بالهيئة. وعلى ذلك يكون اعتبار الاتصال بين أجزاء المركب الواحد ذي العنوان الواحد هو المحتاج للدليل.

الخامس: استفادته من الآيتين الكريمتين إما لأن عطف التيمم بالفاء ظاهر في لزوم تعقيب التيمم بمجموع أجزائه لإرادة القيام إلى الصلاة من دون فصل، وذلك لا يكون إلا بالموالاة، كما في المنتهى والذكرى. وإما لأن عطف المسح بالفاء فيها أيض

ص: 216

ظاهر في لزوم تعقيبه على ما قبله من دون فصل. وإما لأن الأمر بالمسح فيها ظاهر في الفور.

والكل كما ترى، لأن التيمم في الآيتين الشريفتين ظاهر في القصد، لا في المعنى الشرعي المعهود. مع أن المراد بالفاء الأولى بيان ترتب وجوب التيمم على تحقق الحدث وعدم الماء، لا بيان لزوم التعجيل بالتيمم عند إرادة القيام للصلاة. والمراد بالفاء الثانية تفريع المسح على قصد الصعيد، لا بيان وجوب التعجيل به عنده. كيف ولا ريب في عدم وجوب ذلك، بل قيل بوجوب تأخير التيمم إلى آخر الوقت. كما أن المعروف عدم دلالة الأمر على الفور.

ومن ذلك يظهر إمكان الاستدلال بإطلاق الآيتين الكريمتين على عدم اعتبار الموالاة، كما هو أيضاًَ مقتضى إطلاق بعض النصوص، كخبر زرارة عن أبي جعفر: "في التيمم. قال: تضرب بكفيك الأرض، ثم تنفضهما، وتمسح بهما وجهك ويديك"(1). بل قد يستفاد من بعض النصوص البيانية، وهي المتضمنة لحكاية الإمام (عليه السلام) تيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما علم عماراً(2) ، فإنه وإن كان المظنون قوياً مولاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في تيممه، لعدم الغرض في التراخي بعد أن كان الغرض تعليم تمام الأجزاء، كما سبق، إلا أن إهمال الإمام (عليه السلام) لذلك، وعدم التنبيه عليه في مقام الحكاية المقصود منها التعليم، واقتصاره على بيان الأجزاء قد يظهر في عدم اعتبار ما زاد عليها.

ومن هنا ينحصر الأمر بالإجماع حيث لا يبعد نهوضه برفع اليد عن مقتضى الإطلاق المذكور في مثل هذه المسألة العملية الشايعة الابتلاء، فإنه يبعد خفاء الحكم فيها عليهم. ولا يقدح فيه عدم تعرض بعض الأصحاب له، كالصدوق والمفيد والمحقق والعلامة في الشرايع والقواعد وغيرهم، لقرب غفلتهم عن ذلك بسبب تعارف التيمم بنحو الموالاة. وإن كان الأمر لا يخلو عن إشكال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 7.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 8، 9.

ص: 217

حتى فيما كان بدلاً عن الغسل (1). ويشترط فيه أيضاً الترتيب على حسب ما تقدم (2)، والأحوط وجوباً البدئة من الأعلى والمسح منه إلى

بل لا ينبغي التأمل في عدم شرطيته لو تعذر، عملاً بإطلاق الأدلة بعد قصور الإجماع - لو تم - عن الفرض المذكور.

ثم إنه وإن عبر بعضهم بوجوب الموالاة في التيمم، إلا أن الظاهر إرادة الوجوب الوضعي، الراجع لكونها قيداً فيه، فيبطل مع الإخلال بها، لا التكليفي. بل هو بعيد في نفسه جداً، مدفوع بالأصل قطعاً. وما في الذكرى ويظهر من كشف اللثام ومحكي المقاصد العلية ومجمع البرهان من احتمال ذلك، أو القول به مع احتمال عدم البطلان بالإخلال به. ضعيف جداً.

هذا والظاهر أن المعيار في الموالاة على حفظ الصورة عرفاً، بحيث يعد المكلف منشغلاً بالتيمم من دون قطع له وانشغال بغيره. لأن ذلك هو المنسبق منه. وما عن الذكرى من اعتبار عدم الفصل بمقدار زمان جفاف الماء لو كان وضوءاً. غريب وبعيد عن ظاهر كلامهم جداً، لاحتياج إرادته إلى عناية لابد معها من التنبيه. نعم هو المناسب للوجه الثاني من الاستدلال. كما أني لم أجده في الموضع المناسب من الذكرى. فراجع.

(1) كما هو مقتضى إطلاق الأصحاب، وأكثر وجوه الاستدلال المتقدمة وإن كان مقتضى الوجه الثاني عدم وجوب المولاة فيه، كما تقدم عن نهاية الأحكام احتماله ومن الدروس الجزم به.

(2) إجماعاً صريحاً وظاهراً محكياً عن جماعة كثيرة. ولعل إهمال بعضهم لذكره رأساً، أو لذكر الترتيب بين الكفين، للمفروغية عنه، لا للخلاف فيه. وإلا كان المناسب التنبيه لعدم وجوبه رداً على القائلين بوجوبه.

ويكفي في الترتيب بين الضرب والمسح تفريع المسح على تيمم الصعيد في

ص: 218

الآيتين الشريفتين ولاسيما مع قوله في الثانية:" فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه "لوضوح أن مصحح نسبة المسح للصعيد المسح بأثره الحاصل من الضرب المستلزم لتقديمه. كما يكفي في الترتيب بين الوجه واليدين في المسح ظاهر النصوص البيانية الواردة لشرح التيمم وبيان كيفيته.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من إجمالها، لأن مجرد وقوع الترتيب بين الأفعال لا يدل على وجوبه بعد أن كان من ضروريات الأفعال التي يتعذر الجمع بينها. فهو إنما يتم في الفعل الابتدائي، دون مثل المقام مما كان الفعل فيه صادراً لبيان كيفية الفعل المشروع، حيث يظهر في اعتبار تمام ما اشتمل عليه من الأفعال والهيئات.

هذا وقد استدل (قدس سره) بصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في بيان تيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام تعليم عمار(1) حيث أشتمل على الترتيب بين مسح الوجه ومسح اليدين. بدعوى أن حكاية الترتيب من الإمام (عليه السلام) ظاهرة في اعتباره.

لكنه يشكل بأن الاستدلال إن كان بالترتيب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام تعليم عمار، فهو لا يزيد على الترتيب من الأئمة (عليهم السلام) في مقام بيان التيمم الذي تضمنته النصوص البيانية الأخر، والتي سبق الاستدلال بها.

وإن كان بلحاظ أن حكاية الإمام (عليه السلام) للترتيب في تيمم النبي ظاهرة في وجوبه، وليس كحكاية الرواة للترتيب في تيممهم (عليهم السلام). فهو إنما يتم لو كانت الحكاية منهم (عليهم السلام) في مقام تعليم التيمم، ولا يظهر من الصحيح ذلك، بل مجرد نقل قضية خارجية. على أن حكايتهم (عليهم السلام) لتيمم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام التعليم لا تزيد على تيممهم بأنفسهم في مقام التعليم. فالظاهر عدم الفرق بين هذا الصحيح وغيره، واستفادة اعتبار الترتيب من الكل بالتقريب المتقدم.

نعم النصوص المذكورة لم تتضمن الترتيب بين اليدين، لكن الاستدلال لم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 9.

ص: 219

الأسفل (1)

كان بالتيمم البياني، لا بنقله، فمن البعيد جداً خلوّ التيممات البيانية عنه ووقوع بعضها بعكس الترتيب. بل هو كالمقطوع بعدمه، لعدم مناسبته لمفروغية الأصحاب المذكورة، ومجرد عدم التنبيه عليه لا يمنع من استفادة الوجوب منها، ولاسيما مع قرب المفروغية عنه والاتكال على معروفيته، خصوصاً مع ثبوته في الوضوء وقرب كونهما على نحو واحد.

ويؤيده قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة حكاية عن تعليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار:" ثم مسح كفيه كل واحدة على الأخرى، فمسح اليسرى على اليمنى، واليمنى على اليسرى"(1). فإن الواو وإن تدل على الترتيب وضعاً، إلا أن من البعيد جداً حكاية الإمام (عليه السلام) لفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعكس الترتيب.

وأظهر منه صحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التيمم. فضرب بكفيه الأرض، ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع... ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه..."(2). فإنه وإن اشتمل في كيفية التيمم على ما لا مجال للبناء عليه، إلا أن اشتماله على الترتيب بين اليدين يناسب ما ذكرنا جداً. على أن ما يأتي في البدأة بالأعلى ينفع في المقام.

(1) على المشهور كما عن الكفاية، وعن المنتهى أنه ظاهر المشايخ، وفي مفتاح الكرامة" هو ظاهر جمهور الأصحاب ".وكأنه لظهور التحديد في كلماتهم بمن وإلى في الترتيب لا في مجرد تحديد الممسوح. لكن في بلوغ ذلك حدّ الإجماع إشكال، وفي نهوضه بالحجية على ذلك منع ظاهر. كالاستدلال عليه بأدلة البدلية، كما يظهر مما تقدم في الموالاة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب التيمم حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 220

(221)

وطهارة الماسح والممسوح (1).

نعم لو ثبت اشتمال النصوص البيانية عليه لتعارفه وكان عدم التنبيه عليه فيها للمفروغية عنه، أتجه نهوضها بإثبات وجوبه، نظير ما تقدم في الترتيب بين اليدين. لكنه لم يثبت.

اللهم إلا أن يقال: لا إشكال في اشتمال بعضها عليه، وإلا لنبّه الأصحاب لوجوب مخالفة ذلك لو أجمعت النصوص البيانية عليه، فيكون البعض المشتمل على ذلك ظاهراً في وجوبه، ولا شاهد على اشتمال بعضها على خلافه ليرفع به اليد عن الظهور المذكور.

ولاسيما مع قرب المفروغية عنه ومع اشتمال صحيح محمد بن مسلم المتقدم في الترتيب بين اليدين عليه، حيث يناسب ذلك جداً، ومعه يشكل الرجوع لإطلاق المسح في الآيتين الكريمتين والنصوص الشريفة، خصوصاً مع سوقه فيها في مساق الغسل في الوضوء الذي ثبت إرادة ذلك فيه في الجملة. وذلك إن لم ينهض بإثبات وجوبه - بضميمة قاعدة الاشتغال - فلا أقل من نهوضه بوجوب الاحتياط فيه. فتأمل.

(1) كما في جامع المقاصد وعن جماعة، بل في شرح المفاتيح نسبته للفقهاء، وعن حاشية القواعد للشهيد الإجماع عليه. لكن لا مجال لثبوته بعد قلة التعرض لذلك من الأصحاب كما في المدارك. بل في الجواهر: "فلم أعثر على مصرح بشيء منه من قدماء الأصحاب" .وعن ابن فهد والعميدي في حواشيه التصريح بجواز نجاسة اليدين، وفي المدارك والحدائق وعن مجمع البرهان الميل إليه. ومن ثم لا مجال لدعوى الإجماع، فضلاً عن حجيته.

ودعوى: أن الإجماع وإن لم يثبت من فتوى الأصحاب، إلا أنه يمكن إثباته بملاحظة المرتكزات، الراجعة إلى أن الطهارة الحدثية فرع الطهارة الخبثية، فمع

ص: 221

(222)

(مسألة 31): مع الاضطرار يسقط المعسور ويجب الميسور، على حسب ما عرفت في الوضوء من حكم الأقطع (1)،

عدم طهارة الماسح والممسوح من الخبث لا يمكن تأثير المسح الطهارة من الحدث. فالإجماع المذكور ارتكازي لا يقدح فيه قلة المصرحين بالحكم، ولا تصريح بعضهم بخلافه لشبهة يغفل معها عن مقتضى الارتكاز.

مدفوعة بأن ذلك - لو تم - إنما ينهض باعتبار الطهارة الخبيثة للمطهر من الحدث، وهو في المقام التراب - على ما أشرنا إليه عند الكلام في اعتبار طهارته - لا الماسح الذي هو آلة التطهير - بعد أن لم تكن نجاسته مسببة لنجاسة التراب المطهر لفرض الجفاف - فضلاً عن الممسوح.

ومثله الاستدلال بأن مقتضى بدلية التيمم عن الوضوء والغسل اعتبار الطهارة في أعضائه كما تعتبر في أعضائهما. لما سبق عند الكلام في اعتبار الموالاة من عدم اقتضاء البدلية مساواة البدل للمبدل منه في الشروط. ولاسيما بملاحظة أن اعتبار طهارة أعضاء الوضوء والغسل إنما هو لتجنب نجاسة الماء المطهر، الذي لا مجال له في المقام، لفرض جفاف التراب المطهر فلا ينفعل بملاقاة الأعضاء الماسحة. ومن ثم يشكل إثبات المدعى - وإن قريباً للمرتكزات - بعد إطلاق الأدلة. فلاحظ.

(1) أما عدم سقوط التيمم في الأقطع فالظاهر عدم الإشكال فيه بينهم، وفي الجواهر: "بلا خلاف، بل لعله إجماعي إن لم يكن ضرورياً، لقاعدة الميسور" .لكن قال في المبسوط: "وإذا كان مقطوع اليدين من الذراعين سقط عنه فرض التيمم. ويستحب أن يمسح ما بقي، لأن ما أمر الله بمسحه قد عدم فيجب أن يسقط فرضه".

وقد حمله غير واحد على سقوط التيمم عن اليدين، كما صرح هو به في الخلاف، فيكون المراد باستحباب مسح ما بقي هو مسح ما بقي من اليدين، مع وجوب مسح الجبهة محافظة على الميسور من التيمم، كما يناسبه استدلاله. بل حكمه باستحباب

ص: 222

مسح ما بقي ظاهر في مفروغيته عن وجوب الصلاة، المستلزم لوجوب الطهارة لها ومشروعيتها، لسقوط الصلاة عنده عن فاقد الطهورين.

ومن ثم لا يقدح كلامه هذا في الإجماع المدعى، تبعاً للمرتكزات ولو بملاحظة ما ثبت في الوضوء والغسل، حيث يفهم من مجموع ذلك ابتناء الطهارات الثلاث على الميسور وإن لم يثبت عموم قاعدة الميسور، كما تكرر منا التنبيه له، وإلا فالبناء على سقوط الصلاة عن مثل الأقطع مما لا يظن بأحد احتماله.

ولولا ذلك لكان مقتضى الارتباطية المستفادة من الآيتين الشريفتين ومن النصوص البيانية تعذر التيمم. ولا مجال للخروج عنه بما تضمن أن الصلاة لا تسقط بحال، كما يظهر مما تقدم في أواخر الكلام في المسألة التاسعة في فصل مسوغات التيمم، وأشرنا إليه في المسألة السادسة والعشرين في فصل كيفية التيمم.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن مقتضى الآيتين الكريمتين في مقطوع اليد الواحدة وجوب مسح الثانية، لأن الجمع في الوجوه والأيدي انحلالي بلحاظ مجموع المكلفين الراجع إلى أنه يجب على كل مكلف غسل وجهه ويديه، فإذا كان ذا يدين وجب مسحهما، وإذا كان ذا يد واحدة وجب مسحها كما ثبت في الوضوء أيضاً.

ويشكل بأن الجمع وإن كان بنحو الانحلال إلا أن المراد به مسح كلا اليدين بنحو الارتباطية لكل مكلف كما هو الحال في الوضوء أيضاً، كما يناسبه النصوص الشارحة للوضوء والتيمم. ولذا لا إشكال ظاهراً في نقصان وضوء الأقطع وتيممه، فلا يجوز اختيارهما مع إمكان المبادرة للوضوء والتيمم قبل القطع.

والاكتفاء بغسل إحدى اليدين في الوضوء إنما هو للأدلة الخاصة المطابقة للمرتكزات المشار إليها. وإنما يتجه ما ذكره لو اختلف الناس خلقة فكان لبعضهم يد واحدة ولبعضهم أكثر، لا في مثل الأقطع مما كان مشمولاً ذاتاً لأدلة التقييد، وكان الاكتفاء فيه بالميسور لأمر طارئ.

على أن ما ذكره لا يتجه في مقطوع اليدين، لأن مقتضى عطف الوجوه على

ص: 223

الأيدي وجوب الجمع بين الوجه واليد في المسح، بنحو يظهر في الارتباطية بينهما، كما هو ظاهر النصوص أيضاً. فالعمدة ما ذكرنا، لأن الجهة الارتكازية المتقدمة تقتضي الاكتفاء بالميسور في المقامين.

ودعوى: أنه حيث كان الواجب مسح الوجه باليدين فمع قطعهما معاً يتعذر الواجب المذكور، ومسحه بغيرها ليس ميسوراً منه، لأنه ليس بعضاً منه، بل مباين له، بخلاف مسحه بواحدة منهما لو قطعت الأخرى.

مدفوعة بأن المراد بالميسور في المقام ليس هو جزء الواجب - كما هو مقتضى الجمود على لفظ الميسور في قاعدته - بل ما هو الأقرب له ارتكازاً، كما يظهر بملاحظة أحكام الجبائر، وصورة تعذر المباشرة في الطهارات الثلاث، والتيمم بالغبار ونحو ذلك. ومنه يظهر عموم الحكم لموارد تعذر بعض أجزاء التيمم من غير جهة القطع، سواءً ابتنى على الاستمرار - كالشلل اللازم - أم كان موقتاً لمرض أو قيد أو نحوهما.

ثم إنه بعد فرض مشروعية التيمم في محل الكلام فحيث لا دليل على كيفيته يكون مقتضى القاعدة الإتيان بكل ما يحتمل دخله فيه، سواء احتمل وجوبه بدواً أم علم إجمالاً بوجوبه أو وجوب أمر آخر، خروجاً عن مقتضى قاعدة الاشتغال بالطهارة المفروض مشروعيتها ووجوبها مقدمة للصلاة ونحوها.

إلا أن الارتكازيات المشار إليها آنفاً المقتضية للاكتفاء بالميسور كما تنهض بإثبات مشروعية التيمم قد تنهض بتعيين الكيفية الميسورة، فيجب العمل بها إذ لولا حجيتها لم تشرع الطهارة ولم يجب التيمم الناقص رأساً، ولا وجه مع ذلك للتعويل على الاحتمالات البعيدة أو غير العرفية.

فمثلاً في مقطوع اليد الواحدة إذا كان لها بقية يمكن الضرب والمسح بها - كالذراع - الميسور عرفاً هو الضرب بالبقية مع كف اليد السالمة لكن ليس لإشراكه في مسح الوجه مع كف اليد السالمة، بل لمسح ظهر كف اليد المذكورة مع مسح تمام الوجه بتلك الكف، لأنه أقرب عرفاً وارتكازاً من مسح بعض الوجه ببقية اليد المقطوعة

ص: 224

وذي الجبيرة (1)،

التي هي ليست من أعضاء التيمم، فضلاً عن مسح بعض الوجه بكف شخص آخر أو بالأرض رأساً. كما أن مسح ظهر كف اليد الصحيحة ببقية اليد المقطوعة أقرب من مسحه بكف شخص آخر أو بالأرض رأساً.

نعم لو لم يبق من اليد المقطوعة ما يمكن المسح به أتجه مسح اليد السالمة بالأرض، وهو أقرب من مسحه بكف شخص آخر، لأن المباشرة أهم عرفاً من كون المسح بالآلة، لا بالأرض رأساً. وإن كان الجمع بين الأمرين حسناً، بل قد يكون لازماً، لعدم بلوغ الأقربية حداً يكفي في الخروج عن مقتضى قاعدة الاشتغال.

ومنه يظهر الحال في مقطوع الكفين معاً، حيث يتعين عليه الضرب بالباقي من اليد أو اليدين، ومسح الوجه به مع إمكانه، أما مع تعذره فيتعين مسح الوجه بالأرض، وضمّ مسحه بكف الغير احتياطاً. وكذا الحال في غير مقطوع اليد ممن يتعذر عليه الضرب بها لشلل أو مرض أو قيد. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) فقد تقدم في آخر المسألة الثامنة والثلاثين من فصل الجبائر في الوضوء أن الجبيرة تجري في التيمم، وأن العمدة فيه صحيح كليب: "سألت أباعبد الله (عليه السلام) عن الرجل إذا كان كسيراً كيف يصنع بالصلاة؟ قال: إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل"(1). وانصرافه إلى التخوف من استعمال الماء ليس بحد يمنع من التمسك بإطلاقه. ولاسيما مع اعتضاده بقرب فهم عدم الخصوصية للوضوء والغسل في نصوص الجبيرة فيهما، لاشتراك الكل في عدم مباشرة الطهور لموضع الغسل والمسح، وبظهور مفروغية الأصحاب عن ذلك وقضاء المرتكزات المتشرعية به تبعاً لذلك.

هذا وقد استدل عليه بعض مشايخنا تارة: بما يتضمن تيمم الكسير، كمرسل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 39 من أبواب الوضوء حديث: 8.

ص: 225

ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: يتيمم المجدور والكسير بالتراب إذا أصابته جنابة"(1). بدعوى غلبة وقوع الكسر في أعضاء التيمم وتعارفه.

وأخرى: بما تضمن عدم سقوط الصلاة بحال، لحكومته على أدلة الارتباطية بين الأجزاء والشرائط في سائر الموارد، ومنها المقام.

لكن يظهر ضعف الثاني مما تقدم في المسألة التاسعة في فصل مسوغات التيمم، وأشرنا إليه في المسألة السادسة والعشرين في فصل كيفية التيمم.

وأما الأول فيندفع بأن النصوص المذكورة - مع غض النظر عن ضعفها على مسلكه - إنما تضمنت مشروعية التيمم للكسير من دون أن تنهض ببيان كيفيته المشروعية، فإذا كان مقتضى أدلة شرح التيمم عدم صحته مع الجبيرة لم تنهض هذه النصوص ببيان صحته ومشروعيته.

ولذا لا يظن منه ولا من غيره البناء على نهوض إطلاق هذه النصوص بإثبات صحة التيمم للكسير لو تعذر عليه المسح حتى على الجبيرة، أو مع طهارة التراب أو الماسح أو الممسوح أو غير ذلك مما قد يبتلي به الكسير.

نعم لو كان حصول الكسر والجبيرة في أعضاء التيمم من الكثرة بحدّ يتعذر عرفاً معها خروجه عن إطلاق النصوص المذكورة، لاستلزامه حملها على الفرد النادر، كانت تلك النصوص دليلاً على مشروعية التيمم مع الجبيرة، لكونه لازماً لمؤداها عرفاً. لكنه ليس كذلك قطعاً.

ومن ثم كان الظاهر انحصار الدليل على مشروعية التيمم على الجبيرة بما ذكرنا. نعم هو مختص بما إذا كانت الجبيرة على الممسوح ولا يعم ما إذا كانت على الماسح كباطن الكفين، فلابد في التعميم من إلغاء خصوصيته عرفاً، وهو غير بعيد.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 226

(227)

والحائل (1)، والعاجز عن المباشرة (2) كما يجزي هنا حكم اللحم الزائد واليد الزائدة (3) وغير ذلك.

(مسألة 32): العاجز ييممه غيره، ولكن يضرب بيدي العاجز ويمسح بهما مع الإمكان (4)

(1) ففي الصحيح عن أبي الورد عن أبي جعفر (عليه السلام) في المسح على الخفين: "فقلت: فهل فيهما رخصة؟ فقال: لا إلا من عدو تتقيه أو ثلج تخافه على رجليك"(1). وهو وإن كان مختصاً بالوضوء، إلا أن إلحاق التيمم به في ذلك قريب جداً بلحاظ ما سبق في وضوء الأقطع، خصوصاً مع عموم حكم الجبائر. فلاحظ.

(2) فتجب عليه الاستنابة عند علمائنا كما في المدارك، وبلا خلاف، كما في الجواهر. ويقتضيه صحيح ابن أبي عمير عن محمد بن مسكين [سكين] وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قيل له: إن فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات. فقال: قتلوه، ألا سألوا؟ ألا يمموه؟ إن شفا العي السؤال "(2) وفي صحيحه الآخر عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام):" قال: يؤمم المجدور والكسير إذا أصابتهما الجنابة"(3). وهما محمولان على صورة تعذر المباشرة، كما يناسبه ما في الأول من فرض تغسيل المجدور وعدم اغتساله. مضافاً إلى ما سبق في الأقطع وذي الجبيرة والحائل، حيث يجري نظيره في المقام.

(3) للتشابه في لسان الأدلة بين الوضوء والتيمم.

(4) كما في جامع المقاصد والمدارك وعن ظاهر الذكرى. ويقتضيه ما تقدم عند الكلام في النية من ظهور الأدلة في أن الضرب بكف المتيمم أول أجزاء التيمم، لا من مقدماته، وما تقدم في صحيح المفضل بن عمر من أن باطن اليدين الذي يكون به

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 38 من أبواب الوضوء حديث: 5.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 1، 10.

ص: 227

الضرب والمسح من أعضاء التيمم، حيث يتعين حينئذٍ المحافظة على ذلك مع الإمكان والاقتصار في الخروج عن مقتضى الواجب الأولي على المباشرة.

لكن قد يظهر من الجواهر الميل إلى أن الضرب والمسح يكون بيدي النائب المباشر - وإن اعترف بعدم الوقوف على قائل بذلك - لأصالة البراءة من وجوب الأول، بل هو خلاف إطلاق الأمر بالتولية. بل قد لا يجتزأ بالضرب والمسح بيد العليل، لعدم استناد المسح إليه، فتكون بالنسبة للعامل كالآلة الأجنبية. مع تركهم هذا التفصيل في الطهارة المائية، بل ظاهر أمر الصادق (عليه السلام) الغلمة بحمله وتغسيله(1) عدمه، لتمكن الغلمة من تحريك الماء بيديه (عليه السلام)، ولم يلزمهم (عليه السلام) به.

والكل كما ترى! لأن الأصل في المقام هو الاشتغال لا البراءة. وإطلاق الأمر بالتولية لما كان وارداً مورد الاضطرار كان اللازم حمله على ترك خصوص ما تعذر وهو المباشرة مع حفظ تمام ما يعتبر في التيمم. بل لما كان المراد بالتولية التولية في التيمم كان مقتضاه تحقيق التيمم بتمام أجزائه، ومنها المسح والضرب بيد الميمم، كما سبق. وحينئذٍ فالذي يكون كالآلة الأجنبية هو يد النائب لا يد الميمم.

ومنه يظهر الفرق بين التيمم والطهارة المائية، لأن الصب وتحريك الماء مقدمة للغسل الواجب في الطهارة المائية، ولا يعتبر فيه خصوص يد المتطهر، بل يكفي وصول الماء بأي وجه اتفق ولو بمثل نزول المطر. غايته أنه يجب أن يستند للمتطهر مع القدرة، وهو متعذر في المقام حتى مع تحريك الغير للماء بيد المتطهر، لأن وصول الماء حينئذ يستند للمحرك، لا للمتطهر.

وأشكل منه ما عن ابن الجنيد من أن النائب يضرب بيديه الأرض، ثم يضرب على يدي المريض، ثم يمسح بيدي المريض. فإن رفع اليد عن الضرب بيدي المريض مع التمكن منه بلا وجه. مع أن المسح حينئذٍ لا يكون بأثر الأرض الحاصل باليد عند ضربها بها الواجب بمقتضى أدلة شرح التيمم، بل بأثر أثرها، وحصوله فضلاً عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 17 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 228

(229)

ومع العجز يضرب المتولي بيدي نفسه ويمسح بهما (1).

(مسألة 33): الشعر المتدلي على الجبهة يجب رفعه ومسح البشرة تحته (2)، وأما الثابت فيها فالظاهر الاجتزاء بمسحه (3).

الاكتفاء به يحتاج إلى الدليل. ومن ثم لا مخرج عن الوجه الأول.

(1) اقتصاراً في التيمم على الميسور بالتقريب المتقدم في الأقطع. نعم قرب في كشف اللثام لزوم ضرب النائب بيديه الأرض، ثم يضرب بهما على يدي المريض، ويكون المسح بيدي المريض مع الإمكان، نظير ما تقدم عن ابن الجنيد. لكنه يشكل بما سبق من أن المسح لا يكون بأثر الأرض، بخلاف ما لو كان المسح بيد النائب. ومن ثم كان هو الأقرب عرفاً وارتكازاً، فيتعين. نعم يحسن ضمّ ما ذكره إليه احتياطاً.

(2) لأنه حائل عرفاً، والمستفاد من أدلة شرح التيمم وجوب مسح البشرة، فإنها هي الجبهة والجبين.

(3) ففي الجواهر: "الأقوى عدم وجوب استبطانه حتى لو كان التيمم بدل الغسل، وحتى فيما لا ينبت فيه غالباً، كالجبهة. بل يمكن القول بعدم وجوب استبطان شعر الأغم، وهو من كان قصاص شعره على بعض الجبهة أيضاً للعسر والحرج. فتأمل جيداً" .لكن العسر والحرج وإن كفى في سقوط مسح البشرة، فيجب المسح على الحائل، لما تقدم، إلا أنه لا يطرد.

نعم قد يستفاد عدم وجوب الحلق من السكوت عنه في النصوص مع غفلة العرف عنه. ولاسيما مع عدم الأشكال في عدم وجوب حلق الحاجبين لو غلظا بحيث شغلا قسماً من عظم الجبهة. والأمر في الكفين أظهر، لغلبة نبات الشعر فيهما، وكثيراً ما يكون كثيفاً، فيكون مانعاً من مسح ما تحته من البشرة، فلو لزم استيعاب البشرة لوقع الهرج والمرج وكثر السؤال عن ذلك.

ص: 229

(مسألة 34): إذا خالف الترتيب بطل مع فوات الموالاة وإن كانت لجهل أو نسيان (1)، أما لو لم تفت صح إذا أعاد على نحو يحصل به الترتيب (2).

(مسألة 35): الخاتم حائل (3) يجب نزعه حال التيمم.

(مسألة 36): الأحوط وجوباً اعتبار إباحة الفضاء الذي يقع فيه التيمم (4) بل إذا كان التراب في إناء مغصوب لم يصح الضرب عليه (5) إل

(1) وفي جامع المقاصد: "وهو إجماع علمائنا" .لإطلاق دليل اعتبار الترتيب الشامل لحال الجهل والنسيان. نعم قد يقال: هذا إنما يتم مع عدم التدارك على ما يطابق الترتيب، أما معه فالإخلال إنما يكون بالمولاة، وحيث ينحصر الدليل عليها بالإجماع - لو تم - كما سبق، فاللازم في البناء على البطلان من عمومه لصورة الفوت عن جهل أو نسيان، ولا طريق لإحراز ذلك بعد كونه دليلاً لبياً، بل المتيقن منه صورة الإخلال العمدي. فلاحظ.

(2) لعدم الدليل على مبطلية الفعل الذي خولف به الترتيب لما سبقه، كي يجب الاستئناف، والإطلاق يدفع ذلك.

(3) كما في القواعد وغيره. لكن المتيقن منه حال المسح، أما حال الضرب فكثيراً ما لا يكون حائلاً لعدم مماسة ما تحته للأرض حال الضرب مع نزعه إذا كانت صلبة، وحينئذٍ يشكل ما في جامع المقاصد وكشف اللثام من تعميم وجوب نزعه لحال الضرب.

(4) بل هو المتعين. لأن حركة الأعضاء في المسح والضرب تصرف في الفضاء المذكور، فتحرم ويمتنع التقرب بها فيبطل التيمم. نعم هو يختص بحال الالتفات لذلك، إذ مع عدمه لا يمتنع التقرب.

(5) يظهر الحال فيه مما سبق.

ص: 230

أن يكون كبيراً جداً بحيث لا يصدق على الضرب فيه التصرف في الإناء.

(مسألة 37): إذا شك في جزء منه بعد الفراغ لم يلتفت (1). وكذا لو شك في جزء منه بعد التجاوز عن محله (2). وإن كان الأحوط استحباباً التدارك (3).

(1) لقاعدة الفراغ التي كان مورد بعض أدلتها الشك في الطهارة.

(2) لقاعدة التجاوز، بناء على ما هو الظاهر من عمومها لغير الصلاة، واختصاص المخرج عنها بالوضوء، وعدم إلحاق الغسل والتيمم به، على ما سبق تفصيل الكلام فيه في المسألة السابعة والثلاثين في فصل أحكام الجنابة. فراجع.

(3) خروجاً عن شبهة الخلاف، إما لدعوى اختصاص قاعدة التجاوز بالصلاة، أو لدعوى إلحاق الغسل والتيمم بالوضوء الذي ثبت عدم جريانها فيه.

(1) إجماعاً، كما في المعتبر والقواعد وعن كثير من كتب الأصحاب. وقد يبتني على ما عليه جماعة من عدم جواز الطهارة للصلاة قبل وقتها، لعدم الأمر بالصلاة حينئذٍ، ليدعو للطهارة التي هي مقدمة لها، كي يمكن التقرب بالطهارة بالإتيان بها بالداعي المذكور.

ص: 231

ص: 232

(233)

الفصل الخامس

لا يجوز التيمم لصلاة مؤقتة قبل دخول وقتها (1)،

لكن المبنى المذكور ضعيف، إذ لو تم عدم داعوية أمر الصلاة للطهارة قبل الوقت - حيث لا مجال لإطالة الكلام في ذلك، بل هو موكول لبحث مقدمة الواجب من الأصول - إلا أن ما هو الشرط في الصلاة ليس هو خصوص الطهارة المأتي بها بداعي أمر تلك الصلاة، بل مطلق الطهارة ولو بداعٍ آخر، غاية الأمر أن الطهارة لما كانت عبادة فلابد من الإتيان بها بوجه قربي، ويكفي في مقربيتها الإتيان بها قبل الوقت من أجل التهيؤ لامتثال أمر الصلاة في الوقت، على ما أطلنا الكلام فيه في المسألة الواحدة والسبعين من مباحث الوضوء، عند الكلام في النية، وفي المسألة المائة منها، عند الكلام في الوضوء التهيئي من الوضوءات المستحبة. فراجع.

ومن ثم كان مقتضى عموم بدلية التراب عن الماء مشروعية التيمم للصلاة قبل الوقت، بعد فرض تحقق مسوغه من عدم وجدان الماء ونحوه.

لكن استشكل في ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) بدعوى: أنه تعالى كنى عن دخول الوقت بقوله: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا..."(1). فالآية لا تنهض بإثبات

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

ص: 233

مشروعية الطهارات الثلاث إلا بعد الوقت.

غاية الأمر أنه ثبت مشروعية الغسل والوضوء قبل الوقت، لأن الغسل مستحب نفسي في جميع الأوقات، بل قيل بوجوبه النفسي. كما أن الوضوء قد ثبت مشروعيته واستحبابه في كل وقت، ولم يثبت ذلك في التيمم، بل يقتصر في مشروعيته على دخول الوقت وتحقق الحاجة إليه.

ويندفع ما ذكره أولاً: بأن القيام إلى الصلاة في الآية الشريفة ليس كناية عن دخول الوقت بحيث تكون الآية مسوقة لبيانه، غاية الأمر أن المكلف لا يقوم للصلاة إلا بعد دخول وقتها، لكن من المعلوم أن الخصوصية المذكورة ملغية عرفاً، وأن المفهوم من الآية الشريفة بيان شرطية الطهارة للصلاة، وأنه لا يمكن الإتيان بها إلا بعد الطهارة، خصوصاً بناء على ما تضمنه موثق ابن بكير(1) من أن المراد بالقيام إلى الصلاة القيام من النوم، حيث لا يكون المراد بالآية إلا بيان سببية النوم للحدث ولزوم الطهارة منه مقدمة للصلاة من دون نظر إلى وقت إيقاع الطهارة وإلا فمقتضى الجمود على التعبير بالقيام للصلاة قصور الآية عن إثبات مشروعية الطهارة قبل القيام للصلاة حتى بعد الوقت مع القطع بعمومه لذلك، وليس هو إلا لما سبق.

على أن الآية الثانية كالصريحة فيما ذكرنا، فإن قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا... "(2) غير مسوق إلا لبيان مانعية السكر والجنابة من الصلاة، ولزوم الطهارة من الجنابة مقدمة للصلاة من دون نظر إلى وقت إيقاع الطهارة.

وثانياً: بأن ما تضمن مشروعية الغسل والوضوء قبل الوقت إنما اقتضى مشروعيتهما من حيثية كونهما سبباً للطهارة، ومقتضى عموم بدلية التيمم عنهما المستفادة من مثل قولهم (عليهم السلام):" التراب أحد الطهورين ".و:" يكفيك الصعيد عشر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 7.

(2) سورة النساء الآية: 43.

ص: 234

(235)

ويجوز عند ضيق وقتها وفي جوازه في السعة إشكال (1).

سنين "وغيرهما عند تحقق مسوغه من عدم وجدان الماء ونحوه، والتقييد فيه بدخول الوقت يحتاج إلى دليل.

وثالثاً: أنه التزم قدس سره بمشروعية التيمم قبل الوقت عند تعذره في الوقت، أو عند اعتبار الطهارة في تمام الوقت - كما قيل به في الصوم - مع عدم الدليل على ذلك بالخصوص، فإن بني على قصور دليل تشريعه عما قبل الوقت - لما سبق - لم تنهض الحاجة للطهارة بتشريعه، بل يتعين البناء على تعذر الطهارة، وجريان بيان حكم فاقد الطهورين.

ومن هنا ينحصر الدليل في المقام بالإجماع المدعى في كلامهم، وفي نهوضه بالخروج عن مقتضى الإطلاقات إشكال، لاحتمال ابتنائه على ما سبق ضعفه، مع عدم وضوح كونه إجماعاً تعبدياً ينهض بالحجية بعد عدم دعواه إلا من المحقق ومن بعده، من دون أن يظهر التعرض له من القدماء، وإنما الخلاف بين من تقدم في جواز البدار في أول الوقت وعدمه، الذي يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، ويبدو منهم أن موضوع كلامهم البدار للصلاة معه، لا البدار به بنفسه ليكشف عن مفروغيتهم عن عدم جواز تقديمه على الوقت.

(1) حيث حكى المنع منه مطلقاً عن المشهور تارة، وعن مشهور القدماء أخرى، وعن الأكثر ثالثة، وفي السرائر أنه مذهب جميع أصحابنا إلا من شذ ممن لا يعتدّ بقوله، لأنه عرف باسمه ونسبه، بل في الانتصار والناصرية والغنية وغيرها الإجماع عليه.

وظاهر الإرشاد ومحكي التحرير والبيان وظاهر الجعفي وغيرها. وحكي أيضاً عن الصدوق (قدس سره). وعن ابن الجنيد جواز التقديم - بل رجحانه - إذا علم أو ظن باستمرار فقد الماء. وقواه في المعتبر، وكأنه لحكمه بأن من تيمم وصلى ثم وجد الماء

ص: 235

وهو في وقت فلا إعادة عليه. وبه يخرج عن ظاهر قوله في المقنع:" واعلم أنه لا يتيمم الرجل إلا أن يكون في آخر الوقت".

وجرى عليه في التذكرة والقواعد والمختلف وجامع المقاصد واللمعة ومحكي نهاية الأحكام والفخرية وغيرها. وفي جامع المقاصد:" عليه أكثر المتأخرين "،وفي الروضة أنه أشهر الأقوال بينهم.

ومنشأ اختلاف الأقوال هو الاختلاف في مقتضى القاعدة، واختلاف الأخبار، كما سيأتي التعرض لها.

هذا وحيث كانت إطلاقات مشروعية التيمم واردة مورد الاضطرار كانت منصرفة لوجود المسوغ - من فقد الماء أو تعذر استعماله أو غيرهما - في تمام الوقت. ولا يهم مع ذلك تحقيق أن مقتضى إطلاقها اللفظي الاكتفاء بحصول المسوغ عند إرادة الغاية التي يشرع لها التيمم، إذ لا أثر للإطلاق مع الانصراف المذكور.

ويترتب على ذلك مشروعية التيمم واقعاً باستمرار العذر في تمام الوقت، فيجوز الإتيان به من أول الوقت برجاء استمراره وإن لم يكن مظنوناً، وتكون صحته مراعاة بذلك.

نعم لا يجوز الإتيان به مع القطع بعدم الاستمرار، لتعذر التقرب به المعتبر فيه بمقتضى عباديته. كما يترتب عليه عدم مشروعيته واقعاً مع عدم استمرار العذر وإن قطع المكلف باستمراره، بل ينكشف عند ارتفاع العذر بطلانه من أول الأمر. فإن رجع القول الثالث الذي تضمن التفصيل المتقدم إلى ذلك كان دليله ما ذكرنا من الانصراف، وإلا كان مبنياً على نحو من الجمع بين النصوص يأتي الكلام فيه.

هذا وقد تضمنت جملة من النصوص المنع من البدار بالتيمم قبل تضيق الوقت، ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سمعته يقول: إذا لم تجد ماء وأردت التيمم فأخر التيمم إلى آخر الوقت، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض"(1).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 236

وفي موثق ابن بكير عنه (عليه السلام): "قلت له: رجل أمّ قوماً وهو جنب وقد تيمم وهم على طهور. قال: لا بأس. فإذا تيمم الرجل فليكن ذلك في آخر الوقت، فإن فاته الماء فلن تفوته الأرض"(1).

وفي موثقه الآخر:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أجنب فلم يجد ماء يتيمم ويصلي؟ قال: لا حتى آخر الوقت، إنه إن فاته الماء لم تفته الأرض"(2).

وفي موثق زرارة: "إذا لم يجد المسافر الماء فليمسك ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل في آخر الوقت..."(3). لكن رواه الكليني بسند صحيح هكذا:" إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت... "وهو أجنبي عن محل الكلام، فيكون اضطراب متنه مانعاً من التمسك به في المقام. فتأمل.

مضافاً إلى ما تضمن الأمر بالإعادة، كصحيح يعقوب بن يقطين:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل تيمم فصلى، فأصاب بعد صلاته ماء، أيتوضأ ويعيد الصلاة، أم تجوز صلاته؟ قال: إذا وجد الماء قبل أن يمضي الوقت توضأ وأعاد، فإن مضى الوقت فلا إعادة عليه"(4).

اللهم إلا أن يقال: الحكم فيه بعدم الإعادة بعد الوقت مستلزم لمشروعية التيمم الذي صلى به، ومقتضى التفصيل فيه بين وجدان الماء في الوقت ووجدانه بعد الوقت عموم مشروعية التيمم لما إذا كان قد وقع في سعة الوقت. ومن ثم لا ينهض بالاستدلال في المقام. والعمدة صحيح محمد بن مسلم والموثقان. وكأنها هي الوجه في القول الأول.

لكنها معارضة بجملة أخرى من النصوص ظاهرة أو صريحة في مشروعية التيمم في سعة الوقت. كصحيح يعقوب بن يقطين المتقدم، وصحيح زرارة: "قلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإن أصاب الماء وقد صلى بتيمم وهو في وقت؟ قال: تمت صلاته

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 22 من أبواب التيمم حديث: 3، 4.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 3، 8.

ص: 237

ولا إعادة عليه"(1). وقريب منه صحيح أبي بصير(2). وحديث معاوية بن ميسرة، بل صحيحه:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل في السفر لا يجد الماء تيمم فصلى، ثم أتى الماء وعليه شيء من الوقت، أيمضي على صلاته أم يتوضأ ويعيد الصلاة؟ قال: يمضي على صلاته، فإن رب الماء هو رب التراب"(3). وقريب منه في التعليل المذكور موثق يعقوب بن سالم(4) وخبر علي بن سالم(5) وكذا النصوص الكثيرة الآتية في المسألة التاسعة والثلاثين الواردة في وجدان الماء في أثناء الصلاة(6).

بل قد يستفاد من بعض ما أطلق فيه عدم الإعادة من دون تنبيه على بقاء الوقت، كصحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أجنب، فتيمم بالصعيد وصلى، ثم وجد الماء. قال: لا يعيد. إن رب الماء رب الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين"(7) ، وصحيح العيص:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي الماء وهو جنب وقد صلى. قال: يغتسل ولا يعيد الصلاة"(8). لا بلحاظ عموم التعليل في الأول، فإن شموله للمقام فرع مشروعية التيمم في سعة الوقت التي هي محل الكلام، بل لأن احتمال خصوصية وجدان الماء في وجوب الإعادة إنما يتجه لو كان المراد به وجدانه في الوقت، حيث يحتمل معه انكشاف عدم مشروعية التيمم، أما لو كان المراد به وجدانه بعد الوقت فلا خصوصية لوجدان الماء في وجوب الإعادة، بل مرجع وجوب الإعادة حينئذٍ إلى عدم إجزاء الصلاة بالتيمم - وإن كانت مشروعة بل واجبة - عن الصلاة بالطهارة المائية، لعدم كونها بدلاً اضطرارياً، بل ميسوراً لا يجزي عن المعسور. ومن ثم كان ظهورهما في إرادة الوجدان في سعة الوقت قريباً جداً. ولا أقل من كونهما مؤيدين للنصوص المتقدمة الكثيرة الواضحة الدلالة. وكأنها هي المستند للقول الثاني.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 9، 11.

(3و4و5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 13، 14، 17.

(6) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم.

(7و8) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 15، 16.

ص: 238

هذا وقد يجمع بين هذه الطائفة والطائفة الأولى بوجوه كثيرة لا مجال لاستقصائها، لظهور ضعف جملة منها، ولنقتصر منها على وجوه ثلاثة:

الأول: حمل الطائفة الأولى على التأخير لآخر الوقت عرفاً غير المنافي لوجدان الماء بعد الفراغ من الصلاة أو في أثنائها، دون التأخير لآخر الوقت دقة كي لا يجتمع مع وجدان الماء بعد الفراغ. وحينئذٍ لا يكون الحكم في الطائفة الثانية بعدم إعادة الصلاة بوجدان الماء منافياً للحكم في الطائفة الأولى بعدم جواز البدار ووجوب التأخير.

لكنه كما ترى، لأن حمل الطائفة الأولى على التأخير لآخر الوقت دقة وإن كان متعذراً لعدم تيسر ضبط الآخر بالنحو المذكور الملزم بحمله على التأخير لآخر الوقت عرفاً، إلا أنه لما كان منشأ الأمر بالتأخير ارتكازاً هو الاهتمام بالطهارة المائية، فالمناسب لذلك هو التأخير إلى أن يخشى فوت أصل الصلاة الذي هو أهم من فوت الطهارة المائية، كما هو المناسب للتعليل في جملة منها بأنه إن فاته الماء لم تفته الأرض، الظاهر في المفروغية عن عدم كون التأخير بالنحو الذي يعرض أصل الصلاة للفوت، بل هو صريح موثق زرارة لو غض النظر عما تقدم من اضطراب متنه. والظاهر أن ذلك هو مراد القائلين بعدم جواز البدار، وإلا كان الحمل المذكور بلا شاهد.

ومن الظاهر أن ذلك مما تأباه نصوص الطائفة الثانية، إذ هي كالصريحة في سعة الوقت للطهارة المائية والصلاة. ولاسيما مع عموم بعضها لما إذا كانت الطهارة هي الغسل، ومع ظهور نصوص كلتا الطائفتين في أن المراد بالوقت هو وقت الإجزاء المقتضى لسعة الوقت لإعادة صلاتين لا صلاة واحدة.

بل في بعض نصوص الطائفة الثانية أن وجدان الماء بسبب سير المصلي من المكان الذي صلى فيه للمكان الذي فيه الماء، ومن الظاهر أن ذلك لا يناسب إيقاع الصلاة في آخر الوقت مهما فسر به.

بل عدم التنبيه في جميع نصوص هذه الطائفة للزوم التأخير لآخر الوقت وأن

ص: 239

صحة الصلاة بالتيمم إنما تختص بذلك يجعلها كالصريحة في جواز البدار للصلاة وعدم وجوب تأخيرها. ومن ثم كان الجمع المذكور موهوناً جداً.

الثاني: حمل الطائفة الأولى على إحداث التيمم في أول الوقت، والثانية على الصلاة بتيمم سابق لصلاة سابقة، كما قد يظهر من المبسوط، حيث صرح بعدم جواز التيمم إلا في آخر الوقت عند خوف فوت الصلاة، وأنه لو تيمم في أول الوقت لم يستبح به الصلاة، ولو صلى به أعاد الصلاة بتيمم مستأنف أو وضوء إن وجد الماء، ثم ذكر أن التيمم لا ينتقض بخروج الوقت، بل ينتقض بوجدان الماء، وذكر حكم وجدانه في أثناء الصلاة، وأنه يمضي في صلاته، ثم يتطهر للصلوات الآتية. وقد يبتني عليه ما يأتي منه في المسألة الآتية. وكأنه لتضمن الطائفة الأولى المنع من البدار للتيمم ثم الصلاة، لا للصلاة بتيمم، لتشمل من سبق منه التيمم لصلاة سابقة قد مضى وقتها.

لكنه يشكل بأن اختصاص الطائفة الأولى بذلك لا يكفي في حمل الطائفة الثانية على خصوص من سبق منه التيمم بعد صراحة بعض نصوصها في فرض إحداث التيمم للصلاة. فلاحظ صحيحي أبي بصير ومعاوية بن ميسرة وموثق يعقوب بن سالم وخبر علي بن سالم المتقدمة، وصحيح محمد بن مسلم بناء على أنه من نصوص المسألة، حيث يمتنع أو يصعب تنزيلها على من سبق منه التيمم لغير الصلاة التي يجد الماء في وقتها.

على أن من القريب إلغاء خصوصية إحداث التيمم في نصوص الطائفة الأولى، على ما يأتي تفصيل الكلام فيه في المسألة الآتية. ومن ثم لا مجال للتعويل على الجمع المذكور.

الثالث: حمل الطائفة الثانية على ما إذا كانت الصلاة بالتيمم لليأس من وجدان الماء في أثناء الوقت، وحمل الطائفة الأولى على صورة رجاء وجدان الماء في الوقت، كما جرى عليه سيدنا المصنف (قدس سره). ويناسبه التفصيل المتقدم في القول الثالث وإن لم

ص: 240

يطابقه. وكأنه لظهور التعليل في جملة من نصوص الطائفة الأولى بأنه إن فاته الماء لم تفته الأرض في رجاء وجدان الماء في الوقت.

ويشكل بأن التعليل المذكور ظاهر في كون رجاء وجدان الماء حكمة لاحظها الشارع الأقدس عند الأمر بالتأخير، لا علة يدور الحكم مدارها ويعمل المكلف عليها. ولازم ذلك كون الملحوظ هو رجاء الشارع الأقدس، لا رجاء المكلف، وعموم الأمر بالتأخير لما إذا تحقق للمكلف اليأس من وجدان الماء، ومن ثم يكون الجمع المذكور تبرعياً خالياً عن الشاهد.

بل يبعد جداً حمل الطائفة الثانية على صورة خصوص اليأس من وجدان الماء مع ورود بعضها في السفر، حيث يصعب القطع بعدم الماء في المنازل اللاحقة. بل إهمال التنبيه فيها لوقوع التيمم مع اليأس خطأ موجب لقوة ظهورها في العموم لغير صورة اليأس.

مضافاً إلى عدم مناسبة الجمع المذكور لصحيح محمد بن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قلت له: رجل تيمم ثم دخل في الصلاة، وقد كان طلب الماء فلم يقدر عليه، ثم يؤتى بالماء حين يدخل في الصلاة. قال: يمضي في الصلاة. واعلم أنه ليس ينبغي لأحد أن يتيمم إلا في آخر الوقت"(1). فإن ظهوره في الردع عما وقع من الصلاة بتيمم مع صحتها لا يناسب اختصاص مشروعية التيمم وصحة الصلاة معه بصورة اليأس، واختصاص النهي عن البدار بصورة عدم اليأس برجوعه إلى مباينة مورد النهي لمورد الحديث وعدم وروده للردع عنه. ومن ثم لا مجال للبناء على الجمع المذكور.

نعم لا بأس بالبناء على كون الأمر بالتأخير طريقياً لإحراز عدم الوجدان في تمام الوقت، الذي تقدم أنه موضوع مشروعية التيمم بمقتضى القاعدة. لأن ذلك هو المناسب لاهتمام الشارع بالطهارة المائية ارتكازاً، وللتعليل المذكور. وإلا فمن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 241

(242)

البعيد جداً كونه شرطاً تعبدياً للطهارة الترابية، بحيث لا تشرع في أول الوقت ولو مع استمرار عدم الوجدان واقعاً والعلم بذلك. بل يصعب حمل إطلاقات مشروعية التيمم - كالآيتين ونحوهما - عليه جداً... إلى غير ذلك مما يظهر بالتأمل، حيث يكفي ذلك في انصراف الأمر بالتأخير لما ذكرنا، فيطابق القاعدة.

غاية الأمر أن البناء على كون الأمر المذكور إلزامياً لا يناسب نصوص الطائفة الثانية المتضمنة صحة الصلاة مع مخالفته. ومن ثم كان الظاهر الجمع بين الطائفتين بحمل الأمر المذكور على الاستحباب احتياطاً لتحصيل الطهارة المائية، فإن ذلك أقرب عرفاً من جميع الوجوه المتقدمة. ويشهد به صحيح محمد بن حمران المتقدم، لأن الجمع فيه بين صحة الصلاة والأمر بالتأخير لا يناسب وجوب التأخير وإن كان طريقياً، بل يتعين معه حمل الأمر بالتأخير على الاستحباب.

ويترتب على ذلك أنه مع استمرار عدم الوجدان في تمام الوقت واقعاً لا يحسن التأخير واقعاً، بل يرجح التقديم، عملاً بعموم رجحان إتيان الصلاة في أول الوقت. نعم مع احتمال وجدان الماء في الوقت يحسن التأخير ظاهراً احتياطاً للطهارة المائية التي هي أهم من فضيلة الوقت. ومع تجدد الوجدان في الوقت واقعاً يحسن التأخير واقعاً لأهمية الطهارة المائية، لكن مع إجزاء الصلاة بالتيمم في الجملة لنصوص الطائفة الثانية.

بقي في المقام أمور:

الأول: أن مقتضى الجمع بين صحيح يعقوب المتقدم وبقية نصوص الطائفة الثانية هو البناء على استحباب الإعادة وإن صحت الصلاة بالتيمم وهو كالصريح من صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في رجل تيمم فصلى، ثم أصاب الماء. فقال: أما أنا فكنت فاعلاً، إني كنت أتوضأ وأعيد"(1). بناء على ظهوره في إصابة الماء في الوقت، لنظير ما تقدم في صحيحي محمد بن مسلم والعيص من نصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 10.

ص: 242

(243)

الطائفة الثانية. فلاحظ.

الثاني: لما لم يكن لنصوص الطائفة الثانية إطلاق يقتضي جواز التقديم، وإنما استفيد من الحكم بعدم الإعادة، حيث يستفاد منها المفروغية عن جواز التقديم، فاللازم الاقتصار فيها على المتيقن. وحيث سبق أن حملها على خصوص صورة اليأس من الوجدان في الوقت بعيد عنها، كما أنه لا يناسب صحيح محمد بن حمران المتقدم، فالمتعين التعميم لصورة الظن بعدم الوجدان، بل لصورة احتمال الوجدان من دون ظن بأحد الطرفين، لأن عدم الإشارة في هذه النصوص على كثرتها لوقوع التيمم عن ظن بعدم الوجدان، مع أنه من سنخ العذر المسوغ، موجب لقوة ظهورها في العموم لصورة عدمه، نظير ما تقدم في اليأس من الوجدان، ولا معارض لهذا الظهور بعد ما سبق في وجه الجمع بين طائفتي النصوص.

نعم لا مجال لتعميمها لصورة العلم بالوجدان في أثناء الوقت، لأن مقتضى الوضع الطبيعي للمكلف - بعد ارتكاز أهمية الطهارة المائية وأنها الواجب الأولي - هو الانتظار، ومن ثم كان الظاهر مفروغيتهم عن وجوب الانتظار حينئذٍ. بل ظاهر الجواهر وعن البرهان القاطع وهداية الكاظمي الإجماع عليه.

بل لا يبعد قصورها عن صورة الظن بالوجدان في أثناء الوقت، لأن الظن في ذلك طريق عرفاً، فالمبادرة معه تحتاج إلى عناية، فتخرج عن المتيقن من النصوص بعد ما سبق من عدم الإطلاق فيها.

ودعوى: أن مقتضى التعليل في جملة من نصوص الطائفة الثانية بأن رب الماء هو رب الصعيد، وأن التيمم أحد الطهورين العموم لصورة الظن بالوجدان، بل لصورة العلم به لولا الإجماع المدعى فيها.

مدفوعة بأن التعليل المذكور ليس مسوقاً لبيان مشروعية التيمم، وإلا كان مقتضاه أنه في عرض الطهارة المائية، لا في طولها وعند تعذرها، بل هو مسوق لبيان صحة الصلاة وإجزائها في فرض مشروعية التيمم وصحته كما تصح مع الطهارة

ص: 243

(244)

المائية، فلا ينهض ببيان مورد مشروعية التيمم، ليتمسك بعمومه.

الثالث: مورد النصوص المتقدمة هو عدم وجدان الماء، كما هو موضوع كلام قدماء الأصحاب، بل جمهورهم، إلا أنه قد يستفاد من عدم تعرضهم لبقية الأعذار إلحاقها به في الحكم المذكور، كما هو ظاهر أو صريح جملة من كلمات المتأخرين منهم، بل في الروض الإجماع على عدم الفرق. وكأنه لحمل عدم الوجدان على ما يعمّ بقية الأعذار، أو لإلغاء خصوصيته.

لكن لا قرينة على الأول، بل النظر في مجموع الأدلة شاهد بخلافه، كما أشرنا إليه في أوائل الكلام في المسوغ الثاني من مسوغات التيمم وغيره. وأما الثاني فهو محتاج إلى لطف قريحة، ولا يتضح لنا بعد الفرق بين عدم الوجدان وخوف الضرر مثلاً بأن عدم الوجدان لا ضابط له غالباً ويكثر خضوعه للأسباب الآنية، حيث يكثر مع ذلك الجهل باستمراره وعدمه، بخلاف الضرر، فإنه كثيراً ما ينضبط ويعرف بقاؤه في تمام الوقت وعدمه. كما أنه قد يظهر من النصوص الفرق بينهما ولو في استحباب الإعادة في خارج الوقت.

ومن ثم صرح في الجواهر بأن أدلة المضايقة تقصر عن غير فقد الماء من أسباب التيمم لولا الإجماع المتقدم عن الروض. لكنه - كما ترى - ليس بنحو ينهض بالحجية والخروج عن مقتضى القاعدة المتقدمة.

ودعوى: أن المرض وعدم وجدان الماء لما سيقا في الآيتين الشريفتين - اللذين هما الأصل في تشريع التيمم - في مساق واحد كان الظاهر وحدة المراد بهما من حيثية الاستمرار في تمام الوقت وعدمه، فإذا استفيد من نصوص المقام الاكتفاء بعدم الوجدان في بعض الوقت من دون استمرار تعين حمل المرض عليه في الآيتين الشريفتين، لوحدة السياق. وحينئذٍ يسهل التعدي منهما لسائر الأعذار.

مدفوعة بأن نصوص المقام لا تقتضي عموم عدم الوجدان للوجدان في بعض الوقت، ولذا لا يصح التيمم مع العلم بل الظن بعدم استمرار فقد الماء، كما تقدم،

ص: 244

(245)

(مسألة 38): إذا تيمم لصلاة فريضة أو نافلة ثم دخل وقت أخرى، فإن يئس من التمكن من الطهارة المائية جاز له المبادرة إلى الصلاة (1).

بل مجرد صحة الصلاة الواقعة بالتيمم، المستلزم لصحة التيمم في الجملة ولو للاكتفاء بسبب الجهل بالتيمم الفاقد للموضوع في صحة الصلاة، وذلك لا يستلزم التعدي لغير عدم وجدان الماء من الأعذار، بل يتعين الاقتصار على مورد النصوص المذكورة والرجوع في غيره لمقتضى القاعدة الذي سبق تنقيحه في أول الكلام في هذه المسالة.

ومن ذلك يظهر لزوم الاقتصار على الصلاة، وعدم التعدي لغيرها من الغايات، بل يتعين الرجوع فيها لمقتضى القاعدة المذكور. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) صرح غير واحد بابتناء الكلام في هذه المسألة على المسألة السابقة جوازاً ومنعاً وتفصيلاً. لكن صرح في المدارك بجواز تقديم الصلاة هنا حينئذٍ حتى على القول بعدم جوازه فيما سبق، كما صرح في المبسوط بجواز البدار هنا مع منعه منه هناك، وكذا في الروضة مع ميله لعدم جواز البدار هناك. بل في الجواهر أن صريح جماعة وظاهر آخرين اختصاص الخلاف بالمسألة الأولى، وأما في هذه المسألة فيجوز البدار. وهو متجه بناء على الوجه الثاني للجمع بين النصوص في المسألة السابقة. لكن سبق المنع منه.

ودعوى: أنه حيث تقدم اختصاص نصوص وجوب التأخير بإحداث التيمم، فلا موجب للبناء في غيره ممن سبق منه التيمم على وجوب تأخير الصلاة. مدفوعة بما أشرنا إليه آنفاً من قرب إلغاء خصوصية مورد تلك النصوص وتعميمها لهذه المسألة. ولعله لذا حكي عن السيد المرتضى في الإصباح والشهيد في البيان عدم جواز البدار هنا أيضاً.

على أنه سبق أن وجوب التأخير هو مقتضى القاعدة الأولية في الجملة، وأن

ص: 245

اللازم الاقتصار في الخروج عنه على المتيقن من نصوص جواز التقديم، وحيث كان مقتضى إطلاق بعض تلك النصوص العموم للمسألتين كان اللازم اشتراكهما في الحكم.

وأشكل من ذلك ما قد يظهر من المبسوط وغيره من الاستدلال بعموم ما تضمن إجزاء التيمم الواحد لصلوات كثيرة(1). إذ فيه: أنه أعم من جواز البدار للصلاة في أول الوقت.

ودعوى: أن ظاهر النصوص المذكورة صحة التيمم في تمام أوقات الصلوات اللاحقة، لا أنه يبطل بدخول الوقت ثم يصح في آخره، ومع صحته تصح الصلاة به.

مدفوعة بأن صحته بدخول الوقت أعم من جواز الصلاة به. بل القاعدة كما تقتضي عدم مشروعيته مع التمكن من الطهارة في أثناء الوقت تقتضي عدم مشروعية الدخول به في الصلاة التي يتمكن المكلف من الطهارة في أثناء وقتها. فتكون صحتها مع دخول الوقت مُراعىً فيها استمرار العذر. فتأمل جيداً.

والذي ينبغي أن يقال: إن كان المرجع في المسألة الأولى القاعدة أو نصوص جواز البدار المتقدمة في المسألة السابقة تعين اشتراك المسألتين في الحكم. وكذا لو كان المرجع في تلك المسألة نصوص المنع من البدار لو حملت على كون المنع طريقياً تحفظاً على الطهارة المائية المحتملة التحصيل، بحيث تقصر عن صورة العلم باستمرار عدم الوجدان، لقرب إلغاء خصوصية موردها جداً بعد كون مضمونها ارتكازياً مطابقاً للقاعدة. ولو لم يتم كفت القاعدة في اشتراك المسألتين في الحكم، لمطابقة النصوص المذكورة لها حينئذٍ.

وأما لو كان المرجع فيها نصوص المنع من البدار، مع حملها على وجوب التأخير تعبداً حتى مع استمرار عدم الوجدان والعلم، فحيث كانت النصوص المذكورة مختصة بالمسألة السابقة توقف العمل بها في المقام على إلغاء خصوصيتها، وهو لا يخلو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 10.

ص: 246

(247)

(مسألة 39): لو وجد الماء في أثناء العمل فإن كان دخل في صلاة فريضة أو نافلة (1) مضى في صلاته وصحت على الأقوى (2)،

عن إشكال، لعدم ارتكازية مضمونها، بل هو تعبدي محض، فيتعين الاقتصار على مورده والرجوع في هذه المسألة للقاعدة.

(1) يأتي الكلام في مساواة النافلة للفريضة في الحكم بعد الكلام في مقتضى الأدلة في أصل المسألة إن شاء الله تعالى.

(2) كما في المقنعة والمبسوط وعن المرتضى في شرح الرسالة، بل في الجواهر أنه المشهور تحصيلاً، ونقلاً في جامع المقاصد والروض ومجمع البرهان، بل في السرائر الإجماع عليه.

ويقتضيه إطلاق صحيح محمد بن حمران(1) المتقدم في المسألة السابعة والثلاثين، وصحيح زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): "في رجل لم يصب الماء وحضرت الصلاة، فتيمم وصلى ركعتين، ثم أصاب الماء، أينقض الركعتين ويتوضأ ثم يصلي؟ قال: لا، ولكنه يمضي في صلاته فيتمها ولا ينتقضها، لمكان أنه دخلها على طهر بتيمم"(2) ، فإن مورده وإن كان بعد مضي الركعتين، إلا أن مقتضى عموم التعليل في ذيله المضي في الصلاة بمجرد الدخول فيها بتيمم.

لكن في النهاية وعن ابن الجنيد والمرتضى والجعفي وجماعة من متأخري المتأخرين التفصيل بين الدخول في الركوع فيمضي في الصلاة، وعدمه فينقضها ويتوضأ. لصحيح زرارة:" قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن أصاب الماء وقد دخل في الصلاة؟ قال: فلينصرف فليتوضأ ما لم يركع، وإن كان قد ركع فليمض في صلاته، فإن التيمم أحد الطهورين"(3). وقريب منه حديث عبد الله بن عاصم الذي لا يبعد اعتباره.

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 3، 4، 1.

ص: 247

هذا وقد وقع الكلام في الجمع بين الطائفتين. واحتمل في الجواهر حمل الدخول في الصلاة في صحيح محمد بن حمران على الدخول في الركوع، لأنه هو الدخول الكامل، ولاسيما مع ملاحظة ما ورد من أن أولها الركوع، وأن الصلاة ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود، وأن أدراك الركعة في الجماعة بادراك الركوع. ولو تم ذلك جرى في التعليل المتقدم في صحيح زرارة ومحمد بن مسلم. لكنه كما ترى تكلف يأباه الصحيحان.

ومثله ما في التهذيبين من احتمال حمل الطائفة الثانية على سعة الوقت، حيث لا يشرع التيمم حينئذٍ عنده. ويناسبه ما احتمله في الجواهر من حمل صحيح محمد بن حمران على ضيق الوقت عن استئناف الصلاة بالطهارة المائية، كما يشعر به ذيله.

إذ فيه: أن البناء على عدم مشروعية التيمم في سعة الوقت - لو تم - اقتضى وجوب الاستئناف حتى بعد الركوع، ولا يناسب التفصيل الذي تضمنته الطائفة الثانية. كما أن حمل صحيح محمد بن حمران على ضيق الوقت لا يناسب السؤال فيه مع إهمال التنبيه على الضيق، والذيل حيث كان ظاهراً في الردع عما وقع - كما سبق - كان ظاهراً في فرض سعة الوقت، لا مشعراً بضيقه.

ومن هنا حمل في المبسوط وغيره الطائفة الثانية على الاستحباب. بل في المعتبر أن العمل بظاهر الطائفة الثانية بالبناء على الوجوب مستلزم لتعذر العمل بالطائفة الأولى، أما العمل بظاهر الطائفة الأولى فهو لا يمنع من العمل بالطائفة الثانية، بل يقتضي تنزيلها على الاستحباب.

لكنه يشكل بأنه كما يمكن حمل الطائفة الثانية على الاستحباب جمعاً مع الطائفة الأولى، كذلك يمكن تقييد الطائفة الأولى وحملها على الوجدان بعد الركوع جمعاً مع الطائفة الثانية.

بل هو أولى بلحاظ أن التعليل المذكور في صحيح زرارة ومحمد بن مسلم من الطائفة الأولى يشابه التعليل المذكور في صحيح زرارة من الطائفة الثانية، وحيث

ص: 248

سيق التعليل في صحيح زرارة المذكور لتصحيح المضي في الصلاة في خصوص صورة الوجدان بعد الركوع كان صالحاً للقرينية على تقييد التعليل في صحيح زرارة ومحمد بن مسلم بالصورة المذكورة. وأما صحيح محمد بن حمران فهو مطلق يسهل تقييده بما بعد الركوع.

ومن هنا كان الأقرب ذلك ولاسيما مع ما في الجواهر من موافقة عموم المضي في الصلاة الذي تضمنته الطائفة الأولى لفتوى كثير من العامة، كالشافعي وداود وأحمد - في رواية - وأبي ثور وابن المنذر، بخلاف التفصيل الذي تضمنته الطائفة الثانية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم.

ولو فرض التوقف وعدم ترجيح أحد الجمعين كان اللازم الرجوع في صورة الوجدان قبل الركوع لإطلاق ما تضمن انتقاض التيمم بوجدان الماء المستلزم لبطلان الصلاة ووجوب الاستئناف بالطهارة المائية.

ودعوى: أن ذلك لا يناسب حرمة قطع الصلاة وإبطالها. مدفوعة بأن عموم حرمة قطع الصلاة غير ثابت. ولو ثبت فهو لا يمنع من بطلانها تبعاً لبطلان التيمم بمقتضى الإطلاق المتقدم. ومن ثم كان المتعين البناء على التفصيل المذكور.

هذا وفي خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): "سألته عن رجل صلى ركعة على تيمم، ثم جاء رجل ومعه قربتان من ماء قال: يقطع الصلاة ويتوضأ ثم يبني على واحدة"(1). وفي خبر الحسن الصقيل:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل تيمم ثم قام يصلي، فمر به نهر وقد صلى ركعة. قال: فليغتسل وليستقبل الصلاة. قلت: إنه قد صلى صلاته كلها. قال: لا يعيد"(2).

لكنهما - مع ضعفهما، وعدم ظهور القائل بهما، ومخالفتهما لما سبق من النصوص المعتبرة - محمولان على الاستحباب جمعاً لو نهضا بالاستدلال. ولاسيما مع ما عن نهاية الأحكام من الإجماع على إتمام الصلاة لو وجد الماء بعد الركوع. ثم إن في المقام أقوال

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 5، 6.

ص: 249

وفيما عدا ذلك يتعين الاستئناف بعد الطهارة المائية (1).

أخر لا شاهد لأكثرها ويظهر ضعف باقيها مما تقدم، ولا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا ومقتضى إطلاق النصوص السابقة عدم الفرق بين الفريضة والنافلة. ودعوى: انصراف النصوص للفريضة. ليست بنحو تنهض بالخروج عن الإطلاق. ولاسيما مع ما تضمنه الصحيحان من التعليل، وما تضمنته الطائفة الثانية من خصوصية الركوع في الصلاة، لعدم الفرق في الخصوصية المذكورة بين الفريضة والنافلة. ولو تم الإنصراف فإلغاء خصوصية الفريضة والتعدي للنافلة قريب جداً، بل لعلها أولى منها بذلك عرفاً.

نعم لو كان الوجه في وجوب المضي هو حرمة القطع كان مختصاً بالفريضة. لكنه ليس كذلك، كما سبق.

ثم أن المتيقن من النصوص السابقة جواز المضي في الصلاة مع وجدان الماء بعد الركوع أو مطلقاً، وإجزاء الصلاة معه بالتيمم. ولا ظهور لها في وجوب المضي وعدم جواز القطع واستئناف الصلاة بالماء، لورود الأمر بالمضي فيها مورد توهم الحظر. كما أن التعليل لا ينهض إلا بإجزاء الصلاة بالتيمم في الفرض لا تعينها.

ومن ثم لا يبعد البناء على جواز القطع، بل رجحانه لإدراك الصلاة بالطهارة المائية، بعد قصور دليل حرمة القطع عن مثل ذلك مما كان القطع فيه لغرض عقلائي. ولاسيما مع ما تقدم في خبري زرارة والصقيل.

(1) لاختصاص النصوص بالصلاة، فيرجع في غيرها لعموم دليل بطلان التيمم بوجدان الماء(1). لكن قد يدعى إلحاق الطواف بالصلاة، لما ورد من أن الطواف بالبيت صلاة.

وفيه أولاً: أن المضمون المذكور لم نعثر عليه من طرقنا، وإنما ورد من طرق

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التيمم.

ص: 250

العامة(1).

وثانياً: أن اختلاف الطواف عن الصلاة في كثير من الأحكام مانع من البناء على عموم التنزيل، لاستلزامه تخصيص الأكثر، بل يتعين إجماله وعدم الاستدلال به في المقام، خصوصاً مع قرب انصرافه عن مثل الحكم المذكور مما كان من أحكام التيمم عرفاً، وإرجاعه للصلاة يبتني على نحو من التكلف.

وثالثاً: أن عموم التنزيل - لو تم - إنما ينفع في المقام بناء على إطلاق المضي في الصلاة بالتيمم مع وجدان الماء بعد الدخول منها، أما بناء على المختار من اختصاصه بالوجدان بعد الركوع فلا موضوع له، لعدم تنزيل شيء من أجزاء الطواف منزلة الركوع في الصلاة.

هذا وقد ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه لو تيمم المكلف لغاية غير الطواف، ثم دخل في الطواف بالتيمم المذكور، ووجد الماء بعد تجاوز النصف، فمن القريب الاجتزاء بما وقع منه ولزوم الطهارة المائية للباقي لا غير. لفحوى ما تضمن أن المرأة إذا حاضت بعد تجاوز النصف أجزأها الإتمام بعد الطهر، ولا تستأنف، لأن الفصل بزمان الحيض أطول من الفصل بزمان الإتيان بالطهارة المائية في المقام.

نعم لو كان التيمم للطواف تعين استئناف الطواف مطلقاً، لأن وجدان الماء كاشف عن بطلان التيمم من أول الأمر فلا يشرع به الدخول في الطواف، بل يقع باطلاً.

وفيه: أن الإشكال في الاكتفاء بما وقع من الطواف بالتيمم ليس من جهة الفصل بينه وبين الباقي بالطهارة المائية، ليستفاد العفو عنه مما تضمن العفو عن الفصل بزمن الحيض، بل لأنه ينكشف بوجود الماء عدم مشروعية الدخول في الطواف بالتيمم، لأن كون التيمم طهارة اضطرارية ناقصة صالح للقرينية على تقييد إطلاق مشروعيته للغايات بحيث يقتضي عدم إجزائه للغاية إلا مع تعذر إيقاعها بالطهارة المائية. ومجرد صحته بلحاظ الغاية التي وقع لها لا تقتضي جواز الدخول به للغاية الأخرى مع سعة

********

(1) عن سنن البيهقي ج: 5 ص: 87، وكنز العمال ج: 3 ص: 10 رقم: 206. وذكره مرسلاً في الخلاف والمسالك.

ص: 251

(252)

(مسألة 40): إذا تيمم المحدث بالأكبر بدلاً عن الغسل ثم أحدث بالأصغر لم ينتقض تيممه (1).

وقتها وإمكان إيقاعها بالطهارة المائية.

ولذا لا إشكال عندهم في عدم جواز الدخول بالتيمم لضيق الوقت - بناء على مشروعيته - في غير الغاية التي ضاق وقتها، حتى مقارناً للغاية التي ضاق وقتها حيث يكون صحيحاً بالإضافة إليها. فلاحظ.

ومن ذلك يظهر الحال في وجدان الماء في أثناء صلاة الميت إذا صلي عليه بعد أن يمم لتعذر التغسيل، فإنه تقدم في المسألة الثانية عشرة من فصل غسل الميت وجوب استئناف الغسل، لانكشاف بطلانه من أول الأمر بوجدان الماء، بناء على ما تقتضيه القاعدة من عدم جواز المبادرة، فينكشف بطلان الصلاة. بل حتى بناء على جواز البدار فحيث كان مقتضى القاعدة بطلان التيمم بوجدان الماء يتعين بطلان تيمم الميت قبل الدفن، فتبطل الصلاة عليه، ويجب استئنافها بعد التغسيل ولو لفوات الموالاة.

ولا مجال للبناء على وجوب المضي فيها بعد اختصاص النصوص بالصلاة الحقيقية، ولاسيما بناء على المختار من التفصيل بين الدخول في الركوع وعدمه، لعدم الدليل على تنزيل شيء من أجزاء صلاة الميت منزلة الركوع. نظير ما سبق.

نعم قد يتجه بناء على جواز البدار عدم وجوب إعادة الصلاة لو كان وجدان الماء بعد الفراغ منها، لوقوعها عن طهارة صحيحة.

هذا وحيث كانت نصوص المقام مختصة بعدم وجدان الماء فلا مجال للتعدي لبقية الأعذار إذا ارتفعت في أثناء الصلاة، نظير ما تقدم في أول الفصل فيما لو وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة.

(1) بل يجب الوضوء لا غير، كما عن المرتضى في شرح الرسالة، وأفقه المفاتيح، وقواه في الحدائق، وعن الكفاية الميل إليه. ويظهر من الذكرى التوقف. خلاف

ص: 252

للمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة كادت تكون إجماعاً، كما في الجواهر.

واستدل للمشهور بوجوه:

الأول: أن التيمم مبيح لا رافع، فمع انتقاضه بالحدث الأصغر وارتفاع الإباحة به، يتعين إعادته للحدث الأكبر، لعدم الأثر للحدث الأصغر مع بقاء الحدث الأكبر.

وفيه - مع أنه تقدم في المسألة التاسعة والعشرين أن التيمم رافع للحدث -: أن كونه مبيحاً لا يستلزم إعادته بالحدث الأصغر، لإمكان بقاء إباحته من حيثية الحاجة للغسل، وعدم رافعية الحدث الأصغر إلا للإباحة من حيثية الوضوء، فيجب مع التمكن منه دون الغسل، بل ذلك هو مقتضى إطلاق دليل التنزيل، حيث يقتضي كون إباحته بحكم رافعية كل من الغسل والوضوء، فكما أن الغسل بعد تحقق سببه رافع للحدث الأكبر وحده أو مع الأصغر، فالتيمم الذي هو بدل عنه موجب للإباحة من الحيثية المذكورة، وكما أن سبب الحدث الأصغر لا يرفع الطهارة من الحدث الأكبر فهو مع التيمم لا يرفع الإباحة من حيثيته، بل من حيثية الحدث الأصغر لا غير، فلابد من رفعه بالوضوء مع القدرة عليه.

الثاني: صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال بعد بيان كيفية التيمم: "ومتى أصبت الماء فعليك الغسل إن كنت جنباً، والوضوء إن لم تكن جنباً"(1). حيث اعتبر في الوضوء عدم الجنابة، وهي موجودة في المقام.

وفيه - مضافاً إلى ما سبق من أن المتيمم في المقام ليس جنباً حقيقة أو حكماً -: أنه وارد لبيان الوظيفة من حيثية وجدان الماء الذي شرع التيمم لفقده، لا من حيثية الحدث الحاصل بعد التيمم مع استمرار فقد الماء الذي شرع التيمم لأجله.

الثالث: النصوص المتضمنة أمر الجنب بالتيمم وإن وجد من الماء ما يكفيه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب التيمم حديث: 4.

ص: 253

للوضوء، كصحيح الحلبي:" أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يجنب ومعه قدر ما يكفيه من الماء للوضوء والصلاة، أيتوضأ بالماء أو يتيمم؟ قال: لا بل يتيمم..."(1).

وفيه - مضافاً أيضاً إلى ما سبق من عدم كون المتيمم جنباً -: أنه وارد لبيان الوظيفة من حيثية حصول سبب الجنابة، لا مطلقاً ولو بلحاظ حصول سبب الوضوء بعد الإتيان بالتيمم الذي اقتضاه سبب الجنابة وعدم انتقاضه بوجدان الماء.

الرابع: ما تضمن انتقاض التيمم بالحدث، كصحيح زرارة: "قلت: لأبيجعفر (عليه السلام): يصلي الرجل بتيمم واحد صلاة الليل والنهار كلها؟ فقال: نعم ما لم يحدث أو يصب ماءً"(2).

وفيه: أنه وارد لبيان أن أثر التيمم - كأئر الغسل والوضوء - يستمر ما لم ينتقض بالحدث أو يبطل بوجدان الماء، من دون نظر إلى الوظيفة بعد انتقاضه، وأنها الغسل أو الوضوء. فهو كما لو قيل: يصلي الرجل بالطهارة المائية ما لم يحدث. فإنه لا يكون دليلاً على وجوب إعادة كل من الوضوء والغسل بحدوث أحد أسباب الحدث الأكبر أو الأصغر.

الخامس: ما ذكره بعض مشايخنا من الاستدلال بإطلاق الآيتين الشريفتين، بدعوى: أن المستفاد منهما أن كل من كانت وظيفته الغسل عند وجدان الماء يكلف بالتيمم عند عدمه، ولا يشرع له الوضوء.

وفيه: أن المفروض في المقام تحقق التيمم ممن وظيفته الغسل لفقد الماء، فلا تنهض الآيتان بإثبات وجوبه ثانياً. غاية الأمر أنه يعلم بانتقاض التيمم المذكور في الجملة بحصول سبب الحدث الأصغر، ولا يعلم بانتقاضه وارتفاع أثره رأساً، ليجب إعادته، أو انتقاضه بارتفاع بعض مراتب أثره، وهو الطهارة من الحدث الأصغر التي يجب لها الوضوء مع القدرة عليه، ولا نظر في الآيتين الشريفتين إلى ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 254

ومثله استدلاله بإطلاق النصوص الآمرة بالتيمم للجنب، بدعوى: أن مقتضى الإطلاق المذكور وجوب التيمم عليه عند حدوث سبب الحدث الأصغر. لاندفاعه - مضافاً إلى ما سبق من عدم كون المتيمم جنباً - بأن النصوص المذكورة لا تنهض إلا ببيان وجوب التيمم الأول بعد حدوث سبب الجنابة، ولا تنهض ببيان وجوب إعادته بحدوث سبب الحدث الأصغر أو غيره، وإنما المرجع فيه القاعدة المقتضية للوضوء بعد فرض القدرة عليه، كما سبق.

وكذا استدلاله بالنصوص المتضمنة لإطلاق الجنب على المتيمم، كموثق عبد الله بن بكير:" قلت له: رجل أم قوماً وهو جنب وقد تيمم وهم على طهور فقال: لا بأس"(1). إذ فيه: أن الإطلاق المذكور - لو تم، ولم يبتن على المجاز والتوسع، لما سبق - إنما يدل على عدم رافعية التيمم للجنابة، ولا يقتضي إعادة التيمم في المقام، إلا بناء على ما سبق منه من الاستدلال بما تضمن وجوب التيمم على الجنب، وقد عرفت أنه إنما ينهض بإثبات وجوب التيمم الأول، لا وجوب إعادته في المقام أو غيره.

السادس: استدلاله بما تضمن وجوب التيمم لكل صلاة حتى يوجد الماء، كصحيح أبي همام عن الرضا (عليه السلام): "يتيمم لكل صلاة حتى يوجد الماء"(2) ، بدعوى: أنه قد تضمن جعل وجدان الماء غاية للتيمم، فما دام لم يجده تكون وظيفته التيمم وإن أحدث بالأصغر.

وفيه: أن ظاهره بدواً وجوب تكرار التيمم لكل صلاة، وحيث لا مجال للبناء على ذلك فلا بد إما من طرحه، أو حمله على الاستحباب، فلا ينفع فيما نحن فيه. وربما يحمل على إرادة أن وظيفته الاجتزاء بالتيمم للصلوات التي يؤتى بها قبل وجدان الماء من دون إرادة تكرار التيمم لكل واحدة، وحينئذٍ لا ينهض بإثبات وجوب إعادة التيمم للحدث الأصغر في محل الكلام.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 17 من أبواب صلاة الجماعة.

(2) وسائل الشيعة ج: 5 باب: 20 من أبواب صلاة الجماعة حديث: 4.

ص: 255

ومن ثم لا يظهر للمشهور دليل يعتد به يرفع به اليد عما تقتضيه القاعدة التي أشرنا إليها وأشار إليها المرتضى (قدس سره). قال في محكي كلامه:" لأن حدثه الأول قد ارتفع، وجاء ما يوجب الصغرى، وقد وجد من الماء ما يكفيه لها، فيجب عليه استعماله، ولا يجزيه تيممه".

ويمكن تقريب دلالة الآيتين الشريفتين على ذلك، بأنه بعد فرض أن المحدث بالأكبر في المقام قد أتى بالتيمم لا مجال لتطبيق ما تضمنتاه عليه من وجوب التيمم على المحدث بالأكبر إذا لم يجد الماء، لأن ذلك لا يقتضي إلا وجوب التيمم الأول، ولا ينهض بوجوب إعادته، بل يتعين تطبيق ما تضمنتاه من وجوب الوضوء عليه بحدوث سببه مع فرض وجدان الماء له.

إن قلت: مقتضى إطلاق قوله تعالى:" إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... "(1) بناء على أن المراد بالقيام للصلاة فيه القيام من النوم أن كل من قام من النوم وكان جنباً ولا ماء عنده للغسل يجب عليه التيمم، فيشمل من تيمم بدلاً عن الغسل ثم نام ثم قام إلى الصلاة، لعدم الإشكال في جنابته، ويتم في غيره ممن حصل له الحدث الأصغر بغير النوم من أسبابه بعدم الفصل.

قلت: الشخص المذكور وإن كان جنباً بالأصل، إلا أنه بالتيمم السابق على النوم طاهر من الجنابة حقيقة أو حكماً على الكلام في رافعية التيمم أو إباحته للصلاة لا غير. على أن من القريب بناء على حمل القيام إلى الصلاة على القيام من النوم كون المراد بالجنب هو المحتلم في نومه في مقابل من كانت جنابته بالجماع الذي ذكر بعد ذلك، ولا يشمل الجنب بجنابة سابقة على النوم بجماع أو غيره. فلاحظ.

على أن ما ذكرنا هو المناسب للمرتكزات المتشرعية بدواً، لأن انتقاض التيمم الذي هو بدل عن الغسل رأساً بالحدث الأصغر الذي لا يوجب الغسل يحتاج إلى عناية، فلو كان البناء عليها شرعاً لكثر السؤال والجواب عن ذلك واحتاج الأمر

********

(1) سورة المائدة الآية: 6.

ص: 256

(257)

والأحوط استحباباً الجمع بين التيمم والوضوء. ولو لم يتمكن من الوضوء تيمم بدلاًَ عما في ذمته من دون قصد الوضوء والغسل (1).

(مسألة 41): لا تجوز إراقة الماء الكافي للوضوء أو الغسل (2) بعد دخول الوقت، وإذا تعمد إراقة الماء بعد دخول وقت الصلاة وجب عليه

للبيان بالخصوص، فمع عدمه يتعين جري المتشرعة على مقتضى المرتكزات المذكورة، وحيث كانت المسألة عملية فمن القريب جداً قيام سيرة المتشرعة على ذلك، لأنه الأنسب بسكوت النصوص عن ذلك.

إن قلت: ذلك لا يناسب ذهاب المشهور لانتقاض التيمم، وندرة القول بوجوب الوضوء.

قلت: لا يظهر القول بمذهب المشهور قبل الشيخ (قدس سره) وقد اختلف هو والمرتضى (قدس سره) واحتج كل منهما لقوله، واقتنع المشهور بحجة الشيخ (قدس سره)، وجروا على ذلك لاجتهاد منهم لا يستند إلى دليل خاص، بل قد يكون لرفعة مقام الشيخ العلمي عندهم أثرها فيه، من دون أن يكشف عن بطلان الاستدلال الذي ذكرناه، ولا عن عدم قيام السيرة على قول المرتضى (قدس سره)، إذ كثيراً ما تكون الشهرة المبتنية على الاجتهاد في فهم الأدلة مخالفة للسيرة، كالشهرة على عدم شرعية معاملة الصبي، وعلى عدم صحة بيع المعاطاة. وكيف كان فلا مخرج عما ذكرنا. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) هذا في الجنابة. أما في غيرها من أسباب الحدث الأكبر فبناء على ما سبق منه (قدس سره) في المسألة السابعة والعشرين لا يتم الاحتياط إلا بتيمم آخر بدلاً عن الوضوء.

(2) وفي الحدائق أنه ظاهر الأصحاب. خلافاً لما يظهر من المعتبر - عند الاستدلال على أن من أراق الماء وتيمم وصلى لم يجب عليه الإعادة - من إطلاق جواز الإراقة، وفي الجواهر:" بل لعل الإجماع على خلافه ".بل لا يبعد كون ذلك من المعتبر

ص: 257

لمجرد الاحتجاج في مقابل العامة، وإلا فقد ذكر في أواخر مسائل التيمم أنه لا يجوز للمالك أن يبذل الماء لغيره مع وجوب الصلاة، والمقامان من باب واحد.

وكيف كان فيشهد لما عليه الأصحاب إطلاق دليل وجوب الطهارة المائية. وأما تشريع التيمم عند فقدها، فهو لا ينافي الإطلاق المذكور بعد كونه بدلاً اضطرارياً ناقصاً، يجتمع مع تمامية ملاك الطهارة المائية حال عدم الماء، فتكون إراقة الماء تفريطاً في امتثال التكليف التام الملاك. وقد تقدم بيان ذلك غير مرة. فراجع المسألة الأولى والمسألة التاسعة والعشرين. ومع ذلك لا حاجة للتشبث لحرمة الإراقة بالإجماع.

هذا وقد استدل عليه في الجواهر بأولويته من وجوب الطلب. وأورد عليه الفقيه الهمداني (قدس سره) بعدم الملازمة بينهما، لإمكان كون كل من القادر والعاجز موضوعاً مستقلاً، كالحاضر والمسافر، فلا يحرم على المكلف نقل نفسه من إحدى الحالتين للأخرى، وإن وجب عليه الفحص مع الشك في القدرة لإحراز ما يقتضيه تكليفه، نظير الفحص عن قطع المسافة في السفر وعدمه. وما ذكره متين جداً.

ثم إن ذلك كما يقتضي عدم جواز الإراقة بعد الوقت يقتضي عدم جوازها قبله لو علم بعدم القدرة على الماء بعده. لما ذكرناه في الأصول من وجوب حفظ المقدمات المفوتة، وهي التي لو لم يؤت بها قبل الوقت تعذر تحصيلها وتحصيل ذيها بعده، فإن وجوبها مقتضى المرتكزات العقلائية، ويظهر منهم المفروغية عن الجري عليه في كثير من الموارد.

ومن ثم استظهر في مفتاح الكرامة لزوم العصيان من الإراقة بل حكى في الجواهر عن الوحيد (قدس سره) الجزم بحرمة الإراقة. قبل الوقت مع احتمال عدم القدرة على الماء بعد الوقت، فضلاً عن العلم بذلك.

لكن ادعى في الجواهر القطع بعدم الإثم في إراقة الماء قبل الوقت. للأصل، وعدم وجوب مقدمة الواجب قبله سيما فيما لها بدل شرعي. بل يشمله ما حكي من الإجماع على عدم وجوب الوضوء قبل الوقت. كظاهر الأخبار المعلقة له عليه، كقوله (عليه السلام):

ص: 258

"إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة. ولا صلاة إلا بطهور"(1).

ويشكل بأنه لا مجال للأصل مع ما سبق. وعدم وجوب مقدمة الواجب قبل الوقت - لو تم - يختص بالوجوب الشرعي المقدمي، بناء على القول به دون العقلي الراجع لعدم جواز تعجيز النفس عن امتثال التكليف، والذي قد يرجع إليه وجوب المقدمات المفوتة. ولا ينافيه جعل البدل بعد كون بدليته اضطرارية، كما سبق.

وكذا الإجماع على عدم وجوب مقدمة الوضوء قبل الوقت، فإنه لو تم يختص بالوجوب الشرعي المذكور، ولا يعمّ الوجوب العقلي الارتكازي المشار إليه.

ومثله الخبر المذكور، حيث لا يراد به إلا بيان وجوب الطهارة تبعاً لوجوب الصلاة متطهراً، كما يظهر من ذيله. ولا ينافي وجوب حفظ القدرة على ذلك عقلاً بحفظ مقدمتها قبل الوقت. ولاسيما مع ما اعترف به في الجواهر في ذيل كلامه من وجوب حفظ أصل الطهور قبل الوقت، بحيث لو لم يحصله كان فاقداً للطهورين في الوقت، لوضوح أن مقتضى الحديث تعليق وجوب أصل الطهور بدخول الوقت، لا خصوص الطهارة المائية. وما ذكره لا يناسب الجمود على مقتضى الشرطية في الحديث إلا بناء على ما ذكرنا من عدم منافاة الشرطية لوجوب حفظه قبل الوقت ولو عقلاً مع تعذره في الوقت.

نعم لو قلنا بقصور إطلاق وجوب الطهارة المائية عن صورة فقد الماء لم يجب حفظ الماء قبل الوقت مع القدرة على التيمم بعده. لكن سبق المنع من ذلك، وأنه عليه يبتني أيضاً عدم جواز التفريط بالماء بعد الوقت.

نعم الظاهر اختصاص ذلك، بما إذا علم بعدم القدرة على الماء بعد الوقت، أما مع احتمال القدرة عليه فالظاهر جواز التفريط بالماء، لعدم العلم معه بتفويت التكليف في وقته. ومن القريب قيام السيرة على ذلك، تبعاً للمرتكزات. أما بعد الوقت فحيث تنشغل الذمة بالتكليف، فاللازم إحراز الفراغ عنه، وهو لا يحرز مع التفريط بالماء إذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 259

التيمم مع اليأس من الماء (1)

احتمل تعذر غيره. فتأمل جيداً.

(1) قطعاً، كما في كشف اللثام. والظاهر عدم الإشكال فيه بينهم. وما في الخلاف والنهاية والمبسوط وعن غيرها من وجوب إعادة الصلاة مع الإخلال بالطلب أجنبي عما نحن فيه، لإمكان وجود الماء حينئذٍ، بخلاف المفروض في محل الكلام، بل قد صرح في المبسوط بأن من كان معه من الماء ما يكفيه لطهارته فأراقه ولا يقدر على غيره كان فرضه التيمم والصلاة ولا إعادة عليه بعد وجدان الماء.

وكأن الوجه فيه: إطلاق دليل مشروعية التيمم بفقد الماء، وسقوط الطهارة المائية الحاصل في المقام ولو بسبب التفريط بالماء وإراقته.

ودعوى: أن ذلك لا يناسب ما تقدم في المسألة التاسعة في فصل مسوغات التيمم من انصراف عدم الوجدان عما إذا فرط في الطلب حتى ضاق الوقت.

مدفوعة بأن انصراف عدم الوجدان عن صورة التفريط في الطلب لا يستلزم قصور فقد الماء عن صورة التفريط فيه، لأن عدم الوجدان حينئذٍ قد يكون مقارناً لوجود الماء واقعاً في المسافة القريبة، فلا يكون التيمم معه لعدم الماء، بل لضيق الوقت الذي تقدم عدم مسوغيته للتيمم ولو مع عدم التفريط، بخلاف التفريط بإراقة الماء، حيث يستلزم في محل الكلام فقده واقعاً، وفقد الماء من المسوغات قطعاً. والبناء على قصوره عن صورة التفريط صعب جداً، لأن ذلك يجري في بقية الأعذار كالمرض وخوف العطش، والبناء على عدم مشروعية التيمم مع حصولها بتفريط المكلف صعب جداً. ولاسيما مع ما تضمن مشروعية التيمم لمن صار في أرض لا يجد فيها إلا الثلج، حيث قال (عليه السلام):" هو بمنزلة الضرورة يتيمم، ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي يوبق دينه"(1). فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم حديث: 9.

ص: 260

(261)

وأجزأ (1). ولو تمكن بعد ذلك لم تجب عليه الإعادة ولا القضاء (2). ولو كان على وضوء لا يجوز إبطاله (3) بعد دخول الوقت إذا علم بعدم وجود الماء أو يئس منه. ولو أبطله والحال هذه وجب عليه التيمم، وأجزأ أيضاً.

(مسألة 42): يشرع التيمم لكل مشروط بالطهارة (4) من الفرائض والنوافل، وكذا كل ما يتوقف كماله على الطهارة إذا كان مأموراً به على

(1) كما تقدم من المبسوط وتبعه جماعة. لابتناء تشريع التيمم على إجزائه، لا على مجرد وجوب أداء الصلاة به من دون إجزاء، فإن بني على عموم دليل تشريعه للمقام تعين الإجزاء، وإلا تعين عدم مشروعيته وعدم وجوب المبادرة للصلاة به.

ومنه يظهر ضعف ما في القواعد والدروس وعن البيان من عدم الإجزاء. إلا أن يرجع إلى عدم مشروعية التيمم وعدم وجوب الصلاة به. أو التردد في ذلك، المقتضى للجمع بين المحتملين من الأداء بالتيمم والإعادة بالماء. فلاحظ.

هذا كله في الإراقة بعد الوقت. قال في الجواهر: "أما قبله فيصلي بتيممه المتجدد إجماعاً، كما في المنتهى، ولا يعيد قطعاً" .وهو ظاهر بناء على عدم وجوب حفظ الماء قبل الوقت، لعدم التفريط حينئذٍ، فلا مجال لتوهم قصور إطلاق مشروعية التيمم وإجزائه. لكن حيث سبق المنع من ذلك، وأنه يجب حفظ الماء قبل الوقت أيضاً، فالأمر يبتني على ما سبق.

(2) هذا عين الإجزاء الذي تقدم منه قدس سره.

(3) الكلام فيه هو الكلام في سابقه. ومثله سائر صور تعجيز المكلف نفسه عن الصلاة بالطهارة المائية. هذا وأما الغسل فقد تقدم في المسألة الثامنة في فصل سبب الجنابة جواز نقضه في الجملة. فراجع.

(4) قال في المنتهى: "ويجوز التيمم لكل ما يتطهر له من فريضة ونافلة ومس مصحف وقراءة عزائم ودخول مساجد وغيرها".

ص: 261

وهو المناسب لإطلاق بعض أدلة مشروعية التيمم وأدلة بدليته عن الوضوء والغسل، مثل قوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن حمران وجميل فيمن وجد الماء أثناء الصلاة: "فإن الله عز وجل جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً"(1) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة:" فإن التيمم أحد الطهورين"(2) ، وقوله (عليه السلام) في صحيح محمد بن مسلم: "إن رب الماء رب الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين"(3) ، وقوله (عليه السلام) في موثق سماعة فيمن يخاف قلة الماء:" يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء، فإن الله عز وجل جعلهما طهوراً الماء والصعيد"(4) ، وغيرها.

فإن المستفاد من هذه الإطلاقات مطهرية التيمم وقيامه مقام الغسل والوضوء في كل ما يحتاج إليهما فيه، سواءً كان منشأ الحاجة توقف صحة العمل أم كماله أم جوازه عليه.

بل حتى في موارد الحاجة للطهارة لمطلوبيتها لنفسها، كالوضوء والغسل للكون على الطهارة أو لتأكيد الطهارة - كما في موارد الوضوء التجديدي والأغسال الزمانية المستحبة - يلزم البناء على ذلك ما لم يثبت مخرج عنه.

نعم تقدم في آخر الكلام في الأغسال المستحبة الإشكال في عموم بدلية التيمم عنها. فراجع. كما يأتي في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى المنع من مشروعيته للصوم - كما يناسبه ما في بعض النصوص - لا لقصور في عموم دليل المشروعية، بل لخروجه عنه موضوعاً. لكنه يختص بصوم الجنب والحائض بعد الطهر، ولا يجري في المستحاضة لو قيل بتوقف صحة صومها على الأغسال. فما في المنتهى من إلحاقها بالجنب والحائض في غير محله.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب التيمم حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب التيمم حديث: 15.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 25 من أبواب التيمم حديث: 3.

ص: 262

كما أنه حيث كان المعيار في تشريع التيمم الاضطرار والحاجة، ولو بلحاظ متابعة الرجحان الشرعي، فاللازم اعتبار الحاجة للطهارة، ليكون تعذر الطهارة المائية منشأ للاضطرار للتيمم. وذلك لأحد أمور:

الأول: وجوبها لنفسها - كما لو نذر الكون على الطهارة - أو لغيرها، كالطهارة لصلاة الفريضة وطوافها.

الثاني: استحبابها لنفسها - كالكون على الطهارة من دون أن يجب بنذر ونحوه - أو لغيرها، كالطهارة لصلاة النافلة وقراءة القرآن والكون العبادي في المسجد. لأن رجحان الفعل المقتضي لفعله كاف في صدق الاضطرار الذي يشرع به التيمم.

الثالث: الاضطرار الخارجي للفعل الذي يتوقف حله على الطهارة، كما لو اضطر الجنب للمكث في المسجد، فإن الجمع بين سدّ الاضطرار وتجنب الحرام لا يكون إلا بالطهارة، وذلك كاف في الحاجة لها والاضطرار إليها. ومثله ما لو توقف امتثال التكليف على فعل ما يحرم بدون الطهارة، كما لو اضطر لمس المصحف من أجل رفع الهتك والتوهين له.

أما مع عدم ذلك فلا مجال لمشروعية التيمم، فلا يشرع التيمم لمس المصحف من دون حاجة لذلك. لأن حرمة المس بنفسها لا تصلح للداعوية للطهارة ما لم يكن هناك داع للمس من ضرورة خارجية أو توقف امتثال خطاب شرعي عليه وإن كان استحبابياً، ومع عدم الداعوية للطهارة لا منشأ للاضطرار المأخوذ في تشريع التيمم.

وهذا بخلاف الطهارة المائية، لعدم أخذ الاضطرار والحاجة فيها. بل غاية ما يعتبر فيها التقرب، ويكفي فيه الإتيان بالفعل بداعي تجنب الحرام في الفعل الذي يراد إيقاعه ولو من دون حاجة إليه، كما تقدم في المسألة السابعة والتسعين في فصل غايات الوضوء. فراجع.

اللهم إلا أن يقال: الاضطرار المعتبر في مشروعية التيمم ليس هو الاضطرار الحقيقي الناشئ من الحاجة لفعل ما يتوقف صحته أو حله أو كماله على الطهارة، بل

ص: 263

الاضطرار النسبي بلحاظ تعذر الطهارة المائية ولو مع عدم الحاجة للفعل المذكور، ولذا يشرع التيمم - كما يأتي - لوطء الحائض بعد النقاء قبل الغسل، وللنوم. مع أنه لا يعتبر فيه الحاجة للأمرين. ومن هنا يتجه جواز التيمم لمس المصحف ولو مع عدم الحاجة له. فتأمل جيداً.

هذا وعن الألفية الميل إلى عدم قيام التيمم مقام الغسل بالإضافة إلى وطء الحائض بعد النقاء، وعن الذكرى الإشكال في قيامه مقامه. لكن الذي وجدته فيه هو الجزم بقيامه مقامه. وكيف كان فيشهد بعدم قيامه مقامه بعض النصوص.

لكن يتعين رفع اليد عنه بغير واحد من النصوص المصرحة بالاكتفاء به، كما تقدم في المسألة السادسة عشرة من فصل أحكام الحيض.

وقال في كشف اللثام: "واستثنى فخر الإسلام في الإيضاح دخول المسجدين واللبث في المساجد ومسّ كتابة القرآن. وبمعناه قوله في شرح الإرشاد إنه يبيح الصلاة من كل حدث والطواف من الأصغر خاصة. ولا يبيح من الأكبر إلا الصلاة والخروج من المسجدين. ونسبه فيه إلى المصنف أيضاً" .وعن كشف الغطاء أنه قواه، وعمه لكل ما كان الموجب لرفع الحدث فيه الاحترام كمسّ أسماء الله تعالى وقراءة العزائم ووضع شيء في المساجد ونحو ذلك.

فإن كان المنشأ لذلك دعوى قصور أدلة تشريع التيمم عن الغايات المذكورة. فقد ظهر ضعفها مما سبق. وإن كان منشؤه أن التيمم لما لم يكن رافعاً للحدث لم يصلح لرفع جهة المنع من فعل الحدث، وهي منافاة الاحترام. فيظهر ضعفه مما تقدم في المسألة الأربعين وغيرها من أن التيمم رافع للحدث أو بحكم الرافع.

على أنه قد تضمن صحيح أبي حمزة(1) أن من احتلم في أحد المسجدين فعليه التيمم حال الخروج منه، ويظهر منهما الفتوى بذلك. وهو يبتني على مشروعية التيمم لتجنب الكون المحرم في المسجد. وقد تقدم الكلام فيه في ذيل المسألة الخامسة عشرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 15 من أبواب الجنابة حديث: 6.

ص: 264

الوجه الكامل، كقراءة القرآن والكون في المسجد ونحو ذلك، بل لا يبعد مشروعيته للكون على الطهارة (1). أما ما يحرم على المحدث من دون أن يكون مأموراً به - كمس القرآن ومسّ اسم الله تعالى - فلا يشرع التيمم

في فصل أحكام الجنابة. فراجع.

وإن رجع إلى ما سبق منا من عدم مشروعية التيمم إلا مع الاضطرار، الذي لا يحصل لمجرد تجنب حرمة العمل من دون اضطرار إليه. فقد عرفت الإشكال فيه. مع أنه لا يناسب إطلاق ما تقدم منهم الشامل لما إذا اضطر لشيء من الغايات السابقة. بل لا يناسب التعميم للطواف الذي هو عبادة مستحبة، ولقراءة العزائم التي هي كقراءة سائر القرآن مستحبة أيضاً.

على أنه لم يتضح الفرق بين مثل الصلاة مما يشرع له التيمم قطعاً وقراءة العزائم وغيرها مما تقدم في كلامهم في كون منع الحدث من الثاني لمنافاته للاحترام دون الأول، بل لا يبعد كون الجميع بملاك واحد، وهو الاحترام. ولاسيما بلحاظ قوله (عليه السلام) في موثق مسعدة بن صدقة فيمن يصلي مع القوم جماعة من غير وضوء ثم يعيدها بوضوء: "سبحان الله فما يخاف من يصلي من غير وضوء أن تأخذه الأرض خسفاً"(1). لأن المناسبات الارتكازية تقتضي كون التهديد المذكور بلحاظ عدم مناسبة الحدث لرفعة مقام الصلاة واحترامها، ولو بلحاظ كونها وقوفاً بين يدي الله عز وجل وانعطافاً إليه.

(1) كما نص على ذلك في الجواهر. واستشكل فيه السيد الطباطبائي في العروة الوثقى. وكأنه لعدم رافعيته للحدث، ويظهر ضعفه مما تقدم. بل ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أنه لا يناسب جزمه بمشروعية التيمم بدلاً عن الوضوء التجديدي، كما عن المعتبر والمنتهى والنفلية والجامع النص عليه، واختاره في الجواهر. قال:" وكان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 1.

ص: 265

لأجله، كما أشرنا إلى ذلك في غايات الوضوء (1)، فلابد للمحدث إذا اضطر إلى مس القرآن أن يتيمم لغير المس مثل قراءة القرآن وحينئذٍ يجوز المس له.

الأنسب العكس بدعوى: أن أدلة البدلية ربما تنصرف إلى صرف طبيعة الأثر، فلا تشمل التجديد، لأنه يوجب أثراً بعد أثر، وإن كانت هذه الدعوى ضعيفة أيضاً".

لكن قد يكون الوجه عنده لمشروعية التيمم للتجديد خصوص بعض النصوص الذي استدل به في الجواهر، وهو صحيح أبي همام عن الرضا (عليه السلام):" قال: يتيمم لكل صلاة حتى يوجد الماء"(1) ، وخبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام): "قال: لا يتمتع بالتيمم إلا صلاة واحدة ونافلتها"(2).

بدعوى أنه بعد تعذر حملهما على الوجوب يتعين حملهما على الاستحباب، فإنه أولى من حملهما على التقية، لتوقفه على تعذر الجمع العرفي، ويكون ذلك هو الفارق بين التيمم للكون على الطهارة والتيمم بدلاً عن الوضوء التجديدي، لا القاعدة المقتضية لعدم الفرق بينهما.

نعم يشكل بأن الخبرين ظاهران في تجديد التيمم لكل صلاة حتى لو كان بدلاً عن الغسل، والذي ذكره في العروة الوثقى هو التيمم بدلاً عن الوضوء التجديدي الذي يشرع لغير الصلاة، ولعله هو ظاهر الجواهر. ومن ثم ينحصر الدليل عليه بإطلاق دليل البدلية، الذي لو تم جرى في التيمم للكون على الطهارة، ويتجه الإشكال عليه بما سبق من سيدنا المصنف (قدس سره).

(1) في المسألة السابعة والتسعين، وقد تقدم منه (قدس سره) الاستدلال له بأن الغاية المذكورة لما لم تكن مأموراً بها مقيدة بالطهارة لم تكن الطهارة لها مأموراً بها غيرياً، لتصلح لتشريع الطهارة كي تكون الطهارة عبادة يمكن التقرب بها. ومن ثم لا يختص ذلك بالتيمم بل يجري في الوضوء والغسل.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 4، 6.

ص: 266

(267)

(مسألة 43): إذا تيمم المحدث لغاية جازت له كل غاية، وصحت منه (1). فإذا تيمم للكون على الطهارة صحت منه الصلاة وجاز له

لكن تقدم أن عبادية الطهارات ليست مبنية على كون أوامرها عبادية، فإن جميع أوامرها توصلية، بل منشأ عباديتها هو توقف صحتها على التقرب بها، ويكفي في التقرب قصد التجنب بها عن الحرام، كالمسّ ودخول المساجد حال الحدث. ومن ثم تقدم منّا جواز الوضوء بقصد الغايات المذكورة. وكذا الحال في الغسل.

وذلك هو المناسب لما ورد من أن من احتلم في أحد المسجدين الشريفين فعلية التيمم للخروج منهما(1) ، كما أشرنا إليه آنفاً، فإنه كالصريح في جواز جعل المرور في المسجدين غاية للتيمم بلحاظ الفرار به عن المرور المحرم، لا لتحصيل المرور الواجب أو المستحب. ولا مجال للبناء على حمله على التيمم لغاية أخرى، لأنه تكلف يحتاج إلى عناية لا مجال لحمل الحديث عليه، كما لعله ظاهر.

ومثله ما أشرنا إليه من النصوص المتضمنة لمشروعية التيمم لوطء الحائض إذا نقت من الحيض، لوضوح أن الداعي له ليس إلا رفع كراهة الوطء في حق الزوج أو الزوجين معاً، لا التقرب بأمر غاية مطلوبة شرعاً. وكذا ما ورد من استحباب التيمم للنوم(2) ، لوضوح أنه لا يرجع لاستحباب إحداث النوم عن طهارة، لتكون الطهارة مستحبة مقدمة لتحصيل النوم المستحب، بل لكون النوم عن طهارة أفضل من النوم على غير طهارة، فهي لتجنب النوم غير الأفضل، ولجعل النوم الحاصل هو الأفضل، نظير التيمم لوطء الحائض.

(1) قال في المبسوط:" وإذا تيمم جاز أن يفعل جميع ما يحتاج في فعله إلى الطهارة، مثل دخول المسجد وسجود التلاوة ومس المصحف والصلاة على الجنائز

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الجنابة حديث: 6.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الوضوء، وج: 2 باب: 9 من أبواب التيمم.

ص: 267

دخول المساجد والمشاهد وغير ذلك مما يتوقف صحته أو كماله أو جوازه على الطهارة المائية. نعم لا يجزئ ذلك فيما إذا تيمم لضيق الوقت (1)

وغير ذلك ".ويقتضيه إطلاق أدلة التيمم وطهورية الأرض الذي سبق التعرض له في المسألة السابقة.

وقد تقدم من غير واحد الإشكال في التيمم من الحدث الأكبر للطواف، وفي التيمم لمس القرآن وقراءة العزائم والمكث في المساجد غير ذلك. فإن كان مرادهم المنع من جعلها غاية للتيمم، فقد سبق الإشكال فيه. وإن كان مرادهم المنع من استباحتها بالتيمم بعد فرض وقوعه وصحته، أشكل بإطلاق مشروعية التيمم حتى لو قيل بعدم كونه رافعاً للحدث، لما سبق من أنه حينئذٍ يكون بحكم الرافع. ولاسيما بملاحظة ما سبق من ورود الأمر بالتيمم للخروج من المسجدين الشريفين، إذ لولا كون التيمم رافعاً لحرمة الكون في المسجدين لم يكن له فائدة، ومن الظاهر أن حرمة المكث في بقية المساجد بملاك حرمة مطلق الكون في المسجدين الشريفين.

بل من المعلوم من سيرة المسلمين في العصور السابقة الالتزام نوعاً بالصلاة في المساجد، فلو كان البناء على تجنب دخول المسجد للمتيمم لكثر السؤال عن ذلك، فالسكوت عنه، وعدم ورد النصوص فيه، مناسب للمفروغية عن جواز دخول المسجد للجنب. بل يصعب جداً حمل النصوص الواردة في إمامة المتيمم للمتوضئين(1) على إمامتهم في غير المسجد، لغلبة إقامة الجماعة في المساجد.

(1) لأن الطهارات الثلاث لما لم تكن مطلوبة لنفسها، بل بلحاظ غاياتها فالترتب بين الطهارة الترابية والمائية يرجع للترتب بين العمل الواجد للطهارة الترابية والعمل الواجد للطهارة المائية، فلا يشرع الأول إلا بتعذر الثاني.

وحينئذٍ إذا كان المسوغ للتيمم مختصاً ببعض الغايات تعين عدم استباحة بقية

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 5 باب: 17 من أبواب صلاة الجماعة.

ص: 268

(269)

على الأحوط وجوباً (1).

(مسألة 44): ينتقض التيمم بمجرد التمكن من الطهارة المائية (2)

الغايات به، فالتيمم لضيق الوقت - بناء على مشروعيته - إنما يشرع بلحاظ تعذر الإتيان بذات الوقت بالطهارة المائية، وذلك لا يقتضي مشروعيته لغيرها مما لا يتعذر بالطهارة المائية لسعة وقته.

ومنه يظهر جريان ذلك في التيمم لغير ضيق الوقت من الأعذار بناء على ما سبق في أول هذا الفصل من أن مقتضى القاعدة عدم مشروعية التيمم إلا مع استيعاب الوقت بالعذر، فلو تيمم للعجز عن استعمال الماء - لعدم وجدانه أو للخوف من استعماله - لصلاة موقتة في تمام وقتها لا يجوز له أداء غيرها من الصلوات غير الموقتة، كالقضاء. كما يظهر بأدنى تأمل.

(1) لم يتضح الوجه في تردده في ذلك بعد ما ذكرنا وما ذكره هو (قدس سره) في وجه الحكم.

(2) إجماعاً محصلاً ومنقولاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً منا ومن العامة عدا الشاذ. كذا في الجواهر. للنصوص المستفيضة كصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في رجل تيمم قال: يجزيه ذلك إلى أن يجد الماء "(1) وغيره.

والظاهر من وجدان الماء هو الوجدان مع القدرة على الاستعمال، لما هو المعلوم من أن وجدان ما يتعذر استعماله لا يمنع من مشروعية التيمم، فضلاً عن أن يبطل التيمم الصحيح. بل قال (عليه السلام) في مرسل العياشي:" إذا رآى الماء وكان يقدر عليه انتقض التيمم"(2).

ثم إن مورد النصوص المذكورة وإن كان خصوص وجدان الماء إلا أن المناسبات الارتكازية تقتضي إلغاء خصوصيته والعموم لجميع موارد القدرة على الطهارة المائية،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب التيمم حديث: 2، 6.

ص: 269

وإن تعذرت عليه بعد ذلك (1)، وإذا وجد من تيمم تيممين (2) من الماء ما يكفيه لوضوئه انتقض تيممه الذي هو بدل عنه (3)، وإذا وجد ما يكفيه للغسل انتقض ما هو بدل عنه خاصة وإن أمكنه الوضوء به (4)، فلو فقد الماء بعد ذلك أعاد التيمم بدلاً عن الغسل.

كما هو معقد الإجماع المتقدم. كما يكفي ارتفاع العذر المصحح لترك الطهارة المائية، ومنه ما لو تيمم للزوم الحرج أو خوف العطش ثم ارتفعا.

(1) بلا إشكال، لإطلاق النصوص المتقدمة، ولخصوص صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: "قلت: فإن أصاب الماء ورجا أن يقدر على ماء آخر وظن أن يقدر عليه كلما أراد فعسر ذلك عليه. قال: ينقض ذلك تيممه. وعليه أن يعيد التيمم"(1) ، وغيره.

(2) بناء على وجوب تعدد التيمم مع الحدث الأكبر غير الجنابة. وقد تقدم منّا في المسألة السابعة والعشرين المنع منه.

(3) لعين ما سبق.

(4) لأهمية رفع الحدث الأكبر بالغسل أو احتمال أهميته، فيتعين صرف الماء له عقلاً، المستلزم للعذر في ترك الوضوء، فيخرج عن منصرف أدلة انتقاض التيمم بالوجدان، لما سبق من أن مرجعها إلى ارتفاع العذر المصحح لترك الطهارة المائية غير الحاصل في الفرض.

بل لو فرض عدم الأهمية تعين انتقاض أحد التيممين تخييراً، لتعذر الطهارة بالإضافة إلى أحد الحدثين، فمع صرف الماء لأحدهما يبقى العذر بالإضافة للآخر. ومنه يظهر ضعف ما في الجواهر من انتقاض كلا التيممين، لدعوى صدق الوجدان

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 270

(271)

(مسألة 45): إذا وجد جماعة متيممون ماء مباحاً لا يكفي إلا لأحدهم فإن تسابقوا إليه وسبقوا كلهم لم يبطل تيممهم (1)، وإن سبق واحد بطل تيمم السابق (2)، وإن لم يتسابقوا إليه بطل تيمم الجميع (3)، وكذا إذا كان الماء مملوكاً وأباحه المالك للجميع، وإن أباحه لبعضهم بطل تيمم ذالك البعض لا غير.

في كل منهما وعدم الترجيح. حيث يظهر مما ذكرنا اندفاع الدعوى المذكورة.

نعم لو فرض عدم الترجيح وعدم استعمال الماء لكلا الحدثين اتجه بطلان التيممين معاً، لعدم العذر بالإضافة إلى كل منهما. أما مع فرض ترجيح الغسل أو احتمال ترجيحه فاللازم البناء على عدم بطلان التيمم بدلاً عن الوضوء، لتعذر الوضوء خارجاً لحرمة صرف الماء فيه أو احتمالها احتمالاً منجزاً فيتعذر التقرب به حتى لو لم يغتسل. إلا أن يفرض تعذر الغسل بعد ذلك لضيق الوقت مثلاً - بناء على كونه مسوغاً للتيمم - فيتعين وجوب الوضوء وبطلان تيممه أيضاً.

(1) كما في الجواهر، لاشتراكهم جميعاً في الماء المذكور، وحيث لا تكفي حصة كل منهم له تعين بقاء تيممه صحيحاً. نعم لو بذل الشركاء نصيبهم لواحد انتقض تيممه فقط، لقدرته على استعماله حينئذٍ.

(2) كما في الجواهر، لصيرورة الماء له وقدرته على استعماله، ويتعذر استعماله على الآخرين حينئذ، فلا يبطل تيممهم. نعم لو بذله لأحدهم بطل تيممه أيضاً. ومجرد حرمة البذل عليه تكليفاً لا ينافي ترتب الأثر عليه، وجواز استعمال المبذول له، فيبطل تيممه.

(3) كما في الجواهر. ولعله المراد مما في المنتهى من إطلاق انتقاض تيمم الكل بوجدان ماء لا يكفي إلا لأحدهم، وإلا كان خالياً عن الدليل. وكيف كان فالوجه في بطلان تيمم الجميع قدرة كل منهم على استعمال الماء.

ص: 271

(272)

(مسألة 46): حكم التداخل الذي مرّ سابقاً في الأغسال يجري في التيمم أيضاً، فلو كان هناك أسباب عديدة للغسل يكفي تيمم واحد عن الجميع (1).

(1) كما عن جامع المقاصد وقواه في الجواهر. ويقتضيه إطلاق دليل وجوب التيمم لكل سبب، إذ مقتضاه الاكتفاء بصرف الوجود المقتضي للاكتفاء بتيمم واحد للكل، كما يظهر وجهه مما تقدم في المسألة السابعة والعشرين من الاكتفاء بتيمم واحد بدلاً عن الغسل والتيمم. فراجع.

مضافاً إلى إطلاق دليل البدلية المقتضي لوفاء التيمم بتمام ما يفي به الماء. وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من تمحض الدليل المذكور ببيان طهورية التراب من دون نظر إلى بقية الآثار التي منها إجزاء الغسل الواحد عن الأسباب المتعددة.

فهو كما ترى، إذ لو كان المراد به أن مفاد الأدلة إثبات الطهورية للتراب في الجملة من دون نظر إلى سعة الطهورية وضيقها، فهو في غاية المنع، ولذا لا إشكال في نهوض الإطلاق المذكور برافعية التيمم لجميع الأحداث التي يرفعها الماء. وإن كان المراد به أن مفاد الأدلة إثبات الطهورية على سعتها، من دون نظر لما زاد على ذلك من الأحكام، أشكل بأن التداخل راجع إلى سعة الطهورية وليس هو خارجاً عنها، فكما يكون مقتضى الإطلاق سعة طهورية التراب بنحو تشمل جميع الأحداث مع انفرادها يكون مقتضاه سعتها بنحو تشمل جميع الأحداث مع اجتماعها.

هذا وقد ادعى (قدس سره) أن مقتضى إطلاق الآية الاجتزاء بتيمم واحد مع اجتماع الجنابة مع بقية الأحداث، لأن مفادها أن من قام وكان جنباً وجب عليه الغسل، ومع العجز عنه يكفيه التيمم عنه، ومقتضى ذلك الاكتفاء بالتيمم المذكور حتى لو اجتمع مع الجنابة بقية الأحداث الكبيرة.

لكنه كما ترى فإن الآية ظاهرة في وجوب الغسل أو التيمم من حيثية النوم والجنابة ولا نظر لها إلى بقية الأحداث، كما لا نظر لها للخبث، فلا تنافي وجوب إزالته

ص: 272

(273)

وحينئذٍ فإن كان من جملتها الجنابة لم يحتج إلى الوضوء (1) أو التيمم بدلاً عنه، وإلا وجب الوضوء أو تيمم آخر (2) بدلاً عنه على الأحوط وجوباً.

(مسألة 47): إذا اجتمع جنب ومحدث بالأصغر وميت، وكان هناك ماء لا يكفي إلا لأحدهم فإن كان مملوكاً لأحدهم تعين صرفه لنفسه (3)،

بأمر غير الغسل أو التيمم المذكورين.

وإلا فاللسان المذكور لا يختص بالآية، بل يجري في جميع أدلة الغسل بأسبابه، فكما دلت الآية على اكتفاء الجنب بالغسل أو التيمم دلت أدلة وجوب غسل الحيض مثلاً بضميمة أدلة البدلية على اكتفاء الحائض بالغسل، أو التيمم، فإذا كان مقتضى إطلاق الآية اكتفاء الجنب بالغسل أو التيمم ولو مع مس الميت مثلاً، فليكن مقتضى إطلاق أدلة وجوب غسل الحيض بضميمة أدلة البدلية اكتفاء الحائض بالغسل أو التيمم مع مس الميت أيضاً. وهكذا بقية أدلة الأغسال. فالعمدة ما سبق.

ومنه يظهر ضعف ما عن جامع المقاصد من احتمال عدم التداخل لأن التيمم طهارة ضعيفة مع انتفاء النص وعدم تصريح الأصحاب فيتعين الوقوف مع اليقين. إذ فيه: أن ضعف الطهارة لا أثر له في المقام بعد نهوض ما سبق بالبناء على التداخل.

(1) كما هو مقتضى إطلاق البدلية.

(2) لكن تقدم في المسألة السابعة والعشرين تقريب عدم وجوب ذلك. لإطلاق أدلة البدلية، بناء على ما هو الظاهر من إجزاء كل غسل عن الوضوء، ولخصوص معتبر أبي عبيدة المتقدم(1). فراجع.

(3) كما في الشرايع. لقدرته بذلك على استعماله، فيجب، ولا يشرع له التيمم معه. كما لا يجب عليه بذله لغيره، بل لا يجوز، لعدم جواز تعجيز نفسه عن استعمال

********

(1) وسائل الشيعة ح: 2 باب: 21 من أبواب الحيض حديث: 1.

ص: 273

وإلا ففيه التفصيل السابق (1).

الماء مع قدرته عليه كما تقدم في المسألة الواحدة والأربعين.

وهذا في الجنب وغير المتوضئ ظاهر، وأما في الميت فلأنه وإن لم يكن مكلفاً، إلا أن خروج مؤنة التجهيز من التركة تقتضي اختصاصه بالماء ووجوب تغسيله به كفاية على غيره، وعدم جواز تصرفهم فيه بغير ذلك.

هذا ولا مجال لتوهم مزاحمة تكليف الجنب وغير المتوضئ بصرف الماء لأنفسهما إذا كان مملوكاً لهما بتكليفهما بتجهيز الميت كفاية، فلابد من الترجيح بالأهمية. لاندفاعه بأن وجوب تجهيز الميت على الأحياء كفاية لا يقتضي وجوب بذلهم مؤنة التجهيز مقدمة له، بل وجوب نفس التجهيز في ظرف تيسر المؤن من تركته أو ببذل باذل، كما تقدم في المسألة التاسعة والثلاثين في فصل تكفين الميت. ومما سبق يظهر الحال فيما إذا كان المال مملوكاً لشخص آخر، فبذله لأحدهم بعينه وخصه به، حيث يجري فيه ما سبق. بل لعله فيه أظهر كما قد يظهر بالتأمل.

ثم إنه لا مخرج عما سبق من النصوص الآتية، لاختصاص أكثرها بما إذا كان الماء مشتركاً بين الكل. نعم في مرسل محمد بن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قلت له: الميت والجنب يتفقان في مكان لا يكون فيه الماء إلا بقدر ما يكتفي به أحدهما، أيهما أولى أن يجعل الماء له؟ قال: يتيمم الجنب، ويغتسل الميت بالماء"(1). وإطلاقه شامل لما إذا كان الماء مختصاً بأحدهما.

إلا أن ضعف سنده وعدم ظهور القائل بمضمونه مانع من الخروج به عما سبق. ولاسيما مع قرب انصرافه عما إذا كان الماء مختصاً بأحدهما، ولا أقل من لزوم حمله على غير الصورة المذكورة تحكيماً لما سبق من القاعدة. فتأمل.

(1) يعني المتقدم في المسألة الخامسة والأربعين. لكن ذلك إنما يتجه فيما إذ

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 5.

ص: 274

كان الماء مباحاً، حيث يمكن فرض التسابق فيه، فمن سبق له اختص به، وسبق الميت لابد أن يكون بسبق وليه. مع أن ذلك لا يخرج عن مفروض صدر المسألة، لأنه بسبق أحدهم إليه يملكه ويختص به، ومع سبق الكل يجري فيه حكم اشتراكهم فيه الذي يأتي الكلام فيه.

على أن الكلام هنا ليس في بطلان تيممهم الذي هو موضوع التفصيل المتقدم، بل في حكم استعمالهم للماء، فالتحويل فيه على ما سبق هنالك غير ظاهر.

أما إذا كان مملوكاً للكل فاللازم امتناع استعمال الجنب والميت له، لعدم كفاية حصة كل منهما لغسله.

نعم حصة غير المتوضئ كثيراً ما تفي بوضوئه فيتعين عليه إيقاعه بها، ويتعذر حينئذٍ الغسل على صاحبيه. وحينئذ يجوز لكل منهما بذل حصته للآخر بعد عدم قدرته على رفع حدثه به، إلا أن المفروض عدم وفاء الباقي للغسل لفرض عدم وفاء جميع الماء إلا لأحدهم فمع أخذ غير المتوضئ حصته ينقص الباقي عن مقدار الغسل للآخرين.

لكن المشهور - كما قيل - ترجيح الجنب. لصحيح عبد الرحمن بن أبي نجران:" أنه سأل أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن ثلاثة نفر كانوا في سفر، أحدهم جنب، والثاني ميت، والثالث على غير وضوء، وحضرت الصلاة، ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم، من يأخذ الماء وكيف يصنعون؟ قال: يغتسل الجنب ويدفن الميت بتيمم، ويتيمم الذي هو على غير وضوء، لأن غسل الجنابة فريضة، وغسل الميت سنة، والتيمم للآخر جائز"(1). وخبر الحسين بن النضر الأرمني: "سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميت ومعهم جنب ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما أيهما يبدء به؟ قال: يغتسل الجنب، ويدفن الميت،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 1.

ص: 275

لأن هذا فريضة وهذا سنة"(1). وخبر الحسن التفليسي:" سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن ميت وجنب اجتمعا ومعهما ماء يكفي أحدهما أيهما يغتسل؟ قال: إذا اجتمعت سنة وفريضة بدئ بالفرض"(2).

هذا وقد أشكل بعض مشايخنا (قدس سره) على ذلك بضعف النصوص المذكورة. أما الأخيران فلعدم ثبوت وثاقة الحسين بن النضر، ولا الحسن التفليسي. وأما الأول، فلاضطراب سنده.

وتوضيح ذلك: أن الحديث، وإن كان صحيحاً على رواية الصدوق، لصحة طريق الصدوق لعبد الرحمن بن أبي نجران، إلا أن الشيخ في التهذيبين روى بسنده عن الصفار عن محمد بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن رجل حدثه، قال: "سألت أبا الحسن (عليه السلام)..." وذكر الخبر باختلاف يسير. والظاهر اتحاد الخبرين، إذ من البعيد رواية عبد الرحمن له مرتين: مرة عن الإمام مشافهة ومرة بواسطة مع اتفاق لسان الخبرين، فيكون مضطرب السند مردداً بين الصحيح والمرسل. بل يبعد الأول أن عبد الرحمن لم يعدّ من أصحاب الكاظم (عليه السلام)، وإنما عدّ من أصحاب الرضا والجواد (عليهما السلام)، فإن المناسب لذلك عدم روايته عن الكاظم (عليه السلام) إلا بواسطة.

كما استشكل في دلالة الصحيح بإجمال التعليل، لاشتراك غسل الجنابة والوضوء في كونهما فريضة، لذكرهما في القرآن المجيد، وفي جواز التيمم بدلهما. مضافاً إلى أن مقتضى اشتراكهم في الماء عدم جواز بذل من هو على غير وضوء حصته للجنب. بل فرض كفاية الماء لتغسيل الميت المشتمل على ثلاثة أغسال لا يناسب عدم إمكان تغسيله به إذا توضأ به الشخص المذكور، لقلة ماء الوضوء جداً، ومن البعيد بل الممتنع عادة كونه بقدر ما يغسل به الميت دقّة بحيث إذا نقص كفاً أو كفين تعذر تغسيل الميت به.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 18 من أبواب التيمم حديث: 4، 3.

ص: 276

لكن ما ذكره من اضطراب سنده وإن كان تاماً، إلا أنه قد لا يمنع من الاستدلال به بعد ظهور اعتماد الأصحاب عليه وعلى الخبرين الآخرين، لشهرة القول بمضمونها. وقد ذكر في المعتبر أن العامل بها من الأصحاب كثير، بل لا يعرف التصريح بردها. غاية الأمر ذهاب الشيخ في المبسوط للتخيير، لتعارض النصوص.

وأما الدلالة فمن الظاهر أن إجمال التعليل لو تم لا يقدح فيها. مع أنه لا يبعد رجوع تعليل تقديم غسل الجنابة على الوضوء مع اشتراكهما في كونهما فريضة لها بدل إلى أن أهمية غسل الجنابة تقتضي تقديمه وانتقال من ليس على وضوء للتيمم بعد كونه جائزاً له.

وأما أن اشتراكهم في الماء يقتضي عدم جواز بذل من هو على غير وضوء حصته للجنب. فهو لا يزيد على كون ذلك مقتضى القاعدة، ولا يمنع من الخروج عنه بالحديث، ليكون قادحاً في دلالته. على أنه لا يبعد ابتناء اشتراك المسافرين ونحوهم - ممن يشتركون في مؤنهم ضمناً - على إعمال الأولويات العرفية والشرعية في كيفية صرف مؤنهم، ومنها الماء، لا على مقتضى الأصل الأولي من استقلال كل منهم بحصته وعدم التصرف فيها إلا بإذنه، بحيث يكون البناء المذكور كالشرط الضمني يلزم العمل عليه، فمع فرض أولوية الجنب بالماء يتعين بذل الماء له.

وأما ما ذكره من أن فرض كفاية الماء لغسل الميت المشتمل على ثلاثة أغسال لا يناسب عدم تغسيله به لو أخذ منه مقدار الوضوء، فكان الأولى له أن يذكر أن الماء الذي يكفي لتغسيل الميت ثلاثة أغسال لابد أن يزيد على غسل الجنابة والوضوء كثيراً. فلعل الأولى في دفعه أن يحمل تغسيل الميت على غسل واحد له، لقلة الماء، خصوصاً مع تعذر الخليطين غالباً في السفر، لعدم تهيؤ المسافرين لموت بعضهم في سفرهم، كما يظهر من غير واحد من النصوص الواردة في تغسيل الميت في السفر. ومن هنا لا مجال لرفع اليد عن الحديث المذكور مع تأيده بالخبرين المذكورين بمثل هذه المناقشات. ومثله

ص: 277

نعم يعارضها في ذلك خبر أبي بصير الذي لا يبعد اعتبار سنده: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم كانوا في سفر، فأصاب بعضهم جنابة، وليس معهم من الماء إلا ما يكفي الجنب لغسله يتوضؤن هم هو أفضل، أو يعطون الجنب فيغتسل وهم لا يتوضؤون؟ فقال: يتوضؤون هم ويتيمم الجنب"(1). وهو مطابق للقاعدة، لأن حصة كل منهم إذا كانت بقدر وضوئه كان عليه استعماله، فلا يبقى للجنب ما يفي غسله، ويتعين عليه التيمم.

لكنه مهجور عند الأصحاب، حيث لم يعرف وجود قائل به، فلا مجال لرفع اليد به عن حديث عبد الرحمن والخبرين الموافقين له. ولاسيما وأن مورده الدوران بين اغتسال الجنب ووضوء جماعة، لا وضوء واحد، الذي مورد النصوص المذكورة.

ومثله مرسل علي بن محمد المتقدم، فإنه وإن ذكر في الشرايع ومحكي التحرير أنه قيل بذلك، إلا أنه قال في الجواهر:" لكن لم نعرف قائله، كما اعترف بذلك بعضهم".

ومن ثم لا جابر له لينهض بمعارضة النصوص المتقدمة، فضلاً عن أن يترجح عليها. وأما تأييده بأن غسل الميت خاتمة طهارته، فينبغي إكمالها، والحي قد يجد الماء فيغتسل، وبأن القصد في غسل الميت الطهارة من الخبث، وهي لا تحصل بالتيمم والقصد من غسل الجنب الدخول في الصلاة وهو حاصل به. فهو لا ينهض بجعله حجة في المقام، ومن هنا لا مخرج عن مقتضى النصوص الأول.

هذا وقد خير في المبسوط والخلاف الكل في استعمال الماء، لعدم المرجح، ولاختلاف النصوص المقتضي لحملها على التخيير.

وفيه: أنه يكفي في الترجيح حديث عبد الرحمن وما وافقه. واختلاف النصوص لا يقتضي الجمع العرفي بينها بالتخيير، بل يأباه لسان حديث عبد الرحمن جداً. نعم لو فرض حجيتها ذاتاً واستحكام تعارضها لزم التساقط، والبناء على لزوم الوضوء عملاً بالقاعدة، على ما تقدم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب التيمم حديث: 2.

ص: 278

ثم إنه قال في المعتبر بعد ذكر ما سبق من المبسوط: "والذي ذكره الشيخ (قدس سره) ليس موضع البحث، فإنا لا نخالف أن لهم الخيرة، لكن البحث في الأولى أولوية لا يبلغ اللزوم، ولا ينافي التخيير" ،وحكى في مفتاح الكرامة نحوه عن المهذب البارع والمحقق الثاني وسبط الشهيد الثاني. وظاهرهم المفروغية عن حمل نصوص الأولوية على الاستحباب، كما هو ظاهر الشرايع، وصريح القواعد وغيرها.

لكن في الخروج بذلك عن ظاهر النصوص المتقدمة إشكال، خصوصاً بملاحظة التعليل المستفاد منها بتقديم الفريضة. ولاسيما مع ظهور إطلاق التقديم والأولوية في كلام جماعة في إرادة اللزوم. فالبناء على التقديم لو لم يكن أقوى فهو أحوط.

نعم يختص ذلك بما إذا كان الماء لهم جميعاً لاختصاص النصوص به. أما إذا اختص به أحدهم - ولو لسبقه إليه أو لتخصيص غيره به بتمليك أو بذل - فلا مخرج عن مقتضى القاعدة الذي سبق.

كما أنه يستفاد من النصوص حكم بقية صور اجتماع الجنب مع غيره من المحدثين بالأكبر أو الأصغر، حيث يتعين تقديم الجنب على غيره من المحدثين بالأكبر، لعموم التعليل بتقديم الفريضة على السنة، وعلى المحدثين بالأصغر بلحاظ الترجيح المستفاد من حديث عبد الرحمن.

وأما صور اجتماع غير الجنب من المحدثين بالأكبر مع الميت فالنصوص المتقدمة قاصرة عنها. وما يظهر من بعضهم من إلحاقهم بالجنب في غير محله. فالمتعين الرجوع فيها للقاعدة المتقدمة.

وكذا اجتماع غير المتوضئ مع المحدث بالأكبر غير الجنابة. ودعوى: أن مقتضى تقديم الفريضة المستفاد من تلك النصوص تقديم الوضوء حينئذٍ. مدفوعة بأن المحدث بالأكبر غير متوضئ أيضاً، لأن أسباب الحدث الأكبر نواقض الوضوء أيضاً، فلا ترجيح من هذه الجهة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 279

(280)

(مسألة 48): إذا شك في وجود حاجب في بعض مواضع التيمم فحاله حال الوضوء والغسل في وجوب الفحص حتى يحصل اليقين أو الظن بالعدم (1).

(1) كما تقدم منه في المسألة السادسة في فصل أفعال الوضوء، وتقدم منّا عدم الاكتفاء بالظن، بل لابد من الفحص مع عدم العلم ما لم يرجع للوسواس. فراجع. والله سبحانه وتعالى العالم. والحمد لله رب العالمين.

انتهى الكلام في التيمم شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين). وبه ينتهي الكلام في الطهارة من الحدث. صباح الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الأولى سنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلوات وأزكى التحية في النجف الأشرف ببركة الحرم الشريف، على مشرفه الصلاة والسلام. بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه نجل سماحة حجة الإسلام والمسلمين آية الله (السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم) دامت بركاته. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق. وهو أرحم الراحمين، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 280

(281)

المبحث السادس: في الطهارة من الخبث وفيه فصول

الفصل الأول: في عدد الأعيان النجسة

وهي اثنا عشر:

الأول والثاني: البول والغائط من كل حيوان له نفس سائله محرم الأكل (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

(1) إجماعاً في الجملة حكاه غير واحد، وفي الجواهر أن نقله مستفيض إن لم يكن متواتراً. والنصوص به مستفيضة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن البول يصيب الثوب. قال: اغسله مرتين"(1). وصحيح عبد الله بن سنان:" قال أبو عبد الله (عليه السلام): اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه "(2) ونحوهما غيرهما. لأن المستفاد عرفاً من الأمر بغسل الثوب هو النجاسة.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 1 من أبواب النجسات حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ح: 2 باب: 8 من أبواب النجسات حديث: 2.

ص: 281

وأما الغائط فيقتضي نجاسته - مضافاً إلى عدم الفصل بينه وبين البول - النصوص الواردة في الموارد المتفرقة، كنصوص الاستنجاء من الغائط، وصحيح محمد بن مسلم في حديث:" إن أبا جعفر (عليه السلام) وطأ على عذرة يابسة فأصاب ثوبه، فلما أخبره قال: أليس هي يابسة؟ قال: بلى، قال: فلا بأس"(1) ، وموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه سئل عن الدقيق يصيب فيه خرء الفار؟ قال: إذا بقي منه شيء فلا بأس يؤخذ أعلاه"(2) ، وغيرها.

هذا وعن ابن الجنيد القول بطهارة بول الرضيع قبل أن يتغذى بالطعام أو باللحم. للأصل ولموثق السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام):" أن علياً (عليه السلام) قال: لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل أن تطعم، لأن لبنها يخرج من مثانة أمها. ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن يطعم، لأن لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين"(3). وما عن القطب الراوندي بسنده عن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): "قال: قال علي (عليه السلام): بال الحسن والحسين (عليهما السلام) على ثوب رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يطعما فلم يغسل بولهما عن ثوبه"(4) ، ونحوه خبر الجعفريات(5).

لكن لا مجال للأصل مع الدليل. والموثق - مع اشتماله على ما لا قائل به من نجاسة لبن الجارية - معارض بصحيح الحلبي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الصبي. قال: تصب عليه الماء. فإن كان قد أكل فاغسله بالماء غسلاً..."(6). والخبران - مع عدم وضوح حجية سندهما - معارضان بما عن أم الفضل في حديث بول الحسين (عليه السلام) من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "مهلاً يا أم الفضل، فهذا ثوبي يغسل. وقد أوجعت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 32 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(4) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(5) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 282

(283)

بالأصل أو بالعارض (1) كالجلال والموطوء.

ابني"(1).

مضافاً إلى ظهور هجرها من الأصحاب، المسقط لها عن الحجية. فلتحمل على نفي الغسل مع وجوب الصب الذي تضمنته بعض النصوص(2) - ومنها ما ورد في بول الحسن(3) (عليه السلام) - لا بدونه، ليدل على طهارته.

(1) بلا خلاف أجده فيه، كما في الجواهر. وهو مقتضى إطلاق معاقد الإجماعات السابقة. بل في المختلف وعن الذخيرة الإجماع في ذرق الدجاج الجلال، وفي الغنية الإجماع في مطلق الجلال، وفي التذكرة نفي الخلاف فيه وفي الموطوء، وفي المفاتيح الإجماع فيهما وفي كل ما حرم بالعارض.

ويقتضيه إطلاق ما تضمن نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، كصحيح عبد الله بن سنان المتقدم. ودعوى انصرافه لخصوص ما حرم بالأصل. ممنوعة. ولو تم الإنصراف فهو بدوي لا يخرج به عن مقتضى الإطلاق.

ودعوى: أن الإطلاق المذكور معارض لما دل على طهارة بول البقر والإبل ونحوهما بالعموم من وجه، فيرجع في مورد المعارضة لقاعدة الطهارة. مدفوعة: بأن إطلاق نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه مقدم عرفاً، لأنه من سنخ العنوان الثانوي المقدم حكمه عرفاً على الحكم الأولي. كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

بل ذكر (قدس سره) أنه بعد تعارض الإطلاقين يكون المرجع إطلاق نجاسة البول، لا قاعدة الطهارة. لكنه موقوف على ثبوت الإطلاق المذكور وهو غير ظاهر. وأما مثل صحيح محمد بن مسلم المتقدم فهو - لو لم يكن منصرفاً لبول الإنسان - وارد لبيان كيفية التطهير من البول بعد المفروغية عن النجاسة، لا لبيان النجاسة، ليكون له

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 3 من أبواب النجاسات.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 283

إطلاق يقتضي نجاسة كل بول فيرجع إليه في مثل المقام. فالعمدة ما تقدم.

ودعوى: أنه لو بني على عموم نجاسة بول ما يحرم أكل لحمه ولو بالعرض لأشكل الأمر فيما حرم للضرر والغصب والنذر ونحوها من العناوين الثانوية. مدفوعة بظهور دليل نجاسة بول ما حرم أكل لحمه في إرادة ما حرم أكل لحمه بعنوان كونه أكل لحم الحيوان، لا بعنوان كونه مضراً أو غصباً أو نحوهما من العناوين الثانوية الخارجة عن ذلك، كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره).

ثم إن المذكور في كلماتهم أن ما يحرم أكل لحمه بالعرض ثلاثة أمور:

الأول: الحيوان الجلال. على المشهور شهرة عظيمة، كما في الجواهر. خلافاً لما عن الإسكافي، فحكم بالكراهة. بل نسب للشيخ (قدس سره) أيضاً حاكياً له عن أصحابنا. لكن الظاهر عدم صحة النسبة، لأن محل كلامه - كما في المبسوط والخلاف - ما كان أكثر أكله العذرة، ومحل الكلام هو الذي يكون جميع أكله عرفاً هو العذرة. ولاسيما وأنه قال في الخلاف بعد الحكم بالكراهة فيما سبق:" وروى أصحابنا تحريم ذلك إذا كان غذاؤه كله من ذلك".

ويشهد للمشهور ظاهر النصوص. ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: لا تأكل لحوم الجلالات. وإن أصابك شيء من عرقها فاغسله"(1). وكذا النصوص الواردة في إستبراء الجلال الظاهرة في حرمة لحمه قبله(2). وحمل الجميع على الكراهة بلا شاهد.

ومنه يظهر ضعف ما عن الكفاية من أن مستند التحريم أخبار لا يستفاد منها أكثر من الرجحان مع ما عرفت من العمومات الدالة على الحل. فالقول بالكراهة مطلقاً أقرب. انتهى.

والمشهور - كما قيل - أن الجلال هو الذي يكون غذاؤه عذرة الإنسان لا غير.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 284

ويقتضيه - مضافاً إلى الأصل - مرسل موسى بن اكيل عن أبي جعفر (عليه السلام): "في شاة شربت بولاً ثم ذبحت. قال: يغسل ما في جوفها، ثم لا بأس به. وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلالة. والجلالة التي يكون ذلك غذاؤها"(1). وصحيح زكريا بن آدم عن أبي الحسن (عليه السلام):" أنه سأله عن دجاج الماء. فقال: إذا كان يلتقط غير العذرة فلا بأس "(2) وغيرهما، بناء على اختصاص العذرة بغائط الإنسان أو انصرافها إليه، كما هو غير بعيد. ولا أقل من كونه المتيقن منها، فيرجع في غيره لإطلاقات الحل أو أصل الحل. ويأتي تمام الكلام في تحديده عند الكلام في مطهرية الإستبراء.

الثاني: أن يشرب الحيوان لبن خنزيرة، فإن اشتد حرم لحمه ولحم نسله أبداً، ولا إستبراء فيه. ولا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد. بل عن الغنية الإجماع على التحريم. كذا في الجواهر.

لموثق حنان بن سدير:" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عنده عن جدي رضع من لبن خنزيرة حتى شب وكبر واشتد عظمه. ثم إن رجلاً استفحله في غنمه فخرج له نسل فقال: أما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنه. وأما ما لم تعرفه فكله..."(3).

وإن لم يشتد كره أكل لحمه، ويستبرأ بسبعة أيام، كما في الشرايع وعن غيره. ويقتضيه موثق السكوني عنه (عليه السلام): "أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن حمل غذي بلبن خنزيرة، فقال: قيدوه واعلفوه الكسب والنوى والشعير والخبز إن كان استغنى عن اللبن، وإن لم يكن استغنى عن اللبن فليقى على ضرع شاة سبعة أيام ثم يؤكل لحمه"(4).

لكن في موثق بشر بن مسلمة عن أبي الحسن (عليه السلام):" في جدي رضع من لبن خنزيرة، ثم ضرب في الغنم. فقال: هو بمنزلة الجبن فما عرفت أنه ضربه فلا تأكله وم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 24 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 25 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 4.

ص: 285

لم تعرفه فكل"(1). ومقتضى إطلاقه العموم لما إذا لم يشتد ولا ينافيه موثق حنان بعد أن كان التقييد فيه في كلام السائل.

على أن موثق حنان وإن روي كما سبق في الكافي والتهذيبين، إلا أنه روي في قرب الإسناد بسند معتبر هكذا: "سمعت رجلاً يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن حمل رضع من خنزيرة، ثم استفحل الحمل في غنم..."(2). وحيث كان الظاهر أنهما رواية واحدة فهي مضطربة المتن.

مع أن التفصيل بين ما اشتد وغيره بالحرمة والكراهة خالٍ عن الشاهد بعد عدم ما يدل على الترخيص في الثاني. والتعويل فيه على الإجماع غير ظاهر، لعدم وضوح حجية الإجماع بعد قرب كون مستنده النصوص. على أنه لم يتضح قيام الإجماع على التفصيل، بل المتيقن قيام الإجماع على الحرمة مع الاشتداد، ولم يثبت الإجماع على عدمها وثبوت الكراهة مع عدمه.

اللهم إلا أن يقال: موثق بشر وإن روي هكذا في التهذيب والاستبصار إلا أنه روي في الكافي هكذا:" في جدي يرضع من لبن خنزيرة "وهو ظاهر في استمرار الرضاع مدة معتد بها فيناسب الاشتداد فإن أمكن ترجيح الكافي لاضبطيته، وإلا كان مفاده هو المتيقن الذي يمكن الخروج به عن أصالة الحل. ويبتني وجه الكراهة في غيره على قاعدة التسامح في أدلة السنن بناء على عمومها للمكروهات، لاحتمال صحة رواية الإطلاق للموثقين.

نعم يشكل حمل موثق السكوني المتضمن للإستبراء على خصوص ما إذا لم يشتد، لعدم القرينة فيه على ذلك، بل التعبير بأنه غذي بلبن خنزيرة منصرف لما إذا كان قد تغذى به مدة معتداً بها، وإلا فلو أريد ما يعم المرة لكان الأنسب أن يقال: رضع من خنزيرة. بل الأمر فيه بتقييده ظاهر في فرض تعايشه مع الخنزيرة، بحيث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 25 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(2) قرب الإسناد ص: 47.

ص: 286

يحتاج تركه لرضاعها للحبس والتقييد، وهو مناسب لألفته الرضاع منها، أو تعوده على ذلك.

ومن هنا يتجه البناء على عمومه لمحل الكلام لو لم يختص به. ودعوى: سقوطه عن الحجية بهجره عند الأصحاب. ممنوعة بعد ظهور كلمات بعضهم في أنه محمول على ما إذا لم يشتد بالرضاع. فلاحظ.

الثالث: موطوء الإنسان ونسله بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد، بل عن بعض نسبته إلى الأصحاب الظاهرة في الإجماع، بل ادعاه آخر. كذا في الجواهر. والنصوص به في الجملة مستفيضة. ففي روايات عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) وإسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم موسى (عليه السلام) والحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وفيها الصحيح: "في الرجل يأتي البهيمة. فقالوا جميعاً: إن كانت البهيمة للفاعل ذبحت، فإذا ماتت أحرقت بالنار ولم ينتفع بها... وإن لم تكن البهيمة له قومت وأخذ ثمنها منه، ودفع إلى صاحبها، وذبحت وأحرقت بالنار ولم ينتفع بها... فقلت: وما ذنب البهيمة؟ فقال: لا ذنب لها، ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل هذا وأمر به لكيلا يجتزئ الناس بالبهائم وينقطع النسل" (1) وغيرها. وهي وإن اختصت بالموطوء إلا أن ظاهرهم وصريح بعضهم العموم لنسله، وهو المناسب لارتكاز تبعية النسل للأصل.

نعم قد يستشكل في عموم الحكم للذكر فضلاً عن نسله، لخروجه عن المتيقن من النصوص المتضمنة لعنوان البهيمة. ولاسيما مع ما في موثق سماعة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي بهيمة شاة أو ناقة أو بقرة"(2) ، وما فيه وفي غيره(3) من تحريم لبنها. كما قد يستشكل في مثل الطير مما لا يعد بهيمة عرفاً.

اللهم إلا أن يستفاد التعميم في الموردين من مثل التعليل في الروايات السابقة

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 1 من أبواب نكاح البهائم والأموات والاستمناء حديث: 1، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 30 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 287

(288)

أما ما لا نفس له سائلة (1)

وبالمناسبات الارتكازية المناسبة لإلغاء خصوصية موارد النصوص عرفاً، خصوصاً مع ظهور بناء الأصحاب على العموم. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) لعل المشهور طهارة بول وخرء ما ليس له نفس سائلة وإن كان محرم الأكل، بل استظهر في الحدائق عدم الخلاف فيه، وعن شرح الدروس عدم تحققه. وإن كان مقتضى إطلاق ما عن جماعة من نجاسة بول وخرء ما لا يؤكل لحمه من دون تقييد بكونه ذا نفس سائلة قد يقتضي الخلاف.

وكيف كان فقد استدل عليه بقاعدة الطهارة بعد قصور أدلة النجاسة عنه، وانصرافها إلى غيره، وبطهارة ميتته ودمه، فصارت فضلاته كعصارة النباتات.

ويشكل الأول بأن الانصراف - لو تم - بدوي لا يخرج به عن الإطلاق الحاكم على الأصل، كإطلاق قوله (عليه السلام) في صحيح عبد الله بن سنان المتقدم:" اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه"(1). وأما الثاني فهو - كما ترى - لا ينهض بإثبات حكم شرعي.

ومثله الاستدلال بموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه. قال: كل ما ليس له دم فلا بأس"(2). بدعوى: أن مقتضى إطلاقه شموله لما إذا تفسخ في المائع فصار ما في جوفه من البول والغائط في المائع، ولازم ذلك طهارتهما.

للإشكال فيه بأنه لما كان وارداً لبيان انفعال المائع بالميتة من هذه الأشياء فلا نظر في إطلاقه لحكم ما في جوفه. غاية الأمر أن يستفاد منه تبعاً، وهو موقوف على شيوع التفسخ وظهور الفضلتين المذكورتين في المائع، ولا مجال له في المقام، ولاسيم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 288

مع عدم وضوح وجود البول للأمور المذكورة في النص، وأن طهارة الرجيع لهذه الأمور ونحوها مما يشيع الابتلاء به ويصعب تجنبه لا يستلزم طهارته من غيرها مما لا يشيع الابتلاء به.

مضافاً إلى أن التفسخ في الزيت والسمن ونحوها نادر، والتفسخ في البئر قد لا يقدح، لاعتصام البئر لا لعدم نجاسة فضلة الحيوان. وظهور الموثق في خصوصية ما لا نفس له بإطلاقه - من دون فرق بين هذه الأمور وغيرها - إنما هو من حيثية ميتته، لا من حيثية الفضلتين المذكورتين.

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الاستدلال بموثق حفص بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام):" قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة"(1). بدعوى: أن مقتضى إطلاقه عدم انفعال الماء بشيء من أجزاء ما لا نفس له.

إذ فيه: أن الفضلتين المذكورتين ليستا من أجزاء الحيوان، ليكون مقتضى الإطلاق طهارتهما، فالحديث مختص بميتة ما لا نفس له سائلة، وهو أجنبي عن محل الكلام. ومن هنا يشكل إثبات الحكم المذكور. ولعله لذا تردد في الشرايع والمعتبر فيه، وإن قرب بعد ذلك الطهارة.

لكن لا ينبغي الإشكال في طهارة الفضلتين إذا كان الحيوان مما يطير، كالذباب لما يأتي في المسألة الأولى. وكذا في طهارة الرجيع ولو من غير الطائر، لما تقدم من عدم عموم يقتضي نجاسته من غير مأكول اللحم، وإنما استفيد من الأدلة الواردة في الموارد الخاصة، التي لا مجال لاستفادة الكلية المذكورة منها بنحو تشمل محل الكلام، ومن الإجماع على عدم الفصل بينه وبين البول في النجاسة، والمتيقن من مورده ما له نفس سائلة.

ولاسيما مع شيوع الابتلاء برجيع ما ليس له نفس سائلة في مثل الذباب والخنافس ونحوها، ولو كان البناء على نجاسته لظهر وبان، مع ظهور حال المتشرعة

********

(1) وسائل الشيعة: ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 289

أو كان محلل الأكل، فبوله وخرؤه طاهران (1).

في عدم البناء على نجاسته.

وأما البول فحيث كان الدليل على عموم نجاسته مختصاً بما تضمن نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه فهو قاصر عن بول ما لا لحم له مما ليس له نفس سائلة كالخنفساء ونحوها لو فرض أن لها شيء يصدق عليه البول عرفاً.

ويختص الإشكال بما يصدق عليه البول مما له لحم ولا يطير، كما قد يدعى في السلحفاة. وحينئذٍ يصعب البناء على طهارته والخروج عن الإطلاق المذكور، لعدم وضوح المخرج عنه فيه بعد عدم شيوع الابتلاء به، ليظهر حاله من السيرة.

هذا وفي مفتاح الكرامة: "والمراد بذي النفس السائلة الحيوان الذي له عرق يخرج منه الدم شخباً لا رشحاً، كما في المنتهى والتحرير ونهاية الأحكام وكشف الالتباس والدلائل، مائياً كان كالتمساح أو لا، كما في الذكرى والدروس" .وظاهرهم التسالم على ذلك، حيث لم يذكر ما يخالفه، ويمتنع عادة الخطأ منهم في ذلك مع كثرة الابتلاء به وبأحكامه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) طهارة بول وخرء محلل الأكل هو المعروف من مذهب الأصحاب وعن غير واحد دعوى الإجماع عليه. ويقتضيه جملة من النصوص كصحيح زرارة: "أنهما (عليهما السلام) قالا: لا تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه"(1) ، وموثق عمار:" عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه" ،ونحوهما غيرهما. ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا في موردين:

الأول: ما عن الإسكافي والشيخ وجماعة من متأخري المتأخرين من القول بنجاسة فضلة الخيل والحمير والبغال. وهو إنما يكون استثناء من العموم المتقدم بناء على ما هو المشهور من حلية لحمها. أما بناء على ما عن المفيد من تحريم لحم الحمار

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 4.

ص: 290

والبغل والخيل الهجان، وعن الحلبي من تحريم لحم البغل، فلا يكون نجاسة فضلة ذلك استثناء من العموم المذكور. لكنه ضعيف لأنه وإن كان مقتضى ظاهر بعض النصوص، إلا أنها محمولة على الكراهة جمعاً مع غيرها. وتمام الكلام في محله.

وكيف كان فيشهد بنجاسة فضلتها جملة من النصوص، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن الثوب يقع في مربط الدابة على بولها وروثها كيف يصنع؟ قال: إن علق به شيء فليغسله، وإن كان جافاً فلا بأس"(1) ، وصحيح الحلبي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أبوال الخيل والبغال. فقال: اغسل ما أصابك منه"(2) ، وموثق سماعة: "سألته عن أبوال السنور والكلب والحمار والفرس. قال: كأبوال الإنسان"(3) ، وموثق زرارة عن أحدهما (عليه السلام):" في أبوال الدواب يصيب الثوب فكرهه. فقلت: أليس لحومها حلالاً؟ فقال: بلى، ولكن ليس مما جعله الله للأكل"(4) ، وصحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل يمسه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال: يغسل بول الحمار والفرس والبغل، فأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله"(5) ، ونحوها غيرها. والأخيران يصلحان للحكومة على عموم طهارة فضلة ما يؤكل لحمه، لصلوحها لشرحه وحمله على إرادة ما جعله الله للأكل، لا كل ما حلّ أكله بنحو يعمّ ما جعل للركوب.

لكن لابد من الخروج عنها بجملة من النصوص صريحة في الطهارة. كمعتبر أبي الأغر النحاس - بناء على ما هو الظاهر من وثاقة أبي الأغر، لرواية ابن أبي عمير وصفوان عنه -:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أعالج الدواب فربما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فيضرب أحدهما برجله أو يده فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه. فقال: ليس عليك شيء"(6) ، ومعتبر معلى بن خنيس وعبد الله بن أبي يعفور

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 21، 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 8 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(4و5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 7، 10، 2.

ص: 291

بناء على ما هو الظاهر من وثاقة الحكم بن مسكين، لرواية ابن أبي عمير والبزنطي عنه، معتضداً بوقوعه في أسانيد كامل الزيارات -: "كنا في جنازة وقدامنا حمار، فبال فجاءت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا وثيابنا، ودخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام)، فأخبرناه، فقال: ليس عليكم بأس"(1) ، ونحوهما غيرهما. فيتعين حمل النصوص المتقدمة على الكراهة.

مضافاً إلى أن شيوع الابتلاء بفضلة هذه الدواب الموجب لوضوح سيرة المتشرعة فيها من عهد المعصومين (عليهم السلام) مانع عادة من خفاء حكمها على الأصحاب، وحيث ذهب المشهور إلى الطهارة، بل يظهر من بعضهم المفروغية عنه، لعدم إشارتهم للخلاف المذكور، فلا معدل عن الحكم بها.

ومنه يظهر ضعف ما عن الحدائق من التفصيل بين البول والروث بنجاسة الأول دون الثاني، لمثل صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: لا بأس بروث الحمير، واغسل أبوالها"(2) ، وصحيح عبد الأعلى بن أعين: "سألت أبا عبد الله عن أبوال الحمير والبغال. قال: اغسل ثوبك. قال: قلت: فارواثها قال: هو أكثر [أكبر] من ذلك"(3). ونحوه صحيح أبي مريم(4) وقريب منها غيرها.

وجه الضعف: أنه لابد من الخروج عن هذه النصوص بالصحيحين المتقدمين وحملها على الكراهة، غاية الأمر أن مقتضى الجمع بينها وبين النصوص الظاهرة في نجاسة الروث والمحمولة على الكراهة - كما سبق - هو البناء على كون كراهة البول أشد من كراهة الروث.

الثاني: ما في المقنعة والمبسوط والخلاف وظاهر التهذيب وعن الصدوق من غسل الثياب من ذرق الدجاج خاصة. لكن المذكور في المقنعة في باب تطهير الثياب وإن كان هو إطلاق الدجاج، إلا أن في باب تطهير المياه تقييده بالجلال. كما أن المحكي

********

(1و2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 14، 1، 13، 8.

ص: 292

(293)

(مسألة 1): بول الطير وذرقه طاهران وإن كان غير مأكول اللحم (1)، كالخفاش والطاووس ونحوهما.

عن صيد الخلاف الطهارة مدعياً عليها الإجماع(1) ، وبها صرح في الاستبصار.

وكيف كان فقد يستدل على النجاسة بخبر فارس:" كتب إليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب: لا"(2).

لكنه - مع ضعفه، وأن عدم الصلاة فيه أعم من النجاسة - معارض بخبر وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام): "إنه قال: لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب" (3) المعتضد بالإطلاقات المتقدمة. ولاسيما مع ندرة القول المذكور، وشيوع الابتلاء بذلك بنحو يمنع من خفاء حكمه نظير ما تقدم في سابقه. فليحمل خبر فارس على الكراهة أو على التقية، لموافقته لبعض العامة، فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) كما هو مقتضى إطلاق الفقيه وصريح المبسوط باستثناء الخفاش، وحكي عن الجعفي وابن أبي عقيل، ويظهر من المنتهى الميل إليه، وفي الجواهر: "بل هو ظاهر كشف اللثام وشرح الدروس" وحكي أيضاً عن غير واحد من متأخري المتأخرين.

ويقتضيه صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: كل شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه"(4). وروي مرسلاً في الفقيه، وفي البحار:" وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي نقلاً من جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: خرء كل شيء يطير وبوله لا بأس به"(5).

إن قلت: النسبة بينه وبين إطلاق نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه هي العموم من

********

(1) من صيد الخلاف:" إجماع الفرقة وأخبارهم على أن ذرق وروث ما يؤكل لحمه طاهر... "ولم يذكر فيه خصوص ذرق الدجاج.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب النجاسات حديث: 3، 2، 1.

(5) بحار الأنوار ج: 80 ص: 110.

ص: 293

وجه، فيتعارضان في مورد الإجماع، وهو الطائر المحرم الأكل، وبعد تساقطهما يكون المرجع إطلاق ما تضمن نجاسة البول. ولاسيما مع ما عن المختلف نقلاً من كتاب عمار بن موسى عن الصادق (عليه السلام): "قال: خرء الخطاف لا بأس به. هو مما يؤكل لحمه. ولكن كره أكله لأنه استجار بك وآوى إلى منزلك، وكل طير يستجير بك فأجره"(1). لظهوره في أن العلة في طهارة خرئه حلية أكله، لا طيرانه.

قلت: الظاهر تقديم عموم الطهارة في المقام لقوة ظهوره في خصوصية الطيران في الحكم، فلو قدم عموم النجاسة لزم إلغاء خصوصيته، بخلاف ما لو قدم عموم الطهارة حيث لا يلزم منه إلغاء خصوصية حرمة الأكل في النجاسة، بل تخصيصها بغير الطير.

ولاسيما مع ندرة البول للطير المأكول اللحم، بل عن المحقق البغدادي العلم بعدم البول لغير الخفاش، فلو قدم عموم النجاسة بقي عموم الطهارة في البول بلا مورد، أو في مورد نادر، بخلاف العكس.

وما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن لها بولاً يخرج مع الخرء، ولذا قد يخرج منه الخرء مائعاً. كما ترى، فإن ذلك لا يصدق عليه البول عرفاً، وإن كان منه أو من سنخه حقيقة، كما تضمنه حديث توحيد المفضل(2).

مع أن تساقط العمومين في مورد الاجتماع بالمعارضة يقتضي الرجوع لأصالة الطهارة، لا لعموم نجاسة البول، لعدم ثبوت العموم المذكور، كما تقدم عند الكلام في فضلة ما يحرم أكله بالعرض.

وأما حديث عمار فظهوره في اختصاص العلة، بحلية الأكل ليس بنحو ينهض برفع اليد عن ظهور حديث أبي بصير في خصوصية الطيران في الطهارة، فليجمع بينهما بكون حلية الأكل أقوى العلتين وأولاهما بالذكر، ولو لخصوصية مقام السؤال.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 20.

(2) بحار الأنوار ج: 3 ص: 103 الطبعة الحديثة.

ص: 294

على أن الشيخ رواه بطريق معتبر بإسقاط لفظ (خرء)، فيخرج عن محل الكلام.

نعم قد يدعى سقوط حديث أبي بصير لشذوذه ومخالفته لأصول المذهب، فقد قال الشيخ في الاستبصار عند الكلام في بول الخفاش وفي ردّ الرواية الدالة على طهارته:" فالوجه في هذه الرواية أن نحملها على ضرب من التقية، لأنها مخالفة لأصول المذهب، لأنا قد بينا أن كل ما لا يؤكل لحمه لا تجوز الصلاة في بوله، والخفاش مما لا يؤكل لحمه، فلا تجوز الصلاة في بوله ".فإن ما ذكره يجري في غير الخفاش، بل هو أولى بالطهارة بعد ما قيل من عدم النفس السائلة له.

وقال في مباحث البئر من السرائر:" وقد اتفقنا على نجاسة ذرق غير مأكول اللحم من سائر الطيور. وقد رويت رواية شاذة لا يعول عليها أن ذرق الطائر طاهر، سواءً كان مأكول اللحم أو غير مأكوله. والمعول عند محققي أصحابنا والمحصلين منهم خلاف هذه الرواية، لأنه هو الذي يقتضيه أخبارهم المجمع عليها ".وقال في التذكرة:" وقول الشيخ في المبسوط بطهارة ذرق ما لا يؤكل لحمه من الطيور لرواية أبي بصير ضعيف، لأن أحداً لم يعمل بها".

لكن كلام الشيخ في الاستبصار لا يناسب في ما تقدم منه في المبسوط. وما تقدم من السرائر لا يناسب ما تقدم من غير واحد من أعيان قدماء الأصحاب من العمل بحديث أبي بصير. ومثله ما تقدم من التذكرة. بل هو لا يناسب ما في المنتهى من الميل للعمل بالحديث المذكور.

وأشكل من ذلك ما في المعتبر، من أن الرواية وإن كانت حسنة، إلا أن العامل بها قليل، وما في المختلف من أن الرواية مخصوصة ببول الخفاش، للإجماع على نجاسته، فتختص بما يشاركه في العلة، وهو عدم كونه مأكولاً.

لاندفاع الأول بأن قلة العمل بالرواية لا يسقطها عن الحجية إذا كانت معتبرة السند ما لم تكن مهجورة، وهو غير حاصل في المقام بعد ما سبق من عمل من عرفت. وبعد ظهور كلام غير واحد في أن عدم العمل بها لمعارضتها بنصوص نجاسة بول

ص: 295

(296)

ما لا يؤكل لحمه، لا لظهور خلل فيها لهم خفي علينا. واندفاع الثاني بأن تخصيصها ببول الخفاش - لو تم - قد يكون للنص الخاص الآتي الذي لا يجري في غيره من غير مأكول اللحم.

بقي في المقام أمران:

الأول: أنه تقدم من الشيخ في المبسوط استثناء الخفاش من حكم الطير المتقدم. كما تقدم منه في الاستبصار ردّ الرواية الدالة على طهارته بمخالفتها لأصول المذهب، وفي التهذيب رميها بالشذوذ، وتقدم من المختلف تخصيص عموم طهارة فضلة الطير في الخفاش للإجماع على نجاسته.

ويشهد للنجاسة خبر داود الرقي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فاطلبه فلا أجد. فقال: اغسل ثوبك"(1). لكنه معارض بمعتبر غياث عن جعفر عن أبيه: "قال: لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف"(2). المعتضد بما عن نوادر الراوندي عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام):" إن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخشاشيف ودماء البراغيث فقال: لا بأس"(3). بل مما تقدم يظهر أنه كالمتيقن من صحيح أبي بصير المتضمن طهارة بول الطائر.

وحينئذٍ يشكل التعويل على خبر داود في الخروج عن عموم طهارة فضلة الطير، لأنه - لو تم انجباره بعمل المشهور لكون اعتمادهم في الخفاش عليه لا على عموم نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه - معارض بالحديثين المتقدمين، فيتعين حمله على الكراهة.

ولا مجال لما تقدم من الشيخ في الاستبصار والتهذيب بعد موافقة الحديثين لعموم طهارة فضلة الطير الذي عمل به هو (قدس سره). بل قد يكون موردهما المتيقن منه، كما سبق. كما لا مجال لردهما بالإجماع المتقدم من المختلف. لعدم وضوح الإجماع المذكور

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب النجاسات حديث: 4، 5.

(3) مستدرك السائل ج: 2 باب: 6 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 296

(297)

(297)

(مسألة 2): ما يشك في إنه له نفس سائلة محكوم بطهارة بوله

بعد كون ظاهر الفقيه والمقنع وما عن الجعفي وابن أبي عقيل البناء على الطهارة، لإطلاقهم طهارة فضلة الطير من دون استثناء، وإنما يختص الاستثناء بالشيخ. بل لعل مراد المختلف من الإجماع هو خصوص إجماع الشيخ والقائلين بعموم نجاسة فضلة ما لا يؤكل لحمه، لا إجماع الكل، وإلا فلم ينقل القول بنجاسة فضلة الخفاش عن غير الشيخ ممن يقول بطهارة فضلة الطير. ومن هنا كان المتعين الطهارة.

الثاني: مقتضى عموم طهارة فضلة الطير طهارة فضلة ما حرم منه بالعرض كالدجاج والبط الجلال، بناء على طهارة فضلة الدجاج غير الجلال، وإلا فبناء على استثنائه من عموم طهارة فضلة المأكول يتعين نجاسة الجلال منه بالأولوية. لكن عرفت ضعف المبنى المذكور.

اللهم إلا أن يدعى انصراف العموم المتقدم عن الجلال، بدعوى: قضاء المناسبات الارتكازية بورود العموم المتقدم لرفع اليد عن مقتضى طبع الحيوان من نجاسة فضلته في نفسه لكونه غير مأكول اللحم، ولا نظر له لنجاسته لجهة خارجة عن مقتضى طبعه طارئة عليه.

أو يدعى أن مثل الدجاج والبط وإن صدق عليه عنوان الطائر بلحاظ حكايته عن قسم خاص من الحيوان، إلا أنه يشكل أن يصدق عليه أنه يطير الذي هو الموضوع للعموم المتقدم، لعدم تحقق الطيران منه إلا نادراً، خصوصاً مع قرب كون منشأ الحكم بطهارة فضلة الطير التخفيف بلحاظ صعوبة التحرز منها، وهو لا يجري في مثل الدجاج من الطيور الداجنة.

لكن هذا إنما يقتضي استثناء خصوص الدواجن من الطيور إن حرمت بالعرض، دون ما حرم بالعرض من الطير الذي يكثر منه الطيران، بخلاف الأول، فإنه يقتضي عموم الاستثناء لكل ما يحرم بالعرض. فلاحظ.

ص: 297

(298)

وخرئه (1)، وكذا ما يشك في أنه محلل الأكل أو محرمه (2).

(الثالث): المني (3)

(1) لأصالة الطهارة. بل قد يدعى جريان استصحاب عدم كون الحيوان ذا نفس سائلة من باب استصحاب العدم الأزلي، فيحكم على أصالة الطهارة. فتأمل.

هذا كله بناء على طهارة فضلة ما ليس له نفس سائلة مطلقاً، أما بناء على ما تقدم من التفصيل فالمرجع في مورد الشك أصالة طهارة الفضلة.

وكذا لو كان منشأ الشك التردد في الحيوان ذي الفضلة، كما لو تردد البعر بين كونه من فأر وكونه من وزغ حيث تجري أصالة الطهارة في الفضلة في مورد الشك بلا إشكال.

(2) لأصالة الطهارة، إما بعد الفحص، بأن كان الشك للشبهة الحكمية، كما لو احتمل حرمة لحم الكنغر، أو بدونه، بأن كان الشك للشبهة الموضوعية كما لو علم بأن الفضلة لحيوان معين اشتبه حاله بين أن يكون أرنباً وأن يكون غزالاً. ومثله ما لو ترددت الفضلة بين حيوانين يحل أكل لحم أحدهما دون الآخر.

ودعوى: أن مقتضى عموم نجاسة البول والغائط البناء على النجاسة ما لم يعلم بأنه من حيوان محلل الأكل. مدفوعة بما سبق عند الكلام في نجاسة الغائط وفي نجاسة فضلة ما حرم العرض من عدم ثبوت العموم المذكور.

مع أن العموم - لو تم - بعد أن كان مخصصاً في مأكول اللحم فلا مجال للتمسك به في مورد الشك، بناء على ما هو التحقيق من عدم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. نعم لو كان هناك أصل يحرز عدم حل الأكل اتجه الرجوع للعموم. لكن لا أصل يحرز ذلك، بل مقتضى الأصل الحلية بلحاظ ذات الحيوان. فلاحظ.

(3) إجماعاً محصلاً ومنقولاً صريحاً في الخلاف والتذكرة وكشف اللثام وعن النهاية وكشف الالتباس، وظاهراً في المنتهى وغيره. كذا في الجواهر.

ص: 298

من كل حيوان له نفس سائلة (1)

والنصوص(1) به مستفيضة، بل متواترة.

نعم في صحيح أبي أسامة: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تصيبني السماء وعلي ثوب فتبله وأنا جنب، فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المني، أفأصلي فيه؟ قال: نعم"(2). وقريب منه موثقه(3). وفي صحيح زرارة:" سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أيتجفف فيه من غسله؟ قال: نعم لا بأس به إلا أن تكون النطفة فيه رطبة، فإن كانت جافة فلا بأس"(4). حيث قد يدعى دلالتها على طهارة المني ومعارضتها لما سبق.

لكنها لا تدل على طهارته، بل على عدم تنجيسه لملاقيه. بل مقتضى الجمع بين الأولين والأخير التفصيل في ذلك بين الرطب والنجس. وذلك مما لا يمكن البناء عليه، بل لا يمكن الخروج بهذه النصوص عما تقدم مما يقتضي النجاسة. فلابد من طرحها، أو حملها على التقية، لموافقتها لبعض العامة. ولاسيما مع مناسبته لما رووه عن عائشة من أنها كانت تفرك المني من ثوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يذهب فيصلي فيه(5).

(1) كما هو معقد الإجماع المتقدم. وقد ذكر غير واحد أنه لا مجال لاستفادته من النصوص المطلقة. قال في الجواهر: "لتبادر الإنسان منها، كما اعترف به جماعة من الأعيان، حتى ادعى بعضهم أنها ظاهرة كالعيان، بحيث لا يحتاج إلى البيان. ولعله لاشتمالها أو أكثرها على إصابة الثوب ونحوه مما يندر غاية الندرة حصوله من غير الإنسان".

وأظهر من ذلك ما لو قيل باختصاصه لغة بما يخرج من الرجل كما هو مقتضى ما في لسان العرب وعن الصحاح من أنه ماء الرجل، أو من الإنسان كما هو مقتضى

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب النجاسات وغيرها.

(2) ،

(3) ،

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات حديث: 3، 6، 7.

(5) الفقه على المذاهب الأربعة ج: 1 ص: 13. والتاج الجامع للأصول ج: 1 ص: 88.

ص: 299

ما في القاموس من أنه ماء الرجل والمرأة.

لكنه لا يناسب ظهور مفروغية الفقهاء من العامة والخاصة على العموم لما يخرج من أي حيوان، لظهور نزاعهم في عموم حكمه وخصوصه في المفروغية عن عمومه موضوعاً، كما هو ظاهر مفردات الراغب أيضاً. ومن ثم لا يبعد حمل كلام من تقدم من اللغويين على التمثيل لا التخصيص، كما قطع به بعضهم. وينحصر وجه قصور النصوص بالانصراف المدعى.

لكنه لا يخلو عن إشكال إذ لا منشأ له ارتكازي، بل ليس منشؤه إلا غلبة الابتلاء بمني الإنسان في الثوب ونحوه، ومثل ذلك لا يقتضي إلا الانصراف البدوي. بل لو فرض تمامية الانصراف في الجملة، إلا أن إلغاء الخصوصية قريب جداً. ولاسيما بضميمة ظهور مفروغية الأصحاب عن عموم الحكم لغير الإنسان، حيث يكاد يقطع بعدم إطلاعهم على ما لم نطلع عليه من الأدلة، خصوصاً مع عدم شيوع الابتلاء به بنحو يمنع من خفاء حكمه، فلابد من استفادتهم له من النصوص، إما بإطلاقها أو لفهم عدم الخصوصية ارتكازاً لموردها لو تم انصرافها للإنسان، لما ذكرناه من عدم كون منشأ الانصراف ارتكازياً.

وهو المناسب لإهمال النصوص التعرض لحكم مني غير الإنسان، لأنه وإن لم يكن الابتلاء به شايعاً شيوعه في مني الإنسان، إلا أنه مورد للابتلاء كثيراً، فلولا وفاء النصوص ببيان حكمه في الجملة لكان المناسب التعرض له والسؤال عن حكمه. ومن ثم لا معدل عن البناء على استفادة العموم في الجملة من النصوص.

هذا وفي الجواهر أنه قد يستفاد العموم من صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "ذكر المني وشدده، وجعله أشد من البول. ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة..."(1).

بل ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أن الدليل ينحصر به، لدعوى أن مقتضى أشدية

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 16 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 300

وإن حلّ أكل لحمه (1).

المني من البول نجاسة مني كل حيوان ينجس بوله، وهو كل ما يحرم أكله من ذي النفس السائلة. ولا ينافي ذلك انصراف ذيل الصحيح لمني الإنسان، لاشتماله على حكم آخر غير حكم الصدر.

لكنه كما ترى، لأن التشديد ليس وارداً لبيان النجاسة، بل بعد المفروغية عنها من دون نظر لموضوعها، فلا إطلاق للحديث لينظر في انصرافه لمني الإنسان وعدمه. مع أن الاستدلال إن كان بلحاظ إطلاق المني لزم دلالته على نجاسة المني حتى من غير ذي النفس السائلة، مع أنه اعترف بقصور الصحيح عن إثبات نجاسته، لطهارة بوله. وإن كان بلحاظ أشديته فالأشدية ليست بلحاظ العموم والسعة، بل بلحاظ تأكد النجاسة، كما اعترف به هو، واحتمله في الجواهر، وأصرّ عليه سيدنا المصنف (قدس سره). نعم لو كان لسان الحديث هكذا: مني كل حيوان أشد من بوله، كان لما ذكره وجه.

(1) كما هو مقتضى إطلاق معقد الإجماع المتقدم. وبه يخرج عن إطلاق موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه"(1). وكذا موثق ابن بكير الوارد في جواز الصلاة في كل ما يكون مما يؤكل لحمه(2).

اللهم إلا أن يقال: لما لم يكن الابتلاء بمني غير الإنسان شايعاً بنحو يمتنع خفاء حكمه على الأصحاب عند تحرير الفتاوى، ولاسيما مع أن جملة من عبارات قدماء الأصحاب وبعضهم من نقلة الإجماع قد اقتصر فيها على إطلاق حكم المني من دون تنصيص على التعميم لغير الإنسان، فإنه وإن تقدم تقريب عموم المني في كلامهم لغير الإنسان، إلا أنه يحتمل كون عموم الحكم عندهم تابعاً لحرمة الأكل، اعتماداً على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 12.

(2) ملحق وسائل الشيعة ج: 2 باب: 9 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 301

وأما مني ما لا نفس له سائلة فطاهر (1).

الإطلاق المتقدم في الموثقين، لظهور عملهم بهما واعتمادهم عليهما، كما هو ظاهر حال من روى الموثقين ممن كان دأبه على بيان فتاواه برواياته، ولم يتضح التنصيص على عموم الحكم بنحو ينافي إطلاق الموثقين إلا من جماعة ممن تأخر عنهم يحتمل غفلتهم عن ذلك.

ولاسيما مع عدم وضوح عموم المني لغة لما يكون به التلقيح مما يخرج من جملة من الحيوانات المحللة الأكل، كالطيور ونحوها، فإنه تقدم تقريب عمومه لما يخرج من غير الإنسان، إلا أنه لا طريق لإحراز عموم الغير لكل حيوان. ومن هنا يصعب القطع بل الوثوق بما تضمنه معقد الإجماع المذكور، لينهض بالخروج عن إطلاق الموثقين.

(1) كما صرح به غير واحد، بل قرب سيدنا المصنف (قدس سره) انعقاد الإجماع عليه قال:" كما أن الظاهر انعقاده على طهارته من غير ذي النفس. وتردد المحقق في الشرايع والمعتبر غير قادح، لأنه اختار فيهما الطهارة بعد ذلك. ولأجل ذلك لا يكون للاهتمام في إثبات عموم النصوص مزيد فائدة".

لكنه غير ظاهر بعد إطلاق جماعة نجاسة المني من دون تنبيه على استثناء ما لا نفس له سائلة. ولعله لذا حكي عن بعضهم أن ظاهر الأكثر النجاسة. ومن هنا لا مجال للتعويل على الإجماع في المقام.

نعم يتجه الحكم بالطهارة بناء على اختصاص المني بما يخرج من الإنسان، أو انصراف إطلاق نصوص نجاسته إليه، حيث يتعين الاقتصار في التعدي عنه والخروج عن أصل الطهارة على الإجماع غير الشامل له. لكن عرفت ضعف المبنى المذكور.

كما يظهر ضعف جملة من الوجوه التي تجري في المقام مما تقدم عند الاستدلال بها لطهارة فضلة ما لا نفس له سائلة، بل لعل الاستدلال ببعضها بها هنا أضعف، كما يظهر بالتأمل.

ص: 302

(303)

(الرابع): الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة (1)

فالعمدة في المقام عدم وضوح صدق المني على ما يخرج مما لا نفس له سائلة، وإن كان هو ظاهر مفردات الراغب، لنظير ما سبق في ذيل الكلام في مني مأكول اللحم، بل هو هنا أظهر. ومعه يتعين الرجوع لأصل الطهارة.

(1) قال في الجواهر:" وأما ذو النفس السائلة فميتة غير الآدمي منه نجسة إجماعاً محصلاً ومنقولاً في الغنية والمعتبر والمنتهى والذكرى وكشف اللثام والروض وعن نهاية الأحكام والتذكرة وكشف الالتباس وغيرها، بل في المعتبر والمنتهى أنه إجماع علماء الإسلام... وأما ميتة الآدمي من ذي النفس فنجسة بلا خلاف أجده فيه، بل في الخلاف والغنية والمعتبر والمنتهى والذكرى والروض وعن ظاهر الطبريات والتذكرة وصريح نهاية الأحكام وكشف الالتباس وغيرها الإجماع عليه".

ويقتضيه طوائف من النصوص منها: ما ورد في البئر التي يموت فيها الحيوان، حيث يظهر من غير واحد من نصوصه ذلك مثل ما تضمن إراقة الدلو الذي فيه يخرج فيه الميتة(1) وما تضمن النزح إذا انتنت من الميتة(2).

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن مطهرية النزح لما لم تكن عرفية فالأمر بالنزح لا يكون ظاهراً في نجاسة البئر ليلزمه نجاسة الميتة ومنجسيتها. فهو يندفع بأنه لو سلم عدم كون مطهرية النزح عرفية، إلا أنه لا ريب في ظهور الأمر به في انفعال البئر، ولو لكونه مطهراً شرعاً. ويناسبه قوله (عليه السلام) في موثق عمار:" يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين فينزفون يوماً إلى الليل، وقد طهرت"(3). بل قد يظهر من مجموع النصوص المفروغية عن النجاسة، وأن منش

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 14.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب 15 من أبواب الماء المطلق حديث: 3، وباب: 17 منها حديث: 4، 7، 11، وباب: 18 منها حديث: 1، باب: 19 منها حديث: 4، باب: 22 منها حديث: 1، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 23 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 303

السؤال هو احتمال عدم انفعال البئر أو الجهل بكيفية التطهير منها.

بل استدل في الجواهر وغيره بما تضمن الأمر بالنزح لموت الحيوان مطلقاً أو خصوص بعض الحيوانات من النصوص الكثيرة، لدعوى أن ظاهر الأمر بالنزح النجاسة. ولا ينافيه ما تضمن عدم وجوب النزح، لأن منشأه اعتصام البئر، لا عدم نجاسة ما أمر بالنزح من أجله.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأنه بعد ثبوت عدم انفعال البئر وعدم وجوب نزحها فلابد من حمل الأمر بالنزح على الاستحباب، وهو كما يكون للتنزه عن أثر النجاسة يكون للتنزه عن أثر غيرها، كما ورد الأمر بالنزح لبعض ما لا نفس له سائلة ولدخول الجنب(1) ، والأمر بغسل الثوب والبدن لملاقاة كثير من الأمور التي ثبت طهارتها وعدم تنجيسها.

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن نصوص النزح كما تدل على نجاسة البئر تدل على نجاسة الميتة، فرفع اليد عن الدلالة الأولى وسقوطها عن الحجية لا يقتضي رفع اليد عن الثانية، لأن التلازم بين الدلالتين وجوداً لا يقتضي التلازم بينهما في الحجية.

فهو ممنوع جداً، لقصور الكبرى التي أشار إليها عما إذا كان سقوط إحدى الدلالتين عن الحجية مبتنياً على كذبها، كما في المقام، وإنما يتم ذلك فيما إذا كان عدم حجيتها لعدم تمامية موضوع الحجية فيها، من دون أن يرجع إلى كذبها، كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة، حيث لا تثبت السرقة بذلك ولا يترتب أثرها، وهو الحد، لعدم ثبوت حقوق الله تعالى بذلك، ويثبت لازمها، وهو الضمان، لأنه من حقوق الناس التي يكفي فيها رجل وامرأتان.

ومنها: ما ورد في السمن والعسل أو الطعام أو الشراب تموت فيه الفأرة أو الجرذ أو الدابة أو تقع فيه الميتة، من المنع عن أكلها، أو الأمر بإلقائها وما يليها إن كان

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 19، 22 من أبواب الماء المطلق.

ص: 304

جامداً، وفي القدر إذا وقعت فيه فأرة من الأمر بإهراق المرق وغسل اللحم(1).

وأما ما في المدارك من أنه غير صريح في النجاسة. فهو لا يمنع من الاستدلال بعد ظهوره فيه عرفاً، لظهور أن وظيفة الإمام (عليه السلام) بيان المحذور الشرعي، فيحمل أمره بعدم الانتفاع بالطعام والشراب على ذلك، لا على التنزه بلحاظ تنفر النفس منه، ولاسيما مع أنه قد يكون كثير المالية يصعب على كثير من الناس إتلافه وعدم الانتفاع به. بل في خبر جابر: "فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها. قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام): إنك لم تستخف بالفأرة، وإنما استخففت بدينك، إن الله حرم الميتة من كل شيء"(2). على أن التنزه لتنفر النفس مما يدركه كل أحد ولا يحتاج فيه لأمره (عليه السلام).

ومنها: ما ورد في الماء القليل تكون فيه الفأرة الميتة، من الأمر بغسل الثوب منه وإعادة الوضوء والصلاة(3). وما ورد في الماء تكون فيه الجيفة من الأمر بالوضوء من الجانب الآخر، واجتناب الماء كله إذا غلب ريح الجيفة(4). وما تضمن انفعال الماء بميتة ذي النفس السائلة(5).

ومنها: ما ورد من النهي عن الأكل في آنية أهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة والدم ولحم الخنزير، كما في صحيح محمد بن مسلم(6) وقريب منه قوله في معتبر يونس:" وإنما كره أن يؤكل سوى الأنفحة مما في آنية المجوس وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقفون الميتة والخمر"(7).

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف، وج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات، وج: 12 باب: 6 من أبواب ما يكتسب به، وج: 16 باب: 43، 44 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 5 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق.

(4) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الماء المطلق.

(5) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات.

(6) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(7) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

ص: 305

ومنها: ما ورد فيمن كان عمله بجلود الحمر الميتة من الأمر باتخاذ ثوب للصلاة(1).

ومنها: ما تضمن الأمر بغسل الثوب بمس ميت الإنسان وغيره(2).

ومنها: ما تضمن الأمر بغسل ما يفصل من الميتة مما لا تحله الحياة، كصحيح حريز: "قال أبو عبد الله لزرارة ومحمد بن مسلم: اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي. وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه"(3).

وما في المدارك من احتمال كون الأمر بغسله لإزالة الأجزاء المتعلقة به من الميتة لمانعيتها من الصلاة، خلاف الظاهر جداً، لعدم كفاية الغسل غالباً في إزالة الأجزاء المذكورة. مع أن الفصل قد لا يكون بالنتف أو القلع من المنبت، ليمكن استصحاب المقلوع لشيء من أجزاء الميتة، بل قد يكون بالقطع بمثل السكين. وهناك نصوص أخر متفرقة في أبواب الفقه ربما يستفاد منها الحكم المذكور.

ومنه يظهر الإشكال فيما عن المعالم من أن العمدة في المسألة الإجماع.

وأشكل منه ما في المدارك، قال عند الكلام في ميتة الإنسان:" وبالجملة: فالروايات متضافرة بتحريم الصلاة في جلد الميتة، بل الانتفاع به مطلقاً. وأما نجاسته فلم أقف فيها على نص يعتد به. مع أن ابن بابويه رحمه الله تعالى روى في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه مرسلاً عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والسمن والماء ما ترى فيه؟ قال: لا بأس بأن يجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن ويتوضأ منه ويشرب، ولكن لا تصل فيه. وذكر قبل ذلك من غير فصل يعتد به أنه لم يقصد في كتابه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه. قال: بل إنما قصدت إلى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات، وباب: 3 من أبواب غسل المس.

(3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 306

إيراد ما أفتي به واحكم بصحته واعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته. والمسألة قوية الإشكال".

إذ فيه: أنه لا مجال للإشكال في جميع ما سبق من النصوص بعد أن كان جملة منها معتبرة السند تامة الدلالة. ومجرد عدم التصريح فيها بالنجاسة لا يقدح، فإن أكثر النجاسات لم يصرح فيه بذلك، وإنما استفيدت نجاستها من الأمر بغسل ما أصابه أو إراقته أو نحو ذلك مما تضمنته النصوص المتقدمة. ولاسيما مع أن الحكم من الوضوح عند الأصحاب والمتشرعة بحد يلحقه بالضروريات، حيث يمتنع عادة خطؤهم في مثل هذا الحكم الشايع الابتلاء.

وأما ما حكاه عن الصدوق، فإن كان المراد به أن اعتماده (قدس سره) على المرسل جابر له. فهو - لو تم - لا يقتضي نهوضه بمعارضة النصوص المتقدمة، المعتضدة بما سبق. على أنه غير تام بعد إعراض جمهور الأصحاب عنه، وعدم روايتهم له ولا تعويلهم عليه. وإن كان المراد أنه مانع من انعقاد الإجماع على الحكم. ففيه: أن خروج الصدوق (قدس سره) عن الإجماع لا يقدح فيه بعد ما سبق من المؤيدات له. مع أن في النصوص الكفاية.

على أن المرسل قد يبتني على طهارة جلد الميتة بالدبغ أو غير ذلك. كما قد يبتني عمل الصدوق به على استثناء الجلد من النجاسة، أو استثناء الاستعمال المذكور من عموم أحكامها... إلى غير ذلك مما لا مجال معه للخروج عما سبق.

ومثله ما ذكره من التردد في ميتة الآدمي، حيث احتمل وجوب الغسل بمسه تعبداً لا لنجاسته، وحمل عليه ما حكاه عن ابن إدريس من أنه لو لاقى الإناء جسد الميت وجب غسله. أما لو لاقى الإناء قبل غسله مايعاً لم ينجس ذلك المايع. قال ابن إدريس:" وحمله على ذلك [يعني: على الإناء في الانفعال] قياس، وتجاوز في الأحكام بغير دليل، والأصل في الأشياء الطهارة إلى أن يقوم دليل".

إذ فيه: أنه خلاف ظاهر الأمر بالغسل في النصوص المشار إليها آنفاً. وما عن ابن إدريس - بقرينة ما سبق من تعليله - ليس ظاهراً في عدم تنجس الإناء، بل في عدم

ص: 307

تنجيسه للمايع، فيرجع إلى عدم تنجيس المتنجس بالميتة، وهو أمر آخر خارج عن محل الكلام.

نعم قال بعد ذلك: "وإن كنا متعبدين بغسل ما لاقى جسد الميت، لأن هذه نجاسات حكميات وليست عينيات" .وظاهره التفصيل في النجاسات بين العينيات والحكميات، فالأولى يتنجس ملاقيها بنحو ينجس، والثانية يجري على ملاقيها حكم النجاسة - وهو وجوب الغسل - من دون أن ينجس. وهو تفصيل غريب، خصوصاً في مثل الإناء الذي لا يحتمل وجوب غسله تعبداً حتى لو لم يستعمل فيما يعتبر فيه الطهارة، فإذا لم يكن منجساً لما يلاقيه لا يبقى معنى لوجوب غسله، بخلاف مثل الثوب الذي يمكن وجوب غسله تعبداً من أجل الصلاة فيه وإن لم يكن نجساً ولا منجساً لما يلاقيه.

هذا وفي المفاتيح بعد ذكر صحيح الحلبي المتضمن غسل الثوب بإصابة جسد الميت: "لا دلالة فيه، لإمكان أن يكون المراد منه إزالة ما أصاب الثوب مما على الميت من رطوبة أو قذر تعدّيا إليه... إذ لو كان الميت نجس العين لم يطهر بالتغسيل... والمستفاد من بعض الأخبار عدم تعدي نجاسة الميتة مطلقاً، ولا بعد فيه، لأن معنى النجاسة ينحصر في وجوب غسل الملاقي، كما يأتي بيانه في حكم نجاسة الكافر" .وقد أشار بذلك إلى ما ذكره في مبحث نجاسة الكافر حيث قال بعد ذكر الأخبار الدالة على عدم نجاسته: "وفي هذه الأخبار دلالة على أن معنى نجاستهم خبثهم الباطني، لا وجوب غسل الملاقي".

ويظهر ضعفه بأدنى تأمل. لظهور الأمر بغسل الثوب في النجاسة. وحمله على أن المراد منه إزالة ما أصاب الثوب مما على الميت من رطوبة أو قذر، بعيد جداً، لعدم خصوصية الموت في ذلك. ومجرد طهارة الميت بالتغسيل لا ينافي نجاسته. والمراد بكونه نجس العين عدم استناد نجاسته لملاقاة النجاسة، ليختص بموضع الملاقاة، لا عدم زوال نجاسته. نظير عدهم الخمر من النجاسات مع زوال نجاسته بالانقلاب.

ص: 308

وإن كان محلل الأكل (1) وكذا أجزاؤها المبانة منها (2)

وأما حمل النجاسة في الميتة مطلقاً على الخباثة فهو تحكم. وقياسه على الكافر مع الفارق، لأن نصوص الطهارة هي الملزمة، بحمل ما يظهر منه نجاسته على الخباثة، أو على معنى آخر يناسب الطهارة، ولا نصوص في المقام تدل على الطهارة، ليخرج بها عن ظهور نصوص النجاسة في النجاسة المصطلحة.

(1) لعموم معقد الإجماع، وإطلاق بعض النصوص المتقدمة مثل ما ورد في نزح البئر إذا أنتنت من الميتة، وما ورد في الماء تكون فيه الجيفة، وما ورد من النهي عن الأكل في آنية أهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة، وخصوص ما ورد فيمن كان عمله بجلود الحمر الميتة، وما ورد في غسل ما ينفصل عن الميتة مما لا تحله الحياة، وقد تقدم التعرض لجميع ذلك. فلاحظ.

(2) بلا خلاف ظاهر، وفي المدارك أن الحكم بنجاسة ما قطع من حي أو ميت مقطوع به في كلام الأصحاب. قال (قدس سره): "واحتج عليه في المنتهى بأن المقتضى لنجاسة الجملة الموت، وهذا المعنى موجود في الأجزاء فيتعلق بها الحكم. وضعفه ظاهر، إذ غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت، وهو لا يصدق على الأجزاء قطعاً. نعم يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميت استصحاباً لحكمها حال الاتصال" .وما ذكره من الإشكال على ما في المنتهى قد يتجه فيما ينفصل من الحي، لعدم صدق الميت أو الميتة عليه، ولا على ما أخذ منه، ولا على المجموع منهما. دون ما ينفصل من الميت، لأنه حيث صدق عنوان الميتة الذي هو موضوع النجاسة على المجموع حين الاتصال فالمستفاد عرفاً منه عدم دخل الاتصال في النجاسة، ولا يحتمل كون التقطيع من المطهرات.

بل قد يجري ذلك في موت الحيوان بالتقطيع، كما لو قطع نصفين، حيث يصدق الميت أو الميتة على المجموع، فينجس كل منهما وإن لم يصدق على كل منهما العنوان

ص: 309

(310)

وإن كانت صغاراً (1).

(مسألة 3): الجزء المقطوع من الحي بمنزلة الميتة (2)، ويستثنى من ذلك الفالول، والبثور، وما يعلو الشفة، والقروح ونحوها عند البرء،

المذكور. على أن صحيح محمد بن مسلم المشار إليه آنفاً المتضمن النهي عن استعمال آنية اهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة كالنص فيما نحن فيه. وكذا ما ورد فيمن كان عمله بجلود الحمر الميتة.

قال سيدنا المصنف (قدس سره): "مضافاً إلى تعليل جواز الصلاة في صوف الميتة بإنه ليس فيه روح، كما في صحيح الحلبي، وتعليل طهارة الأنفحة بأنها ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم، كما في خبر الثمالي. بل نصوص استثناء مالا تحله الحياة ظاهرة في خصوصية له يمتاز عن بقية الأجزاء، كما لا يخفى".

ودعوى: أن النصوص المذكورة واردة لبيان جواز الصلاة في الشيء وأكله، لا لبيان طهارته، لينفع فيما نحن فيه. مدفوعة بإنه لا مجال لذلك في جميع النصوص المذكورة، بل بعضها ظاهر في الطهارة، خصوصاً ما عبر فيه بأنه ذكي. فلاحظها.

ومن ذلك يظهر أنه لا يحتاج في البناء على النجاسة للاستصحاب، كما يظهر مما تقدم من المدارك. وإن كان ينهض بإثباتها، بناء على ما هو الظاهر من جريانه في الأحكام الشرعية المتعلقة بالموضوع الخارجي الجزئي غير القابل للتقييد، خلافاً لبعض مشايخنا (قدس سره)، ومن أن الانفصال لا يوجب تبدل الموضوع، بل هو من سنخ الحال للطارئ، خلافاً لشيخنا الأستاذ (قدس سره). فلاحظ.

(1) لعموم ما تقدم.

(2) بلا خلاف ظاهر، وقد تقدم من المدارك أنه مقطوع به في كلام الأصحاب. كما تقدم عن المنتهى الاستدلال له بوجود مقتضي النجاسة فيه. وقد تقدم ضعفه. فالعمدة النصوص.

ص: 310

منها: ما ورد فيما قطعته الحبالة من الصيد، كصحيح محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام): "ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلاً فذروه فإنه ميت، وكلوا ما أدركتم حياً وذكرتم اسم الله عليه" (1) ونحوه غيره.

وعن الفقيه الهمداني (قدس سره) الإشكال في دلالته بأن تطبيق عنوان الميتة عليه إن حمل على التنزيل فالمنصرف منه التنزيل بلحاظ الأثر الظاهر وهو حرمة الأكل، وإن حمل على التطبيق الحقيقي، فهو إنما ينفع مع وجود كبرى مسلمة معلومة الانطباق على الصغرى المنقحة، كي يصح إيكال تطبيقها إلى السائل، وذلك غير محرز في المقام، لعدم إطلاق ظاهر يشمل مثل هذا الفرد الخفي، بل منصرف الإطلاقات هو الميتة المعهودة التي هي بمعنى الحيوان الميت.

ويندفع بأنه إن حمل على التنزيل فإطلاقه يقتضي العموم لجميع الآثار والأحكام، ومنها في المقام النجاسة. وانصراف التنزيل للأثر الظاهر ممنوع. على أن اختصاص الأثر الظاهر بالحرمة دون النجاسة لا يخلو عن الإشكال. مضافاً إلى أن سوق التنزيل لتعليل حرمة الأكل - كما في الصحيح المتقدم - لا يناسب تخصيصه بحرمة الأكل، لرجوعه إلى تعليل الحكم بنفسه، وهو مستهجن، بخلاف ما لو حمل على الإطلاق لرجوعه إلى التعليل بالكبرى العامة المقبول عرفاً.

وإن حمل على التطبيق الحقيقي فليس مرجعه إلى رفع اشتباه الأمر الخارجي - نظير ما لو أخبر الإمام (عليه السلام) عن حيوان يتقلب بأنه ميتة وأن تقلبه ليس لحياته، كما يتوهم الناظر، بل لتدحرجه من جبل أو نحوه - لوضوح حال الجزء المبان من الحي وعدم بيان الإمام (عليه السلام) فيه أمراً خفي على العرف، بل إلى أن دليل حكم الميتة يراد منه ما يعم الجزء المذكور، وإن فهم العرف منه خصوص الحيوان الميت.

ومن ثم يكون مرجع التطبيق المذكور إلى النظر لأدلة أحكام الميتة، كما هو الحال في التنزيل، ويكون مقتضى إطلاق التطبيق النظر لجميع تلك الأحكام، ومنها أدلة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 24 من أبواب الصيد حديث: 1.

ص: 311

النجاسة، وصرفها لخصوص أدلة حرمة الأكل يحتاج إلى قرينة مخرجة عن الإطلاق، نظير ما ذكرناه في التنزيل، من دون فرق بينهما من هذه الجهة.

ومنها: ما ورد في قطع إليات الغنم، كمعتبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه قال في إليات الغنم تقطع وهي أحياء: إنها ميتة"(1) ، وفي صحيح الكاهلي:" سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن قطع إليات الغنم. فقال: لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك. ثم قال: إن في كتاب علي (عليه السلام): إن ما قطع منها ميت لا ينتفع به"(2) ، ونحوهما غيرهما.

ومنها: ما ورد فيما يقطع من الإنسان. وهو مرسل أيوب بن نوح عنه (عليه السلام): "إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسها إنسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسه الغسل، فإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه"(3). وضعفه منجبر بالعمل به فيما تضمنه من التفصيل، كما سبق في مبحث غسل مس الميت.

والكلام في هاتين الطائفتين كما سبق. بل عن الفقيه الهمداني (قدس سره) الاعتراف بنهوض هاتين الطائفتين بالمطلوب، لدعوى: ظهورهما في تنزيل الجزء منزلة ميتة الحيوان المأخوذة منه، ومعه لا مجال للتطبيق الحقيقي للقطع بعدم صدق الحيوان المقطوع منه على الإلية المقطوعة منه.

وإن كان ما ذكره غير خال عن الإشكال أولاً: لعدم وضوح الوجه في كون المشبه به هو ميتة الحيوان المقطوعة منه، لا مطلق الميتة.

نعم قد يدعى ذلك في مرسل أيوب بن نوح، بقرينة تفريع وجوب غسل المس عليه، لأن غسل المس من أحكام ميت الإنسان، لا مس كل ميتة، كما في الحدائق.

لكنه يندفع بأن المفرع على التنزيل المذكور ليس هو وجوب غسل المس الذي هو من أحكام ميت الإنسان، بل التفصيل فيه بين ما كان فيه عظم وغيره، ومن الظاهر

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 3 من الذبايح حديث: 3، 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 2 من أبواب غسل المس حديث: 1.

ص: 312

وقشور الجرب ونحوه، المتصل بما ينفصل من شعره وما ينفصل بالحك ونحوه من بعض الأبدان فإن ذلك كله طاهر (1) إذا فصل من الحي.

أن التفصيل المذكور ليس من أحكام ميت الإنسان. ومن هنا يتعين حمل التنزيل على تنزيل القطعة منزلة الميت مطلقاً، ويكون وجه التفريع هو أن التنزيل المذكور راجع لتحقق موضوع التفصيل المذكور، وبدونه لا موضوع له. كما تقدم نظير ذلك عند الكلام في وجوب تغسيل القطعة من الميت إذا كان فيها عظم غير الصدر. فراجع المسألة الثانية والسبعين في أحكام الدفن.

وثانياً: لأنه إذا كان إطلاق التنزيل منصرفاً لخصوص حرمة الأكل، لأنه الأظهر، كما ذكره في النصوص السابقة، فما الوجه في عموم التنزيل في المقام للنجاسة، وما الفرق بين الطائفتين مع وحدة لسانهما؟!.

اللهم إلا أن يقال: لا مجال لحمل التنزيل في هذه النصوص على كونه بلحاظ خصوص الأكل. أما مرسل أيوب بن نوح فظاهر. وأما نصوص قطع إليات الغنم فلتفريع النهي عن مطلق الانتفاع فيها على التنزيل المذكور.

نعم تصلح هذه النصوص لأن تكون قرينة على عموم التنزيل حتى في النصوص الأول، لوحدة اللسان فيها، فتشهد هذه النصوص بعدم انصرافه لخصوص الأكل. فلاحظ.

(1) كما في المنتهى وعن غيره، بل عن الحدائق: الظاهر أنه لا خلاف فيه بينهم وإن اختلف المدرك لذلك. والعمدة فيه - بعد عدم صدق الميتة عليه - قصور أكثر نصوص التنزيل المتقدمة إليها الإشارة عنه، لاختصاصها بما قطعت الحبالة من الصيد وبإليات الغنم.

وأما ما تقدم في صحيح الكاهلي من قوله (عليه السلام):" إن ما قطع منها ميت لا ينتفع به "،فكما يحتمل أن يكون مرجع ضمير" منها "فيه الغنم، فيعم غير الإليات، كذلك

ص: 313

يحتمل أن يكون مرجعه الإليات، فيختص بها.

بل الأول منصرف عن محل الكلام مما كان من شأنه الانفصال، ولم يكن جزءاً معتداً به. ولاسيما بملاحظة قوله (عليه السلام):" لا ينتفع به "حيث لا يبعد ظهوره في فرض كون المقطوع مما ينتفع به لولا الموت، وأن الموت هو المانع من الانتفاع به.

نعم لا إشكال في التعدي عن مورد النصوص كما لو كان المقطوع بضعة لحم ليس من شأن الحبالة أن تقطعه، أو كان جزءاً ليس من شأنه أن ينتفع به زهداً فيه، أو محرم الأكل. إلا أن المتيقن التعدي للأجزاء اللحمية، دون مثل القشور والبثور والزوائد ونحوها مما من شأنه الانفصال. ولاسيما مع مناسبة طهارته لمرتكزات المتشرعة وسيرتهم للغفلة عن نجاسة مثل هذه الأجزاء، فلو كان الحكم النجاسة مع شيوع الابتلاء بذلك لظهر وبان.

وبذلك يظهر الحال في مرسل أيوب بن نوح، فإن القطعة فيه تنصرف عن مثل هذه الأمور الصغيرة والتي من شأنها الانفصال، كما لعله ظاهر.

هذا وقد يستدل على الطهارة وعدم جريان حكم الميتة في ذلك بصحيح علي بن جعفر:" أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام)... وعن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال: إن لم يتخوف أن يسيل الدم فلا بأس، وإن تخوف أن يسيل الدم فلا يفعله"(1) ، حيث يدل على عدم قدح حمل ما يفصله عن جسده في الصلاة، ولو كان ميتة أو بحكمها لأبطلها.

لكنه موقوف على عموم عدم جواز الصلاة في الميتة لمثل هذا الحمل غير المبني على الدوام، وعلى أن جواز مثل هذا الحمل مبني على قصور عموم تنزيل الجزء المفصول منزلة الميت عن مثل هذا الجزء، ليستلزم عدم نجاسته، لا على استثنائه منه، كي لا ينافي النجاسة عملاً بعموم التنزيل. وكلا الأمرين لا يخلو عن إشكال. فالأولى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 4 باب: 27 من أبواب قواطع الصلاة حديث: 1.

ص: 314

(315)

(مسألة 4): أجزاء الميتة إذا كانت لا تحلها الحياة طاهرة (1)،

الرجوع لما سبق. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) الظاهر عدم الإشكال في الحكم، وقد ادعى الإجماع من جماعة على خصوص بعض المذكورات، مما قد يمكن بملاحظة مجموعه استظهار الاتفاق على الكلية المذكورة، كما ادعاه في كشف اللثام.

وكيف كان فلا يبعد كونه مقتضى الأصل، لقرب انصراف ما تضمن نجاسة الميتة بمقتضى المناسبات الارتكازية إلى خصوص ما تحله الحياة ويطرء عليه الموت منها. ولا مجال لقياسه بما تضمن نجاسة مثل الكلب والخنزير، لظهور كون موضوع النجاسة في ذلك هو العنوان المنتزع من الذات التي لا يفرق فيها بين ما تحله الحياة وغيره، بخلاف عنوان الميتة المنتزع من الموت الذي يطرأ عرفاً على خصوص بعض الأجزاء.

هذا ويشهد بالكلية المذكورة عموم التعليل في صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، إن الصوف ليس فيه روح"(1). وهو وإن كان وارداً لبيان جواز الصلاة في الصوف، لا في طهارته، إلا أن الطهارة تثبت بالأولوية. فتأمل.

مضافاً إلى أن المانعية من الصلاة والنجاسة لما كانا معاً واردين على عنوان الميتة، وكان التعليل المذكور راجعاً إلى قصور عنوان الميتة ولو تنزيلاً عن مورده، كان المفهوم عرفاً عدم الخصوصية للمانعية من الصلاة والتعدي لسائر أحكام الميتة، كما هو مقتضى عدم الفصل بينها عندهم.

وفي خبر أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث:" أن قتادة قال له: أخبرني عن الجبن فقال: لا بأس به. فقال: إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت. فقال ليس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 315

به بأس، إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم، إنما تخرج من بين فرث ودم، وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة... "(1) فإن عموم التعليل فيه شاهد بالكلية المذكورة أيضاً.

وقريب منه صحيح حريز:" قال أبو عبد الله (عليه السلام) لزرارة ومحمد بن مسلم(2): اللبن واللباء والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه"(3). فإن المراد بما يفصل من الشاة ليس إلا ما يتعارف أخذه منها وهي حية، وهو يختص بما لا تحله الحياة منها.

نعم يقصر عن مثل العظم مما لا يفصل عنها إلا بعد الموت، وهو غير مهم بعد عموم اشتمال جملة من النصوص على بعض تلك الأمور بالخصوص.

كما قد تستفاد الكلية مما تضمن استثناء كل نابت. ففي صحيح الحسين بن زرارة: "وقال أبو عبد الله (عليه السلام): العظم والشعر والصوف والريش، كل ذلك نابت لا يكون ميتاً. قال: وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة. قال: لا بأس بأكلها"(4). فإن تطبيق النابت على الأربعة المذكورة ومنها العظم يناسب كون المراد به ما يكون عرفاً مبايناً للشيء النابت فيه مما يكون مقر الحياة وجريان الدم، وهو ما لا

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1.

(2) كذا في إحدى نسختي الوسائل، والمطبوع من الكافي والاستبصار والخلاف وإحدى نسختي التهذيب. وفي النسخة الأخرى من الوسائل:" قال عبد الرحمن بن أبي عبد الله لزرارة ومحمد بن مسلم... "وهو الموجود في إحدى نسختي التهذيب، وحكي عن بعض نسخ الكافي. والظاهر أنه خطأ أولاً: لأن عبد الرحمن بن أبي عبد الله متأخر طبقة عن زرارة ومحمد بن مسلم فقد روى عن محمد بن مسلم وروى عنه من لم يدركهما. فكيف يمكن مع هذا أن يفتي لهما. وثانياً: لعدم مألوفية إثبات فتاوى الأصحاب بعضهم لبعض في كتب الحديث. وثالثاً: لرفعة مقام زرارة ومحمد بن مسلم عن أخذ الحكم من غير الإمام. ولا أقل من سقوط رواية التهذيب بالتعارض، فتبقى روايتا الاستبصار والخلاف حجة، لعدم اختلاف النسخ فيهما، فتعضدان رواية الكافي، التي لم يثبت التعارض فيها. وبالجملة: لا تنهض النسخة الأخرى بمعارضة النسخة المثبتة في المتن. منه عفي عنه.

(3) ،

(4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3، 12.

ص: 316

وهي الصوف والشعر والوبر (1) والعظم (2) والقرن (3) والمنقار والظفر والمخلب (4)

تحله الحياة، وما ليس فيه دم ولا له عروق.

هذا مضافاً إلى إمكان استفادة الكلية المذكورة بملاحظة الأمور المعدودة في النصوص، فإن إلغاء خصوصيتها عرفاً والتعدي منها لكل ما لا تحله الحياة قريب جداً. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في العموم المذكور.

نعم في مكاتبة أبي إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام):" كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكياً. فكتب: لا ينتفع من الميتة باهاب ولا عصب. وكلما كان من السخال الصوف إن جز والشعر والوبر والأنفحة والقرن. ولا يتعدى إلى غيرها إن شاء الله"(1). وظاهر ذيلها عدم العموم. لكنها مع ضعف سندها وعدم خلوها عن الاضطراب - معارضة بالنصوص المتضمنة لأمور أخر. فلتحمل على الحصر الإضافي بلحاظ مثل الجلد مما تحله الحياة، وإلا فلا يظهر عامل بالظاهر المذكور.

(1) وقد تضمنها جميعاً معتبر يونس عنهم (عليهم السلام): "قالوا: خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع للخلق: الأنفحة والبيض والشعر والوبر..." (2) ومكاتبة أبي إسحاق المتقدمة. كما تضمن الصوف صحاح الحلبي وحريز والحسين المتقدمة وغيرها. وتضمن الشعر صحيحا حريز والحسين المتقدمان وغيرهما.

(2) كما تقدم في صحيح الحسين بن زرارة. نعم قد يشعر التعليل المتقدم في خبر أبي حمزة بنجاسة العظم. لكن لابد من الخروج عنه بالصحيح، لأنه أقوى سنداً، وأظهر دلالة.

(3) وقد تضمنه صحيح حريز ومكاتبة الجرجاني المتقدمان وغيرهما.

(4) لم أعثر عليها في شيء من النصوص بالخصوص، وإن كان الظاهر عدم

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 7، 2.

ص: 317

والريش (1) والظلف (2) والسن (3) والبيضة (4) إذا اكتست القشر الأعلى

الإشكال فيها للكبرى المتقدمة.

(1) وقد تضمنه صحيح الحسين المتقدم وغيره.

(2) لم أعثر عليه في النصوص بالخصوص. نعم تقدم في صحيح حريز ذكر الحافر، كما ذكر في مرسل ابن أبي عمير الذي رواه الصدوق في الخصال بسنده إلى ابن أبي عمير وفي الفقيه مرسلاً عن الصادق(1) (عليه السلام)، ولا يبعد إلحاق الظلف به عرفاً. على أنه داخل في الكبرى المتقدمة.

(3) فقد تقدم استثناء الناب في صحيح حريز. وفي صحيح الحسين بن زرارة المتقدم: "وسأله أبي وأنا حاضر عن الرجل يسقط سنه، فيأخذ سن إنسان ميت فيجعله مكانه. قال: لا بأس"(2) ، وفي موثقه:" كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السن من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة. فقال: كل هذا ذكي"(3) ، بناء على روايته في الوسائل. لكن في رواية الكافي: "وأبي يسأله عن اللبن في الميتة" .والأمر سهل بعد الكبرى المتقدمة.

نعم في صحيح الحلبي: "سألته (عليه السلام) عن الثنية تنفصم وتسقط أيصلح أن تجعل مكانها سن شاة؟ قال: إن شاء فليضع مكانها سناً بعد أن تكون ذكية"(4). لكن لا مجال لرفع اليد به عما سبق بعد ظهور عدم العامل به، وإمكان حمله على سن نجس العين، أو على التطهير من ملاقاة النجاسة، أو الاستحباب.

(4) فقد تضمنها صحيحا حريز والحسين بن زرارة وخبر أبي حمزة المتقدمة وغيرها. مضافاً إلى عدم كونها من أجزاء الميتة، ليتوهم عموم دليل نجاسة الميتة لها.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 9.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 12، 4.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 318

وإن لم يتصلب (1)، سواء أكان ذلك كله مأخوذاً من الحيوان الحلال أم الحرام (2)،

(1) المعروف اعتبار وجود القشر للبيضة في طهارتها وجواز أكلها، بل قيل: إنه متفق عليه. وقد اختلفوا في التعبير عنه، فعبر بعضهم بالصلب، وآخر بالأعلى، وثالث بالفوقاني، ورابع بالغليظ. وهو المطابق لموثق غياث بن إبراهيم أو صحيحه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في بيضة أخرجت من است دجاجة ميتة. قال: إن اكتست البيضة الجلد الغليظ فلا بأس بها"(1).

وبه يخرج عن مقتضى إطلاق النصوص المتقدمة والأصل المقتضيين للحلية والطهارة بمجرد اكتسائها الجلد وإن كان رقيقاً - كما عن بعض العامة - لمانعيته من انفعالها بملاقاة الميتة.

لكن ذكر بعض مشايخنا (قدس سره) أنه لا ظهور للحديث في النجاسة بل في حرمة الأكل لا غير، فلا موجب للخروج به عن مقتضى القاعدة من طهارة البيضة لمباينتها للميتة، كما سبق. بل هي مقتضى إطلاق غير واحد من النصوص المتقدمة وغيرها الدالة على استثناء البيضة من حكم الميتة، للتصريح فيها بذكاة المستثنيات.

وما ذكره وإن كان قريباً، إلا أن غير واحد من النصوص المذكورة ظاهر في تفرع الحلية على الطهارة والتلازم بينهما من حيثية عدم منافاة الموت لهما كصحيح حريز المتقدم، وصحيح يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا: خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع الخلق: الأنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر. ولا بأس بالجبن..."(2). ومن هنا يصعب التفكيك بين الحلية والطهارة في التقييد المستفاد من الحديث المتقدم. فتأمل.

(2) كما عن الشهيد وغيره، بل هو مقتضى إطلاق المشهور. خلافاً لما عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 68 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 319

وسواء أخذ بجز أم نتف أم غيرهما (1).

العلامة في المنتهى ونهاية الأحكام فقوى نجاسة بيض الجلال وغير المأكول. وكأنه لاختصاص بعض النصوص بالمأكول، مثل ما ورد في بيض الدجاجة، وما تضمن حلية أكل البيض.

لكن المستفاد منها أن حلية الأكل لأنه مأكول بالذات من دون أن يمنع منه كونه من الميتة، لاختصاص الميتة بأجزائها دون ما خرج منها، وذلك يقتضى الطهارة فيما هو طاهر بالذات وإن كان محرم الأكل.

على أن ذلك مقتضى إطلاق بقية النصوص، خصوصاً ما تضمن منها الحكم بالذكاة التي يراد منها الطهارة، وهي وإن وردت لبيان جواز الأكل، إلا أنه ليس لاختصاص الذكاة به، بل لشرطيتها فيه، فلا تنافي العموم لغيره وإن حرم أكله بالأصل. على أن ذلك مقتضى أصالة الطهارة بل واستصحابها بعد ما سبق من قصور ما دل على نجاسة الميتة عن البيضة مما هو خارج عنها مباين لها.

(1) كما هو مقتضى إطلاق النصوص المتقدمة، خصوصاً قوله (عليه السلام) في صحيح حريز المتقدم في أوائل المسألة: "وكل شيء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي" وخصوص خبر أبي البختري عن جعفر عن أبيه: "قال: لا بأس بما ينتف من الطير والدجاج ينتفع به للعجين وأذناب الطواويس وأعراق الخيل وأذنابها" بناء على عمومه لما ينتف من الميت، أو عدم الفصل بينه وبين ما ينتف من الحي.

لكن قال الشيخ في النهاية: "ويحل من الميتة الصوف والشعر والوبر والريش إذا جز، ولا يحل شيء منه إذا قلع منها" .وكأنه لأن أصولها مما تحله الحياة أو لأنها بالنتف تستصحب شيئاً مما تحله الحياة من أجزاء الميتة. ولخصوص مكاتبة أبي إسحاق المتقدمة التي اشترط فيها الجز في الصوف.

وفيه: أن الأول مقطوع بعدمه في الريش إذا تم وانتهى نموه. وأما الشعر

ص: 320

نعم يجب غسل المنتوف من رطوبات الميتة (1)، ويلحق بالمذكورات

والصوف فلو تم كون أصولها مما تحله الحياة كان مقتضى إطلاق دليل طهارتها طهارة أصولها مع ذلك، لعدم كونها من أجزاء الميتة، بل من النابت فيها.

وأما استصحابها لشيء من أجزاء الميتة، فهو غير لازم، ولو حصل خرج عن محل الكلام من طهارة الشعر والصوف بانفسهما. على أن ذلك لا يقتضي تحريم المنتوف بتمامه - كما هو مقتضى الجمود على كلامه المتقدم - بل خصوص أصوله الحية أو الملتصقة بها أجزاء الميتة.

وأما المكاتبة فهي - مع ضعف سندها، وعدم خلوها عن الاضطراب لعدم ذكر خبر المبتدأ فيها، ولعدم تمامية الحصر الذي تضمنته - قد خصت اشتراط الجز بالصوف، والظاهر أنه ناش من تعارف الجزّ فيه، دون النتف، لضعفه، فيكون الجزّ أرفق به، بل لعله لا يمكن نتفه من أصله، لتتأتى فيه شبهة النجاسة، بخلاف الشعر والريش، فلو كان التقييد بالجزّ لتوقف الحل عليه كان الأنسب التقييد به فيهما لتعارف نتفهما.

(1) لتنجسه بها. وعليه ينزل الأمر بالغسل في صحيح حريز المتقدم أو على الاحتياط مراعاة لاحتمال تنجسه بملاقاة الميتة برطوبة، أو للتنزه عنه نظير الأمر بالغسل أو بصب الماء أو بالنضح مع ملاقاة النجاسة من دون رطوبة.

وعلى الأول يحمل على الوجوب، كما هو مقتضى القاعدة، ويختص حينئذٍ بموضع الملاقاة أما على الأخريين فيتعين الحمل على الاستحباب، بقرينة إهماله في بقية النصوص على كثرتها مع شدة الحاجة لبيانه بسبب الغفلة عنه بعد مخالفته للقاعدة.

ولعل ما عن شرح الدروس من أن الأحوط غسل الكل مطلقاً وإن أخذ بالجزّ، لإطلاق الصحيح، راجع لبعض ما ذكرنا. وإلا فلو أريد منه وجوب الاحتياط المذكور أشكل بما سبق.

ص: 321

(322)

الأنفحة (1)،

(1) قال في الجواهر: "فلا أعرف خلافاً في طهارتها، كما اعترف به بعضهم، بل في المنتهى أنه قول علمائنا، وفي المدارك أنه مقطوع في كلام الأصحاب، وفي كشف اللثام - كما عن الغنية - دعوى الإجماع صريحاً" .ويقتضيه النصوص الكثيرة منها صحيح يونس وموثق الحسين بن زرارة وخبر أبي حمزة ومكاتبة أبي إسحاق المتقدمة.

نعم ما تضمنه خبر أبي حمزة من التعليل بأن الأنفحة ليس فيها عروق ولا فيها دم ولا بها عظم، لا يخلو عن إشكال، إذ لو أريد بالأنفحة الظرف فالظاهر أنه مما تحله الحياة، وبه دم، كبقية حشوة الحيوان، من المعدة والأمعاء ونحوها.

وإن كان المراد بها المظروف وهو اللبن المستجبن - كما يناسبه قوله (عليه السلام): "إنما تخرج من بين فرث ودم" - فالأنسب تعليله بأنه قد خرج من الأم الحية التي رضع منها الجدي، لا من الجدي الميت. مع أن طهارته بالذات لا تنافي في وجوب اجتنابه لتنجسه عرضاً بملاقاته لأجزاء الميتة التي تحلها الحياة.

لكن إجمال التعليل المذكور وإشكاله لا يوجب رفع اليد عن الحكم المعلل. ولاسيما مع خلوّ أكثر النصوص عن التعليل به.

نعم في معتبر أبي الجارود: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة. فقال: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل..."(1) ، ونحوه غيره في تضمنه في وضع الميتة في الجبن، والظاهر أن المراد به وضع الأنفحة الميتة، كما هو صريح خبر بكر بن حبيب:" سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الجبن، وأنه توضع فيه الأنفحة من الميتة. قال: لا تصلح. ثم أرسل بدرهم فقال: اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء"(2).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 68 من أبواب الأطعمة المباحة حديث: 5، 4.

ص: 322

وحينئذٍ يكون مقتضى النصوص المذكورة حرمة الأنفحة الميتة ونجاستها واقعاً، مع حِلّ الجبن ظاهراً، لأصالة الحل - كما في بعض النصوص المذكورة - أو ليد المسلم، كما هو مقتضى خبر بكر المتقدم.

لكن لا مجال للخروج بذلك عما سبق من النصوص الكثيرة المعول عليها عند الأصحاب. فلتحمل هذه النصوص على التقية، أو على أن الحرمة الواقعية هي الناشئة من ملاقاة الأنفحة من الميتة لأجزاء الميتة أو لما يلاقيها برطوبة بسبب تسامح صانعي الجبن من الأعراب والبدو وعدم تحرزهم غالباً.

هذا وقد اختلفت كلمات اللغويين في تعريف الأنفحة، فيظهر من بعضها أنها المظروف وهو المادة المتجبنة التي توضع في الجبن، وهو الذي سبق أنه المناسب لخبر أبي حمزة. ويظهر من بعضها أنها نفس الظرف، وهو معدة الحيوان قبل أن يتغذى بالطعام.

ولازم الأول البناء على نجاسة الظرف عملاً بعموم نجاسة الميتة، لأنه مما تحله الحياة، كما أشرنا إليه آنفاً. غايته أنه لا ينجس المظروف وإن لاقاه برطوبة، بل قد يدعى نجاسة ظاهره فيغسل بعد فصله عن الظرف لتماسكه وتجبنه.

أما على الثاني فاللازم البناء على طهارة الظرف بالذات، وإن لزم تطهير ظاهره لملاقاته لأجزاء الميتة الأخرى برطوبة. كما يطهر المظروف حينئذ بمقتضى القاعدة، لعدم كونه من أجزاء الحيوان، بل من جملة غذائه الذي يدخل جوفه عند الرضاع.

وحيث لا طريق لإحراز أحد الأمرين يتعين الاقتصار عملاً على الأول، لأنه المتيقن في الخروج عن مقتضى القاعدة. وما عن المدارك من أن الثاني مقتضى الأصل في غير محله بعد ما عرفت.

ص: 323

(324)

واللبن في الضرع (1)، ولا ينجس بملاقاة الضرع النجس وإن كان الأحوط استحباباً اجتنابه.

(1) كما في المقنعة والنهاية والغنية والوسيلة وظاهر الكليني والصدوق في الكافي والفقيه وعن المقنع والقاضي وغيرها، بل لعله المعروف بين الأصحاب، وقد نسب للأكثر تارة، والأشهر أخرى، والمشهور ثالثة، وغير ذلك. بل في الدروس أن القائل برواية التحريم نادر، وفي الخلاف والغنية الإجماع على الطهارة.

للنصوص، كصحيح حريز المتقدم، وصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): "...قلت: اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت. قال: لا بأس به"(1) ، وموثق الحسين بن زرارة على ما في رواية الكافي المتقدم عند الكلام في السن، ونحوها مرسل الصدوق(2). ويناسبه ما تقدم في خبر أبي حمزة من التعليل.

وفي المراسم والسرائر والتذكرة والمنتهى وجامع المقاصد وغيرها المنع منه، وجعله الأشبه في الشرايع والنافع، وفي المنتهى وجامع المقاصد أنه المشهور، وفي السرائر أنه نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا".

لعموم انفعال المائع بملاقاة النجاسة. ولظهور حصر المستثنيات من الميتة في غيره في مكاتبة أبي إسحاق. ولخبر وهب: "عن جعفر عن أبيه (عليه السلام): إن علياً (عليه السلام): سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن. فقال علي (عليه السلام): ذلك الحرام محضاً"(3).

لكن عموم الانفعال قابل للتخصيص. وكذا ظهور حصر المستثنيات في مكاتبة أبي إسحاق ولاسيما مع ما سبق مع عدم خلوها عن الاضطراب، وكثرة الخروج عن الحصر المذكور فيها، ومع قرب خروج اللبن عن موضوع الحصر، لعدم كونه من أجزاء الميتة.

وأما خبر وهب فهو ضعيف في نفسه. وانجباره بعمل الأصحاب ممنوع، لعدم

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 10، 9، 11.

ص: 324

ولاسيما إذا كان الحيوان غير مأكول (1). هذا كله في ميتة طاهرة العين أما ميتة نجسة العين فلا يستثنى منها شيء (2).

وضوح الشهرة، بل عدم ظهور عمل القدماء به. قال في محكي كشف الرموز في رد ما سبق حجة من ابن إدريس:" والدعوى مجوفة [محرفة] وفي الاستدلال ضعف. أما الأول فلأن الشيخين مخالفاه، والمرتضى وأتباعه غير ناطقين به، فما أعرف من بقي معه من المحصلين... ".والظاهر أن اعتماد من سبق ليس عليه، بل على القاعدة، لاستحكامها في نفوسهم. على أنه لو تم انجباره بالعمل فهو لا ينهض في قبال ما سبق من النصوص المعتبرة التي عمل بها جماعة من القدماء والمتأخرين، فلابد من طرحه، أو حمله على التقية، لموافقته لجماعة من العامة، كما ذكره الشيخ (قدس سره).

لكن قال شيخنا الأعظم (قدس سره):" والرواية وإن كانت ضعيفة السند... إلا أنها منجبرة بالقاعدة. كما أن روايات الطهارة وإن كانت صحيحة، إلا أنها مخالفة للقاعدة، وطرح الأخبار الصحيحة المخالفة لأصول المذهب غير عزيز. إلا أن تعضد بفتوى الأصحاب - كما في الأنفحة - أو بشهرة عظيمة توجب شذوذ المخالف، وما نحن فيه ليس كذلك ".وكأن ذلك لاستحكام مقتضى القاعدة في نفسه، وإلا فيظهر ضعفه بأدنى تأمل.

(1) للشبهة المتقدمة في جميع المستثنيات.

(2) قال في الجواهر:" على الأظهر الأشهر، بل المشهور شهرة كادت تكون إجماعاً. بل هي كذلك، إذ لم نجد ولم يحك فيه خلاف من أحد، إلا من المرتضى في الناصريات، فحكم بطهارة شعر الكلب والخنزير فيها، بل ظاهره ذلك في كل ما لا تحل الحياة منه، والى ما عساه يظهر من المدارك من الميل إلى طهارة ما لا تحله الحياة من خصوص الكافر، وهما غير قادحين في الإجماع المنقول، فضلاً عن المحصل".

والوجه فيه أن المنصرف من النصوص هو الاستثناء من نجاسة الموت، فل

ص: 325

ينافي نجاسة الجزء ذاتاً تبعاً لحيوانه وإن كان مما لا تحله الحياة. فهي واردة لبيان أن الموت لا ينجس الأجزاء المذكورة، لا أنه يطهرها بعد نجاستها حال حياة الحيوان.

ودعوى: أن دليل نجاسة الحيوان يقصر عما لا تحله الحياة منه. ممنوعة جداً. وقياسه بما لا تحله من الميتة في غير محله، كما يظهر مما تقدم في أول المسألة. ولاسيما مع أن جملة من نصوص الانفعال بملاقاة الكلب والخنزير كالصريحة في نجاسة الشعر، لأن الملاقاة غالباً تكون به، لا بالأجزاء التي تحلها الحياة، بل هو صريح معتبر برد الإسكاف:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إنا نعمل بشعر الخنزير، فربما نسي الرجل فصلى وفي يده شيء منه. قال: لا ينبغي أن يصلي وفي يده شيء منه. وقال: خذوه فاغسلوه فما كان له دسم فلا تعملوا به، وما لم يكن له دسم فاعملوا به، واغسلوا أيديكم منه"(1) ، ونحوه معتبره الآخر(2) وخبر سليمان الإسكاف(3).

نعم قد يستدل للطهارة بصحيح زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس"(4).

بدعوى: أن غلبة تقاطر الماء من الحبل على الدلو عند إخراجه من البئر، وغلبة ملاقاة يد المستقي للماء بعد ملاقاتها للحبل توجب ظهور الصحيح في طهارة الحبل المذكور وطهارة شعر الخنزير المتخذ منه.

وقد أجاب عن ذلك بعض مشايخنا (قدس سره) بأن السؤال فيه عن حكم الماء ظاهر في المفروغية عن نجاسة شعر الخنزير، فلابد من حمل نفي البأس على عدم انفعال الماء بملاقاة النجس، أو عدم إصابة الحبل أو الماء المتنجس به لماء الدلو.

وفيه: أن السؤال عن حكم الماء كما يكون للشك في انفعاله بعد الفراغ عن نجاسة الشعر، كذلك يكون للشك في نجاسة شعر الخنزير، بل لعل الثاني أظهر،

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 65 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 1، 3.

(4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 326

(327)

(مسألة 5): فأرة المسك طاهرة إذا انفصلت من الظبي الحي (1)،

لما فيه من المحافظة على خصوصية شعر الخنزير، بخلاف الأول، فإنه يقتضي إلغاء خصوصيته، ورجوع السؤال إلى السؤال عن حكم ملاقاة أي نجس.

ولاسيما بملاحظة موثق الحسين بن زرارة:" كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السن [اللبن. الكافي] من الميتة والبيضة من الميتة وأنفحة الميتة. فقال: كل هذا ذكي. قلت: فشعر الخنزير يجعل حبلاً يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها. فقال: لا بأس به. قال الكليني: وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن الحسن ابن رباط، والشعر والصوف كله ذكي"(1). فإنه كالصريح في طهارة شعر الخنزير فيصلح قرينة على بيان المراد من الصحيح.

نعم هما ظاهران في طهارته حتى حال الحياة. بل احتمال نجاسته حال الحياة وطهارته بالموت غريب. فيبتني الحكم فيهما إما على استثنائه من نجاسة الخنزير، أو على طهارة الخنزير. وهما معاً مخالفان للنصوص الصريحة في نجاسة الخنزير، والصريحة أو كالصريحة في نجاسة شعره، فيكونان معارضين للنصوص المذكورة، ولا ينبغي الإشكال في ترجيح تلك النصوص التي هي أكثر عدداً، وعليها عمل الأصحاب. ولاسيما مع قول بعض العامة بالطهارة.

(1) الفأرة تؤخذ تارة: من الظبي المذكى. وأخرى: من الظبي الحي. وثالثة: من الظبي الميت. ولا إشكال في طهارتها في الصورة الأولى، وهي المتيقنة من النصوص والفتاوى. وأما في الثانية فالمعروف من مذهب الأصحاب الطهارة، ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا من كشف اللثام. لعموم ما دلّ على نجاسة ما ينفصل من الحي.

وعن كاشف الغطاء الإشكال فيه بأن الفرد الشايع هو الساقط من الحي، فيكون ما دل على الطهارة من النصوص دالاً على طهارته. وكأنه يريد بذلك

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 5.

ص: 327

النصوص الكثيرة الدالة على طهارة المسك(1). لكن الاستدلال بها موقوف على ثبوت غلبة رطوبة المسك داخل الفأرة بحيث لو كانت نجسة لتنجس بها، وإلا أمكن طهارته مع نجاستها.

نعم في صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن فأرة المسك تكون مع من يصلي، وهي في جيبه أو ثيابه. فقال: لا بأس بذلك"(2). والاستدلال به وإن كان موقوفاً على عموم مانعية الميتة النجسة من الصلاة حتى لو كانت مما لا تتم به الصلاة، إلا أنه يمكن الاستدلال على ذلك بصحيح عبد الله بن جعفر:" كتبت إليه - يعني أبا محمد (عليه السلام) -: يجوز للرجل أن يصلي ومعه فأرة المسك؟ فكتب: لا بأس به إذا كان ذكياً"(3).

وحمله على طهارة نفس المسك - لو تم - لا يمنع من الاستدلال، حيث لا يحتمل اعتبار طهارة المسك المحمول مع عدم مانعية الميتة المحمولة. ومن ثم فالظاهر تمامية الاستدلال بصحيح علي بن جعفر بضميمة ما سبق من كاشف الغطاء من أن الفرد الشايع من الفأرة المنفصل من الحي.

ودعوى: أنه يلزم تقييده بما إذا كان الحيوان المأخوذ منه مذكى، لصحيح عبد الله بن جعفر المتقدم، فإن تذكير الضمير المستتر الذي هو اسم كان فيه ملزم بحمله على الحيوان الذي تؤخذ منه الفأرة، فيكون مفاده نجاسة الفأرة المأخوذة من غير المذكى وإن كان حياً.

مدفوعة: بأن إرجاع الضمير للحيوان من دون أن يكون متقدماً صريحاً ولا ضمناً بعيد جداً، بل لابد من رجوعه إلى المسك، أو إلى الفأرة نفسها، وهو الأظهر، لأنها هي المسؤول عنها والمذكورة أصالة، ويكون تذكير الضمير بتأويلها بما مع المصلي، أو لوقوع التحريف فيه، لشيوعه كثيراً في النقل، وحينئذٍ لا يدل الصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 92 من أبواب آداب الحمام حديث: 3، وراجع باب: 95، 97 منها.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 41 من أبواب لباس المصلي حديث: 1، 2.

ص: 328

أما إذا انفصلت من الميت ففيها إشكال (1)،

إلا على اعتبار طهارة الفأرة من دون تحديد لمورد ذلك، فلا ينافي طهارة المأخوذ من الحي.

بل حمل صحيح علي بن جعفر على غير المأخوذ من الحي مع كونه هو الفرد الشايع بعيد جداً، فلابد من حمل صحيح عبد الله بن جعفر على مالا ينافيه، إما بحمله على ما ذكرنا، أو على أن التقييد فيه بما إذا كان الحيوان المأخوذ منه الفأرة مذكى في مقابل ما إذا كان ميتاً، لا في مقابل ما إذا كان حياً. وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في نهوض صحيح علي بن جعفر بالاستدلال على طهارة الفأرة المأخوذة من الحي.

مضافاً إلى ما أشار إليه في الجواهر وأوضحه من تأخر عنه من قصور ما دلّ على نجاسة الجزء المبان من الحي عن فأرة المسك، لاختصاصه بما يقطع من الحي، كإليات الغنم وما تقطعه الحبالة من الصيد، ولا مجال للتعدي منه لما من شأنه أن ينفصل إذا انفصل بنفسه.

هذا وأما الصورة الثالثة - وهي المأخوذة من الميت - فسيأتي الكلام في حكمها.

(1) فقد صرح غير واحد بطهارتها حينئذٍ. قال في التذكرة: "المسك طاهر إجماعاً، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتطيب به. وكذا فأرته عندنا، سواءً أخذت من حية أو ميتة" .وقريب منه في الذكرى. وظاهرهما الإجماع عليه عندنا.

لكن في المنتهى أن الأقرب نجاستها. وكأنه لنجاستها بالموت كسائر أجزاء الحيوان، وليس الانفصال مطهراً لها. ودعوى: أنها من الأجزاء التي لا تحلها الحياة. مدفوعة بما ذكره غير واحد من أنها من سنخ الجلد الذي تحله الحياة بلا إشكال.

نعم قد يستدل على طهارتها بإطلاق صحيح علي بن جعفر المتقدم أو عمومه المستفاد من ترك الاستفصال.

ص: 329

ويندفع بأنه حيث كان الشايع - كما تقدم - هو انفصال الفأرة حال الحياة، فحمله على خصوص ذلك أقرب من رفع اليد عن عموم نجاسة أجزاء الميتة. ولا أقل من لزوم حمله على ذلك بقرينة صحيح عبد الله بن جعفر الذي هو كالصريح في وجود النجس في مورد السؤال، وحيث كان المتيقن من إطلاق صحيح علي بن جعفر هو المأخوذ من الحي - كما سبق - ولا إشكال في طهارة المأخوذ من المذكى، فالمتعين كون النجس هو المأخوذ من الميت.

ودعوى: حمل صحيح عبد الله بن جعفر على نجاسة نفس المسك، لكونه من القسم المعمول من دم الظبي، لا من القسم من المتكون من الظبي بطبعه. مدفوعة - مضافاً إلى ما سبق من تقريب رجوع الضمير في الصحيح للفأرة، لا للمسك - بأن المسك الحقيقي هو المتكون من الظبي طبعاً، وأما المعمول من دمه فليس مسكاً حقيقياً، بل هو من سنخ المسك المغشوش فلا مجال لحمل الصحيح عليه. ولاسيما مع كون السؤال فيه عن فأرة المسك، والمسك المغشوش لا يكون في فأرة.

هذا كله بناء على ما عن المشهور من كون الفأرة ملتحمة بالظبية ومتصلة بها، ثم تنفصل طبعاً إذا استكملت نموها. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "أما بناء على غير المشهور من كونها مودعة فيها - كما عن كشف الغطاء في شرح القواعد من أنها تتكون في جوف الظبي فيلقيها كالبيضة، وحكي أيضاً عن ابن فهد الطبري، بل عن بعضهم أن هذا القسم هو الشايع الغالب من المسك، وإطلاقه ينصرف إليه. انتهى - فلا إشكال في طهارتها، سواءً أخذت من الحي أم من الميت، لعدم كونها جزءاً من الحيوان، فلا تشملها أدلة نجاسة القطعة المبانة من الحي، ولا أدلة نجاسة أجزاء الميتة، والأصل فيها الطهارة. وكذا الحال لو شك في ذلك بنحو الشبهة الموضوعية".

لكن ما ذكره لو تم صغروياً لا يناسب صحيح عبد الله بن جعفر الذي تقدم أنه كالصريح في وجود النجس من المسك أو فأرته، حيث يكشف إما عن عدم تمامية الدعوى المذكورة، أو عن نجاسة المسك أو الفأرة حتى بناء على تماميتها، فيخرج به

ص: 330

ومع الشك في ذلك يبني على الطهارة (1). وأما المسك فطاهر على كل حال (2). إلا أن يعلم برطوبته المسرية حال موت الظبي، ففيه

عن مقتضى الأصل الذي نقحه. وإن كان الأول أظهر، إذ لو كانت الفأرة من سنخ البيضة فنجاستها إذا كانت مأخوذة من الميت بعيدة جداً. إلا أن تكون من سنخ البيضة إذا اكتست الجلد الرقيق.

وكذا الحال فيما يظهر من بعض المعاصرين من أن الفأرة عبارة كيس مباين للجلد، وأنه غشاء رقيق جاف محيط به الجلد. حيث قد يتوهم عدم كون الغشاء المذكور مما تحله الحياة وإن كان متصلاً بالحيوان متعلقاً بجلده نظير القرن، فيكون من مستثنيات الميتة. فإن ذلك لا يناسب صحيح عبد الله بن جعفر أيضاً، لعين ما تقدم. ومن هنا كان الظاهر تمامية ما سبق عن المنتهى من نجاسة المأخوذمن الميت.

(1) لأصالة الطهارة، بل استصحابها، لليقين بطهارة الفأرة قبل موت الحيوان. ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم التذكية، لعدم توقف طهارة الفأرة على تذكية الحيوان بناء على ما سبق من طهارة الفأرة المأخوذة من الحي. ومنه يظهر عدم توقف البناء على طهارة الفأرة على أخذها من المسلم خلافاً لما قد يظهر من العروة الوثقى.

نعم لو علم بفصلها عن الحيوان بعد موته وشك في تذكيته اتجه - بناء على نجاسة المأخوذ من الميت - البناء على نجاستها ما لم تؤخذ من المسلم، كما نبّه له بعض مشايخنا (قدس سره).

(2) كما هو المعروف من مذهب الأصحاب، وتقدم من التذكرة والذكرى دعوى الإجماع عليه، كما حكي عن ظاهر غير واحد. والعمدة في ذلك: أن المسك الموجود في الفأرة عنصر خاص مستحيل من الدم، أو تفرزه آلة الإفراز منه كما تفرز سائر الفضلات، وهو مباين للدم عرفاً ولسائر أجزاء الحيوان، فيتعين طهارته ذاتاً،

ص: 331

(332)

إشكال(1).

(مسألة 6): ميتة ما لا نفس له سائلة طاهرة (2) كالوزغ، والعقرب،

ولو للأصل، ونجاسة الفأرة بالموت لا تقتضي نجاسة ما فيها.

وأما الاستدلال على الطهارة بالنصوص الكثيرة المشار إليها آنفاً الدالة على طهارة المسك. فيشكل بأنه لا إطلاق لها لينفع في إثبات عموم طهارة المسك لما إذا أخذت فأرته من ميت، لورودها في قضية خاصة، مثل صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله ممسكة إذا هو توضأ أخذها بيده وهي رطبة، فكان إذا خرج عرفوا أنه رسول الله صلى الله عليه وآله برائحته"(1) ، أو لبيان أحكام أخر غير النجاسة مثل وضعه في الدهن والطعام(2).

هذا كله في المسك الموجود في الفأرة الذي تقدم أنه المسك الحقيقي، وأما بقية أنواع المسك المذكورة في كلمات المتأخرين فالظاهر عدم كونها مسكاً حقيقياً، بل هي قسم من دم الظبي الذي يحمل رائحة المسك أو شيء معمول منه، فيلحقه حكم الدم المذكور، وهو خارج عن موضوع النصوص وعن موضوع كلمات الأصحاب، لأن كلامهم في مسك الفأرة.

(1) يبتني على ما تقدم منه (قدس سره) من الإشكال في نجاسة الفأرة المأخوذة من الميت. وحيث تقدم أن الأقرب نجاستها يكون الأقرب نجاسته بملاقاتها. لكن النجس حينئذ خصوص الملاقي للجلد منه، دون بقية ما في الفأرة.

(2) كما هو المشهور شهرة كادت تكون إجماعاً. كذا في الجواهر بل ادعى عليه الإجماع صريحاً في الخلاف والغنية. وفي السرائر أنه مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وعن الذخيرة:" قد تكرر في كلام الأصحاب نقل الإجماع على طهارته ".ويدل عليه موثق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 58 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 1 باب: 95 من أبواب آداب الحمام.

ص: 332

حفص عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام):" قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة"(1). ونحوه أو عينه مرفوع محمد بن يحيى عن أبي عبد الله(2) (عليه السلام).

والإشكال في دلالته بعدم التصريح فيه بالميتة. مدفوع بأن ذلك هو المفهوم منه بقرينة الحصر بما ليس له نفس سائلة، لأن الحصر المذكور إنما يتم في الميتة، أما في غيرها فأكثر الحيوانات التي لها نفس سائلة طاهرة لا تفسد الماء، والذي يفسده منها قليل جداً، وهو الكلب والخنزير وما وقع الكلام في إلحاقه بهما.

نعم هو مختص بالماء، فلو فرض احتمال نجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة من دون أن ينجس الماء لم ينهض الموثوق بدفعه. لكن لا يظن بأحد احتمال ذلك، ولاسيما وأن أكثر أدلة نجاسة الميتة واردة في انفعال الماء بها، فينهض الموثق بتقييده، ولا يتضح إطلاق لباقيها يشمل ما ليس له نفس سائلة، ليحتاج للدليل المخرج عنه، بل مقتضى الأصل حينئذٍ الطهارة فيه. فلاحظ.

هذا وقد يستدل أيضاً بموثق عمار عنه (عليه السلام): "سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه. قال: كل ما ليس له دم فلا بأس"(3). بدعوى: عدم الفصل بين ما لا دم له، كالوزغ، وما له دم من دون أن تكون له نفس سائلة، كالسمك.

ويشكل بأن مجرد عدم الفصل - لو تم - لا ينهض بتتميم الاستدلال بالنصوص المذكورة ما لم يرجع للإجماع التعبدي على عدم الفصل، وهو غير ظاهر بعد قرب استناده لموثق حفص ونحوه مما يستفاد منه عموم طهارة ميتة غير ذي النفس ولو كان هو النصوص الواردة في بعض الميتات الخاصة والسيرة على طهارة كثير من الأمور بعد إلغاء خصوصية مواردها وفهم العموم من مجموعها.

نعم قد يحمل الموثق على كل ما ليس له نفس سائلة بقرينة ذكر الذباب فيه،

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 2، 5، 1.

ص: 333

لأن الذباب قد يكون له دم ولو في بعض حالاته، كما تشهد به التجربة. لكنه لا يخلو عن إشكال.

وأشكل منه الاستدلال بموثق أبي بصير:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما يقع في الآبار. فقال: أما الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء، إلا أن يتغير الماء فينزح حتى يطيب فإن سقط فيها كلب فقدرت أن تنزح ماءها فافعل. وكل شيء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس"(1). وقريب مما تضمنه ذيله صحيح ابن مسكان أو مرسله(2). بل لعله عينه.

وجه الإشكال - مضافاً إلى ما سبق -: أنه بعد أن كان التحقيق اعتصام البئر وعدم انفعالها بالنجاسة فعدم وجوب النزح بوقوع ما لا دم له لا يدل على طهارته بل قد يكون لاعتصامها مع نجاسته، غاية الأمر أن النجاسة على قسمين: قسم يستحب له النزح، وقسم لا يستحب.

هذا وقد يدعى أن مقتضى مفهوم موثق عمار نجاسة كل ما له دم، والنسبة بينه وبين موثق حفص العموم من وجه، فيرجع في مورد الاجتماع - وهو ما له دم وليس له نفس سائلة كالسمك - إلى عموم نجاسة الميتة.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك أيضاً، إذ لا مفهوم لهذه النصوص، لعدم كون القضية فيها شرطية، بل حملية، واشتمال الخبر فيها على الفاء إنما يدل على التفريع الذي يكفي فيه العلية ولو مع عدم الانحصار، لا على الإناطة والانحصار التي هي المعيار في المفهوم. ولو فرض إشعارها أو دلالتها على المفهوم فلا ريب في كون ظهور الاستثناء الذي تضمنه الموثق في الحصر أقوى منه، فيقدم عليه، ولا تصل النوبة للتساقط والرجوع لعموم نجاسة الميتة.

ولاسيما مع ظهور مفروغية الأصحاب عن طهارة مثل السمك من حيوانات

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 17 من أبواب الماء المطلق حديث: 11.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 334

الماء التي لها دم من دون أن تكون لها نفس سائلة، حيث يبعد جداً خطؤهم في ذلك مع شيوع الابتلاء به، فإن ذلك يصلح شاهداً على تقديم ظهور موثق حفص في الحصر على مفهوم موثق أبي بصير لو تم.

وبالجملة: الظاهر انحصار الدليل على العموم المذكور بموثق حفص وتمامية الاستدلال به عليه، معتضداً بالإجماع المدعى من جماعة من الأصحاب، إذ يبعد جداً خطؤهم في مثل هذه المسألة الشايعة الابتلاء، حيث يكثر الابتلاء بميتة ما لا نفس له من الحشرات والأسماك وغيرها، فلو كان الحكم فيها النجاسة لظهر وبان، ولم يخف على جمهور الأصحاب.

نعم في صلوح الإجماع المذكور لإثبات العموم إشكال، لإمكان نجاسة بعض الأفراد مما لا يكثر الابتلاء به أو لا يتضح التسالم على طهارته. ففي النهاية: "وكل ما يقع في الماء فمات فيه مما ليس له نفس سائلة فلا بأس باستعمال الماء، إلا الوزغ والعقرب خاصة، فإنه يجب إهراق ما وقع فيه وغسل الإناء حسب ما قدمناه" .ثم حكم في مسألة تطهير الآبار بوجوب نزح ثلاث دلاء لموت الحية أو الوزغة أو العقرب. ونحوه في المبسوط، ومثله ما في المقنعة والوسيلة من الحكم بذلك لوقوع الوزغة، وما في المراسم والوسيلة وعن المهذب من أن الماء لا ينجس بموت ما لا نفس له إلا العقارب والوزغة، وما في المراسم من تطهير البئر ينزح دلو واحد لموت الوزغة.

لكن قد يبتني ذلك كله أو بعضه على نجاسة الأمور المذكورة حال الحياة، كما يناسبه ما في المقنعة والنهاية من غسل الثوب بمس الوزغة برطوبة، وما في الوسيلة من وجوب غسل ما مس الوزغ برطوبة، ورش ما مسه جافاً، وقريب منه في المراسم. وحينئذٍ يخرج عما نحن فيه من نجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة. إذا المراد به نجاسته بالموت، لا بالذات حتى حال الحياة.

وكيف كان فقد يستدل لهم بموثق سماعة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن

ص: 335

جرة وجد فيها خنفساء قد مات؟ قال: ألقه وتوضأ منه. وإن كان عقرباً فارق الماء وتوضأ من ماء غيره "(1) وقريب منه موثق أبي بصير من دون فرض الموت(2). ومعتبر هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حياً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ به [منه]؟ قال: يسكب منه ثلاث مرات - وقليله وكثيره بمنزلة واحدة - ثم يشرب منه [ويتوضأ منه] غير الوزغ، فإنه لا ينتفع بما يقع فيه"(3).

لكن المراد بذلك إن كان هو نجاسة العقرب والوزغ حتى حال الحياة، كما هو مقتضى إطلاق موثق أبي بصير في العقرب ومقتضى معتبر هارون في الوزغ. فيدفعه في العقرب معتبر هارون، وفي الوزغ صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن العظاية والحية والوزغ يقع في الماء فلا يموت أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به"(4).

وإن كان نجاستهما بالموت مع طهارتهما حال الحياة فلا دليل على ذلك في الوزغ. نعم يشهد به في العقرب موثق سماعة. ولا معارض له إلا خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن العقرب والخنفساء وأشباههن تموت في الجرة أو الدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به"(5).

وهو لا يخلو عن ضعف في السند، حيث رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن العلوي عن جده علي بن جعفر، وعبد الله المذكور لم ينص أحد على توثيقه. وإن كان من البعيد جداً رواية الحميري عنه كثيراً من دون أن يكون ثقة عنده. ولاسيما مع تأيد الخبر المذكور بموثق أبي بصير المتقدم المتضمن عدم إفساد العقرب للبئر إذا وقعت حيث يصعب جداً حمله على خصوص صورة عدم موتها فيه. ومن القريب ابتناؤه على عدم نجاسة ما لا يجب النزح له، وإن لم يبلغ مرتبة الاستدلال،

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الأسئار حديث: 6، 5.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الأسئار حديث: 4، 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 10 من أبواب الأسئار حديث: 5.

ص: 336

والسمك. ومنه الخفاش، على ما قضى به الاختبار (1).

لما سبق.

على أن من القريب هجر الأصحاب لموثق سماعة، لتصريح عامتهم بطهارة ميتة ما لا نفس له سائلة من دون استثناء، وقرب ابتناء فتوى من سبق على التنزه، أو البناء على النجاسة حال الحياة، كما يناسبه ما تقدم منهم في الوزغ وغيره. فالخروج به عن عموم انفعال الماء بموت غير ذي النفس وموت غير ذي الدم في غاية الإشكال. بل لعل الأقرب حمله على كراهة الوضوء. فتأمل جيداً.

هذا وأما الحكم في النصوص وكلمات جماعة من الأصحاب بنزح البئر لموت بعض هذه الأمور فيها، فلا مجال لاستفادة الحكم بالنجاسة منها بعد البناء منا على عدم وجوب النزح للنجاسات وورود الأمر بالنزح لغير النجاسات، كما سبق غير مرة.

(1) تقدم في ذيل الكلام في فضلة ما لا نفس له سائلة أن المراد بذي النفس السائلة أن له عرق يخرج منه الدم شخباً، وهو أمر حسي يمكن الإطلاع عليه بالاختبار لعامة الناس. ومن ثم اكتفى (قدس سره) باختباره في ذلك.

وأما ما قد يدعى من أن الخفاش علمياً من ذي النفس. فالظاهر ابتناؤه على اشتماله على دورة دموية يجري فيها الدم بدفع من القلب الذي هو أمر لا يدركه إلا علماء التشريح، وهو غير كاف في إثبات حكم ذي النفس، لأنه يرجع إلى أن للخفاش عروقاً يجري فيها الدم، وليس هو موضوعاً للأحكام، بل لابد من كون خروج الدم بنحو الشخب والدفع، وهو أمر عرفي، فإذا لم يكن كذلك بالتجربة خرج عن موضوع الأحكام.

اللهم إلا أن يكون وجود الدورة الدموية بالنحو المذكور مستلزماً لشخب الدم مع كبر الخفاش، وأن عدم الشخب في مورد التجربة لصغر الخفاش. وحينئذٍ

ص: 337

(338)

وكذا ميتة ما يشك في أنه له نفس سائلة أم لا (1).

(مسألة 7): المراد من الميتة ما مات بدون تذكية على الوجه الشرعي (2).

يتعين جريان الأحكام في جميع الأفراد، لأن المستفاد عرفاً من أدلتها اعتبار واجدية الحيوان بطبيعته للنفس السائلة، في ثبوتها لتمام أفراده، لا اعتبار واجدية الفرد لها فعلاً في ثبوتها له. وذلك - لو تم - يرجع لنقص الاختبار وعدم استيعابه.

(1) لأصل الطهارة. بل لأصالة عدم كون الحيوان مما له نفس سائلة الحاكمة على الأصل المذكور. نعم ذلك مبني على جريان الاستصحاب في العدم الأزلي، لما ذكرناه آنفاً من أن المراد من ذي النفس، هو الطبيعة الواجدة لها، لا واجدية الفرد لها فعلاً، ليمكن اليقين بعدمه في بدء تكوينه.

(2) الميتة تارة: تستعمل فيما يقابل الحي. وأخرى: في خصوص ما مات حتف أنفه، كما في قوله تعالى: "حرّمت عليكم الميتة والدم... والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"(1). وثالثة: فيما مات بدون تذكية.

وموضوع الأحكام الشرعية - من حرمة الأكل، والمانعية من الصلاة، والنجاسة، وغيرها مما وقع الخلاف فيه - ما يطابق المعنى الثالث خارجاً من دون إشكال بينهم.

وإنما وقع الكلام في ترتب الأحكام المذكورة مع عدم إحراز تذكية الحيوان، أو عدم ترتبها إلا مع إحراز موت الحيوان بوجه غير شرعي. وهو يبتني على الكلام في تحديد موضوع الأحكام المذكورة مفهوماً، وهل هو متقوم بأمر عدمي ينهض الأصل بإحرازه لترتب أحكامه أو لا، بل هو أمر وجودي مقتضى الأصل عدمه فلا تترتب أحكامه؟

لعل المشهور الأول، لدعوى أن استصحاب عدم التذكية يحرز الموت بالمعنى

********

(1) سورة المائدة الآية: 3.

ص: 338

المذكور فتترتب أحكامه. وعلى ذلك جرى بعض مشايخنا (قدس سره) في حرمة الأكل والمانعية من الصلاة.

لدعوى ظهور أدلتهما في توقفهما على التذكية، كما هو مقتضى قوله تعالى في الآية السابقة:" إلا ما ذكيتم "،وقوله (عليه السلام) في موثقة ابن بكير المتضمنة جواز الصلاة في أجزاء ما يؤكل لحمه:" إذا علمت إنه ذكي وقد ذكاه الذبح"(1) ، وقوله (عليه السلام) في موثقة سماعة: "إذا رميت وسميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا" (2) وغيرهما. لدلالة الآية الشريفة على توقف جواز الأكل على التذكية، ودلالة النصوص المذكورة على توقف جواز الصلاة عليها. فاستصحاب عدمها يحرز حرمتها.

أما في النجاسة وحرمة الانتفاع - بناء على القول بها - فلم يكتف بالشك التذكية، ولا باستصحاب عدمها، لعدم الدليل على أخذ التذكية شرطاً في الطهارة وحلية الانتفاع. بل ليس المأخوذ في موضوع الحكمين المذكورين إلا عنوان الميتة، ومن الظاهر أنه ليس المراد بالميتة هنا مطلق ما فارق الحياة، ولا خصوص ما مات حتف أنفه بل هو عبارة عما مات بسبب غير شرعي، كما هو المفهوم منه في عرف المتشرعة، ويشهد به تصريح بعض أهل اللغة، والميتة بالمعنى المذكور أمر وجودي ملازم لعدم التذكية، لا متقوم به، ولا ينهض استصحاب عدم التذكية بإحرازه.

ولو فرض الشك في أن موضوعه هو الموت بالمعنى المذكور أو عدم التذكية كفى ذلك في المنع من التمسك باستصحاب عدم التذكية لإحراز الحكمين المذكورين.

هذا ويشكل ما ذكره بأنه لا مجال لأخذ الوجه الشرعي للموت في مفهوم الميتة، لأنه إن كان المراد بالوجه الشرعي ما يحل إحداث الموت به ويحرم إحداثه بغيره تكليفاً، فمن الظاهر أنه لا ينحصر السبب الذي يحل إحداث الموت به للحيوان بالوجه الذي يتحقق به التذكية، بل يجوز إحداثه بالوجه الذي يترتب عليه حكم الميتة، كالجرح في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 339

غير المذبح.

وإن كان المراد بالوجه الشرعي هو الوجه الذي تترتب معه الأحكام الشرعية الملازمة للتذكية - كالأكل واللبس والبيع والطهارة - كان عنوان الميتة من العناوين المنتزعة من الأحكام المذكورة المتأخرة عنها رتبة، وامتنع أخذها في موضوعها، مع وضوح أخذها في الأحكام المذكورة. وهو مستلزم لكون عنوان الميتة المأخوذ في موضوع تلك الأحكام ذا مفهوم متقرر في أذهان العرف المتشرعي مع قطع النظر عن الأحكام المذكورة، ولا يناسب المعنى الذي ذكره.

فالظاهر أن المأخوذ في الميتة التي هي موضوع الأحكام هو عدم التذكية. غايته أن أخذه يكون بأحد وجوه:

الأول: أن يكون موضوع الأحكام هو الميتة من الموت بالمعنى المقابل للحياة، فتكون شاملة للمذكى، غاية الأمر أنها مقيدة بعدم التذكية، فيكون عدم التذكية قيداً في موضوع تلك الأحكام زائداً على عنوان الميتة من دون تصرف في مفهوم الميتة.

الثاني: أن يكون موضوع تلك الأحكام هو الميتة بعد التصرف في معناها وإرادة ما يطابق غير المذكى منها، بأن تكون من العناوين المركبة، وتتقوم بأمر عدمي زائد على الموت، وهو عدم التذكية، بأن يكون العدم المذكور قيداً في مفهومها، لا في أحكامها مع عموم مفهومها. فالميتة عبارة عما مات ولم يذك، فيكون التقابل بينها وبين المذكى كالتقابل بين العدم والملكة.

الثالث: كالثاني، إلا أن الميتة متقومة بأمر وجودي زائد على الموت ملازم لعدم التذكية، بأن تكون عبارة عما مات بسبب لا يوجب التذكية، فيكون كل من الميتة والمذكى عنوانين وجوديين متضادين.

وعلى الأولين تنهض أصالة عدم التذكية بإحراز موضوع الأحكام المذكورة، ولا تنهض بذلك على الثالث.

ص: 340

إذا عرفت هذا فنقول: لا ريب في أن الميتة لغة مأخوذة من الموت المقابل للحياة فتصدق بدواً على المذكى وغيره، كما أنها تستعمل عرفاً في خصوص ما مات حتف أنفه، وحيث لا ريب عندهم في قصور أحكامها عن المذكى، وشمولها لكل ما لم يذك، فالظاهر ابتناء ذلك على ما ارتكز عندهم - ويستفاد من الأدلة - من أن الأحكام المذكورة إنما ثبتت للميتة بلحاظ خبث الموت وقذره، وذلك يقتضي اختصاصها بصورة عدم التذكية الرافعة للقذر والخبث المذكورين، وهو مناسب لكون التذكية من سنخ المانع من الأحكام المذكورة، ولازمه أخذ عدمها فيها، إما لكونه قيداً في الميتة التي هي موضوع الأحكام المذكورة - كما هو مقتضى الوجه الأول - أو لكونه مأخوذاً في مفهوم الميتة بالمعنى الذي صارت به موضوعاً لهذه الأحكام - كما هو مقتضى الوجه الثاني - ولا يناسب الوجه الثالث.

ويشهد بنفي الثالث - مضافاً إلى ذلك - بل بخصوص الثاني: أن أدلة أكثر الأحكام المذكورة قد اشتملت على كل من الأمرين، فكثير من النصوص قد اشتمل على حرمة أكل الميتة والصلاة فيها والانتفاع بها، كما اشتملت الآية الشريفة وكثير من النصوص على اعتبار التذكية في جواز الأكل والصلاة والانتفاع.

وظاهر كلتا الطائفتين دخل العنوان المذكور فيها في ترتب الحكم، وذلك لا يكون إلا بما ذكرنا من كون المراد بالميتة ما يساوق غير المذكى، ليتحد مفاد كلتا الطائفتين، خصوصاً ما ورد فيه العنوانان في كلام واحد مثل موثق سماعة: "سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال: إذا سميت ورميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا"(1).

أما لو حملت الميتة على معنى آخر ملازم لعدم التذكية، فيلزم كون أخذ الميتة في موضوع هذه الأحكام عرضياً لملازمته للموضوع، لا حقيقياً لدخله بنفسه فيه، وهو خلاف الظاهر جداً. فلاحظ مثل صحيح الحلبي:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 49 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 341

الخفاف التي تباع في السوق. فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه"(1) ، وموثق سماعة: "أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن تقليد السيف في الصلاة وفيه الفراء والكيمخت فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة"(2).

على أنه لو فرض إمكان التصرف في الظهور المذكور فكما يمكن البناء على أن الدخيل هو المذكى وتنزيل أخذ الميتة في الأدلة الأخر على كونه عرضياً بلحاظ ملازمتها لعدم التذكية، كذلك يمكن العكس بالبناء على كون الدخيل هو عنوان الميتة، بما هو أمر وجودي وتنزيل أدلة أخذ عدم التذكية في ظاهر الأدلة الآخر على كونه عرضياً بلحاظ ملازمته لعنوان الميتة المذكور، ولا مرجح للأول، والمتعين مع الشك عدم نهوض أصالة عدم التذكية بإحراز الأحكام المذكورة، نظير ما تقدم منه.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد الجمع بين الطائفتين المذكورتين من النصوص في أن المراد بالميتة في الطائفة الأولى ما يساوق ما لم يذك، وأن ذلك هو المعنى المتشرعي أو المنصرف إليه الإطلاق منها، فيتعين حمل نصوص النجاسة عليه، إذ لا يحتمل تعدد معناها مفهوماً مع التطابق الخارجي المصداقي بين موضوع الأحكام جميعاً.

ويؤيد ما ذكرنا أمور:

الأول: ما في كلام غير واحد من اللغويين، ففي الصحاح والقاموس:" الميتة ما لم تلحقه الذكاة "،وفي لسان العرب:" والميتة ما لم تدرك ذكاته "وفي مفردات الراغب:" والميتة من الحيوان ما زال روحه بغير تذكية "،وفي مجمع البيان:" حرمت عليكم الميتة... أي حرم عليكم أكل الميتة والانتفاع بها، وهو كل ما له نفس سائلة... فارقه روحه من غير تذكية. وقيل: الميتة كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية... "وقريب منه ما في تفسير الطبري. فإن هذه الكلمات صريحة في أخذ عدم التذكية في الميتة التي هي موضوع الكلام.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 12.

ص: 342

نعم نسب في تقرير درس بعض مشايخنا (قدس سره) التصريح بالمعنى الذي ذكره - وهو ما مات بوجه غير شرعي - لمجمع البحرين تارة، وللمصباح أخرى. لكن لم أعثر في مجمع البحرين على تعرض لشرح مفهوم الميتة. كما أن ما في المصباح لا ينهض به، لأنه قال: "والميتة من الحيوان ما مات حتف أنفه... والمراد بالميتة في عرف الشرع ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة".

وهو ظاهر في بيان مصاديقها، وأنها أعم من المعنى اللغوي الذي ذكره، لا في شرح مفهومها لينافي ما ذكرنا. ولاسيما بلحاظ ما سبق من امتناع أخذ عدم المشروعية في موضوع أحكام الميتة، فلا يصح أخذه إلا لتحديد المصاديق لا غير.

وهذا بخلاف من سبق فإن كلامهم مسوق لشرح المفهوم، وهو وإن لم يبلغ مرتبة الحجية، لابتناء كلام اللغويين على التسامح في التعاريف واختلاط ضوابط المصاديق بالحدود المفهومية، إلا أنه يصلح للتأييد وتقريب مفاد الأدلة الشرعية، وتحديد المفهوم المتشرعي التابع لها.

الثاني: أنه قد وردت نصوص كثيرة في الصيد والذباحة(1) قد تضمنت لزوم العلم باستناد الموت للسبب المذكي ومعللاً في بعضها بأنه لا يدري باستناده للسبب المذكي(2). والظاهر المفروغية عند الأصحاب - تبعاً لسيرة المتشرعة الارتكازية - على ترتيب جميع أحكام الميتة ومنها النجاسة، لا خصوص حرمة الأكل والمانعية من الصلاة، وإلا لجاز أخذ الجلد والانتفاع به فيما يعتبر فيه الطهارة، ولو كان بناؤهم على ذلك لظهر وبان لأهمية الجلد حينئذٍ. ومن ثم لا ينبغي الشك في عدم بنائهم على ذلك، مع أن الأصل لا يحرز استناد الموت للسبب الذي لا يوجب التذكية، وهو شاهد بالمفروغية عن كون المراد بالميتة في جميع تلك الأحكام ما لم يذك، فينهض الأصل بإحرازها وإحراز الأحكام بتبعها.

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5، 14، 18، 19، 20، 22 من أبواب الصيد، وباب: 13 من أبواب الذبح.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 5 من أبواب الصيد حديث: 1، وباب: 13 من أبواب الذبح حديث: 2.

ص: 343

(344)

(مسألة 8): ما يؤخذ من يد المسلم من اللحم والشحم والجلد إذا شك في تذكية حيوانه فهو محكوم بالطهارة ظاهراً (1)،

الثالث: أن حرمة البيع في ظاهر الأدلة من أحكام الميتة، فلو لم يكن عدم التذكية مأخوذاً في المراد منها لم تنهض أصالة عدم التذكية بإثبات حرمة البيع، بل مقتضى أصالة عدم كون الحيوان ميتة جواز البيع ونفوذه، مع أنه لا يظن بأحد جواز البيع إذا لم تحرز ذكاته بيد المسلم ونحوها.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في أن ما هو الموضوع لجميع الأحكام هو الميتة بالمعنى المساوق لما لم يذك. ولعل إرادة ذلك مبني في أول الأمر على انصراف إطلاق الميتة لذلك بسبب القرينة المشار إليها آنفاً من أن ثبوت هذه الأحكام بلحاظ قذر الموت وخبثه المستلزم لقصورها عن المذكى ومانعية التذكية من ثبوتها، ثم صار هذا سبباً لتبدل معنى الميتة في عرف المتشرعة، وكون المراد منها عندهم ما لم يذك، بنحو صار هو المفهوم من إطلاقها في جملة من أدلة الأحكام المذكورة، فصارت الميتة مقابلة للمذكى، لا أعم منه، بحيث يكون قصورها عنه من باب التخصيص والاستثناء. نعم يتجه الاستثناء إذا لم يكن المستثنى منه عنوان الميتة، بل سبب الموت، كما في الآية الكريمة. فلاحظ.

بقي شيء: وهو أنه سبق من بعض مشايخنا (قدس سره) أن موضوع حرمة الانتفاع - لو قيل بها - من أحكام الميتة، لا من أحكام غير المذكى، لعدم ورود ما يشهد باعتبار التذكية في حلّ الانتفاع. لكن موثق سماعة المتقدم شاهد بذلك، وقد استدل هو (قدس سره) به للقول بحرمة الانتفاع. والأمر سهل بعد ما سبق.

(1) أشرنا سابقاً إلى أن مقتضى الأصل الأولي مع الشك في تذكية الحيوان هو البناء على النجاسة وسائر أحكام الموت، لاستصحاب عدم التذكية الذي سبق أنه يحرز كون الحيوان ميتة بالمعنى الذي هو موضوع الأحكام.

ص: 344

وقد استشكل في ذلك صاحب المدارك تارة: بعدم حجية الاستصحاب. وأخرى: بإنه لو سلم العمل به فهو إنما يقيد الظن والنجاسة لا يحكم بها إلا مع اليقين أو الظن الذي يثبت اعتباره شرعاً.

ويندفع الأول بتمامية الدليل على اعتبار الاستصحاب على ما حقق في محله. والثاني بأن النجاسة كغيرها من الأحكام والموضوعات الخارجية يكفي في إحرازها الأصل. وما تضمن توقف البناء عليها على العلم لا يراد به توقفه على العلم بما هو صفة خاصة، بل بما هو طريق يحرز معه الواقع، فيقوم مقامه الطرق الظنية المعتبرة، والأصول الإحرازية والتعبدية، كما حقق في محله من الأصول.

بل لا إشكال في جريان استصحاب النجاسة، لقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة فيمن علم إصابة النجاسة لثوبه ولم يعلم موضعها: "تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك"(1).

وأشكل من ذلك ما في الحدائق من الإشكال في استصحاب عدم التذكية بأنه خلاف القاعدة المتفق عليها نصاً وفتوى من أن كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال، وكل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر. وقد ذكروا أنه يجب رفع اليد عن الأصل بالدليل، فترجيحهم العمل بالأصل المذكور على هذه القاعدة المنصوصة خروج عن القواعد.

إذ فيه: أن القاعدتين المذكورتين عبارة عن أصالتي الطهارة والحلّ المحكومتين للاستصحاب، وليستا من الأدلة، ليكونا مقدمتين عليه.

ومن ثم لا ينبغي التأمل في جريان استصحاب عدم التذكية ذاتاً مع الشك فيها، فتجري أحكام غير المذكى من حرمة الأكل والبيع والصلاة في الشيء ونجاسته بناء على ما تقدم. وإنما الكلام في المخرج عن ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 7 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 345

والمصرح به في كلام غير واحد أمارية يد المسلم على التذكية، قال سيدنا المصنف (قدس سره):" والظاهر أن هذا هو المشهور "،وفي الجواهر:" للسيرة المستقيمة ومحكي الإجماع".

والذي ينبغي أن يقال: النصوص في المقام على طوائف ثلاث:

الأولى: ما تضمن جواز ترتيب آثار التذكية مطلقاً حتى يعلم بعدمها، كموثق سماعة المتقدم في المسألة السابقة، ومعتبر علي بن أبي حمزة:" إن رجلاً سأل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن الرجل يتقلد السيف ويصلي فيه. قال: نعم. فقال الرجل: إن فيه الكيمخت. قال: وما الكيمخت؟ قال: جلود دواب منه ما يكون ذكياً ومنه ما يكون ميتة، فقال: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه"(1) ، وصحيح جعفر بن محمد بن يونس: "أن أباه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا أعلم أنه ذكي. فكتب: لا بأس به"(2).

الثانية: ما تضمن المنع من ترتيب الأثر مطلقاً حتى يعلم بالتذكية، كقوله (عليه السلام) في موثق ابن بكير:" فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه الذبح"(3).

الثالثة: ما تضمن جواز ترتيب الأثر في موارد خاصة، كالسوق، وأرض الإسلام، ونحوهما مما يأتي الكلام فيه.

ومقتضى الجمع العرفي جعل هذه الطائفة شاهد جمع بين الطائفتين الأوليين، فتنزل الأولى على موارد هذه الطائفة، وتخصص الطائفة الثانية بها. بل حيث كان مفاد هذه الطائفة ترتيب أثر التذكية في مورد الأمارة عليها يكفي في الجمع بينها وبين الطائفة الثانية حمل أخذ العلم بالتذكية في الطائفة الثانية على أنه مأخوذ بما هو طريق

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 55 من أبواب لباس المصلي حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 2 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

ص: 346

(347)

يقوم مقامه سائر الطرق ومنه ما تضمنته الطائفة الثالثة، فلا تكون منافية لها، بل منقحة لموضوعها. ومن ثم يكون العمل على الطائفة الثالثة فاللازم تحديد مفادها.

وقد اشتملت على عنوانين:

الأول: السوق، حيث قد تضمن جملة منها جواز ترتيب أثر التذكية على ما يؤخذ من السوق، كصحيح الحلبي: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق. فقال: اشتر وصل فيها حتى تعلم إنه ميتة بعينه" (1) وصحيح البزنطي: "سألته عن الرجل يأتي السوق، فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية، أيصلي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك"(2) ، وغيرهما.

ومقتضى إطلاقها العموم لسوق غير المسلمين، ودعوى: انصرافه لسوق المسلمين، لغلبته. ممنوعة، لأن الغلبة لا تصلح لتقيد الإطلاق، والانصراف لموردها بدوي لا يعتد به. ومثلها دعوى: أن خصوصية السوق إنما هي بلحاظ أماريته على التذكية، وهي إنما تتم في سوق المسلمين، دون غيره.

لاندفاعها بعدم وضوح ابتناء الحكم على الأمارية المذكورة، بل لعله مبتن على التسهيل ورفع الحرج، منعاً لاضطراب نظام الناس. كما هو المناسب لما يأتي من العموم لسوق المخالفين، مع معروفية القول بطهارة جلد الميتة بالدبغ، وحلية ذبائح أهل الكتاب عندهم، ومع اختلافهم معنا في بعض شروط التذكية.

ولاسيما وأن أخذ السوق لم يكن للتقييد به في كلام الإمام، ليكون ظاهراً في الخصوصية كي يدعى أن المنصرف منه ملاحظة الأمارية، بل هو مأخوذ في كلام السائل غير الظاهر في التقييد، وإنما بني على التقييد لكونه شاهد جمع بين الطائفتين الأوليين. فلاحظ.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 2، 3.

ص: 347

وأشكل من ذلك ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن أدلة اعتبار السوق ليست واردة بنحو القضية الحقيقية، بل بنحو القضية الخارجية، وهي مختصة بأسواق المسلمين، ولا إطلاق للقضية الخارجية، كي يتمسك به لتعميم الحكم لسوق غير المسلمين.

لاندفاعه أولاً: بعدم الوجه في حملها على القضية الخارجية، كيف ولا إشكال في شمولها للأسواق المتجددة بعد ورود الأسئلة المذكورة. ومجرد العلم بعدم دخل خصوصية السوق، بحيث لا يعم الحكم مثل الشوارع والطرق - لو تم - لا يصلح قرينة على حمل القضية على الخارجية، بل غاية ما يقتضي ذلك إلغاء خصوصية السوق والعموم لجميع المواضع المعدة للبيع. على أنه في غاية الإشكال لإمكان خصوصية السوق الذي هو عبارة عن الموضع المعد لتجمع البائعين، دون مواضع البيع المفردة.

وثانياً: بأن الظاهر عدم اختصاص الأسواق الموجودة في عصر الروايات التي هي محل الابتلاء بأسواق المسلمين، لكثرة وجود أهل الذمة في تلك البلاد المناسب لاختصاصهم بأسواق لهم، واشتراكهم مع المسلمين في بعض الأسواق، بحيث لا يصدق عليه أنه سوق المسلمين. مضافاً إلى قرب ابتلاء المسلمين بالدخول لبلاد الكفر المجاورة والشراء من أسواقهم. ولعله لذا حكي عن بعضهم إطلاق اعتبار السوق.

لكن لابد من رفع اليد عن الإطلاق المذكور بصحيح فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم:" أنهم سألوا أباب جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق، ولا يدري ما صنع القصابون. فقال: كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه"(1).

مضافاً إلى قرب قيام الإجماع على عدم اعتبار سوق غير المسلمين، والمفروغية عن ذلك، وأن القول المشار إليه - لو صحت النسبة - شاذ نادر.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في حجية سوق المسلمين. ويكفي فيه غلبة المسلمين عليه، بحيث يعد سوقهم لا سوقاً لغيرهم أو مشتركاً بينهم وبين غيرهم،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 29 من أبواب الذبايح حديث: 1.

ص: 348

(349)

ويناسبه ما يأتي.

الثاني: الصنع في أرض الإسلام، كما تضمنه صحيح إسحاق بن عمار عن العبد الصالح (عليه السلام): "أنه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس"(1).

ويناسبه موثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):" أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين. فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوّم ما فيها ثم يؤكل، لأنه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له يا أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي. فقال: هم في سعة حتى يعلموا"(2) ، حيث لابد من حمله - ولو بقرينة صحيح إسحاق - على ما وجد في أرض يغلب فيها المسلمون كالعراق. بل لعله المتيقن منه بعد ظهور كونهما إشارة إلى قضية خارجية يسهل السؤال عن حكمها منه (عليه السلام).

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن المحتمل لو لم يكن ظاهراً أن السؤال فيها من جهة النجاسة العرضية للأمور المذكورة من جهة مساورة المجوسي، لا من جهة الشك في التذكية، فلا تكون مما نحن فيه. فلا يتضح وجهه. ولاسيما مع أن مقتضى مطابقة الجواب للسؤال حمل العلم فيه على العلم بكونها سفرة مجوسي، مع ما هو المعلوم من عدم كفاية العلم بكونها سفرة المجوسي في البناء على نجاسة الأمور المذكورة بالعرض، خصوصاً بناء على طهارة المجوسي، بخلاف ما لو حمل على الشك في التذكية، حيث يكفي في التوقف عن اللحم العلم بكونه للمجوسي، لعدم إحراز التذكية له.

نعم ذلك يختص باللحم. لكنه غير مانع من الاستدلال، لظهور الحديث في أن العلم المذكور رافع للسعة في الجملة في مقابل عموم السعة مع الجهل، لا رافع له

********

(1) ،

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 5، 11.

ص: 349

في جميع ما اشتملت عليه السفرة. وعلى كل حال لا ينبغي التوقف في كفاية الصنع في أرض الإسلام - ولو لغلبة المسلمين - في البناء على التذكية.

هذا والمستفاد عرفاً من أمارية السوق والصنع في الأرض التي يغلب فيها المسلمون أن أماريتهما في طول أمارية يد المسلم، من أجل كونهما - بلحاظ الغلبة - أمارة على صيرورة المأخوذ تحت يد المسلم، فهما أمارة على الأمارة. كما يناسبه ما في خبر إسماعيل بن عيسى: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البايع مسلماً غير عارف؟ قال: عليكم أنتم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه"(1).

وعلى ذلك يكفي العلم ببيع المسلم له ولو في غير السوق، وصنع المسلم له ولو في غير أرض الإسلام. بل يكفي كونه تحت يد المسلم إذا كان مستعملاً استعمالاً يتوقف على التذكية، كالصلاة فيه وتهيئته للأكل ونحوهما، كما يناسبه خبر إسماعيل وموثق السكوني، كما يكفي عمل المسلم فيه عملاً يناسب التذكية وإن لم تكن شرطاً فيه أو في حليته، كدبغه وصنع الفراء منه ونحوهما، لصحيح إسحاق بن عمار بعد ما سبق من حمله على كون العمل في أرض الإسلام في طول يد المسلم.

هذا وفي حديث محمد بن الحسين [الحسن] الأشعري:" كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال: إذا كان مضموناً فلا بأس"(2). لكن ذلك لا يناسب النصوص الكثيرة الناهية عن السؤال وحمله على غير سوق المسلمين أو على الشراء أو من غير المسلم ليناسب ما تقدم في خبر إسماعيل بن عيسى. بعيد جداً لأن سوق المسلمين أظهر الأفراد أو المتيقن منه. فلابد من حمله على الكراهة بالمعنى الآتي في صحيح الحلبي، أو على فراء خاص معهود مجلوب من بلاد الكفر أو نحو ذلك.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 7، 10.

ص: 350

(351)

بقي في المقام أمور:

الأول: مقتضى إطلاق النصوص والفتوى، بل معقد الإجماع المتقدم عدم الفرق في حجية يد المسلم بين المؤمن والمخالف المستحل لجلد الميتة بالدبغ وغيره. وفي روض الجنان أنه المشهور في الفتاوى والأخبار، وعن كشف الالتباس نسبته للأكثر. خلافاً للتذكرة والمنتهى ونهاية الأحكام والذكرى ومحكي التحرير والهلالية وفوائد الشرايع وحاشية الإرشاد وكشف اللثام والشافية، فمنعوا من ترتيب الأثر على ما يوجد عند مستحل الميتة.

قال في التذكرة: "وإنما اعتبرنا في المسلم انتفاء استباحته ليحصل الظن بالتذكية، إذ لا فرق في انتفاء الظن بين المستبيح من المسلم والكافر" .وهو - كما ترى - لا ينهض بالخروج عن إطلاق النصوص المتقدمة.

نعم قد يستدل على ذلك بصحيح عبد الرحمن بن الحجاج: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أدخل سوق المسلمين - أعني هذا الخلق الذي يدعون الإسلام - فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أليس هي ذكية؟ فيقول: بلى. فهل يصلح لي أن ابيعها على أنها ذكية؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنها ذكية. قلت: وما افسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكاته..." (1) وصحيح الحلبي عنه (عليه السلام): "قال: تكره الصلاة في الفراء إلا ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه الذكاة"(2) ، بناء على أن خصوصية أرض الحجاز لعدم استحلال أهلها الميتة بالدبغ.

وخبر أبي بصير:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في الفراء. فقال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) رجلاً صرداً لا يدفئه فراء الحجاز، لأن دباغها بالقرض، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 61 من أبواب النجاسات حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 61 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

ص: 351

القميص الذي يليه، فكان يسئل عن ذلك، فقال: إن أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة، ويزعمون أن دباغه ذكاته"(1).

لكن مقتضى النصوص المذكورة عدم اختصاص التوقف بما يكون تحت يد المستحل، بل عمومه لكل مورد يحتمل فيه عدم التذكية بسبب الاستحلال ولو مع احتمال عدم استحلال صاحب اليد، بل ولو مع العلم بعدم استحلاله إذا احتمل أخذه له من المستحل ولو بوسائط ولا يظن من أحد القول بذلك. كما لا تناسبه النصوص الكثيرة التي سبق الاستدلال بها لحجية يد المسلم.

مضافاً إلى أن صحيح عبد الرحمن إنما تضمن عدم جواز الاعتماد على إخبار البايع بالتذكية في التعهد بها عند البيع ثانياً، بسبب الشبهة المذكورة الناشئة من استحلال أهل العراق جلد الميتة بالدبغ، لا على المنع من ترتيب أثر التذكية بالشراء من السوق الذي هو محل الكلام. بل هو خلاف ما تضمنه من جواز البيع بعد الشراء من السوق، مع عدم جواز بيع الميتة.

وأما صحيح الحلبي فهو - مع عدم صراحته في الحرمة - لا يناسب جداً نصوص السوق الكثيرة، حيث لا مجال لحملها على خصوص ما صنع في أرض الحجاز، بل هو خلاف صريح إسحاق بن عمار وخبر إسماعيل بن عيسى المتقدمين، فلابد من طرحه، أو حمله على الكراهة من حيثية التحفظ على الواقع، وإن كان قد يطرأ ما يقتضي مرجوحية العمل عليها من لزوم الحرج والضيق، كما يناسبه التأكيد على الجواز في نصوص السوق، خصوصاً مثل خبر الحسن بن الجهم: "قلت لأبي الحسن: اعترض السوق فاشتري خفاً لا أدري أذكي هو أم لا. قال: صل فيه. قلت: فالنعل؟ قال: مثل ذلك. قلت: إني أضيق من هذا. قال: أترغب عما كان أبو الحسن (عليه السلام) يفعله"(2).

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 61 من أبواب لباس المصلي حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات حديث: 9.

ص: 352

وأما خبر أبي بصير فقد ذكر سيدنا المصنف (قدس سره) أن ما تضمنه من حكاية إلقاء الإمام (عليه السلام) الفرو حال الصلاة إنما يكون له ظهور في المنع من الصلاة فيه لو كان وارداً لبيان حكم الصلاة في الفراء من حيثية الشبهة الموضوعية. لكنه خلاف ظاهر السؤال، بل ظاهره السؤال عن الحكم من حيثية الشبهة الحكمية، وحينئذٍ لا ظهور لحكاية إلقائه (عليه السلام) الفراء حال الصلاة في المنع، بل قد يكون للاحتياط الاستحبابي أو الكراهة.

وكأنه لأن حكاية الإلقاء حينئذٍ لا تكون جواباً عن السؤال الظاهر في السؤال عن الحكم الإلزامي ليكون لها ظهور في الإلزام، بل هي حكاية ابتدائية تفضلاً منه (عليه السلام) فلا قرينة في ورودها لبيان الإلزام، ومجرد الفعل المحكي لا يقتضيه.

لكن إطلاق السؤال عن العنوان وإن كان ينصرف للسؤال من حيثية الشبهة الحكمية، إلا أن الجواب في الحديث قرينة على كون المراد به السؤال من حيثية الشبهة الموضوعية. ولاسيما مع عدم المنشأ لتوهم المنع من الصلاة في الفراء من حيثية الشبهة الحكمية بعد ظهور كون المسؤول عنه هو فراء مأكول اللحم ليناسب الجواب، بل لا يظن حصول الشبهة في ذلك، خصوصاً لمثل أبي بصير. ومن ثم لا ينبغي الإشكال في ظهور الحديث في السؤال من حيثية الشبهة الموضوعية، وظهور الجواب في بيان ذلك.

نعم في صلوح ذلك لحمل الجواب على بيان الإلزام مع أن فعله (عليه السلام) المحكي به لا يستلزمه إشكال. ولو تم فلا ريب في سهولة حمله على الاحتياط الاستحبابي أو الكراهة. بل تعينه، بلحاظ نصوص السوق المشار إليها التي يصعب جداً حملها على خصوص صورة عدم احتمال الاستحلال بعد كون الاستحلال قولاً شايعاً عند العامة، وخصوصاً في العراق الذي هو من أهم مراكز التشيع التي هي مورد العمل بنصوص السوق. بل لعله المتيقن من إطلاق نصوصها. بل من القريب كون منشأ السؤال في النصوص والاهتمام بالشبهة هو القول المذكور مع أن ضعف سنده يهون

ص: 353

(354)

الأمر فيه. ومن جميع ما تقدم يظهر ضعف القول المذكور.

ومثله ما في المبسوط وعن محكي النهاية من عدم جواز شراء الجلد ممن يستحل الميتة أو كان متهماً فيه. لعدم الشاهد عليه، وبعض النصوص المتقدمة صريح في جواز الشراء مع الشبهة المذكورة التي قد توجب الاتهام، بل مقتضى إطلاقها حينئذٍ الجواز مع العلم باستحلال البايع.

هذا وعن الجعفرية وإرشادها وكفاية الطالبين وغيرها الجواز فيما في يد المستحل إذا أخبر بالتذكية، وجعله الأقرب في الذكرى ومحكي البيان، وبه جزم في الدروس مع ظهور كلامه في التردد في التحريم بدونه. وقد يستدل له بخبر الأشعري المتقدم. لكنه لا يختص بالمستحل، بل يبعد جداً تخصيصه به بعد كون موضوع السؤال فيه السوق، ومن ثم تقدم حمله على الكراهة.

نعم قد استدل له ببناء العقلاء على قبول قول صاحب اليد فيما تحت يده، ولا مخرج عن ذلك فيما نحن فيه، وإن قيل بوجود المخرج عنه في خبر الكافر، كما يأتي. لكنه مختص بغير صورة التهمة. فلابد من الاقتصار على ذلك.

ومنه يظهر ضعف ما عن كشف اللثام من عدم قبول خبره وإن كان ثقة، لعدم إيمانه. مع احتمال أنه يريد بالذكاة الدبغ والطهارة. إذ فيه: أن الإيمان غير مأخوذ في موضوع بناء العقلاء. والاحتمال المذكور خروج عن محل الكلام.

الثاني: مقتضى إطلاق نصوص السوق وسوق المسلمين جواز ترتيب أثر التذكية مع العلم بكون البايع كافراً، فضلاً عما إذا كان مجهول الحال. لكن في المستند الإجماع على الخروج عن ذلك فيما لو كان البايع كافراً، وهو المناسب لما تقدم من أن المستفاد عرفاً من أمارية السوق والصنع في الأرض التي يغلب فيها الإسلام كون أماريتهما في طول أمارية يد المسلم، بلحاظ أماريتهما بحكم الغلبة على كون المباشر للبيع والذي صنع الجلد مسلماً، فمع العلم بعدم كونه مسلماً لا موضوع للأمارية، ويعضده أو يؤيده خبر إسماعيل بن عيسى، بناء على أن أسواق الجبل من أسواق

ص: 354

(355)

المسلمين، وإلا خرج عما نحن فيه. ومنه يظهر ضعف ما عساه يتوهم من حلية ما في سوق المسلمين وإن كان في يد كافر، كما أشار إليه في الجواهر.

وأما إذا كان البايع في السوق مجهول الحال فعن المستند البناء على تذكية ما يؤخذ منه، عملاً بالإطلاق المذكور واقتصاراً في الخروج عنه على المتيقن وهو معلوم الكفر. لكن قيده سيدنا المصنف (قدس سره) بما إذا قامت أمارة على إسلامه لأن أدلة السوق إنما تقتضي البناء على التذكية بعناية كون البيع تصرفاً من المسلم.

ويشكل أنه يكفي في الأمارية غلبة المسلمين في سوقهم، حيث تكون الغلبة المذكورة أمارة على إسلام مجهول الحال، كما هو المناسب لإطلاق نصوص السوق، ولما تضمن الاكتفاء في البناء على التذكية بالصنع في البلاد التي يغلب عليها المسلمون، إذ هو كالنص في الاكتفاء باحتمال كون المباشر للصنع مسلماً وعدم اعتبار العلم بذلك. بل ذلك هو الظاهر من سيرة المسلمين، حيث لا يظن منهم السؤال عن إسلام البايع في أسواق المسلمين.

وبملاحظة جميع ذلك يظهر قرب الاكتفاء بيد مجهول الحال في البلاد التي يغلب فيها المسلمون وإن لم يكن في السوق، كالبايع المنفرد في بعض الأماكن، وصاحب البيت المستطرق ونحوهم. وهو المناسب لظهور سيرة المسلمين على ترتيب أثر الإسلام على مجهول الحال في بلاد المسلمين من احترام المال والدم ووجوب التجهيز و غيرهما.

نعم لا مجال لذلك إذا كان في سوق غير المسلمين أو السوق المشترك بينهم وبين غيرهم، بحيث لا يصدق عليه أنه سوق المسلمين، عملاً بظاهر التقييد في صحيح فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم المتقدم. بل لا يبعد التعدي لمثل الأحياء السكنية المختصة بغير المسلمين أو المشتركة، لفهم عدم الخصوصية للسوق. فلاحظ.

الثالث: لا إشكال ظاهراً في عدم جواز ترتيب أثر التذكية فيما لم يؤخذ من المسلم ولم يكن مصنوعاً في أرض الإسلام إلا بناء على ما تقدم من المدارك والحدائق

ص: 355

الذي قد سبق ضعفه. والنصوص المتقدمة شاهدة به.

نعم في صحيح إسماعيل بن الفضل:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلين. فقال: أما النعال والخفاف فلا بأس بهما"(1). لكن ظاهره التفصيل بين الجلود، فلا تجوز الصلاة فيها، والنعال والخفاف، فتجوز الصلاة فيها.

وحيث لا يحتمل عرفاً الفرق في إحراز التذكية بينهما وبين الجلود فالظاهر حمل التفصيل على الفرق ثبوتاً، لكون الخفاف والنعال مما لا تتم به الصلاة مع اتفاقهما في عدم إحراز التذكية إثباتاً، فلا ينافي النصوص المتقدمة، بل يعضدها.

نعم التفصيل المذكور لا يناسب النصوص الكثيرة الظاهرة أو الصريحة في عدم جواز الصلاة في الميتة وإن كانت مما لا تتم به الصلاة. لكنه ملزم بطرحه لا بحمله على إحراز التذكية في الخفاف والنعال، بعد أن كان ذلك خلاف ظاهره.

هذا وهل يكتفى بإخبار الكافر بالتذكية حينئذٍ أولا؟ وجهان يشهد للأول قوله (عليه السلام) في خبر إسماعيل بن عيسى: "عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك" .لأن المنصرف منه السؤال من البايع مع المفروغية عن قبول الجواب حينئذٍ.

وقد يشكل الاستدلال به بضعف سنده، لعدم النص على توثيق إسماعيل، ولا ابنه سعد الراوي عنه. لكنه قد يندفع بأن ابن محبوب يروي عن الأول، وراوي هذا الحديث وغيره عن الثاني أحمد بن محمد بن عيسى الذي أخرج البرقي عن قم، لأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، فكيف يمكن أن يروي هو عمن ليس بثقة؟ بل المناسب لتشدده المذكور وثاقة إسماعيل أيضاً، لأن منشأ التشدد المذكور هو الاهتمام بوثاقة الرواية. فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 38 من أبواب لباس المصلي حديث: 3.

ص: 356

(357)

بل لا يبعد ذلك حتى لو علم بسبق يد الكافر عليه (1)

مضافاً إلى ما أشرنا إليه آنفاً من بناء العقلاء على قبول قول صاحب اليد فيما تحت يده. غاية الأمر أنه يختص بصورة عدم التهمة التي لابد من حمل خبر إسماعيل عليها، لعدم الإطلاق له.

نعم قد ينافي ذلك صحيح عيسى بن عبد الله: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صيد المجوس فقال: لا بأس إذا أعطوكه حياً، والسمك أيضاً، وإلا فلا تجوز شهادتهم عليه، إلا أن تشهده"(1).

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من الإشكال في سنده لاشتراك عيسى. فيندفع بأن الظاهر أنه عيسى بن عبد الله القمي الثقة، لأن الراوي عنه أبان بن عثمان الذي روى عن عيسى بن عبد الله تارة، وعن عيسى القمي أخرى وعن عيسى بن عبد الله القمي ثالثة، والأخيران مفسران للأول.

وهو وإن ورد في المجوس، إلا أن التعدي عنهم لغيرهم من الكفار قريب جداً بعد اشتراك الكل في عدم التزامهم بالتذكية وعدم أمارية أيديهم عليها. ولأجله يقرب حمل السؤال في خبر إسماعيل بن عيسى المتقدم على الكناية عن لزوم تحصيل العلم أو قيام الطريق المعتبر على التذكية. ومن هنا كان الأقرب التوقف عن قبول خبره. نعم إذا أخبر بأخذه من المسلم، فالظاهر قبول خبره مع عدم التهمة، لخروجه عن مفاد الصحيح.

(1) كما في الجواهر وعن كاشف الغطاء قال في كشف الغطاء:" وما يؤتى به من بلاد الكفار - كالبرغال والقضاعي ونحوه - لا بأس به إذا أخذ من أيدي المسلمين ".لإطلاق النصوص المتقدمة.

ودعوى: أن ترك الاستفصال فيها إنما يدل على العموم مع العلم بالابتلاء في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 34 من أبواب الصيد حديث: 1.

ص: 357

عصور صدورها بيد المسلم المسبوقة بيد الكفار، حيث يمكن وقوع الواقعة المسؤول عنها على نحوين، أما إذا كان الحال فيها واحداً فلعل عدم الاستفصال لعدم الحاجة للتفصيل، لا لعدم التفصيل.

مدفوعة بأن ذلك إنما يتم إذا كانت القضية خارجية، فإن عدم الاستفصال والإطلاق بل العموم فيها إنما يقتضي العموم لجميع الأفراد والفروض الواقعة، دون غيرها، فلا يمكن الاستدلال بها للعموم في فرض إلا بعد إحراز وقوعه، أما إذا كانت القضية حقيقية - كما هو الظاهر في النصوص المتقدمة وفي جميع القضايا الشرعية بمقتضى طبعها - فهي تشتمل عن فروض محتملة وإن لم تكن واقعة، فيصح الاستدلال بها لكل فرض صالح للوقوع وإن لم يحرز وقوعه حين صدور الخطاب. على أنه من البعيد جداً عدم الابتلاء بالفرض المذكور في عصر صدور النصوص بعد وضوح كثرة اختلاط المسلمين بالكفار ودخولهم لبلادهم للتجارة وغيرها.

نعم ذكر في الجواهر أن يد الكافر أمارة على عدم التذكية، كما أن يد المسلم أمارة على التذكية مستدلاً على ذلك بصحيح إسحاق بن عمار وخبر إسماعيل بن عيسى المتقدمين، حيث قد يدعى حينئذٍ تعارض الأمارتين المستلزم لتساقطهما والرجوع لأصالة عدم التذكية.

لكن ذكر فيه أيضاً أنه ظاهر أدلة أمارية يد المسلم على التذكية أقوائية أماريته عليها من أمارية يد الكافر على عدمها، وأنها مع وجودها لا يلتفت إلى غيرها. ويشكل بعدم وضوح الأقوائية المذكورة. إلا أن يرجع ما ذكره إلى قصور إطلاق أمارية يد الكافر على عدم التذكية عن صورة وجود يد المسلم، فيكون العمل حينئذٍ بيد المسلم لانفرادها بالأمارية، لا لاقوائية أماريتها، نظير تقديم يمين المنكر على يمين المدعي. لكن لا وجه لذلك بعد إطلاق كلا الدليلين.

ودعوى: أن النسبة بين الإطلاقين العموم من وجه الملزم بترجيح إطلاق دليل حجية اليد لأنه أكثر عدداً، وأوضح دلالة. ولاعتضاده بأصالة الصحة في فعل

ص: 358

المسلم. مدفوعة بأنه لا تعارض بين الإطلاقين لاختلاف موضوعهما، فلا موضوع للترجيح بينهما لو نهض ما سبق به، وإنما التعارض بين الأمارتين نفسهما، ومع عدم الترجيح بينهما يتعين التساقط، والرجوع لأصالة عدم التذكية، كما سبق.

فالعمدة في دفع ذلك أنه لا دلالة لصحيح عمار وخبر إسماعيل على أمارية يد الكافر على عدم التذكية. ومجرد ظهور الأول في توقف البناء على التذكية على العمل في أرض الإسلام، وظهور الثاني في لزوم السؤال عن التذكية مع الأخذ من الكافر، لا يقتضي ذلك، لقرب ابتنائه على العمل بأصالة عدم التذكية بعد عدم المخرج عنها مما هو أمارة على التذكية. ومن ثم لا ينبغي التأمل في عدم المعارض ليد المسلم في المقام لو تمت حجيتها كما هو مقتضى الإطلاق المتقدم.

كما لا ينبغي التأمل في العمل عليها فيما إذا احتمل عدم أخذ المسلم له من الكافر إلا بعد إحراز تذكيته بعلم أو بيد مسلم سابقة على يد الكافر أو غيرهما. وإنما الإشكال فيما إذا علم بأخذه منه من دون إحراز تذكيته للبناء - اجتهاداً أو تقليداً - على عدم توقف ترتيب الأثر على إحرازها، أو غفلة أو تسامحاً، كما هو الشايع في عصورنا فيما يستورد من البلاد غير الإسلامية. حيث قد يستشكل في ذلك بقصور أمارية يد المسلم في الفرض المذكور، لأن أماريتها إنما هو بتوسط ظهور حال المسلم في الحفاظ على التذكية، فمع العلم بعدم اهتمامه بإحرازها لا منشأ للأمارية.

ويندفع بأن ذلك لا ينهض بالخروج عن مقتضى الإطلاق، ولاسيما بعد ما سبق من عموم حجية اليد للمخالفين مع بنائهم على حلية ذبائح أهل الكتاب وشيوع القول بينهم بطهارة جلد الميتة بالدبغ وغير ذلك.

ولأجل ذلك وغيره يتعين البناء على أن ملاك الأمارية ليس فعلية الكشف عن الواقع، بل الكشف عنه نوعا مع تبعية الأمارية سعة وضيقاً لعموم الدليل وخصوصه، وحيث سبق تمامية الإطلاق في المقام فالمتعين البناء على عموم الأمارية ولو مع عدم فعلية الكشف.

ص: 359

فالأولى أن يقال: المناسبات الارتكازية تقضي بابتناء أمارة يد المسلم على التذكية على احترام يده وتصديقها فيما هي ظاهرة فيه نوعاً، وذلك يوجب انصراف إطلاق أدلتها عما إذا ابتنت اليد على الخروج عن مقتضى الميزان الشرعي في ترتيب أثر التذكية، نظير قصور أدلة أمارية اليد على الملكية عما إذا علم بابتنائها على إهمال الميزان الشرعي، كما لو علم بأن صاحب اليد قد أخذ المال بلا مبرر شرعي وإن احتمل استحقاقه له في الواقع، وقصور قاعدة الصحة في تصرف الوكيل عما إذا علم بعدم ابتناء تصرفه على إحراز إذن الموكل وإن احتمل إذنه في الواقع، وقصور قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به عما إذا علم بعدم ابتناء إقراره بما ملكه على علمه بوقوع ما أقر به، كما لو أقر الوكيل على الطلاق بإيقاع الطلاق مع العلم بعدم ابتناء إقراره على إحراز إيقاعه للطلاق وإن احتمل إيقاعه له واقعاً.

وهذا بخلاف حجية الإقرار في حق المقر فإنها لا تبتني على احترام إقرار المقر، بل على مجرد إلزامه بإقراره في حق نفسه، ولا مانع من عمومه لما إذا علم بعدم ابتناء الإقرار منه على إحرازه لما أقر به، بعد عموم دليله له.

هذا مضافاً إلى صحيح إسحاق بن عمار المتقدم، لظهوره في عدم جواز الصلاة فيما صنع في غير أرض الإسلام، مع ما هو المعلوم من أن الابتلاء بذلك إنما يكون غالباً بتوسط شرائه من سوق المسلمين. وحمله على مجرد عدم الصلاة فيه من الحيثية المذكورة وإن جازت الصلاة فيه من حيثية أخرى، كالسوق ونحوه. بعيد جداً بعد غلبة تحقق الحيثية التي يدعى جواز الصلاة فيه بلحاظها، لظهوره في بيان قضية فعلية عملية، لا اقتضائية خارجة عن مقام العمل.

وأظهر منه صحيح إسماعيل بن الفضل المتقدم الظاهر في عدم البناء على تذكية ما لم يكن من أرض المصلين. لظهوره في عدم البناء على تذكية الجلود المجلوبة من أرض الكفر، ومن الظاهر أن الجلب من أرضهم لا يستلزم الصنع فيها، وكثيراً ما يقوم المسلمون به، فلو كانت يدهم أمارة على تذكيته لكان المناسب التنبيه عليها.

ص: 360

وحملها على خصوص ما لم يعلم بمرور يد المسلم عليه حمل على الفرد النادر.

ودعوى: أن المصنوع من أرض الكفر والمجلوب منها يعلم بعدم تذكيته غالباً، لندرة تولي المسلمين للتذكية في بلاد الكفر. مدفوعة بأن المراد من بلاد الكفر ليس هو خصوص ما كان كل أهلها كفاراً، بل يكفي فيها غلبة الكفر. بل مقتضى صحيح عمار الاكتفاء بعدم غلبة المسلمين، ومن الظاهر حصول احتمال تولي المسلمين للتذكية في ذلك.

ومثلها دعوى: أنه لو تم ظهور الصحيحين في ذلك لزم البناء على عدم تذكية المصنوع في بلاد الكفر والمجلوب منها حتى لو احتمل أخذ المسلم له بعد إحراز التذكية. لاندفاعها بأن ذلك وإن كان مقتضى الإطلاق، إلا أن ندرة الفرض المذكور - خصوصاً في تلك العصور - وارتكازية أمارية يد المسلم فيه، موجبان لانصراف الإطلاق عنه، نظير ما صنعه المسلمون في بلاد الكفر.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل في ظهور الصحيحين في عدم حجية يد المسلم في الفرض. وهو المناسب لما سبق من اختصاص حجية اليد بما إذا ظهر منها البناء من صاحبها على التذكية، لقيامه فيما تحت يده بما يناسبها من التصرفات، ومن الظاهر أن الاحتياج إلى ذلك إنما هو بعناية تصديق الشارع له في البناء المذكور، وحمله فيه على الصحة، ومع فرض عدم إحرازه شرعاً للتذكية - إما بأن يكون غير بانٍ عليها، أو كان بانياً عليها بوجه مردوع عنه شرعاً - كيف يدخل في إطلاق أدلة الحجية؟!.

على أن مقتضى ذلك أن من لم يحرز تذكية الشيء يستطيع أن يستحله بتكليف مسلم بمناولته إياه، أو بإغفاله حتى يحمله ثم يأخذه منه، أو بإجباره على أخذه ودفعه له. بل يكتفي بأخذه منه ولو صرح الدافع بأنه لا يحرز تذكيته، بل يحرز عدمها بمقتضى الأصل. وذلك بعيد جداً لا يناسب مرتكزات المتشرعة، بل هو مستهجن عندهم. ومن ثم لا مجال للبناء على حجية اليد على التذكية في المقام.

ومثله ما إذا علم بإحرازه للتذكية شرعاً بوجه يخطؤه الآخذ منه فيه،

ص: 361

(362)

وكذا ما صنع في أرض الإسلام، أو وجد مطروحاً في أرض المسلمين (1) إذا كان عليه أثر الاستعمال منه الدال على التذكية، مثل ظرف الماء والسمن واللبن (2)، لا مثل ظروف العذرات والنجاسات.

(مسألة 9): المذكورات إذا أخذت من أيدي الكافرين محكومة بالنجاسة ظاهراً (3) إلا أن يعلم بسبق يد المسلم عليها (4).

لاختلافهما اجتهاداً أو تقليداً، كما إذا كان المكلف يرى - بمقتضى اجتهاده أو تقليده - أن يد المستحل للميتة بالدبغ ليست بحجة، فأخذها ممن يعلم بأنه قد اعتمد على اليد المذكورة في البناء على التذكية لبنائه على حجيتها بمقتضى اجتهاده أو تقليده. ثم إن ذلك لا يختص بالمسبوق بيد الكافر، بل يجري في كل ما لم يحرز المسلم صاحب اليد تذكيته، كالمطروح في أرض الكفر، أو في أرض الإسلام من دون أن يظهر عليه أثر الاستعمال.

(1) فقد تضمن الأول صحيح إسحاق بن عمار، والثاني موثق السكوني. لكن تقدم أماريتهما - كأمارية سوق المسلمين - في طول أمارية يد المسلم، بلحاظ أمارية الغلبة على كون المباشر للتصرف هو المسلم، لا في قبال أمارية يد المسلم، ولذا تسقط عن الأمارية إذا علم بكون المباشر كافراً.

(2) لاختصاص مورد النصوص به. وقد تقدم بيان الضابط لذلك.

(3) لأصالة عدم التذكية، كما تقدم في أول المسألة السابقة، وتقدم التعرض لخلاف صاحبي المدارك والحدائق، ولضعفه. كما تقدم في أواخر المسألة المذكورة التعرض لدعوى صاحب الجواهر ابتناء الحكم بالنجاسة على أمارية يد الكافر على عدم التذكية، ولدفعها.

(4) فيحكم بتذكيتها عملاً بأماريتها فتكون حاكمة على أصالة عدم التذكية بناء على انحصار وجه النجاسة بها. أما بناء أمارية يد الكافر على عدم التذكية فقد تقدم من الجواهر أن أمارية يد المسلم على التذكية مقدمة على أمارية يد الكافر على

ص: 362

(363)

(مسألة 10): السقط قبل ولوج الروح نجس (1)،

عدمها. لكن تقدم ضعفه، وأنه لو تمت أمارية يد الكافر على عدم التذكية لزم البناء على تعارض اليدين وتساقطهما ثم الرجوع لأصالة عدم التذكية الحاكمة بالنجاسة.

ثم إنه مما تقدم يظهر أنه يكفي العلم بسبق كونه في سوق المسلمين أو بصنعه في أرض المسلمين، أو كون اللحم أو الجلد مطروحاً في أرضهم بالنحو الذي تقدم كفايته في الأمارية على التذكية ولو في طول أماريته على يد المسلم، حيث يتعين الخروج في جميع ذلك عن أصالة عدم التذكية، التي تقدم انحصار وجه النجاسة بها.

(1) بلا خلاف كما عن لوامع النراقي، وعن محكي شرح المفاتيح الاتفاق عليه. وقد استدل له بوجوه:

الأول: أنه ميتة، لأن الموت يقابل الحياة تقابل العدم والملكة، ولا يعتبر في صدقه سبق الحياة.

وفيه: أولاً: المنع من ذلك، بل سبق أن المراد بالميتة ما مات ولم يذك. وثانياً: ما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) من عدم إطلاق لأدلة نجاسة الميتة يشمل مثل ذلك.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن الإطلاق يتم في مثل صحيح حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء وأشرب، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضأ ولا تشرب"(1). لاشتماله على النتن الحاصل في الجيف، بل ويشمل المذكى أيضاً إذا نتن، لولا الخروج عنه فيه بما دل على طهارته مطلقاً، فيبقى غيره على حكم الإطلاق.

ففيه: أنه لو سلم عموم الجيفة لكل منتن، وعدم اختصاصه بالميتة المعهودة، إلا أن هذا الحديث ونحوه مما تضمن انفعال الماء بالجيفة أو الميتة إذا كان قد تغير، أو كان دون الكر ليست واردة لبيان نجاسة الجيفة والميتة، ليكون لها إطلاق يشمل موارد

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب الماء المطلق حديث: 1.

ص: 363

الشك، بل لبيان انفعال الماء بالملاقاة أو عدم انفعاله مع المفروغية عن نجاسة الملاقى من دون أن يكون لها إطلاق في ذلك.

نعم قد يتجه الإطلاق المذكور في مثل موثق حفص عنه (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): "قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة"(1). لوروده لبيان النجاسة من حيثية الملاقى، إلا أنه حيث يعلم بعدم إرادة الحكم بنجاسته ذاتاً، بل من حيثية الموت المفروغ عن منجسيته للحيوان، فلا يتضح شموله للمقام.

الثاني: أنه من قبيل القطعة المبانة من الحي، فيشمله دليل نجاسته. وفيه: أن دليل نجاسة القطعة المبانة من الحي مختص بالجزء المتصل بالحيوان دون المتكون فيه، كالجنين.

وأما دعوى: أنه مما لا تحله الحياة الذي تقدم طهارته. فهي كما ترى، لوضوح أن المراد بما تحله الحياة ليس خصوص ما ولجته الروح استقلالاً، بل مطلق ما له لحم وعروق يجري فيها الدم، وإن لم يستقل بروح، ومن الظاهر تحقق ذلك في الجنين وإن لم تلجه الروح.

الثالث: ما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من أن مقتضى ما تضمن أن ذكاة الجنين ذكاة أمه(2) كون الجنين ميتة مع عدم ذكاة أمه، كما في المقام.

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأنه وارد لبيان الاكتفاء بذكاة الأم في ذكاة الجنين، من دون أن يكون له إطلاق في بيان موضوع الذكاة، بل لعله مختص بما ولجته الروح.

لكنه يندفع بعدم الإشكال في عموم الحكم لما لم تلجه الروح، وأنه مع عدم تذكية أمه يعامل معاملة غير المذكى، بل هو مقتضى ما تضمن تحديد الموضوع بما إذا أشعر وأوبر وبما إذا كان تاماً.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 30 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 6 باب: 18 من أبواب الذبائح.

ص: 364

وكذا الفرخ في البيض (1) على الأحوط وجوباً فيهما.

ففي صحيح محمد بن مسلم:" سألت أحدهما (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" قال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه، فذلك الذي عنى الله عز وجل "(1) وفي صحيحه الآخر عن أبي جعفر (عليه السلام):" قال: إن كان تاماً فكله فإن ذكاته ذكاة أمه"(2). بل الظاهر أن ذكر التمامية والأشعار والأوبار ليس لشرطيتهما في كونه موضوعاً للموت والتذكية وترتب أحكامها، بل لشرطيتهما في حلّ أكله زائداً عليها.

ومثل ذلك ما قد يدعى من أن موضوع النصوص الجنين الذي هو حمل حين موت أمه، دون ما يسقط منها وينفصل منها. إذ فيه: أنه لا إشكال في عدم الفرق بين القسمين وإلغاء خصوصية مورد النصوص ارتكازاً.

وبالجملة: المستفاد من النصوص المذكورة المفروغية عن كون الجنين موضوعاً للتذكية والحكم شرعاً بالموت من دون نظر لولوج الروح فيه استقلالاً. وهو المناسب لمرتكزات العرف والمتشرعة في أن الموضوع هو كل ما يكون موضوعاً للحياة ولو تبعاً، لا خصوص الحياة المستقلة الموقوفة على ولوج الروح الأخرى غير روح ما هو التابع له.

ولذا يعم ذلك ما يتبع الجنين - كالمشيمة ونحوها وإن لم يكن قابلاً للروح المستقلة - حيث تقتضي مرتكزاتهم بنجاسته مع انفصال الحياة عنه في بطن الحيوان أو بعد خروجه منها من دون تذكية للحيوان التابعة له. ولذا لا إشكال ظاهر في البناء على ترتيب أثر الموت في جميع ذلك مع موت الحيوان الذي يحمله وعدم تذكيته. فلاحظ. والله سبحانه العالم.

(1) يجري فيه جميع ما تقدم في السقط عدا النصوص المتضمنة إن ذكاة الجنين

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 8 من أبواب الذبائح حديث: 3، 6.

ص: 365

(366)

(مسألة 11): الأنفحة ما يستحيل إليه اللبن الذي يرتضعه الجدي أو السخل قبل أن يأكل (1).

(الخامس): الدم (2) من الحيوان ذي النفس السائلة، أما دم ما لا نفس

ذكاة أمه. والعمدة فيه مرتكزات العرف والمتشرعة المتقدمة آنفاً، حيث لا يفرق فيها بين السقط والفرخ، كما لعله ظاهر.

(1) فقد تقدم في المسألة الرابعة - عند الكلام في استثناء الأنفحة من نجاسة الميتة - أن الأنفحة مرددة بين الظرف، وهو معدة الحيوان، والمظروف، وهو المادة المتجبنة، وأن اللازم الاقتصار في البناء على الطهارة على الثاني اقتصاراً على المتيقن في الخروج عن مقتضى القاعدة.

(2) فإن نجاسته في الجملة إجماعية بين الشيعة، بل بين المسلمين، بل هي من ضرويات هذا الدين، كما في الجواهر. وقال سيدنا المصنف (قدس سره): "إجماعاً صريحاً وظاهراً محكياً عن جماعة كثيرة، وإن اختلفت عباراتهم في معقده، ففي بعضها دم مطلق ذي النفس، وفي بعضها دم ذي العرق - وهو راجع إلى الأول - وفي بعضها الدم المسفوح، والمسفوح هو المصبوب، وعليه يكون بين هذا العنوان وما قبله عموم من وجه، لعمومه لمثل دم السمك، وعدم شموله للتخلف في اللحم ونحوه من أجزاء الحيوان...

لكن ادعى غير واحد من الأجلاء أن المراد مطلق دم ذي النفس، بقرينة تعرضهم لطهارة غير ذي النفس والمتخلف في الذبيحة، دون ما عداهما من دم ذي النفس غير المسفوح، ولورود النصوص الكثيرة الظاهرة في نجاسة غير المسفوح من دم ذي النفس، كدم الرعاف، أو ما يوجد في الأنف، وعند قطع الثالول، ونتف لحم الجرح، وحك الجلد، وقلع السن، ودم الجروح والقروح والحيض والنفاس والاستحاضة، وغير ذلك، مع عدم تعرضهم لرد هذه النصوص وبيان الوجه فيه من

ص: 366

ضعف دلالة أو سند أو غير ذلك، بل لا ريب في بنائهم على قبولها، فإن ذلك شاهد بإرادة العموم، كما ادعاه جماعة.

إلا أنه لا يخلو عن إشكال، لإباء كلماتهم عن الحمل على ذلك، ولاسيما بملاحظة تعليلهم طهارة المتخلف بأنه ليس بمسفوح، وأن طهارته لعدم المقتضي للنجاسة، والبناء على نجاسة الدم في الموارد المذكورة يمكن أن يكون لبنائهم على أنها من المسفوح، لخروجه من العروق الدقاق، أو لكون المراد منه مطلق الخارج من البدن أو غير ذلك.

وبالجملة: ثبوت كلية نجاسة دم ذي النفس بالإجماع غير واضح. وإن كان يساعدها ارتكاز المتشرعة، من غير فرق بين الإنسان الذي هو مورد النصوص المتقدمة وغيره. لكن الرجوع إلى هذا الارتكاز في مورد الخلاف والإشكال محل تأمل ونظر".

لكن بعض مشايخنا (قدس سره) قرب التعويل على الارتكاز المذكور، لكونه متصلاً بعصور المعصومين (عليهم السلام) ولذا وقع السؤال عن أحكامه على إطلاقه غير مقيد بشيء، ووقع الجواب كذلك، كما في صحيحة إسماعيل بن بزيع: "كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن (عليه السلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شيء من عذرة، كالبعرة ونحوها، ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة؟ فوقع (عليه السلام) بخطه في كتابي: ينزح دلاء منها"(1).

وموثق أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إن أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه وهو لا يعلم فلا إعادة عليه، وإن هو علم قبل أن يصلي فنسي وصلى فيه فعليه الإعادة "(2) وغيرهما، إذ لولا ارتكاز عموم نجاسته في أذهانهم لم يكن وجه لإطلاق السؤال والجواب عن أحكامه الثابتة له من حيثية نجاسته، وهو الوجه في

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الماء المطلق حديث: 21.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 40 من أبواب النجاسات حديث: 7.

ص: 367

السؤال عن بعض الأفراد الخفية، كدم البراغيث ونحوه.

وفيه: أن مراده بذلك إن كان هو الاستدلال بإطلاق النصوص المذكورة فمن الظاهر أنه لا إطلاق لها بعد ورودها لبيان أحكام أخر غير النجاسة مترتبة عليها، كانفعال الملاقي ونحوه، حيث يتعين حملها على الدم المفروض نجاسته لا مطلق الدم، كما هو الحال في سائر الموضوعات المذكورة على هذا النحو، كالميتة والبول وغيرها حيث لا يحتمل ظهور الأدلة التي تضمنتها في العموم لما ثبت طهارته، كميتة ما لا نفس له سائلة وبول مأكول اللحم ونحوهما. ولا يكون وجه الإطلاق حينئذٍ إلا غلبة الابتلاء بالقسم النجس، أو غلبة النجاسة في أفراد العنوان المذكور أو نحو ذلك.

وإن كان هو الاستدلال بالمفروغية المدعى استفادتها من هذه النصوص فهي إنما تدل على المفروغية عن النجاسة في الجملة، لا عن عموم النجاسة، بل كيف يحتمل المفروغية عن عموم النجاسة، مع شيوع الابتلاء بالقسم الطاهر من الدم، كالمتخلف في الذبيحة، ودم ما لا نفس له، بل كيف يقع السؤال عن مثل دم البراغيث لو كان مفروغاً عن نجاسته. ولو فرض تحقق المفروغية المذكورة مع كل ذلك فاللازم عدم حجيتها، لثبوت خطئها.

هذا وقد استدل غير واحد للعموم بإطلاق موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سئل عما تشرب منه الحمامة، فقال: كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب. وعن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب فقال: كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضأ منه ولا تشرب"(1) ، بدعوى: أن مقتضى إطلاقه عموم نجاسة الدم.

لكن الموثق ليس وارداً لبيان نجاسة الدم، بل لبيان طهارة سؤر الطير ذاتاً، كما هو مقتضى السؤال فيه، والنهي عن شرب الماء والوضوء به مع الدم إنما ورد تبعاً، لتوضيح مفاد الاستثناء.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 4 من أبواب الأسئار حديث: 2.

ص: 368

على أن جعل موضوع النهي هو رؤية الدم لا وجوده واقعاً ظاهر في كون المراد بالاستثناء بيان عدم ترتب الحرمة ظاهراً مع احتمال عدم وجود الدم على منقار الطير، فهو وارد لبيان الحكم الظاهري بعد المفروغية عن وجوب الاجتناب واقعاً مع وجود الدم واقعاً، للمفروغية عن نجاسته واقعاً من دون أن يكون وارداً لبيان ذلك ليتم إطلاقه فيه. نظير ما تقدم في النصوص الأخر.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن حملها على بيان الحكم الظاهري يقتضي الحكم بالنجاسة مع العلم بسبق ملاقاة المنقار للدم، للعلم بنجاسة المنقار سابقاً. فهو كما ترى، لأن الشرط لما كان هو رؤية الدم على المنقار حين شرب الطائر فهو يدل على الطهارة بدونه ولو مع العلم بالسبق، ويكون ذكر الشرط لبيان عدم وجوب الاجتناب مع الشك في وجود الدم حين الشرب سواءٌ علم بسبقه أم لم يعلم.

وأضعف من ذلك ما ذكره من أن الموثق إما أن يكون وارداً لبيان عدم تنجس بدن الحيوان بملاقاة النجاسة، أو لبيان طهارته بزوالها، أو لبيان عدم جريان استصحاب النجاسة في الحيوان تخصيصاً لعموم أدلة الاستصحاب، أو لبيان أصالة كون الدم الموجود على منقاره من القسم النجس. وعلى كل حال مقتضى إطلاق الدم فيه عموم نجاسة الدم.

لاندفاعه أولاً: بأنه لا شاهد على شيء من هذه الوجوه، خصوصاً بعد أن كان الحديث مسوقاً لبيان طهارة سؤر الطائر واقعاً والاستثناء فيه مذكور تبعاً. وبعد أن كانت هذه الوجوه منوطة بوجود الدم واقعاً لا برؤيته، بل الظاهر من الإناطة بالرؤية هو ما ذكرنا من إرادة بيان الحكم الظاهري.

وثانياً: بأن وروده لبيان أحد الأمور المذكورة لا يناسب دعوى وروده لبيان نجاسة الدم ليتم إطلاقه في ذلك. ولاسيما الوجه الأخير، فإن فرض وروده لبيان أصالة كون الدم الموجود على المنقار من القسم النجس ملازم لفرض أن الدم واقعاً على قسمين طاهر ونجس، فكيف يكون له إطلاق يقتضي عموم نجاسة الدم

ص: 369

واقعاً؟!.

هذا وأما الاستدلال على العموم بالنبوي: "إنما يغسل الثوب من البول والدم والمني" (1) وقريب منه غيره مما ذكره الفقهاء في مقام الاستدلال، وما في خبر دعائم الإسلام عن الصادقين (عليهما السلام): "أنهما قالا في الدم يصيب الثوب: يغسل كما تغسل النجاسات"(2).

فهو كما ترى! لضعف الأخبار المذكورة بالإرسال، وذكر الفقهاء للنبوي المتقدم ونحوه لا يكفي في جبرها بعد قرب عدم اعتمادهم عليها، لوضوح الحكم عندهم، وذكرهم لها لأجل مجاراة العامة أو إلزامهم، لأنها من رواياتهم.

مضافاً إلى ما قيل في دفع الاستدلال بالأول من أنه وارد لبيان عقد النفي، ولا إطلاق له في عقد الإثبات، كما يناسبه ما رواه العامة من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمار حين رآه يغسل ثوبه من النخامة:" ما نخامتك ودموع عينك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني من الماء الأعظم والدم والقيء"(3) ، وفي دفع الاستدلال بالثاني من وروده لبيان كيفية التطهير من الدم مع المفروغية عن نجاسته، لا لبيان نجاسته ليتم له الإطلاق في ذلك فتأمل. والأمر سهل.

ومن ثم كان الظاهر عدم ثبوت دليل يعتد به ينهض بعموم نجاسة الدم. نعم الظاهر عدم الإشكال في نجاسة كل ما يخرج من جسد الحيوان الذي له نفس سائلة بجرح ونزف ونحوهما وإن لم يكن بدفع، كما يناسبه النصوص المشار إليها في كلام سيدنا المصنف (قدس سره) المتقدم وغيرها بعد إلغاء خصوصية مواردها واعتضادها بمرتكزات المتشرعة وسيرتهم.

وربما يراد من المسفوح في كلام الفقهاء ما يعمّ ذلك. وإن كان هو غير مهم بعد

********

(1) الذكرى ج: 1 ص: 111.

(2) مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 15 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(3) جمع الجوامع للسيوطي ج: 1 ص: 83 حديث: 1757.

ص: 370

عدم الدليل على نجاسة المسفوح عدا قوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس"(1).

فإن الاستدلال به موقوف أولاً: على أن المراد بالرجس النجس عيناً، دون الخبيث. وثانياً: على رجوع التعليل للكل لا لخصوص لحم الخنزير وكلاهما غير ظاهر.

نعم الظاهر من كلماتهم الإجماع على نجاسة الدم المسفوح. لكن - لو تمت - يلزم الاقتصار في معقده على المتيقن، وهو الخارج بدفع، فالتعميم لغيره لابد أن يستند لدليل آخر.

ثم إنه قد حكي الخلاف عن بعض القدماء في نجاسة بعض مراتب الدم القليل فعن ابن الجنيد طهارة ما دون الدرهم من الدم وسائر النجاسات. قال سيدنا المصنف (قدس سره):" وكأنه اعتمد في الدم على ما سيأتي من النصوص المتضمنة للعفو عما دون الدرهم، وفي غيره على القياس عليه ".لكن لا ظهور لنصوص العفو في الطهارة.

بل حيث كان التفكيك في طهارة الشيء ونجاسته بين القليل والكثير لا يناسب المرتكزات العرفية ولا المتشرعية - ولاسيما وأن القليل قد يكون منفصلاً من الكثير - كان الظاهر حمل النصوص المذكورة على مجرد العفو مع النجاسة.

ولاسيما مع ظهور بعضها في نجاسة الدم المذكور، بل المفروغية عنها، كصحيح ابن أبي يعفور:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون في ثوبه نقط دم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله، فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى، أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته. إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً، فيغسله ويعيد الصلاة"(2). فإن الأمر بغسله ظاهر في نجاسته، وفرض السائل نسيان غسله ظاهر في المفروغية عنها.

********

(1) سورة الأنعام الآية: 145.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 371

(372)

له سائلة - كدم السمك والبرغوث والقمل ونحوها - فإنه طاهر (1).

ولا أقل من لزوم حملها على ذلك، للنصوص الأخر الظاهرة أو الصريحة في النجاسة، كصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "في الرجل يمس أنفه في الصلاة فيرى دماً كيف يصنع أينصرف؟ قال: إن كان يابساً فليرم به، ولا بأس"(1) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن رجل رعف وهو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا "(2) وموثق عمار المتقدم في الطائر الذي على منقاره دم وغيرها، لوضوح أن ما يخرج بمس الأنف وقطرة الدم وما يكون على منقار الطائر لا يتجاوز مقدار الدرهم غالباً.

ومن ثم لا يبعد حمل كلام ابن الجنيد على مجرد العفو أيضاً. وإلا فإن كان الحكم مختصاً بما إذا كان الخارج من الحيوان قليلاً دون ما إذا كان كثيراً وانفصل منه القليل لم يناسب إطلاق نصوص العفو، بل القطع بعمومها، كالفتاوى. وإن كان عاماً لكل قليل وإن انفصل عن الكثير فمن البعيد جداً مطهرية الانفصال والتقطع للدم، بل يكاد يقطع بعدمه.

ومثله في جميع ذلك أو أكثره ما قد يظهر من الفقيه من طهارة ما لا يبلغ قدر الحصمة من الدم. وكأنه لخبر المثنى بن عبد السلام عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قلت له: إني حككت جلدي فخرج منه دم، فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله، وإلا فلا"(3). لكن حمل خلافه ودليله على العفو غير عزيز بعد ما تقدم.

كما أنه قد ينسب الخلاف للشيخ في نجاسة ما لا يدركه الطرف من الدم. وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً في أوائل الفصل الثاني في أحكام المياه. فراجع.

(1) للإجماع محصلاً ومنقولاً مستفيضاً إن لم يكن متواتراً على طهارته، خصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 24 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 82 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 5.

ص: 372

في السمك. كذا في الجواهر. قال سيدنا المصنف (قدس سره): "وكفى به دليلاً على الطهارة" .والوجه فيه: إن كثرة الابتلاء بالدم المذكور مانع من خفاء حكمه على الأصحاب، بحيث يدعى الإجماع فيه على خلاف الواقع. هذا مضافاً إلى أصالة الطهارة بعد ما تقدم من عدم ثبوت نجاسة الدم بنحو يشمل المقام. ومنه يظهر ضعف ما يظهر من المبسوط والجمل والوسيلة والمراسم من نجاسة الدم المذكور وإن لم تجب إزالته للصلاة.

هذا وقد يستدل للطهارة بموثق السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: إن علياً (عليه السلام) كان لا يرى بأساً بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل. يعني: دم السمك" (1) وخبر محمد بن الريان: "كتبت إلى الرجل (عليه السلام): هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث، وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على البراغيث فيصلي فيه، وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به. فوقع: يجوز الصلاة والطهر منه أفضل"(2). لكنه يشكل بأن مفادهما مجرد العفو في الصلاة، لا الطهارة.

ومثلهما في ذلك صحيح ابن أبي يعفور:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس. قلت: إنه يكثر ويتفاحش. قال: وإن كثر "(3) فإن السؤال فيه عن الكثرة والتفاحش يناسب العفو عن الصلاة، لما سبق آنفاً من بعد احتمال خصوصية الكثرة في النجاسة. ولاسيما بملاحظة قوله بعد ذلك:" قلت: فالرجل يكون في ثوبه نقط دم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة"(4).

نعم الظاهر تمامية الاستدلال بمعتبر غياث عن جعفر عن أبيه (عليه السلام): "قال:

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 23 من أبواب النجاسات حديث: 2، 3، 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 373

(374)

(مسألة 12): إذا وجد في ثوبه مثلاً دماً لا يدري أنه من الحيوان ذي النفس السائلة أو من غيره بنى على طهارته (1).

لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف"(1). لأن إطلاق نفي البأس ظاهر في الطهارة. لكنه مختص بمورده، ولا مجال للتعدي منه لسائر ما لا نفس له سائلة، خصوصاً ما له لحم كالسمك.

نعم ذكر في الجواهر أنه يمكن تتميم دلالة هذه النصوص على عموم النجاسة بعدم الفصل. وكأنه لعدم الفصل بين العفو عن الصلاة والطهارة، ولا بين دم البراغيث والبق والسمك وغيرها. لكن في بلوغ عدم الفصل مع قطع النظر عن الإجماع المتقدم حداً يصلح للاستدلال إشكال.

وأشكل من ذلك استدلاله بطهارة الميتة من هذه الأمور، واستدلال بعض مشايخنا بموثق حفص عن أبيه (عليه السلام):" قال: لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة"(2).

لاندفاع الأول بأن الاستدلال إن كان بالأولوية فهي ممنوعة، وإن كان بعدم الفصل فهو أوهن مما تقدم.

واندفاع الثاني بأن الموثق ظاهر في طهارة الحيوان نفسه فيحمل على الميتة، ولا يشمل الدم ونحوه مما هو خارج عنه وإن خرج منه. وقد تقدم في مسألة طهارة بول ما لا نفس له سائلة ما ينفع في المقام.

(1) لأصالة الطهارة، من دون فرق بين القول بثبوت عموم يقتضي نجاسة الدم، وعدمه، إذ على الثاني - الذي عرفت أنه الظاهر - يكون المورد من موارد الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي لا يكون العام حجة فيه بلا كلام، وعلى الأول يكون

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 10 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 35 من أبواب النجاسات حديث: 2.

ص: 374

المورد من موارد الشبهة المصداقية من طرف الخاص الذي كان التحقيق عدم حجية العام فيه.

ودعوى: أن مقتضى استصحاب عدم كونه مما لا نفس له سائلة البناء على نجاسته، بناء على ما هو التحقيق من أن إحراز عدم عنوان الخاص بالأصل يقتضي جريان حكم العام. مدفوعة بعدم وضوح جريان الأصل المذكور حتى بلحاظ العدم الأزلي، لعدم وضوح كون خصوصية الدم المذكورة من لواحق وجوده، لا من شؤون ذاته غير المفارقة له حتى أزلاً وبلحاظ ما قبل وجوده. فلاحظ.

ومثلها دعوى: أن المستفاد من موثق عمار - المتقدم عند الاستدلال على عموم نجاسة الدم - أصالة النجاسة في الدم وإن لم يعلم أنه من حيوان أو من ذي النفس، حيث تضمن الحكم بنجاسة الماء مع وجود الدم في منقار الطير من دون تنبيه على لزوم إحراز كونه من القسم النجس.

لاندفاعها بما سبق من عدم القرينة على سوق الحديث لبيان أصالة نجاسة الدم، بل سبق أن مقتضى إناطة نجاسة الماء برؤية الدم لا بوجوده واقعاً سوقه لبيان أصالة الطهارة في الماء ما لم يعلم تنجسه بالدم لفرض كونه نجساً، الملازم لكون موضوع الحديث هو الدم المفروض فيه النجاسة، لا مطلق الدم، نظير ما في موثق سماعة: "سألته عن شراء الخيانة والسرقة، فقال: إذا عرفت أنه كذلك فلا، إلا أن يكون اشترتيه من العامل"(1) ، ونحوه غيره، حيث لابد من حمله على السرقة من محترم المال بنحو لا يملك السارق المال، ولا يتوهم وروده لبيان أصالة كون السرقة من محترم المال لو احتمل كونها من غير محترم المال، بحيث يكون السارق مالكاً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أن حمله على صورة العلم بنجاسة الدم حمل له على الفرد النادر لندرة العلم بنجاسة ما في منقار الطائر من الدم. ومن ثم جزم بأصالة النجاسة في الدم وإن خصها بالدم الذي في منقار الطائر لاختصاص الموثق به.

-

********

(1) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 1 من أبواب عقد البيع وشروطه حديث: 6.

ص: 375

(376)

(مسألة 13): دم العلقة المستحيلة من النطفة، والدم الذي يكون في البيضة نجس (1) على الأحوط وجوباً.

فهو في غاية المنع بعد غلبة كون الطيور التي على منقارها دم والتي هي مورد السؤال في الموثق هي الجوارح التي من شأنها افتراس الحيوانات ذات النفس السائلة كالطيور والأرانب ونحوها، فإن احتمال طهارة الدم الذي في منقارها نادر الحصول أو غير حاصل. ومن هنا لا مجال للبناء على أصالة النجاسة في الدم الذي في منقار الطائر، فضلاً عن غيره.

ومثله ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من البناء على النجاسة فيما إذا تردد الدم بين أن يكون من ذي النفس وأن يكون من غير ذي النفس إذا كان انتقاله إليه من ذي النفس، كما لو علم المكلف بأن الدم الذي في ثوبه منه أو من البرغوث أو البعوض الذي امتصه من ذي النفس.

لدعوى: أن مقتضى استصحاب كون الدم لذي النفس نجاسته. لاندفاعه بأن احتمال صيرورته دماً لغير ذي النفس إن ابتنى على الاستحالة عرفاً منع من جريان استصحاب كونه لذي النفس، لاحتمال تبدل الموضوع، وأن الذي كان دم ذي النفس هو دم آخر غير الدم المشكوك.

وإن لم يبتن على الاستحالة لدعوى عدم تبدل الدم عرفاً بصيرورته في جوف الحيوان الذي امتصه فلا مجال للاستصحاب المذكور للعلم بكونه هو دم ذي النفس، غاية الأمر أن دم ذي النفس إن خرج منه للخارج تنجس، وإن خرج منه لحيوان آخر يبقى طاهراً، وحينئذٍ لا طريق لإحراز كونه قد خرج منه للخارج، ليحكم بنجاسته، بل مقتضى الأصل طهارته. فلاحظ.

(1) كما صرح به جماعة من القدماء والمتأخرين. قال في المعتبر:" العلقة التي يستحيل إليها نطفة الآدمي نجسة. قاله الشيخ في الخلاف. واستدل بإجماع الفرقة.

ص: 376

لنا أنها دم حيوان له نفس، فتكون نجسة. وكذا العلقة التي يوجد في بيضة الدجاج وشبهه".

لكن إجماع الخلاف ليس بنحو ينهض بالاستدلال، ولاسيما، بعد قلة الابتلاء بالحكم، لقلة تمييز العلقة بعد خروجها من المرأة وغيرها من الحيوان وعدم خلوها غالباً من دم النفاس عند الإسقاط، فهي نجسة ولو عرضاً.

وأما ما تقدم من المعتبر فهو موقوف على ثبوت عموم نجاسة دم ذي النفس بنحو يشمل ما يتكون فيه ولم يكن جزءاً منه، أو ما يكون مبدأ نشوئه ليشمل مثل علقة البيضة، وهو ممنوع، بل المتيقن منه دمه الذي يخرج منه والى هذا يرجع ما في الذكرى، قال:" وفي الدليل منع. وتكونها في الحيوان لا يدل على أنها منه".

وأضعف من ذلك ما في التذكرة وعن الخلاف من الاستدلال بأنه دم. لابتنائه على عموم نجاسة الدم الذي هو أولى بالمنع.

هذا وقد استشكل شيخنا الأستاذ (قدس سره) في كونه دماً وإن كان بصورته، إذ ليس في المقام إلا تفسير العلق لغة بالدم المتجمد، ولم يحرز كونها من العلق المفسر بذلك قال في كشف اللثام:" بل قد منع بعضهم الدخول في اسم الدم عرفاً، خصوصاً التي في البيضة، ولذا حكي عن الشيخ حلها ".وقد يؤيد ما ذكروه الاكتشافات الحديثة، لما قيل من أن العلقة المذكورة هي مبدأ تكون قلب الحيوان.

إلا أن المدار في تشخيص الموضوع بمقتضى الإطلاقات المقامية هو التطبيق العرفي الحقيقي وإن ابتنى على شيء من التسامح، والعرف يرى العلقة دماً حقيقة لا مجازاً. وهو ظاهر غير موضع من الكتاب المجيد.

اللهم إلا أن يثبت بالاكتشاف الحديث كون التطبيق العرفي المذكور خطئياً ناشئاً من كون العلقة بلون الدم، بحيث لو اطلع العرف على الأمر المنكشف لعدل عن الحكم بكون العلقة دماً، وحكم بكون التطبيق في الكتاب المجيد مجازياً. فتأمل.

ص: 377

ولعله لذا تردد في الحكم بالنجاسة في ظاهر الذكرى وكشف اللثام وحكي عن الأردبيلي، بل في الحدائق أن الأقوى الطهارة، ولاسيما ما في البيضة. والعمدة فيه الأصل بعد ما سبق من عدم تمامية عموم نجاسة الدم، وعدم وضوح كونه دماً.

ثم إنه لو تمت نجاسة العلقة في البيضة ففي تنجس بقية البيضة بها إشكال، لا من جهة غلظ أجزائها وكثافتها، لعدم كفاية الكثافة بالمرتبة المذكورة في منع الانفعال، بل لاحتمال كون العلقة محاطة بغشاء يمنع من سريان النجاسة.

ولعل ذلك هو المنشأ لما سبق عن الشيخ، حيث لا يبعد كون مراده حلّ البيضة التي فيها العلقة، لا حلّ العلقة نفسها، فإنه بعيد جداً، لأنها دم أو مبدأ نشوء حيوان لم يكمل وقد صرح بحرمته.

هذا ومقتضى إطلاق المتن عموم الكلام للدم الذي في البيضة غير العلقة التي هي مبدأ نشوء الفرخ. وقد تردد في نجاسته السيد الطباطبائي في العروة الوثقى مع جزمه بنجاسة العلقة التي هي مبدأ نشوء الحيوان.

وكأنه لدعوى عدم كونه دم حيوان لا بمعنى كونه جزءاً منه، ولا بمعنى ما يتكون فيه، ولا بمعنى ما يكون مبدءاً لنشوئه. غاية الأمر أنه متكون في البيضة التي في جوفه، ولا إشكال في قصور عموم نجاسة دم الحيوان عن مثله.

وهو مبني على كون الدم متكوناً في البيضة بعد تماميتها. لكن المدعى من بعض أهل الخبرة أن الدم في البيضة - غير النطفة - هو عبارة عن دم الحيوان الذي تكونت البيضة في جوفه، قد خرج منه بنزف ونحوه لخلل في جهازه وصار في البيضة في جملة أجزائها التي احتواها قشرها.

وبناء على ذلك يكون كسائر الدم النازف من الحيوان، غاية الأمر أنه لم يخرج منه ابتداء، بل بتوسط خروج البيضة منه.

ويكون احتمال نجاسته أقوى من احتمال نجاسة العلقة في الحيوان، فضلاً عن

ص: 378

(379)

(مسألة 14): الدم المتخلف في الذبيحة بعد خروج ما يعتاد خروجه منها بالذبح طاهر (1)، إلا أن يتنجس بنجاسة خارجية مثل السكين التي يذبح بها.

العلقة في البيضة ويكفي في البناء على نجاسته عموم نجاسة دم الحيوان بمعنى ما يعد من أجزائه.

اللهم إلا أن يقال: ما دل على نجاسة الدم يقصر عن الدم الخارج من الحيوان بالنحو المذكور، لاختصاص النصوص المتقدمة بالدم الخارج من الحيوان مباشرة بدفع منه وبتوسط عروقه الغليظة أو الدقيقة، ولا يشمل الخروج بالنحو المذكور، خصوصاً بعد كونه عرفاً معدوداً من توابع البيضة، غفلة عن كونه من دم الحيوان الذي خرجت منه. حيث يتجه مع ذلك الرجوع لقاعدة الطهارة أو استصحابها بلحاظ طهارته قبل خروجه وانفصاله عن الحيوان.

ولو غض النظر عن ذلك، وبني على نجاسة الدم المذكور، فهو إنما يقتضي نجاسة ما هو فيه من البياض أو الصفار دون الآخر لانفصال أحدهما عن الآخر بغلاف الصفار، غاية الأمر أنه لو كان في البياض ينجس ظاهر الصفار، فمع تطهيره يطهر ويجوز أكله، كما يجوز أكله لو ألقي ظاهره.

بل لو كان الدم في نفس الغلاف كما قد يشاهد في عروقه، بنحو يعلم أو يحتمل وجوده في ضمن الغلاف من دون أن يظهر في أحد وجهيه، تعين تجنب الغلاف فقط والبناء على طهارة كل من الصفار والبياض وجواز أكلهما.

(1) إجماعاً في الجملة مصرحاً به أو ظاهراً من كلام جماعة، وإن اختلف معقده، ففي المختلف الموجود في عروق الحيوان، وعن كنز العرفان والحدائق الموجود في تضاعيف اللحم، ويقتضيه في الجملة سيرة المتشرعة على طهارة اللحم بعد تطهير المذبح الملازم لطهارة ما يخرج منه من الدم بعد ذلك، وأكل اللحم المشتمل على الدم

ص: 379

(380)

(مسألة 15): إذا خرج من الجرح أو الدمل شيء أصفر يشك في أنه دم أم لا يحكم بطهارته (1)، وكذا إذا شك من جهة الظلمة أنه دم أم قيح، ولا يجب عليه الاستعلام (2) وكذلك إذا حك جسده فخرجت رطوبة

الموجود في عروقه، وأكل الكبد ونحوه مما يشتمل على الدم الملازم لطهارته.

مضافاً إلى ما عرفت من عدم ثبوت عموم نجاسة دم الحيوان الملزم بالاقتصار في النجاسة على المتيقن وهو غير محل الكلام، سواءً كان متخلفاً في العروق أم في تضاعيف اللحم أم في القلب والكبد.

نعم قد يقتصر على صورة خروج ما يتعارف خروجه، دون ما لو حبس الدم عن الخروج أو لم يخرج لمرض الحيوان، للمرتكزات فتأمل. أما لو قيل بعدم التذكية حينئذٍ فلا أثر لذلك، لنجاسة الحيوان بالموت فينجس الدم تبعاً له أو بالملاقاة.

ومنه يظهر عموم الطهارة لما يوجد في الأجزاء غير المأكولة منه، كالطحال - كما جعله شيخنا الأعظم (قدس سره) الأظهر في كلماتهم - وفي الحيوان المذكى غير المأكول، وإن اختار السيد الطباطبائي في منظومته نجاسته، ونسبه للمعظم. كل ذلك للأصل المتقدم، فلا يهم قصور السيرة لو تم. فلاحظ.

(1) للأصل. إلا أن يكون مختلطاً بالدم، فإن الظاهر نجاسته، لصدق الدم على الخليط فينجس وينجس. نعم إذا كان الدم مستهلكاً عرفاً فالمتعين الطهارة، لقصور الأدلة عنه، نظير ما يأتي في اللبن.

(2) لعموم دليل قاعدة الطهارة، ورجوع وجوب الاستعلام والفحص إلى عدم جريان الأصل بدونهما، وهو راجع إلى تخصيص العموم المذكور المحتاج للدليل.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم صدق الفحص بمثل النظر مما لا يحتاج إلى مزيد مؤنة ولعله احتاط بعض الأعاظم (قدس سره) بالاختبار في بعض الفروع

ص: 380

(381)

يشك في أنها دم، أو ماء أصفر يحكم بطهارتها (1).

(مسألة 16): الدم الذي يوجد في اللبن عند الحلب نجس ومنجس اللبن (2).

مع تيسره. فهو - لو تم - إنما ينفع لو كان موضوع الأدلة هو الفحص. أما حيث كان الموضوع هو عدم العلم بالنجاسة فلا إشكال في أن مقتضى عموم دليله عدم وجوب ذلك.

(1) لعين ما سبق. هذا ولم يتعرض (قدس سره): لحكم التردد في الدم بين كونه من المتخلف في الذبيحة وكونه من الخارج بالذبح. وقد يقال بنجاسته (إما) لعموم نجاسة الدم بعد كون دليل طهارة المتخلف لبياً، وهو الإجماع والسيرة، بناء على حجية العام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص إذا كان دليل التخصيص لبياً (وإما) لاستصحاب نجاسة الدم المذكور حال حياة الحيوان قبل خروجه من جسده.

ويظهر ضعف الأول مما سبق من عدم ثبوت العموم المذكور. مع أن التحقيق عدم حجية العام في الشبهة المصداقية مطلقاً حتى مع كون المخصص لبياً. وأما الثاني فهو مبني على نجاسة الدم في الباطن حال حياة الحيوان، وهو ممنوع. ومن ثم كان الظاهر الطهارة، للأصل.

(2) لكونه خارجاً من الحيوان بنزف فينجس. نعم إذا كان مستهلكاً في الدم أشكل نجاسته وتنجيسه، لأنه عند نزفه من الجرح الداخلي طاهر، لكونه في الباطن، وعند خروجه مع اللبن مستهلك فيه لا وجود له عرفي، ليكون موضوعاً للحكم بالنجاسة.

ويناسب ذلك ما هو المعلوم ودلت عليه النصوص من عدم انفعال الماء الكثير وماء المطر باختلاطه بالبول والدم ونحوهما من دون أن يتغير به، مع ما هو المعلوم من السيرة من طهارة الماء القليل المأخوذ منه وإن علم بالتدقيق أنه مشتمل على أجزاء

ص: 381

(382)

(السادس والسابع): الكلب، والخنزير البريان (1)

بولية ودموية أو نحوها ما دامت غير متميزة فيه.

نعم بعد فرز الدم - كما تيسر في عصورنا ببعض الأجهزة الحديثة - ربما يقال بنجاسته حينئذ. لكنه لا ينجس اللبن، لانفصاله عنه حينئذٍ. بل لا يمكن البناء على نجاسة اللبن بالدم المذكور، حيث انكشف - بسبب الأجهزة الحديثة - عدم خلوّ اللبن عن ذلك نوعاً. وقد حكي في وقته فتوى سيدنا المصنف (قدس سره) بالطهارة حينما استفتي بذلك.

(1) قال في الجواهر: "للإجماع المحصل - بل ضرورة المذهب - والمنقول في الخلاف وعن غيره على الكلب، كما أنه نفى الخلاف عن نجاسة الثاني فيه أيضاً، كالإجماع في الذكرى والمدارك على نجاسة عينهما ولعابهما، وفي المنتهى والتذكرة وكشف اللثام على نجاستهما، وفي المعتبر على وجوب غسل ثوب لاقاهما رطباً".

وقد يستدل على نجاسة الخنزير بقوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس" (1) بناء على أن المراد بالرجس النجاسة الخبثية. لكنه غير ظاهر، بل من القريب أن يكون المراد به الخبيث.

فالعمدة النصوص، وقد استفاضت بنجاسة الكلب، كصحيح البقباق: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، وإن مسّه جافاً فاصبب عليه الماء..." (2) وفي صحيحه الآخر عنه (عليه السلام): "فقال: رجس نجس لا يتوضأ بفضله، واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب..."(3) ، وفي معتبر معاوية بن شريح عنه (عليه السلام):" أنه سئل عن سؤر الكلب يشرب منه أو يتوضأ؟ قال: لا. قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا والله إنه نجس، لا والله إنه نجس "(4) ونحوها غيرها.

********

(1) سورة الأنعام الآية: 145.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 6.

ص: 382

نعم في صحيح ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه والسنور أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم، إلا أن تجد غيره فتنزه عنه"(1).

وقد يتوهم الجمع بينه وبين النصوص المتقدمة بحملها على الكراهة. لكنه لا يناسب تلك النصوص، خصوصاً مثل معتبر معاوية. بل الحمل المذكور لا يناسب تسالم الأصحاب في مثل هذا الحكم الشايع الابتلاء.

ومن هنا إن أمكن الجمع بينه وبين تلك النصوص بحمله على الكر تعين، ولاسيما بملاحظة موثق أبي بصير عنه (عليه السلام): "قال: ليس بفضل السنور بأس أن يتوضأ منه ويشرب، ولا يشرب سؤر الكلب، إلا أن يكون حوضاً كبيراً يستقى منه"(2).

وإن لم يمكن - لاستبعاد خفاء اعتصام الكر على مثل ابن مسكان، ولأن المنصرف من السؤال كون منشأه الشك في وجود مقتضى الانفعال، فلا يناسب ابتناء الجواب على فرض وجود المانع منه. فتأمل - تعين طرح الصحيح أو حمله على التقية، لأن القول بالطهارة شايع عند العامة.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من أنه لو تم ورود الصحيح في خصوص القليل فغاية ما يستفاد منه عدم انفعال الماء القليل بالملاقاة، فينافي نصوص الانفعال، من دون أن ينافي نصوص نجاسة الكلب بوجه.

ففيه: أن حمله على ذلك ليس بأولى من حمله على طهارة الحيوانات المذكورة، بل لعل الثاني أولى لظهور ذكر الحيوانات في خصوصيتها. على أن جملة من نصوص نجاسة الكلب قد وردت في السؤر، فلابد من التعارض بينها وبين الصحيح، والمتعين ما سبق.

هذا وفي الفقيه:" ومن أصاب ثوبه كلب جاف ولم يكن بكلب صيد فعليه أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب الأسئار حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الأسئار حديث: 7.

ص: 383

بجميع أجزائهما (1)،

يرششه بالماء، وإن كان رطباً فعليه أن يغسله، وإن كان كلب صيد وكان جافاً فليس عليه شيء، وإن كان رطباً فعليه أن يرششه بالماء".

ولا شاهد للتفصيل المذكور من النصوص التي بين أيدينا. بل قد ينافيه صحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكلب السلوقي فقال: إذا مسسته فاغسل يدك"(1).

هذا وأما الخنزير فمقتضى جملة من النصوص نجاسته، كصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال: إن كان دخل في صلاته فليمض فإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه. إلا أن يكون فيه أثر فيغسله. قال: وسألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات" (2) ونحوه غيره.

نعم في معتبر زرارة: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستسقى به الماء. قال: لا بأس"(3). لكن جواز الاستقاء بالجلد أعم من طهارته، ولا قرينة على كون الغرض منه الشرب أو الوضوء، بل لعل منشأ السؤال احتمال حرمة الانتفاع به، لخصوصيته، أو لأنه ميتة، أو احتمال انفعال ماء البئر به.

ولا أقل من لزوم حمله على ذلك أو نحوه بقرينة النصوص الأول المعّول عليها عند الأصحاب. ولو تعذر ذلك تعين طرحه، لنحو ما سبق في الكلب. وهو اللازم فيما ورد لحم الخنزير وودكه مما يأتي التعرض له عند الكلام في نجاسة الخمر.

(1) أما ما تحله الحياة كالجلد فلعدم الإشكال في دلالة نصوص النجاسة على نجاسته واحتمال طهارته بالموت أو الانفصال غير عرفي، وتقدم الكلام في معتبر زرارة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 12 من أبواب النجاسات حديث: 9.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 13 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 14 من أبواب الماء المطلق حديث: 16.

ص: 384

وفضلاتهما ورطوباتهما (1) دون البحريين (2).

في جلد الخنزير. وأما ما لا تحله الحياة كالشعر فقد تقدم خلاف المرتضى (قدس سره) فيه عند الكلام في مستثنيات الميتة وتقدم وجهه وضعفه. فراجع.

(1) لأنها ملحقة بهما عرفاً، أو لملاقاتها لهما برطوبة مسرية. وأما ما كان محرماً بعنوانه كغائط وبول ما لا يؤكل لحمه فالأمر فيه أظهر.

(2) ففي التذكرة ونهاية الأحكام والذكرى وعن التحرير وغيرها طهارة كلب الماء، وعن الكفاية أنه المشهور. وعن السرائر أنه نجس. وعن البيان احتمال نجاسته ونجاسة خنزير الماء. وفي مفتاح الكرامة: "وفي المنتهى: الأقرب أن كلب الماء يتناوله هذا الحكم، لأن اللفظ يقال عليه بالاشتراك".

لكنه يشكل أولاً: بعدم وضوح الاشتراك، لعدم صحة إطلاق الكلب عليه، إلا أن يضاف للماء، فهو نظير الماء المطلق والماء المضاف.

وثانياً: بأن المدعى إن كان هو الاشتراك اللفظي فهو لا ينفع في التعميم، بناء على ما هو الظاهر عدم صحة استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وحيث لا إشكال في إرادة البري يتعين عدم إرادة كلب الماء.

وإن كان هو الاشتراك المعنوي - كما جنح إليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) - فهو موقوف على وجود الجامع العرفي، وهو بعيد جداً، بل يقطع بعدمه. مع أنه لو تم فلا إشكال في انصراف الإطلاق للبري.

ومن ثم لا يبعد التصحيف في عبارة المنتهى، وأن الصحيح ما في المطبوع الحديث منه. قال: "الأقرب أن كلب الماء لا يتناوله هذا الحكم، لأن اللفظ مقول عليه وعلى المعهود بالاشتراك اللفظي" وهو المناسب لما في الجواهر من تفرد السرائر بالقول بالنجاسة.

هذا وقد استدل بعض مشايخنا (قدس سره) على طهارته بصحيح عبد الرحمن بن

ص: 385

الحجاج: "سأل أبا عبد الله (عليه السلام) رجل وأنا عنده عن جلود الخز. فقال: ليس بها بأس. فقال: الرجل: جعلت فداك أنها علاجي [في بلادي]، وإنما هي كلاب تخرج من الماء. فقال: أبو عبد الله (عليه السلام): إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا قال: ليس به بأس"(1).

وهي وإن وردت في خصوص كلب الماء، إلا أن سؤاله (عليه السلام) عن أنها هل تعيش خارج الماء ونفيه البأس عنها بعد فرض عدم عيشها خارجه كالصريح في أن العلة في الحكم بالطهارة كون الحيوان مما لا يعيش خارج الماء، فيشمل خنزير الماء أيضاً. وقد سبقه إلى ذلك كله شيخنا الأعظم (قدس سره).

لكنه موقوف على أن يكون الخز المسؤول عنه في الصحيح هو كلب الماء الذي هو محل الكلام، وفي الجواهر أنه الذي قطع به بعض المحصلين من معاصريه مستشهداً عليه بالصحيح. وهو غير ظاهر، ومجرد تعبير السائل عنه بأنها كلاب تخرج من الماء لا يكفي في إثباته، لقرب كون المراد بذلك أنها من السباع، لا أنها الحيوان المعروف المسمى بكلب الماء.

وأما التعليل الذي أشار إليه، فلعله مسوق لتعليل تذكيتها لدفع توهم نجاستها بالموت بعد الفراغ عن طهارتها بالأصل، كما يناسبه خبر ابن أبي يعفور:" كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه، رجل من الخزازين، فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخز؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه. فقال له الرجل: جعلت فداك إنه ميت... فتبسم أبو عبد الله (عليه السلام) ثم قال له: أتقول: إنه دابة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج، فإذا فقد الماء مات؟ فقال الرجل: صدقت جعلت فداك هكذا هو. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): فإنك تقول: إنه دابة تمشي على أربع، وليس هو في حدّ الحيتان، فتكون ذكاته خروجه من الماء؟ فقال الرجل: إي والله هكذا أقول. فقال: له أبو عبد الله (عليه السلام): فإن الله تعالى أحله، وجعل ذكاته موته، كما أحل الحيتان وجعل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 10 من أبواب لباس المصلي حديث: 1.

ص: 386

(387)

ذكاتها موتها"(1).

وحينئذٍ لا ينافي نجاسة بعض حيوانات الماء بالذات المانعة من قابليتها للتذكية. ولا أقل من لزوم حمل التعليل على ذلك لو تم إطلاق دليل نجاسة الكلب أو الخنزير. فالعمدة ما سبق من عدم تمامية الإطلاق في الكلب. ومثله الخنزير في ذلك.

بقي شيء: هو أن المعروف بين الأصحاب عدم نجاسة شيء من الحيوانات الصامتة غير الكلب والخنزير. لكن قد ينسب لبعض القدماء نجاسة حيوانات أخرى.

منها: المسوخات. ففي بيع المبسوط وأطعمة الخلاف أنه كلها نجسة، بل في الثاني الإجماع عليه. ودليله غير ظاهر.

نعم في خبر أبي سهل القرشي: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لحم الكلب. فقال: هو مسخ. قلت: حرام؟ قال: هو نجس. أعيدها ثلاث مرات، كل ذلك يقول: هو نجس"(2). لكن الاستدلال به - مع غض النظر عن سنده - موقوف على سوق قوله (عليه السلام):" هو مسخ "لتعليل قوله (عليه السلام):" هو نجس "وهو غير ظاهر.

ومنها: العقرب والوزغ. فقد تقدم عند الكلام في ميتة ما لا نفس له سائلة ظهور بعض كلماتهم في نجاستهما حال الحياة أيضاً، وتقدم وجهه وضعفه.

ومنها: والأرنب والثعلب. ففي المبسوط والنهاية والحلبيين وغيرهما نجاستها، بل عن الغنية الإجماع عليه. ويقتضيه صحيح يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته هل يحل أن يمس الثعلب والأرنب أو شيئاً من السباع حياً أو ميتاً؟ قال: لا يضره، ولكن يغسل يده"(3). والإشكال في سندها بالإرسال قد لا يتم بعد ما قيل من أن يونس لا يرسل إلا عن ثقة، ولاسيما مع ظهور عمل غير واحد من القدماء

********

(1) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 8 من أبواب لباس المصلي حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 2 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 34 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 387

بالحديث.

نعم ظاهره عدم خصوصية الثعلب والأرنب في الحكم، وأن الحكم فيهما تابع لعموم الحكم في السباع. وحينئذٍ يعارضه في ذلك صحيح البقباق: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلا سألته عنه. فقال: لا بأس، حتى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس"(1).

على أن جملة من النصوص قد دلت على قبول الأرنب والثعلب للتذكية، كصحيح جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام):" سألته عن الصلاة في جلود الثعالب. فقال: إذا كانت ذكية فلا بأس"(2) ، وخبر محمد بن إبراهيم: "كتبت إليه أسأله عن الصلاة في جلود الأرانب. فكتب مكروه"(3) ، وغيره من النصوص الكثيرة الواردة في جواز الصلاة ومنعها، لظهورها في المفروغية عن تذكيتها، ومن الظاهر أن نجس العين غير قابل للتذكية، بل لما كان المس لهما بمس شعرهما كفى في طهارة الأرنب ما في صحيح محمد بن عبد الجبار في وبر الأرنب وما لا يحل أكل لحمه من قوله (عليه السلام):" وإن كان الوبر ذكياً حلت الصلاة فيه إن شاء الله"(4).

ومن ثم لابد من طرح حديث يونس أو حمله على الاستحباب، أو على المس حال الموت بنحو يقتضي نجاسة الشعر لوجود الرطوبة المسرية أو نحو ذلك.

ومنها: الفأرة. ففي المقنعة والنهاية والوسيلة وعن موضع من المقنع والفقيه غسل ما أصابته برطوبة، بل في كتاب البيع من المبسوط عدها من نجس العين. ويشهد به صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب أيصلي فيها؟ قال: اغسل ما رأيت من أثرها، وما لم تره انضحه

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 11 من أبواب النجاسات حديث: 1.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 7 من أبواب لباس المصلي حديث: 9، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 3 باب: 14 من أبواب لباس المصلي حديث: 4.

ص: 388

(389)

(الثامن): المسكر (1) المائع بالأصالة بجميع أقسامه

بالماء" (1) وغيره.

لكن لابد من حمله على الاستحباب. لصحيحه الآخر عنه (عليه السلام): "وسألته عن فأرة وقعت في حب دهن وأخرجت قبل أن تموت أبيعه من مسلم؟ قال: نعم ويدهن به"(2) ، وصحيح إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه ونتوضأ منه "(3) وغيرهما.

ولا يبعد كون بعض ما تقدم منهم مبنياً على الجري على عبارات النصوص، ولذا اختفلت بعض كلماتهم بما لا يسعنا استقصاؤه، ولا يهمنا بعد وضوح الحكم.

(1) كما هو المشهور نقلاً تحصيلاً قديماً وحديثاً بيننا وبين غيرنا شهرة كادت تكون إجماعاً، بل هي كذلك. كذا في الجواهر. وقد تكررت دعوى الإجماع صريحاً وظاهراً عليه في كلام غير واحد، كالسيدين والشيخ والمحقق وغيرهم على ما حكي عنهم. ويشهد به كثير من النصوص.

منها: موثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في الإناء يشرب فيه النبيذ. فقال: تغسله سبع مرات... ولا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل..."(4) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أيصلح للمرأة أن تصلي وهو على رأسها؟ قال: لا حتى تغتسل منه"(5) ، وصحيح يونس عن بعض من رواه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فأعد صلاتك"(6) ،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 33 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 9 من أبواب الأسئار حديث: 1، 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 35 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(5) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 37 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 3.

ص: 389

وقريب منها خبر هشام بن الحكم في الفقاع(1) ، وخبر زكريا بن آدم في قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم قال (عليه السلام): "يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، واللحم اغسله وكله"(2) ، وخبر أبي بصير في حديث النبيذ:" قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يبل الميل ينجس حباً من ماء، يقولها ثلاثاً"(3) ، ومعتبر عمر بن حنظلة: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره؟ قال: لا والله ولا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب"(4) ، وخبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) في الأكل على خوان أصابه الخمر، قال:" إن كان الخوان يابساً فلا بأس"(5).

ومنها: ما ورد في أواني الخمر، كموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): "سألته عن الدن يكون فيه الخمر... قال: إذا غسل فلا بأس. وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر... قال: إذا غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر. قال: تغسله ثلاث مرات سئل يجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات"(6). ونحوه في وجوب الغسل غيره(7).

ومنها: ما ورد في أواني المشركين والثياب التي عندهم، كصحيح محمد بن مسلم:" سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس. فقال: لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر"(8) ، وصحيح

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب 20 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2. وأشار إليه في ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 6.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 18 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(5) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 25 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

(6) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(7) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5، 6.

(8) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 54 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

ص: 390

إسماعيل بن جابر: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله... ثم قال: لا تأكله، ولا تتركه تقول: إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير" (1) وما في معتبر يونس عنهم (عليهم السلام): "وإنما كره أن يؤكل سوى الأنفحة مما في آنية المجوس وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقون الميتة والخمر" (2) وصحيح عبد الله بن سنان: "سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله قبل أن أصلي فيه فقال أبو عبد الله (عليه السلام): صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه"(3) ، وقريب منه صحيحه الآخر وخبر خيران الخادم إلا أن فيهما:" لا يصلي فيه حتى يغسله"(4). قال سيدنا المصنف (قدس سره): "فإن الأمر فيه وإن كان محمولاً على الاستحباب لكنه يدل بالتقرير على نجاسة الخمر".

ونحوهما في الدلالة بالتقرير والظهور في المفروغية صحيح معاوية بن عمار: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهو أخباث [أجناب] وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال: نعم..." (5) وقريب منه خبر أبي جميلة عنه(6) (عليه السلام) وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام): "سأله عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه الخمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال: لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه..."(7).

وقد يؤيده ما ورد في نزح البئر لوقوع الخمر فيها(8) ، بناء على ما تقدم غير مرة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 54 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1، 2.

(5و6) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 1، 7.

(7) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 6 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

(8) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 15 من أبواب الماء المطلق حديث: 2.

ص: 391

من أنه بعد البناء على عدم تنجس البئر لا يمكن الاستدلال بنصوص النزح على نجاسة ما تنزح له، إذ كما يمكن أن يكون استحباب النزح للتنزه عن أثر النجاسة يمكن أن يكون للتنزه عن أثر غيرها، كما ورد النزح لبعض الأمور التي ثبت عدم نجاستها.

هذا وقد ذهب الصدوق إلى جواز الصلاة في الثوب الذي أصابه الخمر. ومن ثم نسب له القول بطهارتها كما نسب لأبيه في رسالته وللحسن والجعفي، على إشكال في الأخير. وعن ظاهر الأردبيلي أو صريحه القول بالطهارة، وظاهر المدارك وعن الخونساري التوقف.

لجملة من النصوص. كمعتبر الحسن [الحسين خ ل] بن أبي سارة: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أصاب ثوبي شيء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس إن الثوب لا يسكر"(1).

وقد استشكل فيه سيدنا المصنف (قدس سره) بأن مقتضى التعليل فيه طهارة الثوب لأنه لا يسكر ونجاسة الخمر لأنها تسكر، فهو من أدلة النجاسة. نعم لا قائل بمضونه.

ويندفع بأنه لا قرينة على كون المعلل هو طهاة الثوب، بل المنع من الصلاة فيه، فمقتضاه أن المنع عن الخمر لما كان من أجل إسكارها فلا يتعدى للثوب لعدم إسكاره، فيكون مقتضاه عدم نجاسة الخمر، لأنها لو كانت نجسة لتعدت للثوب.

ومثله في ذلك خبره:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نخالط اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون، فيمر ساقيهم ويصب على ثيابي الخمر. فقال: لا بأس به، إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره"(2) ، وصحيح علي بن رئاب: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي فاغسله أو أصلي فيه؟ قال: صل فيه. إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، إن الله تعالى إنما حرم شربها"(3) ، ومرسل الصدوق في الفقيه:" سئل أبو جعفر وأبو عبد الله (عليه السلام) فقيل لهما: إنا نشتري

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 10، 12، 14.

ص: 392

ثياباً يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها أنصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس، إنما حرم الله أكله وشربه، ولم يحرم لبسه ومسه والصلاة فيه ".وعن العلل روايته مسنداً بطريق صحيح عن بكير عن أبي جعفر (عليه السلام) وعن أبي الصباح وأبي سعيد والحسن النبال عن أبي عبد الله(1) (عليه السلام)، وموثق ابن بكير:" سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب، قال: لا بأس"(2) ، ومعتبر الحسن بن موسى بن الحناط: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي. فقال: لا بأس" (3) وخبر حفص الأعور: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل؟ قال: نعم"(4).

ومن هنا قد يدعى أن مقتضى الجمع العرفي حمل نصوص النجاسة على استحباب الغسل المطهر أو كراهة الاستعمال بدونه.

لكنه لا يناسب بعض نصوص الطائفة الأولى كحديث يونس المقتضي غسل الثوب كله عند الجهل بموضع الملاقاة وإعادة الصلاة إذا وقعت معه. وصحيح عبد الله بن سنان وخبر أبي بصير المتضمنين التعبير بالتنجيس، ومعتبر عمر بن حنظلة الظاهر في شدة أمر الخمر، ولا بعض نصوص الطائفة الثانية، كقوله (عليه السلام) في صحيح علي بن رئاب:" إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر "،لظهوره في أن الغسل لاستقذار المكلف، لا لاستقذار الشارع له ولو بمرتبة يقتضي كراهة الاستعمال.

بل ملاحظة مجموع نصوص كلتا الطائفتين لا تناسب الحمل المذكور جداً. ومن هنا كان الظاهر تعذر الجمع العرفي بين الطائفتين واستحكام التعارض بينهما.

وفي المعتبر بعد أن حكم بضعف ما ذكره من أخبار كلتا الطائفتين قال:" لكن مع اختلاف الأصحاب والأحاديث يؤخذ بالأحوط في الدين ".وفيه: أنه لا مجال

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 15، 11.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 39 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 30 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

ص: 393

للإشكال بضعف السند بعد ما سبق من استفاضة نصوص كلتا الطائفتين واعتبار جملة منها. على أنه مع ضعفها لا موضوع للترجيح، بل المرجع الأصل وهو يقتضي الطهارة. مع أن التحقيق عدم كون الاحتياط من المرجحات.

ومثله ما في التهذيبين وغيرهما من ترجيح النجاسة بموافقة الكتاب لقوله تعالى:" إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان"(1) ، بناء على أن الرجس هو النجس لغة، كما في التذكرة وعن المنتهى، وغير واحد من أهل اللغة، وفي التهذيب: "والرجس هو النجس بلا خلاف".

لاندفاعه بأن الرجس وإن فسر لغة بالنجس، إلا أنه لا يراد به النجس بالمعنى الذي هو محل الكلام، فإنه معنى شرعي حادث، بل مطلق القذر وإن كان معنوياً، ولذا يوصف به الأفعال والصفات والعذاب ونحوها، كقوله تعالى: "وأما الذين في قلوبهم مرض فزادهم رجساً إلى رجسهم" (2) وقوله سبحانه: "كذلك يجعل الرجس على الذين لا يؤمنون" (3) إلى غير ذلك. ويناسبه في المقام عطف الميسر والأنصاب على الخمر في الآية الشريفة.

وأما ما في الجواهر في تقريب حمل الرجس في الآية على النجس من قوله: "ولعله لا ينافيه وقوعه مع ذلك خبراً عن الأنصاب والأزلام، لإمكان أن يراد به بالنسبة إليهما المستقذر عقلاً من باب عموم المجاز. على أنه يمكن - بل هو الظاهر - دعوى كونه خبراً عن الخمر خاصة، فيقدر حينئذٍ لهما خبراً. ولا يجب مطابقة المحذوف والموجود، وإن كان دالاً عليه، كما في عطف المندوب على الواجب بصيغة واحدة، فيتعين حينئذٍ كون الرجس بمعنى النجس" .فهو كما ترى تكلف وخروج عن الظاهر بلا شاهد.

********

(1) سورة المائدة الآية: 90.

(2) سورة التوبة الآية: 125.

(3) سورة الأنعام الآية: 125.

ص: 394

وما أبعد ما بينه وبين ما في مجمع البيان حيث قال: "لابد من أن يكون في الكلام حذف، والمعنى شرب الخمر وتناوله أو التصرف فيه وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام رجس أي خبيث من عمل الشيطان" .وبالجملة: لا دلالة في الآية الشريفة على النجاسة، لتنهض بترجيح نصوصها.

ومن ثم قد يتعين الرجوع للمرجح الثالث وهو مخالفة العامة، كما أشار إليه سيدنا المصنف (قدس سره) وهو يقتضي تقديم نصوص الطهارة لأن المشهور بينهم النجاسة، ولم يعرف القول بالطهارة إلا عن ربيعة الرأي ومالك وداود وأحد قولي الشافعي، على إشكال في النسبة لبعضهم.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن نصوص الطهارة وإن خالفت مشهور العامة في الفتوى فهي موافقة لهم في العمل، لأن أمراءهم وسلاطينهم كانوا يشربون الخمر، ولا يجتنبوبه به. فهو كما ترى لأن المرجح للنصوص عند التعارض هو مخالفة الفتوى دون العمل.

نعم بعد نقل القول بالطهارة عمن تقدم يشكل تمامية المرجح المذكور، لأن من سبق من أعيان العامة، ولا يتضح عموم الترجيح لمثل هذه الشهرة، بل غاية ما يدعى اختصاصها بما إذا كان المخالف لندرته شاذاً لا يخل بنسبة الحكم إليهم عرفاً.

نعم ورد الأمر بترك ما كان حكامهم وقضاتهم إليه أميل والأخذ بالآخر. وتشخيص ذلك في المقام لا يخلو عن إشكال. ومثله ما في كشف اللثام من أن المشهور عند العامة العفو عن قليل الخمر في الصلاة، فتكون نصوص الطهارة موافقة لهم في ذلك ويكون الترجيح لنصوص النجاسة.

إذ فيه: أن النصوص المذكورة لا تختص بالقليل، ولاسيما بملاحظة التعليل فيها بأن الله تعالى إنما حرم شربها، وبأن الثوب لا يسكر، فهي ظاهرة في الطهارة التي هي مخالفة للمشهور بين العامة كما سبق. ومن ثم لا مجال لإعمال المرجح المذكور في كلتا الطائفتين. وقد يتعين ذلك البناء على التساقط والرجوع لأصالة الطهارة.

ص: 395

هذا كله بالنظر للطائفتين بأنفسهما. لكن لابد من تقديم الطائفة الأولى بلحاظ صحيح علي بن مهزيار: "قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه، إنما حرم شربها. وروى غير زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنه قال: إذا أصابك خمر أو نبيذ يعني: المسكر فاغسله إن عرفت موضعه، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وإن صليت فيه فاعد صلاتك، فأعلمني ما آخذ به. فوقع (عليه السلام) بخطه وقرأته: خذ بقول أبي عبد الله (عليه السلام)"(1). لظهوره في أن العمل على ما ينفرد به الإمام الصادق (عليه السلام) وهو دليل النجاسة، لا ما يشارك فيه أباه (عليه السلام) وهو دليل الطهارة.

ودعوى: أنه من جملة نصوص النجاسة المعارضة لنصوص الطهارة، فلا يكون شاهداً على تقديمها على نصوص الطهارة. مدفوعة بأنه لما كان ناظراً لكلتا الطائفتين كان متأخراً عنهما رتبة وحاكماً عليهما، وكان كاشفاً عن خلل في نصوص الطهارة مانع من الرجوع لأصالة الجهة فيها.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى لزوم طرحه لموافقته للعامة. لاندفاعها بأن موافقة العامة إنما توجب طرح الحديث عند التعارض، لا مطلقاً، وحيث سبق عدم كونه طرفاً للتعارض فلا مجال لطرحه بموافقتهم، بل مقتضى أصالة الجهة فيه لزوم العمل به.

وقريب منه في ذلك معتبر خيران الخادم، بناء على ما هو الظاهر من الاعتماد على حديث سهل بن زياد:" كتبت إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صل فيه، فإن الله إنما حرم شربها، وقال بعضهم: لا تصل فيه. فكتب (عليه السلام): لا تصل فيه، فإنه رجس "(2) فأنه وإن لم يتعرض فيه لطائفتي النصوص، إلا أن من الظاهر ابتناء اختلاف أصحابنا المشار إليه فيه على اختلاف النصوص، فترجيح إحدى الفتويين راجع لترجيح النص

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 38 من أبواب النجاسات حديث: 2، 4.

ص: 396

الذي هو دليلها.

هذا مضافاً إلى تأيد مضمونهما بأن نصوص النجاسة أكثر عدداً، وقد وردت بألسنة مختلفة، يظهر من بعضها المفروغية عن النجاسة ووضوحها، لورودها في بعض الأحكام المترتبة على النجاسة ككيفية التطهير منها، واجتناب الكفار من أجلها، وحكم الشك في ملاقاة ما يؤخذ منهم لها، حيث يبعد جداً مع ذلك مخالفة مضمونها بأجمعها وعدم ثبوت أصل النجاسة.

مضافاً إلى أن بعض نصوص الطهارة المتقدمة إنما تضمن نفي البأس عن إصابة الخمر والنبيذ للثوب من دون تصريح بجواز الصلاة فيه، ومقتضى إطلاقه وإن كان هو عدم مانعيته عن الصلاة، إلا أن حمله بقرينة نصوص النجاسة على دفع توهم حرمة لبس ما أصابه الخمر تكليفاً تنفيراً عنه غير عزيز.

وكذا حمل خبر حفص المتضمن جواز جعل الخل في دن الخمر إذ جفف على جعله بعد تطهيره، لدفع توهم أن جفاف الخمر فيه مانع من تطهيره بالغسل لاستحكام الخمر فيه وتكثفه بجفافه.

فلم يبق إلا حديث الصدوق ومعتبر الحسن بن سارة وصحيح علي بن رئاب الصريحة في جواز الصلاة في الثوب الذي يصيبه الخمر والنبيذ قبل غسله، ومن الظاهر قصورها عن معارضة نصوص النجاسة الكثيرة العدد الواضحة الدلالة.

ولاسيما مع اشتمال الأول على طهارة ودك الخنزير ولعله الذي أشير إليه في صحيح علي بن مهزيار، حيث يوجب ذلك الريب فيه، بل في بقية نصوص الطهارة، ويجعلها من المشكل الذي يرد علمه لهم (عليهم السلام)، أو من الشاذ النادر الذي يجب تركه والأخذ بالمشهور الذي لا ريب فيه.

ولعله لذا قال في الذكرى:" والصدوق وابن أبي عقيل والجعفي تمسكوا بأحاديث لا تعارض القطعي ".ومن هنا لا ينبغي التأمل في النجاسة، بل في وضوحها. فلاحظ.

ص: 397

(398)

بقي شيء: وهو أن المصرح به في كلام غير واحد من الأصحاب - ومنهم بعض مدعي الإجماع - عموم النجاسة لكل مسكر، وفي المعتبر:" والأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر، لأن المسكر خمر "،وعن التحرير أن عمل الأصحاب على ذلك، وفي المدارك أنهم قد قطعوا بذلك، وعن المصابيح:" حكم سائر المسكرات حكم الخمر عندنا".

ومن ثم ادعي الإجماع المركب تارة والإجماع على الملازمة بين نجاسة الخمر ونجاسة مطلق المسكر أخرى. لكن من الظاهر أن دعوى الإجماع بالنحو المذكور لا ينهض بالاستدلال بنفسها، لابتناء الإجماع لو تم على فهم ذلك من الأدلة، فاللازم النظر فيها.

ويمكن تقريب دلالتها على ذلك بأن جملة من النصوص وإن اشتملت على عنوان الخمر والنبيذ أو عليهما معاً وعلى الفقاع، إلا أن النظر في مجموع النصوص يقضي بإلغاء خصوصية العناوين المذكورة، لاشتمال بعض نصوص كلتا الطائفتين على المسكر، أو عطفه على الخمر أو عطف النبيذ عليه، بل بعض فقرات موثق عمار قد أشتمل على النبيذ وآخر على الخمر وثالث على الخمر والمسكر ورابع على الخمر المسكر.

ويؤيد ذلك عموم الحكم في خبر هشام بن الحكم للفقاع الذي هو أخف أنواع المسكر وأخفاها. ولاسيما مع أن العموم هو المستفاد في بقية الأحكام - غير حرمة الشرب والحدّ التي تظافرت الأدلة بعمومها لكل مسكر - كالنزح في البئر، وحرمة العصر والغرس والتطهير بالانقلاب، وغير ذلك مما تضمنت الأدلة أخذ عناوين خاصة فيه كالنبيذ والخمر.

وكأن ذلك كله ناش من عموم التحريم الذي تظافرت به الأدلة، بضميمة ارتكاز أن جميع الأحكام على نسق واحد. ومن ثم كان عموم الحكم مفروغاً عنه عند الأصحاب بمقتضى سلائقهم الأولية في فهم النصوص من دون تعمل وتمحل. ولا يبعد كون ذلك وحده كافياً في البناء على العموم، لكشفه عن قرينة قد أدركوه

ص: 398

بمرتكزاتهم بسبب قربهم من عصر الصدور.

ولو غض النظر عن ذلك أمكن الاستدلال بغير واحد من النصوص منها: معتبر عمر بن حنظلة المتقدم الذي أطلق فيه المسكر. وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من الإشكال في سنده، لعدم النص على توثيق عمر المذكور. فهو مدفوع باستفادة وثاقته من رواية صفوان عنه الذي قيل أنه لا يروي إلا عن ثقة معتضداً بمجموعة من القرائن ذكرها هو (قدس سره) وغيره تكفي بمجموعها في إثبات وثاقته، بل رفعة شأنه.

ومنها: موثق عمار المتقدم أيضاً.

ودعوى: معارضتهما بما دل على طهارة مطلق المسكر، كموثق ابن بكير المتقدم، وما دل على ترجيح حديث النجاسة على حديث الطهارة مختص بما ورد في النبيذ المسكر، دون ما ورد في مطلق المسكر، كما ذكر ذلك في الجملة بعض مشايخنا (قدس سره).

مدفوعة أولاً: بإمكان حمل موثق ابن بكير بقرينة نصوص النجاسة على مجرد بيان حلّ لبس الثوب الذي يصيبه المسكر تكليفاً لا على الطهارة، كما أشرنا إليه آنفاً.

وثانياً: بأن صحيح ابن مهزيار وإن تضمن ترجيح الحديث المتضمن نجاسة الخمر والنبيذ المسكر ولزوم العمل عليه، إلا أنه لو لم ينهض بترجيح ما تضمن نجاسة مطلق المسكر، لفهم عدم الخصوصية، فلا أقل من كونه موجباً لسقوط موثق ابن بكير المتضمن طهارة مطلق المسكر عن الحجية بعد أن كان الخمر والنبيذ أظهر أفراد المسكر، فلا ينهض بمعارضة نجاسة مطلق المسكر ليسقط عن الحجية، بل يتعين العمل عليه.

ومنها: ما تضمن عموم الخمر لأقسامها، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو عن علي بن جعفر بن إسحاق عنه (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الخمر من خمسة: العصير من الكرم، والنقيع من الزبيب، والبتع من العسل والمزر من الشعير، والنبيذ من التمر" (1) وغيره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1، 3.

ص: 399

فإنه وإن كان ظاهراً بدواً في بيان أقسام الخمر الحقيقية، فيكون أجنبياً عما نحن فيه من عموم الحكم لغير الخمر، إلا أن الظاهر أن المراد به بيان الأقسام للخمر بلحاظ أخذها في موضوع الأحكام الشرعية توسعاً في عنوان الخمر مفهوماً، كما يناسبه اشتماله على النبيذ الذي يظهر من كثير من نصوص المقام وغيرها أنه مباين للخمر، وحيث لا جامع عرفي بين الأقسام المذكورة إلا الإسكار فيكون المقسم في النصوص المذكورة هو المسكر، وهو الذي حرمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن حرم الله تعالى الخمر بعينها، كما تضمنته النصوص الكثيرة، كحديث الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): "سألته عن النبيذ فقال: حرم الله الخمر بعينها وحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأشربة من كل مسكر" (1) وغيره.

وإليه يرجع ما تضمن أن كل مسكر خمر، كخبر عطاء بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر" (2) وغيره.

كما يرجع إليه ما تضمنته جملة من كلمات اللغويين في تعريف الخمر من أنها كل مسكر، فإن الظاهر ابتناؤه على بيان موضوع الأحكام، لا الخمر الحقيقية، وإلا فصريح النصوص أن الخمر في الأصل قسم من المسكر.

وحينئذٍ إن رجعت الأدلة المذكورة إلى التصرف في مفهوم الخمر شرعاً كان مقتضى الإطلاق المقامي حمل الخمر في أدلة أحكامها على هذا المعنى، وإن رجعت إلى التوسع في إطلاق الخمر مجازاً تنزيلاً لكل مسكر منزلة الخمر كان مقتضى إطلاق التنزيل ثبوت جميع الأحكام ومنها النجاسة، كما جرى عليه الأصحاب.

ودعوى: انصراف التنزيل حينئذٍ لخصوص الحرمة دون النجاسة. مدفوعة بأن ذلك مسلم في مثل صحيح علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام): "قال: إن الله عز وجل لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب 15 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 6.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 1 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

ص: 400

(401)

- ومنه السبيرتو (1)

فهو خمر"(1) ، بل قد يتم في خبر عطاء المتقدم، لكن لا مجال له في مثل صحيح ابن الحجاج المتقدم بناء على ما سبق، لعدم الموجب للانصراف المذكور بنحو يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق. فلاحظ.

(1) حيث لا إشكال في مسكرية الأثيلي منه، بسبب شيوع استعماله في الأدوية ونحوها، فإنه إذا كانت نسبته عالية فيها تحقق به الإسكار، بل يشيع استعماله من أجل الإسكار وإن كان كثيراً ما يكسر بالماء، لقوة إسكاره وتأثيره على البدن. بل هو اليوم العنصر المسكر المجعول في الأشربة المسكرة جيدها ورديئها، ومنه ما يطلق عليه في عرفنا الخمر.

نعم كثيراً ما تضاف إليه مواد سامة من أجل المنع من شربه وتخصيص الانتفاع به في الجهات الأخرى. لكن ذلك لا يخرجه عن الإسكار قطعاً، ولا يوجب تبدل حكمه الثابت من حيثيته.

وأما المثيلي فقد شهد جماعة ممن يعتمد عليهم من أهل الخبرة - ولبعضهم المقام الرفيع في المعرفة - بأنه مسكر أيضاً وإن كان ساماً، بل قد يقتل، لأن الإسكار مستند للمادة الكحولية الموجودة في القسمين بل في أقسام أخرى كثيرة.

بل ذكر من لا يشك في دينه ومعرفته، أنه رأى من يستعمله للإسكار بعد التدرج في استعماله وتطبيع البدن عليه منعاً من إضراره، لتيسره لهم دون الأثيلي، وأن هؤلاء يذكرون أنه أجود إسكاراً.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) من انصراف إطلاق المسكر في أدلة النجاسة عما لا يتعارف شربه أو يتعذر شربه وإن أوجب الإسكار لو شرب. ولاسيما بلحاظ عدم وجوده في زمان تحريم الخمر والمسكر.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 9 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 401

(402)

دون الجامد (1)

فهو كما ترى، لا يظن به ولا بغيره الالتزام به في سائر الأحكام ومنها حرمة الشرب أو ثبوت الحدّ، وما الفرق بينها وبين النجاسة بعد فرض ثبوت الإطلاق أو العموم في الكل.

على أنه سبق تعارف شرب بعض أقسامه وشيوعه. إلا أن يدعى الانصراف لخصوص ما يتعارف شربه عصر صدور التحريم. لكن وضوح ضعفه يغني عن إطالة الكلام فيه.

(1) كما صرح به جماعة، وقطع به في المدارك، بنحو يظهر منه كون ذلك مراد الأصحاب، كما عن الذخيرة التصريح بذلك، واستظهر اتفاقهم عليه في محكي شرح الدروس والحدائق، وعن الدلائل الإجماع عليه.

وكأن وضوح ذلك هو الذي أوجب غضهم النظر عن إطلاق نجاسة المسكر في المبسوط والشرايع والقواعد والإرشاد والدروس ومحكي المختلف والتحرير والتنقيح وغيرها، بل صرح غير واحد بتنزيله على المايع.

والوجه فيه قصور ما دل على نجاسة الخمر والنبيذ ونحوهما حتى لو قلنا بإلغاء خصوصية مواردها، فإن المتيقن منه التعدي لكل مسكر مايع. وكذا حديثا عمر بن حنظله وعمار المتضمنان لعنوان المسكر، لأن المنصرف من قوله في ابن حنظلة:" قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته... "خصوص المائع لأنه الذي يقدر بالقدح، والذي يذهب عاديته بمجرد صب الماء عليه من دون حاجة للمرس والتذويب. بل لا ينبغي التأمل في ذلك بعد قوله (عليه السلام) في الجواب:" لا والله ولا قطرة قطرت في حب...".

وكذا قوله (عليه السلام) في موثق عمار:" ولا تصل في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى يغسل "فإن التصرف فيه بالتقييد بالرطوبة حفاظاً على إطلاق المسكر ليس بأولى من

ص: 402

وإن غلا وصار مائعاً بالعارض (1). لكنه حرام (2).

حمل المسكر فيه على المائع، بل الثاني أنسب بسياقه مع الخمر.

وأما أدلة التنزيل فقد سبق انصراف التنزيل لخصوص الحرمة فيما كان منها بلسان كل مسكر خمر لو تم إطلاقه وعدم انصرافه للمايع المسانخ للخمر. وأما ما كان منها بلسان تقسيم الخمر إلى الأقسام المتقدمة - كحديث ابن الحجاج - فقد سبق أن عموم المقسم فيه لكل مسكر إنما هو لكونه الجامع العرفي بين الأقسام المذكورة بضميمة ما تضمن حرمة كل مسكر، والمتيقن من الجامع المذكور هو المايع منه، الذي لا إشكال في اختصاص كلمات اللغويين به.

ولاسيما بملاحظة اختصاص جملة من نصوص تحريم المسكر بالشراب ومنها خبر عطاء المتقدم. غاية الأمر أن ظاهر بعضها العموم، إلا أنه لا يبعد تنزيله عليها جمعاً كما يظهر بملاحظتها. ولو فرض بقاؤه على العموم فلا قرينة على تعميم المقسم تبعاً له، بل المتيقن أو المنصرف منه المايع، كما ذكرنا.

(1) كما في التذكرة والروض والمسالك وعن الذكرى، وفي الجواهر:" بل قد يظهر من الذخيرة والحدائق الإجماع عليه ".وقد يشكل بلحاظ إطلاق النصوص المتقدمة. اللهم إلا أن يدعى انصرافها للمايع بالأصل، لظهورها في لزوم النجاسة للإسكار، وهو لا يكون إلا في المايع بالأصل، ويقصر عن المايع بالعرض بعد فرض عدم نجاسته حال جموده وإسكاره. فيكون المرجع فيه الأصل، المقتضي للطهارة.

هذا وقد صرح في التذكرة والروض والمسالك ومحكي المنتهى والذكرى بعدم طهارة المائع بالأصل إذا عرضه الإنجماد. قال سيدنا المصنف (قدس سره):" بل الظاهر التسالم عليه، كما يظهر من عدم عدّ الجمود من المطهرات ".والعمدة فيه: أن الجمود إن منع من صدق الإطلاق كفى الاستصحاب في البناء على النجاسة وإلا فالأمر أظهر.

(2) بلا إشكال ظاهر، وظاهرهم المفروغية عنه، بل الإجماع عليه. إما لعموم

ص: 403

(404)

(مسألة 17): العصير العنبي إذا غلا بالنار فالظاهر بقاؤه على الطهارة (1)

التنزيل المتقدم، بناء على عمومه للجامد، على ما تقدم الكلام فيه، أو لعموم التعليل المستفاد من مثل صحيح علي بن يقطين المتقدم.

(1) كما صرح به غير واحد من المتأخرين، بل عن المستند استظهار شهرته بين متأخري المتأخرين. خلافاً لما صرح به غير واحد من نجاسته أو كونه بحكم المسكر، بل عن غير واحد أنه المشهور مطلقاً أو بين المتأخرين. وفي المختلف:" الخمر وكل مسكر والفقاع والعصير إذا غلا قبل ذهاب ثلثيه بالنار أو من نفسه نجس ذهب إليه أكثر علمائنا، كالشيخ المفيد والشيخ أبي جعفر والسيد المرتضى وأبي الصلاح وسلار وابن إدريس ".بل عن أطعمة التنقيح دعوى الاتفاق على أنه بعد الغليان بحكم الخمر. ومن ثم قد يستدل على النجاسة بالإجماع.

لكن لا مجال لدعوى الإجماع، فضلاً عن الاستدلال به، بعد ما سبق من عدم الإجماع على نجاسة الخمر، بل بعد تصريح غير واحد بعدم وضوح القول بنجاسته من جملة ممن صرح بنجاسة الخمر، ففي الذكرى بعد أن حكى القول بالنجاسة مع الغليان والاشتداد عن ابن حمزة والمحقق والتردد عن العلامة في النهاية:" ولم نقف لغيرهم على قول النجاسة ".وفي مفتاح الكرامة بعد حكاية ما سبق عن المختلف:" ولعله ظفر به في كتبهم ولم نظفر به ".ويظهر من مجموع كلام المختلف وكلامهم أن محل كلامهم هو الخمر والمسكر، وتعميمه هو محل الكلام لغيرهما لمفروغيته عن عدم الفرق ولو بالنظر للأدلة، لا لتصريحهم بالعموم.

على أن جملة منهم قد أخذوا الاشتداد زائداً على الغليان في موضوع النجاسة أو في معقد الشهرة أو الإجماع، ففي مفتاح الكرامة:" وهذا الحكم - أعني نجاسة العصير إذا غلا واشتد - مشهور بين الأصحاب، كما في الذكرى... "وفي مجمع البحرين:" وهو قبل غليانه طاهر حلال، وبعد غليانه واشتداده - وفسر بصيرورة أعلاه أسفله، نجس

ص: 404

حرام. نقل عليه الإجماع من الإمامية. أما بعد غليانه وقبل اشتداده فحرام أيضاً، وأما النجاسة فمختلف فيها ".وسبقه في التفصيل المذكور ما في كنز العرفان.

ولعل الاشتداد عندهم ملازم للإسكار، كما قد يظهر مما في كنز العرفان، قال:" الخمر في الأصل مصدره خمره إذا ستره، سمي به عصير العنب والتمر إذا غلا واشتد، لأنه يخمر العقل أو يستره، كما سمي مسكراً لأنه يسكره، أي يحجره ".بل ظاهر كلامه أن الذي يشتد هو الخمر الذي يتخذ من العنب، الذي لا إشكال في إسكاره، ومقتضى الأدلة المتقدمة نجاسته.

نعم صرح هو مبحث العصير العنبي بأن المراد بالاشتداد صيرورة أعلاه أسفله وأن يصير له قوام. لكن لا طريق لإحراز أن ذلك مراد غيره منه في العصر، بل في الذكرى بعد أن نسب للمعتبر أنه لا ينجس إلا مع الاشتداد قال:" فكأنه يرى الشدة المطربة، إذ الثخانة حاصلة بمجرد الغليان".

ومن ثم كانت كلماتهم في غاية الاضطراب، حيث يختلط فيها الخمر المتخذ من العنب بالعصير العنبي إذا غلا ولم يسكر الذي هو محل الكلام. ولا مجال مع ذلك لدعوى الشهرة في محل الكلام، فضلاً عن الإجماع. ولاسيما أنا لم نجد في الذكرى لدعوى الشهرة، ولا في أطعمة التنقيح لدعوى الإجماع المتقدمتين عيناً ولا أثراً.

ومنه يظهر حال الاستدلال على النجاسة بمثل صحيح ابن الحجاج المتقدم في وجه عموم الحرمة لكل مسكر، المتضمن أن من أقسام الخمر العصير من الكرم، فإن كون الخمر المتخذ من العنب يسمى عصيراً لا يقتضي كون كل عصير من العنب خمراً.

كيف ولا إشكال في أن القسم المذكور من أظهر أفراد الخمر والمسكر، أو هو الخمر الحقيقي، مع أن العصير الذي هو محل الكلام ليس خمراً، وإن كان مسكراً فإسكاره خفي غير عرفي، أما ما يكون إسكاره ظاهراً فلا إشكال في نجاسته بناء على ما تقدم، والظاهر خروجه عن محل الكلام، كما يناسبه جعلهم العصير في محل الكلام

ص: 405

مقابلاً للمسكر.

ومن ثم لا مجال للاستدلال في المقام بعموم نجاسة المسكر، كما عن السيد الطباطبائي (قدس سره). ومثله الاستدلال على كونه مسكراً بصحيح عمر بن يزيد: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يهدى إليه البختج من غير أصحابنا. فقال: إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، وإن كان ممن لا يستحل فأشربه" (1) بدعوى: أن مانعية استحلال المسكر من شرب ما يؤخذ من الشخص إنما هي من جهة أنه مع استحلاله لا يؤمن كون ما يهديه مسكراً، وذلك لا يكون إلا لإسكار البختج.

إذ فيه: أنه موقوف على انحصار البختج بالعصير الذي هو محل الكلام، ولا شاهد لذلك، فإن غاية ما قيل في تفسير البختج أنه العصير المطبوخ، وهو أعم من محل الكلام، حيث يمكن أن يكون في العصير المطبوخ نوع مسكر لا يؤمن من مستحل المسكر إهداؤه. على أن عدم جواز شرب ما يؤخذ من مستحل المسكر قد لا يكون من جهة احتمال كون ما يؤخذ منه مسكراً، بل لاحتمال حرمته من غير إسكار، بلحاظ أن تسامحه في المسكر يستلزم تسامحه في المحرم غير المسكر بالأولوية.

وكذا الاستدلال على نجاسة العصير بما تضمن من النصوص نزاع إبليس مع آدم ونوح (عليهما السلام) في العنب، وأنه قد جعل له منها الثلثان(2) وما تضمن عدم جواز بيع العصير بعد الغليان(3) وأنه لا خير فيه(4). حيث لا يظهر وجه الاستدلال بالنصوص المذكورة. إذ هي إنما تضمنت حرمة الشرب أو هي المتيقن منها، وهي أعم من النجاسة.

نعم تضمن خبر أبي الربيع الشامي السؤال عن الخمر كيف كان بدؤ حلاله

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به.

(4) وسائل الشيعة ج: 7 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 6، 7.

ص: 406

وحرامها ومتى اتخذت، وتعرض الإمام (عليه السلام) لنزاع آدم وإبليس في العنب وتحكيمهما روح القدس وضرب روح القدس العنب بالنار وأخذ النار الثلثين وبقاء الثلث إلى أن قال (عليه السلام): فقال الروح أما ما ذهب منهما فحظ إبليس، وما بقي فلك يا آدم "(1) حيث قد يتوهم منه أن ما لم يذهب ثلثاه خمر نجس.

لكنه كما ترى إنما تضمن ذهاب الثلثين بالنار من العنب، لا من عصيره، وترتب تحريم ثلثي العصير المغلي على ذلك تعبد محض، كما أن كون ذلك هو الأصل لصنع الخمر وتحريمه خفي الوجه، فلا مجال لاستفادة كون العصير قبل ذلك خمراً.

بل لا إشكال في عدم كونه خمراً حقيقة، وكونه خمراً تنزيلاً لا ينهض الخبر ببيانه بعد وروده لبيان الأصل لوجود الخمر وبدء تكوينها.

هذا وقد يستدل على النجاسة بما رواه في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج، ويقول: قد طبخ على الثلث، وأنا أعرفه أنه يشربه على النصف. فقال: خمر لا تشربه... "(2) بدعوى: أن مقتضى إطلاق التنزيل فيه النجاسة.

لكنه يشكل أولاً: بأنه قد ينفع لو كان وارداً لبيان الحكم الواقعي، حيث يكون مقتضى الإطلاق فيه العموم لجميع أحكام الخمر، أما حيث كان وارداً لبيان الحكم الظاهري فهو مسوق لبيان التعبد الظاهري بمقتضى التنزيل بعد الفراغ عن ثبوت أصل التنزيل واقعاً، من دون أن يكون له إطلاق فيه، ليشمل النجاسة، بل المتيقن منه الحرمة، كما نبه لذلك سيدنا المصنف (قدس سره). بل قد يقال: إن تعقيب التنزيل بالنهي عن الشرب مانع من انعقاد ظهور إطلاق التنزيل في العموم لجميع أحكام الخمر. فتأمل.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4، التهذيب ج: 9 ص: 234.

ص: 407

وإن صار حراماً (1)،

وثانياً: بأن الصحيح قد روي في الكافي(1) خالياً عن كلمة: (خمر)، وهو الأنسب بسياقه، لأن التنزيل إنما هو بلحاظ الحكم الواقعي والمسؤول عنه هو الحكم الظاهري، فإن لم يوجب ذلك ترجيح رواية الكافي - ولاسيما مع ما اشتهر من كونه أضبط - فلا أقل من سقوط الروايتين بالتعارض، والاقتصار على المتيقن منهما، وهو الحرمة.

ودعوى: أن اللازم ترجيح رواية التهذيب، لأن الخطأ بالزيادة أبعد من الخطأ بالنقيصة عند العقلاء. ممنوعة، لعدم وضوح أولوية الخطأ بالنقيصة عند العقلاء بنحو تنهض بالترجيح عند التعارض.

نعم مع عدم التعارض لعدم ظهور حال راوي الكلام الخالي عن الزيادة في استيفاء تمام كلام المنقول عنه تتعين حجية رواية الزيادة. لكن المقام ليس كذلك.

وأما ما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من الإشكال في الاستدلال به بأنه لم يعلم كون البختج مطلق العصير الذي يغلي، بل لعله قسم خاص منه يكون مسكراً قبل استكمال طبخه، وقريب منه ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره). فقد يدفع بما ذكره بعض مشايخنا من أن العصير المسكر لا يحل و يطهر بذهاب الثلثين، وظاهر الصحيح أن ذهاب الثلثين موجب لحل البختج وطهارته.

اللهم إلا أن يحتمل كون ذهاب الثلثين في هذا القسم مستلزماً لخروجه عن الإسكار فيحل حينئذٍ. فتأمل. وكيف كان فلا مخرج عن أصالة الطهارة في المقام.

(1) بلا إشكال وهو المتيقن من النصوص والفتاوى، وفي المعتبر وظاهر ما تقدم من مجمع البحرين وكنز العرفان الإجماع عليه. ويقتضيه صحيح حماد بن عثمان

********

(1) الكافي ج: 6 ص: 421.

ص: 408

عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: لا يحرم العصير حتى يغلي"(1) ، وفي حديثه الآخر عنه (عليه السلام):" سألته عن شرب العصير قال: تشرب ما لم يغل، فإذا غلى فلا تشربه. قلت: أي شيء الغليان؟ قال: القلب "(2) إلى غير ذلك مما يأتي بعضه.

نعم في موثق ذريح:" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا نش العصير أو غلا حرم"(3). وظاهره الاكتفاء بأحد الأمرين من النشيش والغليان. وقد فسر النشيش بالصوت السابق على الغليان. ولعله عليه يبتني ما ذكره السيد (قدس سره) في العروة الوثقى حيث قال: "بل الأقوى حرمته بمجرد النشيش وإن لم يصل إلى حدّ الغليان".

لكنه - مع عدم ثبوته - لا يناسب بقية النصوص الصريحة في اعتبار الغليان كما لا يناسب العطف في الموثق نفسه، إذ مع الاكتفاء بالنشيش يلغو جعل الغليان المتأخر عنه سبباً للتحريم.

نعم بناء على أن العطف في الموثق بالواو كما عن بعض الاجلة نسبته للنسخ المصححة من الكافي، يرجع مفاده لمفاد بقية النصوص ويرتفع الإشكال. إلا أنه يشكل التعويل على ذلك بعد عدم الإشارة للنسخة المذكورة في الطبعة الحديثة المحققة على نسخ كثيرة المعتضدة برواية التهذيب التي لم ينقل فيها اختلاف النسخ. ولا أقل من معارضتها بنسخ الكافي المشار إليها، وبعد تساقط الكل يكون المرجع رواية التهذيب.

هذا وقد يرفع التنافي بين الموثق وبقية النصوص بحمل النشيش فيه على صوت الغليان كما فسر بذلك في جملة من كلمات اللغويين. لكنه لا يناسب العطف بأو في الموثق نفسه إذ لا يحسن الترديد بين المتلازمين.

ولعل الأولى حمل النشيش على تفاعل العصير وتغيره بنفسه، من دون نار، كما يناسبه قوله (عليه السلام) في خبر عمار الوارد في نقيع الزبيب: "فإذا كان أيام الصيف وخشيت

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3، 4.

ص: 409

أن ينش جعلته في تنور سخن [مسجور. كافي] قليلاً حتى لا ينش"(1) ، فيرجع الترديد في الموثق إلى حصول التحريم بكل من النشيش بغير النار والغليان بها، ولا أثر لتفاعل العصير بالنار قبل الوصول إلى مرتبة الغليان.

ولعله إلى هذا يرجع الغليان بغير النار في كلمات الأصحاب، فإنهم أطلقوا الغليان بنحو يظهر منهم حصوله بغير النار كما يحصل بالنار، كما يظهر ذلك من بعض النصوص كخبر أبي كهمس الآتي في آخر الكلام في حكم ما غلا من قبل نفسه(2).

نعم الاحتمال المذكور إنما ينفع في ردّ موثق ذريح وعدم الخروج به عن بقية النصوص، لأن ورود الاحتمال المذكور فيه كافٍ في التوقف عنه. لكنه لا يبلغ مرتبة تصحح العمل على طبق الجمع المذكور، لعدم خروجه عن كونه تبرعياً، لأن مجرد استعمال النشيش في خبر عمار فيما يكون بغير النار لا ينهض بتفسيره في الموثق ولاسيما مع ضعف الخبر المذكور. ومما ذكرنا يظهر ضعف ما سبق من السيد في العروة الوثقى.

هذا وأما موضوع النجاسة لو قيل بها فقد اختلفوا بين من اقتصر فيه على الغليان ومن أضاف إليه الاشتداد، مع اختلافهم في المراد بالاشتداد فقيل هو الثخانة ولو بأدنى مراتبها الحاصل بمجرد الغليان. لكنه لا يناسب ما في المعتبر من الاكتفاء في التحريم بالغليان وتوقف النجاسة على الاشتداد، وكذا ما تقدم من مجمع البحرين وعن كنز العرفان.

ومن ثم قد يحمل على مرتبة عرفية من الثخانة تحصل باستمرار الغليان مدة معتد بها. أو على قذف الزبد، أو على ما يلازم الإسكار، كما يناسبه ما تقدم من الذكرى وعن كنز العرفان. والكل خال عن الدليل عدا الأخير، حيث لا إشكال معه في النجاسة بناء على ما تقدم من عموم النجاسة لكل مسكر. وبذلك يظهر اضطراب

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

ص: 410

(411)

فإذا ذهب ثلثاه صار حلالاً (1).

كلمات الأصحاب في المقام. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

(1) إجماعاً، كما في مفتاح الكرامة وظاهر غير واحد المفروغية عنه. والنصوص به مستفيضة، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه "(1) وغيره. ويستفاد من خبر أبي الربيع الشامي المتقدم وغيره من النصوص الواردة في خصومة إبليس مع آدم ونوح (عليهما السلام)، حيث تضمنت حلية الثلث، المعلوم أنه لا يراد منه إلا الثلث من العصير. بل هو المصرح به في غير واحد منها، كصحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيه بعد التعرض للخصومة المذكورة:" فقال أبو جعفر (عليه السلام): فإذا أخذت عصيراً فطبخته حتى يذهب الثلثان نصيب الشيطان فكل واشرب"(2). كما يستفاد من صحيح معاوية بن عمار المتقدم وغيره مما ورد في العصير المأخوذ من الغير... إلى غير ذلك. وظاهر الأصحاب والنصوص المذكورة، بل صريح جملة منها، عدم حليته بغير ذلك.

لكن في الوسيلة: "وإن غلا بالنار حرم شربه حتى يذهب على النار نصفه ونصف سدسه، ولم ينجس، أو يخضب الإناء ويعلق به ويحلو" .وهو يخالف المشهور في أمرين لم أعثر عاجلاً على موافق له فيهما، عدا ما يأتي من النهاية.

الأول: الاكتفاء بأن يذهب على النار نصفه ونصف سدسه، الذي هو دون الثلثين بنصف سدس، لظهور أن الثلثين نصف وسدس تام.

وكأنه استند في ذلك لخبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف، ثم يترك حتى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه"(3). بناء على ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من أن الدانق كناية عن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1، 4.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 7.

ص: 411

السدس، ويناسبه ما ذكره غير واحد من اللغويين من أنه سدس الدرهم والدينار، حيث لا جامع عرفي بينهما إلا مطلق السدس، وهو المناسب أيضاً للسان الخبر، حيث لم يفرض فيه مقدار معين.

ولا يخفى أن ظاهر غير واحد من النصوص المشار إليها آنفاً وإن كان هو ذهاب الثلثين بالطبخ على النار، إلا أنه يسهل رفع اليد عن ذلك لأجل الخبر المذكور، وحملها على استناد ذهاب الثلثين للنار والطبخ وإن كان لا يتم إلا بالتبريد الذي هو وقت الاستعمال غالباً.

لكن يشكل التعويل على الخبر بعد ضعف سنده وظهور حال الأصحاب في الإعراض عنه. ولاسيما وأن تحديد النقص الحاصل بالتبريد والتبخر بنصف السدس لا يخلو عن إشكال، بل قد لا يساعد عليه الواقع الخارجي.

الثاني: الاكتفاء في الحلية بأن يخضب العصير الإناء ويعلق به ويحلو، فإن الظاهر أن قوله:" أو يخضب... "معطوف على مدخول (حتى). وكأنه استند في ذلك لصحيح معاوية بن وهب:" سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البختج. فقال: إذا كان حلواً يخضب الإناء وقال صاحبه قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث، فاشربه"(1) ، وصحيح عمر بن يزيد: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا كان يخضب الإناء فاشربه"(2) ، وخبر إسحاق في ماء الزبيب والعسل المطبوخ على الثلث، وفيه:" قال: أليس حلواً؟ قلت: بلى. قال: اشربه"(3) ، وفي خبره الآخر نحوه، إلا أنه قال: "اشرب الحلو حيث وجدته أو حيث أصبته"(4).

لكن ظاهر الأول اشتراط الأمور المذكورة في تصديق الخبر بذهاب الثلثين، لا في أماريتها بأنفسها عليه، فضلاً عن الاجتزاء بها بدلاً عنه. وأما الثاني فهو - مع

-

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 7 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 56.

ص: 412

(413)

وإن غلا بغير النار فالأحوط وجوباً فيه النجاسة (1)،

عدم نهوضه بتمام المدعى - لا ينهض بالإفادة بنفسه، بل لابد من معرفة ما يتعلق به من سؤال أو نحوه، ولعله صادر على غرار الصحيح الأول. وأما حديثا إسحاق فهما - مع ورودهما في ماء الزبيب - ضعيفا السند مختصان بالحلاوة. مع أن الأول منهما ظاهر في اشتراطها مع ذهاب الثلثين، ولا قائل به. فلينزل على ملازمة ذهاب الثلثين للحلاوة. وعليها يحمل الثاني. ومن ثم لا مجال لإثبات ما ذكره والخروج عن مقتضى النص والفتوى المتقدم.

هذا وقد قال الشيخ (قدس سره) في النهاية: "وإذا غلا العصير على النار لم يجز شربه إلى أن يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وحدّ ذلك هو أن يراه صار حلواً، أو يخضب الإناء ويعلق به، أو يذهب من كل درهم ثلاثة دوانيق ونصف وهو على النار، ثم ينزل به ويترك حتى يبرد، فإذا برد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه" .ويظهر حاله مما سبق.

(1) قال في الوسيلة: "وإن غلا لم يخل إما غلا من قبل نفسه حتى يعود أسفله أعلاه حرم ونجس، إلا أن يصير خلاً بنفسه أو بفعل غيره، فيعود حلالاً طيباً. وإن غلا بالنار..." إلى آخر ما تقدم. ولم يعرف له موافق صريح في ذلك حتى حكي عن بعض الأجلة الانتصار له في رسالته (إفاضة القدير في حكم العصير)، فاستدل للقول المذكور بوجوه، ونسبه لجماعة منهم الشيخ وابن إدريس، وفي كلامهما ما يناسب ذلك، خصوصاً الشيخ في النهاية، حيث صرح بعدم جواز شرب العصير إذا غلا بغير النار حتى يصير خلاً، حيث يظهر منه أنه بحكم المسكر، ولذا لا يحل بذهاب الثلثين، بل بصيرورته خلاً.

وكيف كان فقد يستدل عليه بوجوه أشار إليها في محكي الرسالة المذكورة:

الأول: أن النصوص التي أطلق فيها الغليان من دون نسبة إلى النار - كحديثي حماد المتقدمين - ظاهرة في إطلاق الحرمة وعدم ارتفاعها بذهاب الثلثين، وفي أن

ص: 413

موضوعهما ما غلا من قبل نفسه، كما أن ما تضمن أن تحليله بذهاب الثلثين مختص بما إذا غلا بالنار للتعبير فيه بالطبخ أو البختج الذي هو عبارة عن العصير المطبوخ ونحو ذلك.

وفيه: أنه لا ظهور للنصوص التي أطلق قيها الغليان من دون نسبة للنار في الاختصاص بما كان غليانه من قبل نفسه، بل هي أعم مما غلا بالنار.

اللهم إلا أن يكون السؤال في صحيح حماد الثاني عن حقيقة الغليان شاهد بأن المراد به الغليان بغير النار، وإلا فالغليان بالنار أمر واضح عند العرف.

وأظهر من ذلك معتبر محمد بن عاصم عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا بأس بشرب العصير ستة أيام" (1) فإن التحديد بذلك لابد لتجنب تفاعله أو غليانه بعد ذلك. وكأنه إلى هذا يرجع ما عن ابن عمير من قوله بعد روايته للحديث: "معناه ما لم يغل".

على أن عموم نصوص التحريم لما غلا بالنار لا ينفع عمومها إذا كان دليل تحليله بذهاب الثلثين مختصاً بما غلا بالنار، حيث يلزم البناء في غيره على إطلاق التحريم، عملاً بالعموم المذكور.

وقد أجاب بعض مشايخنا (قدس سره) عن ذلك بأن في أدلة التحليل ما هو ظاهر في العموم، وهو صحيح عبد الله بن سنان قال: "ذكر أبو عبد الله (عليه السلام) أن العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فهو حلال"(2) ، فإنه شامل للعصير الذي يغلي بنفسه، فتدل على حليته بالطبخ المترتب عليه ذهاب الثلثين.

لكنه يشكل بأن ذلك إنما يتم لو كان مرجع الشرطية توقف الحلية على الطبخ، بأن يكون الشرط هو الطبخ بالنحو المذكور، كما هو مقتضى الجمود على لسان الشرطية، ولا مجال للبناء على ذلك، لأن مقتضاه حرمة العصير قبل الطبخ، وهو

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 414

لا يتم إلا في العصير الذي يغلي من قبل نفسه، ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على اختصاص الصحيح به. ومن هنا يتعين تنزيل الشرطية على كون الشرط هو ذهاب الثلثين، وكون الطبخ موضوعاً للشرطية. فكأنه قيل العصير المطبوخ إذا استمر طبخه حتى يذهب ثلثاه فهو حلال. وحينئذٍ يقصر عن العصير غير المطبوخ وإن غلا من قبل نفسه.

إن قلت: إذا غلا العصير من قبل نفسه ثم طبخ دخل في عموم الصحيح، فيكون مقتضاه حليته بذهاب الثلثين بالطبخ.

قلت: بناء على ما سبق يكون مفاد الصحيح حلية العصير بذهاب الثلثين من حيثية الطبخ، لا مطلقاً، فذهاب الثلثين إنما يرفع الحرمة الثابتة بالطبخ، لا كل حرمة وإن كانت ثابتة قبله بسبب غليان العصير من قبل نفسه، بل الحرمة المذكورة تابعة لدليلها، فإذا كان مقتضاه عدم ارتفاعها بذهاب الثلثين يتعين بقاؤها. ومن هنا لا مجال للبناء على عموم الصحيح. فلاحظ.

الثاني: صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" قال: كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه"(1). بدعوى: أن مقتضى تقييد موضوع الحرمة المغياة بما أصابته النار إطلاق الحرمة في غيره وعدم ارتفاعها بذهاب الثلثين، وإلا لم يكن للتقييد فائدة.

ويشكل - مع ابتنائه على مفهوم الوصف - بأن للعصير الذي لا تصيبه النار فردين ما لم يغل أصلاً، وما غلا من قبل نفسه ولا إشكال في اختلافهما حكماً وعدم شمول المفهوم المدعى لهما معاً. ولازم ذلك قصور موضوع القضية عن أحدهما. وحينئذٍ فكما يمكن أن يكون موضوع القضية خصوص العصير الذي غلا وحرم، ويكون فائدة التقييد بالنار بيان اختصاص تقييد الحرمة بعدم ذهاب الثلثين بها، وأنه بدونها تكون الحرمة مطلقة، كذلك يمكن أن يكون موضوع القضية العصير الذي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 415

يغلي بالنار من دون أن يكون مسوقاً للحصر، ليكون له مفهوم بالإضافة إلى ما غلا بغير النار. بل تركيب القضية بنفسه إنما يناسب الثاني لا الأول، وتنزيله على الأول يبتني على تكلف محتاج إلى قرينة.

نعم لو قيل: كل عصير غلا وحرم إن كان قد أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، كان وافياً بالثاني. لكن لسان الحديث بعيد عن ذلك، كما هو ظاهر.

الثالث: خبر عمار المتقدم عند الكلام في ثبوت التحريم بالغليان المتضمن لجعله في تنور سخن قليلاً خوفاً من أن ينش، حيث لا وجه للحذر من نشيشه بنفسه إلا تجنب حرمته المطلقة وإلا فحرمته المغياة بذهاب الثلثين ليست محذوراً بعد تعرضه (عليه السلام) في ذيل الرواية لغليانه حتى يذهب ثلثاه.

وفيه - مع أنه وارد في عصير الزبيب الذي حكي عن بعض الأجلة القول بحليته فضلاً عن طهارته -: أن تجنب نشيشه بنفسه قد يكون لمانعيته من ترتب الأثر المقصود منه، وهو صلوحه للانتفاع وترتب الفائدة عليه لا لتوقف حلية الاستعمال عليه، كما نبّه لذلك سيدنا المصنف (قدس سره) قال: "وقوله في السؤال: كيف يطبخ حتى يصير حلالاً. وإن كان ظاهراً في السؤال عما يعتبر في الحل لا غير، لكن الخصوصيات المذكورة في الجواب لما لم يمكن البناء على اعتبار أكثرها في الحل يتعين البناء على كون الإمام (عليه السلام) في مقام بيان ما يعتبر في الحل وما يعتبر في حصول المقصود".

الرابع: صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن نبيذ قد سكن غليانه. فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام..."(1). بدعوى ظهوره في مسكرية النبيذ المذكور، وحيث لا يمكن حمله على ما غلا بالنار، لعدم مسكريته، ولذا يحل بذهاب الثلثين، والمسكر لا يحل بذلك، يتعين حمله على ما غلا بنفسه، ولاسيما مع قرب كون المعهود من النبيذ ذلك.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 25 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 416

وفيه - بعد تسليم سوق الكبرى للمفروغية عن تحقق موضوعها، لا لإيكال تطبيقها للسائل -: أنه وارد في النبيذ، ولعل المعهود فيه الإسكار في فرض السؤال.

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن ما عدا الوجه الأول لا ينهض بإثبات التحريم، فضلاً عن النجاسة، وأما الأول فهو وإن نهض بإثبات التحريم، إلا أنه لا ينهض بالنجاسة.

نعم ادعى بعض الأجلة أن العصير إذا غلا من قبل نفسه صار مسكراً، ويناسبه الرضوي:" فإن نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلاً"(1). بل من القريب أن يبتني على ذلك ما تقدم من الشيخ وابن حمزة وغيرهما من توقف حليته على صيرورته خلاً، إذ بعد عدم الشاهد عليه من النصوص ينحصر وجهه بثبوت مسكريته عندهم، وحيث كانت المسكرية من الأمور الوجدانية فمن البعيد جداً الخطأ فيها.

ويناسب ذلك أيضاً خبر أبي كهمس: "سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن العصير فقال: لي كرم وأنا اعصر كل سنة واجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي. قال: لا بأس به، وإن غلا فلا يحل بيعه. ثم قال: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمراً"(2). فإن حرمة بيعه تناسب كونه مسكراً، كما قد يشير إليه قوله (عليه السلام) في الذيل:" هو ذا... "،حيث تظافرت النصوص بحرمة بيع الخمر المسكر، وإلا فلا يظن منهم البناء على حرمة بيع العصير الذي يحل بذهاب الثلثين.

كما يناسبه أيضاً موثق عبيد بن زرارة عنه (عليه السلام):" إنه قال في الرجل إذا باع عصيراً فحبسه السلطان حتى صار خمراً فجعله صاحبه خلاً، فقال: إذا تحول من اسم الخمر فلا بأس "(3) لظهوره في صيرورة العصير بطول المدة بنفسه خمراً، وذلك ل

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 12 باب: 59 من أبواب ما يكتسب به حديث: 6.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 31 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 5.

ص: 417

بل الأحوط وجوباً النجاسة بمجرد النشيش (1)، وإذا لم يغل ولم ينش فهو طاهر وحلال.

يكون إلا بتفاعله بالغليان أو نحوه.

(1) كأنه لموثق ذريح:" سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا نش العصير أو غلا حرم "(1) بناء على ما سبق عند الكلام في تحريم الغليان للعصير من حمل النشيش على ما يكون بغير النار. والظاهر أن مراده (قدس سره) من النشيش تفاعل العصير بمرتبة ضعيفة لا تبلغ مرتبة الغليان.

ويشكل تارة: بما سبق من عدم بلوغ الحمل المذكور مرتبة تصحح العمل عليه. وأخرى: بعدم ثبوت كون النشيش أضعف من الغليان سابقاً عليه بعد تفسيره في اللغة بالغليان تارة، وبصوته أخرى.

ولاسيما مع أن حمل نصوص التحريم بالغليان على خصوص الغليان بالنار بعيد جداً بعد ورود إطلاق الغليان على ما يكون بغير النار في جملة من النصوص منها خبر كهمس المتقدم المتضمن جواز بيع العصير قبل غليانه.

بل السؤال عن تفسير الغليان في حديث حماد المتقدم عند الكلام في حصول التحريم بالغليان لا يناسب اختصاص الغليان في الحديث المذكور بما يكون بالنار، لبعد خفاء الغليان بالنار، بل المناسب لذلك عمومه للغليان بغيرها أو اختصاصه به - كما ذكرناه آنفاً - لأنه تدريجي بطيء مسبوق بتفاعل العصير، فقد يحسن السؤال عن المرتبة من التفاعل التي يحصل الغليان.

وحينئذٍ يكون حصول التحريم بالنشيش لو حمل على ما يسبق الغليان منافياً للنصوص المذكورة. ومن هنا لا مجال للبناء على حصول التحريم قبل الغليان. بل يتعين تنزيل النشيش في موثق ذريح على ما يناسب ذلك أو طرحه. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

ص: 418

(419)

(مسألة 18): العصير الزبيبي والتمري لا ينجس ولا يحرم بالغليان بالنار (1)،

(1) فإن العصير وإن أطلق - في بيان موضوع الحرمة والنجاسة بالغليان - في القواعد وعن أكثر كتب العلامة، بل الأصحاب، كما في مفتاح الكرامة، إلا أن العصير كثيراً ما يطلق على خصوص ماء العنب، بل ادعى انصرافه له، كما قد يظهر من جملة من النصوص، وقد أطال في الحدائق في توضيح ذلك، وفي مجمع البحرين:" والعصير من العنب "ويناسبه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم المتضمن أن العصير هو الخمر المتخذ من العنب.

ولا أقل من العلم بعدم إرادتهم كل شيء يستخرج من الشيء بعصره، الملزم بحمل اللام فيه على العهد لا الجنس، والمتيقن منه عصير العنب، الذي اقتصر عليه جماعة مصرحين به، بل عن الأردبيلي أن المشهور اختصاصه بالعنبي، وعن حواشي القواعد والمقاصد العلية دعوى الإجماع على ذلك في غير الزبيب، وفي الحدائق أن المشهور طهارة ماء الزبيب، وعن الذخيرة: إني لا اعلم قائلاً بنجاسته.

نعم قد يظهر من التهذيب في مقام الجمع بين الروايات القول بنجاسة عصير التمر، وهو المحكي عن كاشف الغطاء، والشيخ سليمان البحراني والسيد نعمة الله الجزائري وغيرهم، وعن الفخر أنه حكى عن والده اجتناب عصير الزبيب. ومن ثم حكي القول بالنجاسة في المقام.

وكيف كان فقد يستدل على حرمة عصير الزبيب والتمر بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):" كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه"(1). ويندفع بما سبق من انصراف العصير لعصير العنب. ولو سلم عمومه فلا مجال لحمل الصحيح عليه، لاستلزامه تخصيص الأكثر الملزم بحمل اللام فيه على

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 419

العهد، نظير ما تقدم في كلام الأصحاب.

على أن صدق العصير عليها لا يخلو عن إشكال، لأن العصير هو السائل المعتصر من الأجسام، والماء هنا خارج عن الزبيب والتمر مضاف إليهما من أجل تذويب ما فيهما من المواد السكرية واستخراهما لا معتصر منهما.

كما قد يستدل على حرمة عصير الزبيب بجملة من النصوص.

منها: موثق عمار عنه (عليه السلام): "سئل عن الزبيب كيف يحل طبخه حتى يشرب حلالاً؟ قال: تأخذ ربعاً من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه اثني عشر رطلاً ماء، ثم تنقعه ليلة فإذا كان من غد نزعت سلافته، ثم تصب عليه من الماء بقدر ما يغمره، ثم تغليه بالنار غلية، ثم تنزع ماءه فتصبه على الأول ثم تطرحه في إناء واحد ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وتحته النار، ثم تأخذ رطل عسل فتغليه بالنار غلية وتنزع رغوته ثم تطرحه على المطبوخ، ثم اضربه حتى يختلط به، واطرح فيه إن شئت زعفراناً وطيبه إن شئت بزنجبيل قليل..." (1) وقريب منه روايته الأخرى المتقدمة إليها الإشارة في الاستدلال لتفصيل ابن حمزة، إلا أن في آخرها: "فإن أحببت أن يطول مكثه عندك فروقه"(2). بل لا يبعد اتحادهما مع استناد الاختلاف بينهما للنقل بالمعنى.

وقد استشكل في الاستدلال بهما سيدنا المصنف (قدس سره) قال:" ولكن يشكل - مضافاً إلى أن الخصوصيات المذكورة فيهما مما لا يحتمل دخلها في الحل - بأنه لم يظهر من السؤال إرادة الحل في قبال التحريم الحاصل بالغليان - كما هو المدعى - أو في قبال التحريم الحاصل بالنشيش والتغير الملازم للبقاء غالباً، الذي هو موردها بقرينة المقادير المذكورة فيهما، وما في ذيل أحدهما من قوله: فإذا أردت أن يطول مكثه فروقه. بل الثاني أقرب بقرينة ما في رواية إسماعيل بن الفضل من قول الصادق (عليه السلام): وهو شراب طيب لا يتغير إذا بقي إن شاء الله تعالى".

ويندفع بأن السؤال فيه لما كان عن الطبخ بالوجه المحلل، وهو الذي يترتب

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3، 2.

ص: 420

عليه حلية الشرب، كان ظاهر الجواب أن الطبخ المذكور فيه هو الطبخ الذي لا يحلل غيره، ومجرد اشتماله على أمور خارجة عن الطبخ يعلم بعدم وجوبها لا يمنع من الظهور المذكور.

غاية الأمر أن ترفع اليد بسبب العلم المذكور عن ظهور سوقها في كونها قيوداً للطبخ المحلل وشروطاً في ترتب الحل عليه، فيحمل على كونها دخيلة في صلوحه لأن ينتفع به، أو في ترتب النفع المقصود عليه.

وأما حمل الحل المسؤول عنه على الحل في قبال التحريم الحاصل بالنشيش والتغير الملازم للبقاء فهو - مع كونه خلاف ظاهر نسبة التحليل في السؤال للطبخ - لا يناسب وظيفة الإمام (عليه السلام)، حيث لا يراد به حينئذٍ السؤال عما يحل معه الشرب من النشيش والتغير، بل عما يمنع من حصولهما خارجاً، وهو أمر تكويني لا شرعي، والمناسب في السؤال عنه أن يقال: كيف يطبخ حتى لا ينش ويتغير لو تأخر؟

ومجرد تعرض الإمام (عليه السلام) لبعض الخصوصيات غير الدخيلة في التحليل تفضلاً منه لا يشهد بسوق السؤال لذلك بعد ظهور حال السائل وكلامه في سوقه لما هو الدخيل في التحليل شرعاً، بل في مفروغية السائل عن أن الطبخ على نحوين محرم ومحلل، ومن الظاهر أنه لا منشأ للمفروغية عن محرمية الطبخ إلا ما يشاع من تحريم العصير بالغليان، كما يناسبه الجواب.

ومن ذلك يظهر أن كون مورد الخبرين مناسباً لفرض بقاء العصير مدة طويلة لا يكفي في الخروج عن الظهور المذكور المستند لتركيب الكلام. على أنه لا شاهد في شيء مما ذكره على فرض بقاء العصير. أما المقادير فهي ليست من الكثرة بحدٍ تستلزم البقاء غالباً، حيث قد لا يتجاوز أو لا يبلغ صافي العصير بعد الغليان المفروض اللترين.

وأما قوله:" فإن أحببت أن يطول مكثه... "فهو يتضمن فرضاً زائداً على محل

ص: 421

الكلام، بل يشهد بعدم فرض إرادة طول المكث فيه. كما أن خبر إسماعيل بن الفضل(1) لا يصلح شاهداً على تحديد المراد في حديثي عمار، لاختلافه معهما في المضمون، ولأنه وارد لتعليم عصير يتداوى به، ولم يتضمن السؤال عن الطبخ المحلل. مع أن الفقرة المذكورة فيه من كلام الراوي، لا من كلام الإمام (عليه السلام).

نعم اشتراكه معهما في لزوم ذهاب الثلثين لا أكثر ولا أقل مؤيد لكون ذهاب الثلثين شرطاً تعبدياً في الحلية في عصير الزبيب المطبوخ، كعصير العنب المعلوم فيه ذلك، وإلا فمن البعيد جداً دوران قابلية البقاء من دون تغير ونشيش مدار ذهاب الثلثين لا أقل ولا أكثر، بل المناسب لذلك أن يناط بانعقاد العصير وكثافته بمرتبة خاصة ككونه يخضب الإناء، أو نحو ذلك.

ومنها: معتبر علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن الزبيب هل يصلح أنه يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فيشرب منه السنة. فقال: لا بأس"(2).

ويشكل بأن التقييد بذهاب الثلثين لما كان في كلام السائل لم يكن للحديث مفهوم يقتضي نفي البأس بدونه. ولاسيما وأن السؤال قد تضمن فرض بقائه إلى سنة، حيث يحتمل حينئذٍ كون ذهاب الثلثين سبباً في عدم تخمره وإسكاره بالتأخير، كما نبه لذلك غير واحد.

اللهم إلا أن يقال: حمل السؤال على تجنب التخمير والإسكار خارجاً، لا على تجنب الحرمة تعبداً لا يناسب وظيفة الإمام (عليه السلام). ولاسيما أن خصوصية ذهاب الثلثين لا أقل ولا أكثر في منع التخمير والإسكار بعيد، نظير ما تقدم في خبر إسماعيل بن الفضل. والتقييد بذهاب الثلثين وإن كان في كلام السائل فلا يدل على المفهوم، إلا أن التفات السائل لخصوصية ذلك لا منشأ له ظاهراً إلا ما شاع عن الشارع الأقدس

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 5 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 4.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 8 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 422

من محللية ذهاب الثلثين للعصير المطبوخ، فيكون جواب الإمام (عليه السلام) مبنياً على إقرار ذلك. ولعل منشأ السؤال معه احتمال عدم عمومه للزبيب، أو عدم كفايته في فرض البقاء سنة لاحتمال تعرضه للإسكار. فهو إن لم ينهض بالاستدلال صالح للتأييد بلا إشكال.

ومنها: خبر زيد النرسي المنقول عن أصله: "سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الزبيب يدق ويلقى في القدر، ثم يصب عليه الماء ويوقد تحته. فقال (عليه السلام): لا تأكله حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث، فإن النار قد أصابته. قلت: فالزبيب كما هو يلقي في القدر ويصب عليه الماء ثم يطبخ ويصفى عنه الماء. فقال: كذلك هو سواء، إذا أدت الحلاوة إلى الماء وصار حلواً بمنزلة العصر، ثم نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد"(1).

ودلالته ظاهرة، وليس إشكالهم إلا في سنده تارة: لعدم ثبوت وثاقة زيد النرسي. وأخرى: لعدم ثبوت كتابه، فقد قال الشيخ في الفهرست:" زيد النرسي وزيد الزراد لهما أصلان لم يروهما محمد بن علي بن الحسين، وقال في فهرسته: لم يروهما محمد بن الحسن بن الوليد، وكان يقول: هما موضوعان، وكذلك كتاب خالد بن عبد الله بن سدير، وكان يقول: وضع هذه الأصول محمد بن موسى الهمداني ".قال سيدنا المصنف (قدس سره):" وهذه الدعوى وإن غلطهما فيها ابن الغضائري وغيره بأن الأصلين قد رواهما محمد بن أبي عمير، لكنها توجب الارتياب، إذ من البعيد أن يكون الصدوق وشيخه مما خفي عليهما ذلك فجزما بالوضع. ومما يزيد في الارتياب أن الشيخ... "إلى آخره ما ذكره، وقد تضمن أن الشيخ لم يرو عن زيد إلا حديثاً واحد، والكليني لم يرو عنه إلا حديثين، ولا يظهر منهما أخذ الأحاديث المذكورة من كتابه.

وثالثة: لأنه لم يصح نسبة الرواية المتقدمة للكتاب المذكور، لأنها وإن رويت عن زيد في البحار ومستدرك الوسائل، إلا أن المجلسي (قدس سره) ذكر في مقدمة البحار أنه

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 423

قد أخذ الكتاب المذكور من نسخة قديمة مصححة بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي من دون أن يذكر سنده للنسخة المذكورة.

لكنه يندفع الأول بما تكرر منا من الاكتفاء برواية ابن أبي عمير عن شخص في ثبوت وثاقته، وقد فصلنا الكلام فيه في مبحث الكر من هذا الشرح. ولاسيما مع اعتضاده بكون الرجل من رجال كامل الزيارات.

كما يندفع الثاني بأن الذي يظهر من الصدوق تبعيته في ذلك لشيخه ابن الوليد، ولا وثوق بدعوى ابن الوليد وضع الكتاب مع إصرار غير واحد على رواية ابن أبي عمير للكتاب المذكور، بل الظاهر أنه اجتهاد منه، لسوء ظنه بمحمد بن موسى الهمداني، كسائر القميين، لنسبتهم الغلو له، وإلا فمن البعيد جداً إطلاعه على ذلك من طريق الحسّ أو ما يقرب منه.

نعم الوجه الثالث لا طريق لدفعه، وإن كان الرجوع لكلام المجلسي قد يوجب الركون له. ومن ثم لا ينبغي التأمل في صلوح الخبر المذكور لتأييد موثق عمار، كبقية الأخبار المتقدمة. ومثلها في التأييد ما عن الرسالة الذهبية للإمام الرضا (عليه السلام) في صفة الشراب الذي يحل شربه واستعماله بعد الطعام، حيث ذكر ماء الزبيب يصنع على وجه خاص ومن خصوصياته أن يذهب ثلثاه بعد الغليان(1). والظاهر أن ذلك هو الدخيل في حلية الشرب، دون بقية الخصوصيات، إذ لم يظهر من أحد القول بدخلها في الحلية.

ودعوى: أن هذه النصوص وإن تم سند بعضها، إلا أنها موهونة بمخالفة المشهور.

ممنوعة، لعدم وضوح إعراضهم عنها، بعد رواية القدماء لبعضها في الأبواب المناسبة بنحو يظهر منهم التعويل عليها. بل ما سبق من الشيخ في العصير التمري

********

(1) مستدرك الوسائل ج: 17 باب: 3 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 424

يناسب قوله بنظيره في العصير الزبيبي. بل لعله أولى منه، كما هو ظاهر ابن إدريس. وعدم تصريح المشهور بالعموم لا يشهد بعدم بنائهم عليه بعد إطلاق العصير في كلام جماعة. وانصرافه للعنبي ليس بنحو يوجب اليقين باختصاص فتواهم به، بل لعل العموم مفروغ عنه عند بعضهم، تبعاً لعموم بعض النصوص - غفلة عن المناقشة المتقدمة فيها - وخصوص النصوص المتقدمة، أو لفهم عدم الخصوصية للعصير العنبي. ومن ثم لا مجال للخروج عنها. فلاحظ.

هذا وقد يستدل في المقام بالاستصحاب بلحاظ حاله حين كان عنباً.

لكنه يندفع تارة: بأن موضوع التحريم لما كان هو شرب العصير الذي هو كلي فهو قابل التقييد بحال العنبية، ولا يحرز عمومه لحال الزبيبية، فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز الموضوع، وهو الحال في كثير من موارد الشك في بقاء الحكم التكليفي، على ما أوضحناه في الأصول.

وأخرى: بأن موضوع الحرمة المتيقنة لما كان هو عصير العنب فهو مباين لعصير الزبيب، لأن عصير العنب ماؤه الذي يستخرج منه وعصير الزبيب هو الماء الذي انقع فيه حتى حمل المواد السكرية والحلاوة منه.

وثالثة: بأن الاستصحاب في المقام تعليقي، لأن الحرمة معلقة على الغليان، والتحقيق عدم جريانه، على ما أوضحناه في الأصول. فالعمدة في المقام النصوص المتقدمة.

هذا وأما العصير التمري فقد يستدل على حرمته بالغليان ببعض النصوص أيضاً، كموثق عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث له قال:" سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال: خذ ماء التمر فأغسله حتى يذهب ثلثا ماء التمر"(1).

ويشكل - كما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) - بإجمال النضوح، إذ من المحتمل أن

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 32 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2.

ص: 425

يكون فيه من الأجزاء ما يوجب صيرورته مسكراً لو لم يذهب ثلثاه. ولاسيما مع وصفه بالمعتق، إذ من المحتمل أن يصير خمراً بمرور مدة طويلة لولا ذلك.

ومثله موثقه الآخر عنه (عليه السلام): "سألته عن النضوح. قال: يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يتمشطن"(1).

مضافاً إلى أن مقتضاه عدم التمشط به ووضعه في الرأس قبل ذهاب الثلثين، ولا قائل بذلك، وإنما قيل بحرمة شربه قبل ذهاب الثلثين، ولا يشعر به الموثق المذكور. بل لعل ذلك جار في الموثق الأول أيضاً، لأن النضوح طيب يستعمل وليس شراباً أو طعاماً.

ومن ثم لا يبعد كون النهي عن وضعه على الرأس أو التطيب به تجنباً عن إسكاره الموجب لنجاسته، فيكون إذهاب الثلثين تحصيناً له عن الإسكار والنجاسة.

نعم يبقى ما سبق من استبعاد خصوصية ذهاب الثلثين لا أقل ولا أكثر في التحصين من الإسكار، لكنه ليس بحدّ ينهض بنفسه بالاستدلال.

وأضعف من ذلك الاستدلال بالنصوص الناهية عن استعمال النبيذ الذي يجعل فيه القعوة والعكر فيغلي(2). لقرب كون النبيذ المذكور مسكراً، بل هو ظاهر بعضها أو صريحه. ولاسيما مع ورودها فيما يغلي من دون نار الذي سبق قرب كونه مسكراً.

هذا وقد يستدل على عدم الحرمة بمجرد الغليان بغير واحد من النصوص الظاهرة في دوران حرمة النبيذ مدار الإسكار وجوداً وعدماً، كصحيح صفوان:" كنت مبتلى بالنبيذ معجباً به، فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصف لك النبيذ. فقال: أنا أصفه لك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مسكر حرام... "(3) وغيره.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 37 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 24 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 17 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3.

ص: 426

(427)

فيجوز وضع التمر والزبيب والكشمش في المطبوخات (1)، مثل المرق

وفيه: أن ذلك إنما ورد في النبيذ الذي يبقى فيه التمر مدة حتى يتخمر بنفسه أو بالاستعانة بما يلقى فيه من العكر أو نحوه من دون غليان، في مقابل ما يلقى فيه التمر مدة قصيرة حتى يحلو الماء ثم يستخرج منه ويشرب من دون أن يسكر، والكلام في المقام في عصير التمر الذي يستخرج به حلاوته منه، ثم يغلى بالنار، ودوران حرمة الأول مدار الإسكار وعدمه لا تنافي دوران حرمة الثاني مدار ذهاب الثلثين وعدمه. فالعمدة في المقام الأصل بعد عدم وضوح دليل على الحرمة. وإن كان الاحتياط حسناً بلحاظ بعض ما سبق. بل قد يلزم.

بقي شيء: وهو أن الكلام المتقدم في عصيري الزبيب والتمر إنما هو مع الغليان بالنار، وأما مع الغليان بغيرها فالنصوص المتقدمة قاصرة عنه. والكلام في الحرمة والنجاسة يبتني على ما تقدم في عصير العنب من الكلام في مسكريته، حيث لا يبعد اشتراكهما معه في ذلك، وقد يناسبه ما سبقت الإشارة إليه من نصوص النبيذ.

ولا ينافيه ما تضمنه بعضها من جعل العكر ونحوه مما يعين على الغليان، حيث لا يبعد ظهوره في أن المدار على الغليان. والأمر سهل بعد كون المدار على الإسكار الذي هو أمر وجداني، لا شرعي. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) الظاهر عدم تفرعه على ما سبق، بل يحل ذلك مطلقاً وإن قلنا بحرمة عصير التمر والزبيب بالغليان، لأن وضع هذه الأمور في المطبوخات لا يوجب غليان شيء في داخلها يصدق عليه أنه ماء الزبيب أو التمر، لعدم اشتمالها على الماء، بل على مادة سكرية غليظة لا تغلي. بل هي ترق من دون أن يصدق عليها الغليان.

بل لو فرض تحقق الغليان فيها داخل الزبيب والتمر ففي التحريم إشكال، لأن موضوع التحريم - لو تم - هو ما يغلي بعد استخراجه منها، لعدم صدق العصير حينئذٍ عليه. والتعدي عن العصير لكل ما يخرج منها ولو من غير عصر لا يقتضي

ص: 427

(428)

والمحشي والطبيخ وغيرها، وكذا دبس التمر المسمى بدبس الدمعة (1).

(التاسع): الفقاع (2)

التعدي لما لم يخرج وغلا في مكانه.

نعم لو خرج منها شيء قليل وغلا خارجاً عنها تعين تحريمه لو قلنا به في العصير، وحينئذٍ لا يحل إلا بذهاب الثلثين أو بالاستهلاك. بل لو قلنا بالنجاسة لم ينفع أحد الأمرين، لتنجس ما يتصل به من المرق أو الدهن. وذهاب الثلثين والاستهلاك إنما يطهران العصير لا ما تنجس به، إلا الإناء ونحوه فإنه يطهر بذهاب الثلثين، كما يأتي.

ومن الغريب ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من الطهارة بالاستهلاك. نعم لو استهلك المتنجس بالعصير قبل أن ينجس غيره تعين البناء على الطهارة وكذا لو استهلك العصير قبل الغليان، فإنه لا ينجس حينئذٍ بغليان المرق، ولا ينجسه، كما هو ظاهر. لكن الأول فرض غير حاصل ظاهراً. والثاني مخالف لظاهر كلامه أو صريحه.

ومما ذكرنا يظهر الحال في وضع العنب في الأمراق ونحوها. فإن الظاهر عدم غليان مائه في داخله، ولو غلا لم يحرم. إلا أن يكون غليانه بعد خروجه منه، فيجري فيه ما تقدم.

(1) من الظاهر أن الدبس المذكور هو عصير التمر الحقيقي فوضعه في المرق إن لم يوجب غليانه فلا إشكال، وإن أوجب غليانه ابتنى الكلام فيه على الكلام المتقدم في عصير التمر، لأن المراد بعصير التمر فيما تقدم وإن كان هو ما يعصر منه بعد وضع الماء عليه، إلا أن التعدي منه لما يخرج منه بنفسه لا يخلو عن وجه. فتأمل.

(2) إجماعاً محصلاً ومنقولاً صريحاً في الانتصار والمنتهى والتنقيح وجامع المقاصد، وعن الخلاف والغنية والمهذب البارع وكشف الالتباس وإرشاد الجعفرية، وظاهراً في التذكرة وعن المبسوط وغيرهما. وكذا في الجوهر. وكأن المراد به الإجماع

ص: 428

ممن ذهب إلى نجاسة المسكر.

ويقتضيه ما سبق في نجاسة الخمر بضميمة النصوص المستفيضة المتضمنة أنه خمر، كصحيح الوشا عن الرضا (عليه السلام): "كتبت إليه أسأله عن الفقاع فكتب حرام وهو خمر..."(1) ، سواءً كان التطبيق فيها حقيقياً أم أدعائياً تنزيلاً، إذ نجاسته على الأول مقتضى دليل نجاسة الخمر، وعلى الثاني مقتضى إطلاق التنزيل. مؤيداً بخبر هشام بن الحكم:" أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنه خمر مجهول، وإذا أصاب ثوبك فأغسله"(2).

نعم في خبر زكريا بن آدم: "سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير. قال: فقال: يهراق المرق أو يطمعه أهل الذمة أو الكلاب، واللحم أغسله وكله... قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم. قال: فقال: فسد... قلت: والفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شيء من ذلك؟ قال: أكره أن آكله في شيء من طعامي"(3).

وقد يظهر من اختلاف الجواب في الفقاع عن الجواب في الخمر والنبيذ المسكر عدم نجاسة الفقاع، بل كراهة أكل ما لاقاه لا غير. وحينئذٍ قد يسهل رفع اليد به عن الإطلاق المتقدم وحمل خبر هشام من أجله على الاستحباب. لكن ذلك لا يخلو عن إشكال. على أن ضعف سنده وعدم ظهور عامل به مانع من التعويل عليه والخروج به عما سبق. بل يتعين طرحه، أو حمله على الحرمة.

هذا ويظهر من بعض النصوص اختصاص الحرمة والنجاسة ببعض أقسام الفقاع. ففي صحيح مرازم الذي رواه عنه ابن أبي عمير:" كان يعمل لأبي الحسن (عليه السلام) الفقاع في منزله. قال ابن أبي عمير: ولم يعمل فقاع يغلي"(4).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 27 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1، 8.

(3) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 26 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

(4) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 39 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 1.

ص: 429

وهو شراب مخصوص متخذ من الشعير (1)

وفي موثق عثمان بن عيسى أو صحيحه: "كتب عبد الله بن محمد الرازي إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): إن رأيت أن تفسر لي الفقاع، فإنه قد اشتبه علينا، أمكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب (عليه السلام): لا تقرب الفقاع إلا ما لم يضر آنيته أو كان جديداً. فأعاد الكتاب إليه: كتبت أسأل عن الفقاع ما لم يغل، فاتاني: إن اشربه ما كان في إناء جديد أو غير ضار، ولم أعرف حدّ الضراوة والجديد. وسأل أن فسر ذلك له، وهل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة والزجاج والخشب ونحوه من الأواني؟ فكتب: يعمل الفقاع في الزجاج، وفي الفخار الجديد إلى قدر ثلاث عملات، ثم لا يعد بعد ثلاث عملات إلا في إناء جديد. والخشب مثل ذلك"(1).

وفي صحيح علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام):" سألته عن شرب الفقاع الذي يعمل في السوق ويباع ولا أدري كيف عمل ولا متى عمل، أيحل أن أشربه؟ قال: لا أحبه"(2).

ويظهر من الأول بقرينة ما ذكره ابن أبي عمير حرمته بعد الغليان. ولعله هو الظاهر من الثاني، لأن السؤال وإن كان عن الكراهة قبل الغليان أو بعده، وقد يظهر من الجواب أن المعيار في الحرمة أمر غير الغليان، إلا أن من القريب رجوع السؤال إلى حكم ما قبل الغليان مع المفروغية عن الحرمة بعده، فيكون الجواب راجعاً للتفصيل قبل الغليان لا غير، كما يناسبه السؤال الثاني. وحينئذٍ يتعين البناء على حرمته بعد الغليان مطلقاً مع التفصيل فيما قبل الغليان بالوجه المذكور في الجواب. فلاحظ.

(1) كما عن غير واحد. ولا أقل من كونه المتيقن منه بعد احتمال كون إطلاقه على ما يتخذ من غيره حادثاً من دون أن يكون موضوعاً في الأصل للقدر الجامع، حيث لا مجال معه لتنزيل النصوص على الإطلاق المذكور.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 17 باب: 39 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2، 3.

ص: 430

(431)

وليس منه ماء الشعير الذي يصفه الأطباء (1).

(العاشر): الكافر (2).

نعم قد يستفاد من النصوص المتقدمة أنه محرم بملاك مناسب للخمر من حيثية الإسكار، فأثره وإن لم يكن هو السكر الظاهر، إلا أنه إن فيه خاصية الإسكار بمرتبة ضعيفة قد تخفى أو يستهان بها عند العامة، وحيث تضمنت النصوص أن الخمر لم تحرم لاسمها، بل لإسكارها أمكن التعدي لكل ما يؤثر من السكر بالنحو المذكور، وإن لم يكن مسمى باسمه أو كانت تسميته به حادثة.

وبعبارة أخرى: مقتضى الجمع بين ما دل على أن الخمر لم تحرم ولم تنجس لاسمها، بل لأثرها ونصوص المقام الظاهرة في أن حرمة الفقاع ونجاسته بملاك حرمة الخمر هو البناء على دوران الحرمة والنجاسة مدار السكر الذي في الفقاع وإن حصل في غيره. فلاحظ.

(1) لعدم وضوح صدق اسمه ولا تحقق خاصيته فيه. كما نبه له غير واحد.

(2) إجماعاً، كما في الانتصار والناصريات والخلاف والغنية والمنتهى ونهاية الأحكام وعن السرائر والمعتبر والبحار والدلائل وغيرها، وهو ظاهر التذكرة. بل في التهذيب: "أجمع المسلمون على نجاسة المشركين والكفار إطلاقاً" .لكن المشهور عن العامة الطهارة، بل لعل إجماعهم على طهارة غير المشرك.

وكيف كان فقد يستدل على النجاسة بقوله تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"(1). بناء على إطلاق النجس بالفتح بمعنى النجس كما عن جماعة من اللغويين وأرسله إرسال المسلمات في لسان العرب ومفردات الراغب ومختار الصحاح والقاموس، أو أنه مصدر أخبر به عن العين في المقام للمبالغة، كما في زيد عدل، فإنه أولى من تقدير (ذوو) ليمكن حمله على النجاسة

********

(1) سورة التوبة الآية: 28.

ص: 431

العرضية بلحاظ ابتلائهم بها غالباً.

على أن إطلاق وصفهم بأنهم ذوو نجس تمهيداً لإطلاق النهي عن قربهم المسجد الحرام يقتضي ملازمتهم للنجس وعدم إنفكاكهم عند التطهير، وهو ملازم للنجاسة الذاتية، كما ذكر ذلك سيدنا المصنف (قدس سره).

لكنه يشكل بأن النجس لغة الخبيث، كالرجس. وظهوره في خصوص النجاسة الخبيثة التي هي محل الكلام حادث بعد تشريع النجاسة المذكورة وشيوع الابتلاء بها، ولا يعلم حصول ذلك حين نزول الآية الشريفة، فلعل المراد بها الخباثة الثابثة لهم بنظر الشارع بسبب شركهم ومحاربتهم لله تعالى ولدينه ولأوليائه ومعاداتهم لهم. نظير قوله تعالى عن المنافقين:" فأعرضوا عنهم أنهم رجس"(1) ، وقوله سبحانه: "وأما الذين في قلوبهم مرض فزادهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون"(2).

وتفريع النهي عن قرب المسجد الحرام لا يشهد بإرادة النجاسة الخبيثة التي هي محل الكلام، لأن النجاسة بالمعنى المتقدم تناسب التفريع أيضاً. نظير قوله تعالى:" ما كان للمشركين إن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين"(3).

وأما فهم الأصحاب النجاسة الخبيثة التي هي محل الكلام من الآية الكريمة واستدلالهم بها عليها. فهو لا ينهض بالقرينية على ظهورها فيها، لقرب التباس الأمر في ذلك عليهم بسبب ظهور النجاسة في عصور أهل الاستدلال في النجاسة المذكورة. ومما ذكرنا تظهر مواقع النظر في كلمات سيدنا المصنف (قدس سره) في المقام. فلاحظها.

هذا ولا يخفى أن الآية الشريفة مختصة بالمشركين، ولا تشمل غيرهم من غير أهل الكتاب، فضلاً عن أهل الكتاب. ودعوى: أن التعميم يتم بعدم الفصل المدعى

********

(1و2) سورة التوبة الآية: 95 والآية: 125.

(3) سورة التوبة الآية: 17-18.

ص: 432

في الغنية والرياض والجواهر. ممنوعة، لقرب وجود المخالف في نجاسة الكتابي كما يأتي. ولو سلم عدمه لم ينفع ما لم يرجع للإجماع على الملازمة وعدم الفصل، وهو غير ثابت.

ومثله ما يظهر من الجواهر من احتمال تعارف إرادة مطلق الكافر من المشرك، فإنه لا شاهد له، بل الشاهد من الكتاب المجيد والعرف واللغة على خلافه. وكذا تعميم الحكم لليهودي والنصراني بضميمة ما دل على نسبة الإشراك إليهم كقوله تعالى: "وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يُضاهِئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا الاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون"(1).

لاندفاعه بأن نسبة الشرك إليهم بنسبة الولد له تعالى ليست على نحو الحقيقة، وكذا نسبته إليهم بلحاظ اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً، إذ لا يراد به إشراكهم به تعالى في الألوهية والعبادة، بل في الطاعة، كما في صحيح أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):" في قول الله عز وجل: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" .فقال: والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً فاتبعوهم "(2) ونحوه غيره. فهو على نحو ما في موثق ضريس عنه (عليه السلام):" في قول الله عز وجل: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون. قال: شرك طاعة، و ليس شرك عبادة..."(3) ، ونحوه غيره.

نعم لا إشكال في ابتناء التثليث عند طائفة من النصارى على نحو من الشرك. وكذا ما ينسب للمجوس من القول بإلهية يزدان والنور والظلمة لو تم. إلا أنه - مع عدم اطراده في جميع الكفار - مخالف للظاهر من المشركين في الآية الشريفة، بضميمة

********

(1) سورة التوبة الآيتان: 30، 31.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 3، 7.

ص: 433

الآيات الكثيرة المتضمنة مقابلة أهل الكتاب والمجوس للمشركين، وخصوص ما في سورة براءة من افتتاحها بالبراءة من المشركين وتتابع أحكامهم فيها بما في ذلك الحكم الذي تضمنته الآية المذكورة، ثم التعرض لحكم أهل الكتاب والاكتفاء منهم بالجزية.

وقد ظهر بما تقدم عدم نهوض الآية الشريفة بإثبات نجاسة المشركين، فضلاً عن بقية الكفار. نعم لو تمت دلالتها على نجاسة المشركين أمكن التعدي للملحدين النافين لإله خالق، وللنافين ألوهية الله تعالى المثبتين ألوهية غيره من غير أهل الكتاب، بالأولوية العرفية، لارتكاز أن الحكم بالنجاسة للتنفير الذي هو أولي في الطائفتين المذكورتين منه في المشركين. لكنه مع عدم تمامية الدلالة المذكورة - كما سبق - غير مطرد في تمام المدعى كما هو ظاهر.

كما أنه لو تم الدليل على نجاسة أهل الكتاب أمكن التعدي لغيرهم من الكفار بتنقيح المناط أو الأولوية أو عدم الفصل. فاللازم النظر في ذلك. وقد استدل على نجاستهم بجملة من النصوص.

منها: ما ورد في أوانيهم وطعامهم، كصحيح محمد بن مسلم: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس. فقال: لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر" .وصحيح زرارة: عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه قال في آنية المجوس: إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء"(1) ، وصحيح إسماعيل بن جابر وعبد الله بن طلحة عنه (عليه السلام):" قال: لا تأكل من ذبيحة اليهودي، ولا تأكل من آنيتهم"(2) ، وخبر هارون بن خارجة: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أخالط المجوس فآكل من طعامهم؟ فقال: لا"(3) ، ونحوها غيرها(4).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2، 7.

(3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 1، وج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 434

ويشكل بأنه حيث لا مجال للبناء على إطلاق النهي عن استعمال آنيتهم والأكل من طعامهم، بل هو لا ينفع حينئذٍ في البناء على النجاسة، فلابد إما من حمله على ما إذا استلزم مباشرتهم لهما برطوبة، أو على غلبة ابتلاء الآنية بالنجاسة العرضية بسبب عدم توقيهم عن النجاسة كالخمر والميتة ولحم الخنزير، وعدم إحراز تطهيرها. ولاسيما مع احتياج تطهير الإناء إلى عناية، وغلبة تنجس الطعام المطبوخ بالآنية المذكورة.

ولا يتضح أولوية الأول، بل هو لا يناسب تقييد النهي في بعضها بالآنية التي يشربون فيها الخمر. بل يتعين الثاني بلحاظ معتبر يونس عنهم (عليهم السلام):" وإنما كره أن يؤكل سوى الأنفحة مما في آنية المجوس وأهل الكتاب، لأنهم لا يتوقون الميتة والخمر"(1) ، ونحوه غيره مما يأتي.

ومنها: ما ورد في مصافحتهم، كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): "في رجل صافح رجلاً مجوسياً فقال: يغسل يده ولا يتوضأ"(2) ، وخبر أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام):" في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني. قال: من وراء الثوب، فإن صافحك بيده فاغسل يدك"(3). لظهورهما في وجوب الغسل وذلك لا يكون إلا من جهة تنجسها بالمصافحة. نعم لابد من حملها على صورة الرطوبة المسرية.

لكنه يحتاج إلى عناية لا شاهد عليها. ولاسيما بعد عدم غلبة الرطوبة حين المصافحة. وليس هو بأولى من حملهما على الاستحباب تنزهاً عن أثر مس الكافر ومصافحته ولو مع عدم الرطوبة. خصوصاً بملاحظة رواية خالد القلانسي: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ألقى الذمي فيصافحني قال: امسحها بالتراب وبالحائط. قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها"(4). بل فرض الرطوبة لا يناسب ما في خبر أبي بصير من الأمر بالمصافحة من وراء الثوب من دون تنبيه إلى غسله، بل يناسب ما ذكرنا من التنزه عن أثر مسّ الكافر ومصافحته.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 33 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 2.

(2و3و4) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 3، 5، 4.

ص: 435

ومنه يظهر الجواب عن صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد، وأصافحه قال: لا"(1) ، وصحيحه الآخر الآتي المتضمن النهي عن مصافحته. حيث لا شاهد على حمله على النهي من حيثية النجاسة في حال الرطوبة. بل لعل الأظهر حمله على النهي تنزهاً عن مسّ المجوسي ومصافحته تنفيراً عنه وردعاً عن تكريمه ونحوه غيره مما تضمن ذلك.

ومنها: ما ورد في مؤاكلتهم ومخالطتهم، كصحيح عبد الله بن يحيى الكاهلي: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم مجوسي، أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال: أما أنا فلا أواكل المجوسي، وأكره أن أحرم عليكم شيئاً تصنعون في بلادكم"(2) ، وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام):" سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس ولا يصلي في ثيابهما. وقال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة، ولا يقعده على فراشه، ولا مسجده، ولا يصافحه. قال: وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصل فيه، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلي فيه حتى يغسله"(3) ، وصحيحه الآخر المتقدم وغيرها.

لكنها ظاهرة بدواً في النهي عن المخالطة والمؤاكلة مع قطع النظر عن النجاسة. وحملها على النهي إرشاداً للنجاسة بعد تنزيلها على صورة الرطوبة المسرية، ليس بأولى من إبقائها على إطلاقها وحملها على النهي التنزيهي تنفيراً عن معاشرتهم. ولاسيما وأن حمل صحيح الكاهلي على صورة الرطوبة يحتاج إلى عناية بعد عدم ظهور الطعام في خصوص الرطب. وكذا النهي عن إقعاده على الفراش والمسجد في صحيحي علي بن جعفر.

مع أن النهي نظراً للنجاسة وفرض الرطوبة المسرية كما يكون إلزامياً لنجاستهم

********

(1و2و3) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 6، 2، 10.

ص: 436

الذاتية يكون تنزيهاً بلحاظ كثرة ابتلائهم بالنجاسة العرضية، نظير ما تقدم، ولا قرينة على الأول بعد عدم كونه الظاهر بدواً من الكلام. بل صحيح الكاهلي ظاهر في الكراهة، للاقتصار فيه على تنزهه (عليه السلام) بنفسه عن مؤاكلتهم من دون أن يحرمها على غيره ممن يبتلي بذلك.

ودعوى: أن التنبيه على تعودهم ذلك في بلادهم مشعر بأن عدم التحريم منه (عليه السلام) في حقهم للتقية. ممنوعة، حيث لا تقية من المجوس غالباً، بل المنصرف منه كون عدم التحريم إرفاقاً بهم في منعهم مما تعودوا عليه، ويحتاجون إليه بسبب معاشرتهم.

وكذا التفريق في صحيحي ابن جعفر بين الفراش واللباس وبين نوم المسلم على فراش اليهودي والنصراني وإقعاد المسلم المجوسي على فراشه ومسجده، فإن ذلك كله لا يناسب النهي الإلزامي إرشاداً للنجاسة، بل التنزيهي بلحاظ احتمالها أو بلحاظ التنفير عن معاشرة الكفار وتكريمهم. كما لعله ظاهر.

على أنه يكفي في حملها على الكراهة صحيح العيص بن القاسم: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي. فقال: إن كان من طعامك وتوضأ فلا بأس" (1) وقريب منه صحيحه الآخر(2). بل قد ينفعان في الدلالة على الطهارة، لأن المؤاكلة معرضة للابتلاء بالرطوبة المسرية، فعدم التنبيه فيهما لذلك قد يوجب ظهورهما في الطهارة.

كما أن ما تضمنه صحيح علي بن جعفر الأول من الأمر بغسل الثوب الذي يشترى من الكافر مع الجهل بأصله لو حمل على الإلزام إنما يدل على عدم الرجوع لقاعدة الطهارة فيما تحت يده، لا على نجاسته واقعاً، لينفع فيما نحن فيه. على أنه لابد من حمله على الاستحباب بقرينة ما يأتي.

ومنها: ما ورد في مساورتهم كصحيح سعيد الأعرج: "سألت أبا عبد الله

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 53 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 1، 4.

ص: 437

عن سؤر اليهودي والنصراني. فقال: لا"(1) ، وصحيح علي بن جعفر:" إنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام قال: إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام. إلا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل"(2) ، وصحيح الوشا عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الإسلام. وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب"(3).

لكن الأخير - مع ضعف سنده - مناسب للكراهة بقرينة ذكر ولد الزنا والتشديد على سؤر الناصب، إذ التشديد في النجاسة المصطلحة خال عن الأثر العملي فيبعد التنبيه عليه، بخلافه في الكراهة.

وكذا صحيح علي بن جعفر بقرينة ما في ذيله:" وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، إلا أن يضطر إليه "فإن الترخيص مع الاضطرار لا يناسب النجاسة، بل المناسب لها حينئذٍ الانتقال للتيمم.

وما في الوسائل من حمله على الكرّ أو ذي المادة. لا شاهد عليه، بل هو بعيد جداً. ومثله ما عن الشيخ - وإن لم اعثر عليه في كلامه - من حمل الاضطرار فيه على التقية، فإنه خلاف الظاهر جداً، بل الظاهر منه انحصار الماء به.

نعم من القريب أن يكون الذيل المذكور رواية أخرى في كلام آخر لا تتمة لما تقدم. وحينئذٍ لا يمنع من ظهور ما تقدم في النجاسة، كظهور صحيح سعيد الأعرج فيها. ومن ثم كانا هما العمدة في أدلة النجاسة.

وحينئذٍ يكون ذيل صحيح ابن جعفر المتقدم معارضاً لهما في ذلك. وكذا ذيله الآخر المروي عن كتاب علي بن جعفر:" سألته عن اليهودي والنصراني يشرب من

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 8.

(2) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 9.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب الأسئار حديث: 2.

ص: 438

الدورق أيشرب منه المسلم؟ قال: لا بأس"(1). كما تصلح لذلك بعض النصوص المتقدمة بعد ملاحظة ما ذكرناه في تعقيبها فلاحظها.

ومثلها في ذلك جملة من النصوص التي استدل ويستدل على الطهارة منها: موثق عمار: "سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي؟ فقال: نعم. فقلت: من الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم"(2).

وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من إمكان ابتناء الحكم فيه على عدم انفعال الماء القليل، فيكون كغيره مما ورد في سائر النجاسات. ففيه: أنه بعد البناء على انفعال الماء القليل يصلح الموثق دليلاً على طهارة اليهودي. ولاسيما مع ظهوره في خصوصية اليهودي في السؤال المناسب للسؤال عن حيثية اقتضائه الانفعال بعد الفراغ عن قابلية الماء له.

ولا أقل حينئذٍ من نهوضه بمعارضة صحيحي ابن جعفر وسعيد الأعرج للذين تقدم أنهما العمدة في دليل النجاسة، وينهض بحملهما على الكراهة.

ومنها: ما ورد في طعامهم وآنيتهم، كصحيح إسماعيل بن جابر:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب فقال (عليه السلام): لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله، ولا تتركه تقول: إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير"(3) ، وصحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام): "سألته عن آنية أهل الكتاب فقال: لا تأكل في آنيتهم إذ كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير"(4) ، وخبر زكريا بن إبراهيم:" دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: إني رجل من أهل الكتاب وإني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية، وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد، فآكل من طعامهم؟. فقال: لي: يأكلون الخنزير.

********

(1) هامش الوسائل في تعقيب الحديث المتقدم.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 3 من أبواب الأسئار حديث: 3.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 4، 6.

ص: 439

فقلت: لا، ولكنهم يشربون الخمر. فقال لي: كل معهم وأشرب"(1).

نعم استشكل سيدنا المصنف (قدس سره) في صحيح إسماعيل بأن تكرار النهي عن الأكل الدال على مزيد الاهتمام به لا يناسب كونه تنزيهياً، وهو مما يوجب الريب في الذيل بنحو يشكل معه العمل به، وفي صحيح محمد بن مسلم بأنه لا مفهوم للشرطية فيه.

ويندفع الأول بأن تكرار النهي وشدة الاهتمام به يناسب كونه معرضاً لئلا يعمل به، أما لاحتفافه بما يوجب ذلك من احتمال كونه تنزيهاً أو غير مراد به ظاهره، أو لتعرضه للمزاحمات الخارجية، وإلا فالنهي الظاهر في الحرمة الذي من شأنه أن يعمل به لا موجب لتكراره وتأكيده، فالتكرار لا ينافي التنزيه بل قد يناسبه، فلا موجب لرفع اليد عن التصريح في الذيل بالكراهة.

والثاني بأنه مخالف للظاهر جداً، لأن التقييد بقيد مناسب للحكم عرفاً إن لم يكن مسوقاً للمفهوم يكون موهماً لخلاف الواقع، فكيف بالشرط الظاهر في المفهوم في نفسه؟!.

نعم ما ذكره في خبر إبراهيم من ضعف سنده وعدم الجابر له تام. لكنه لا يمنع من كونه مؤيداً للصحيحين، كما يؤيدهما صحيح محمد بن مسلم ويعضدها معتبر يونس المتقدمان. فراجع.

ومنها: ما ورد في ثيابهم التي يعملون كصحيح معاوية: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث [أجناب]، وهم يشربون الخمر، ونساؤهم على تلك الحال، ألبسها ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال: نعم. قال معاوية: فقطعت له قميصاً وخطته، فتلت له أزراراً ورداء من السابري، ثم بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنه عرف ما أريد فخرج فيها إلى الجمعة"(2) ، وحديث

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 54 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 5.

(2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 1.

ص: 440

المعلى بن خنيس: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس بالصلاة في الثياب التي تعملها المجوس والنصارى واليهود"(1) ، وصحيح إبراهيم بن أبي محمود:" قلت للرضا (عليه السلام): الخياط أو القصار يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس "(2) وغيرها. فإن بعضها وإن لم يصرح فيه بأن السؤال من حيثية النجاسة، إلا أن ذلك هو المنصرف منها، ولاسيما مع التنبيه في بعضها على أنهم لا يتوقون النجاسات.

لكن حملها في الوسائل على صورة عدم العلم بتنجيسهم لها. قال سيدنا المصنف (قدس سره):" وهو غير بعيد، كما يشهد به ما ذكر في جملة منها من أنهم يشربون الخمر ويأكلون الميتة، ولا إشكال في نجاستهما".

وهو كما ترى، لأن احتمال عدم سراية نجاسة الخمر والميتة منهم للثياب معتد به، بخلاف عدم سراية نجاسة أعيانهم لو قيل بها، لابتناء نسج الثياب و قصرها على غسلها ومسهم لها برطوبة، كما لعله ظاهر.

بل الإنصاف أن التنبيه في تلك النصوص وغيرها لأكلهم الميتة وشرب الخمر، ظاهر في المفروغية عن طهارتهم الذاتية، إذ لو كان البناء على نجاستهم لكان أولى بالذكر، فإنه أنسب بقوة احتمال التنجيس. ومثلها في ذلك كثير من النصوص المانعة أو المسوغة للصلاة في الثياب التي يستعيرونها أو تؤخذ منهم مع التنبيه فيها لشربهم الخمر وأكلهم الميتة ولحم الخنزير(3).

ومنها: صحيح إبراهيم بن أبي محمود:" قلت للرضا (عليه السلام): الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة. قال: لا بأس تغسل

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 2.

(2) التهذيب ج: 6 ص: 385 حديث: 1142.

(3) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73، 74 من أبواب النجاسات.

ص: 441

يديها"(1). وأما ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من ظهوره في قضية خارجية، وهي قضية جارية خاصة تخدم الإمام (عليه السلام) بقرينة ضمير الخطاب، وحينئذٍ لا مجال للاستدلال به، لإجمال الواقعة المذكورة لاحتمال أن خدمتها له (عليه السلام) ليست باختياره، بل بإلزام سلطان الجور.

ففيه أولاً: إن احتمال كون القضية المسؤول عنها خارجية بعيد جداً لا يناسب مقام الإمام (عليه السلام). ومجرد اشتمال السؤال عن ضمير الخطاب لا يصلح شاهداً على ذلك، نظير ما تقدم في صحيحه الآخر.

وثانياً: إن اقتصار الإمام (عليه السلام) في رفع البأس على غسل يديها ظاهر في كفايته في دفع محذور النجاسة. ولو كان المسوغ هو الاضطرار مع النجاسة الذاتية لم يكن لذكر ذلك، بل كان المناسب التنبيه إلى محاولته (عليه السلام) عدم مساورتها أو التطهير بعد المساورة.

وثالثاً: إن من البعيد جداً بلوغ تقية الإمام الرضا (عليه السلام) من سلطان الجور حداً يستخدم معه علناً من يرى نجاسته ويبتلى بها في طعامه وشرابه وعبادته. ومن ثم كان الصحيح وافياً بالدلالة على الطهارة، بل بالمفروغية عنها، لظهوره في أن منشأ السؤال النجاسة العرضية، كما تقدم في سابقه.

ومثله في ذلك النصوص الكثيرة الواردة في تزويج الكتابية(2) ، حيث لم ينبه فيها على كثرتها لحكم مساورتها، مع أنه أهم من التنبيه في بعضها لمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير(3) ، لأن ذلك أمر متعلق بها، وهذا أمر متعلق بالمسلم المتزوج لها والذي سبقت النصوص لبيان حكمه، وعليه يتحدد مصير علاقتهما ومعاشرتهما.

بل حيث تضمنت جملة من تلك النصوص التثبيط عن ذلك فالمنع من المساورة

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 11.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه.

(3) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 2 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه حديث: 1.

ص: 442

من أظهر مظاهر التثبيط وادعى دواعي الترك، فعدم التعرض له يوجب ظهور النصوص المذكورة بمجموعها في عدم كون المساورة محذوراً، وفي طهارتها الذاتية.

ومنها: موثق عمار ومعتبر زيد بن علي المتضمنين تغسيل الكتابي للمسلم عند فقد المماثل(1). قال سيدنا المصنف (قدس سره): "فإن البناء على وجوب التغسيل بالماء النجس بعيد جداً، لأنه يزيد الميت نجاسة. وحمله على التغسيل بالكثير أبعد... وإن كان الإشكال فيها لا يختص بهذه الجهة، لأن عبادة الكافر أيضاً باطلة بالإجماع" .لكن الاكتفاء للضرورة بالتغسيل بغير نية أو بنية ناقصة ليس كالاكتفاء بالتغسيل بالماء النجس الذي يزيد الميت نجاسة. ومن ثم كان الاستدلال بهما قريباً جداً.

هذه النصوص التي يمكن الاستدلال بها على الطهارة والتي ظهر ضعف المناقشات في الاستدلال بها كما اعترف به سيدنا المصنف (قدس سره) في آخر كلامه، كما يأتي. وربما كانت هناك بعض النصوص الأخر في أبواب الفقه المتفرقة.

بل يظهر من جملة من النصوص المتقدمة وغيرها المفروغية عن الطهارة، لما أشرنا إليه من أن التنبيه فيها من السائل أو الإمام (عليه السلام) لابتلاء الذمي بالنجاسة العرضية، وإهمال النجاسة الذاتية، مشعر أو ظاهر في المفروغية عن الطهارة الذاتية، كما سبق التنبيه لذلك في بعضها.

هذا وقد يدعى أنه يلزم حمل هذه النصوص على التقية لموافقتها لمذهب العامة، وقد أصر على ذلك في الحدائق وشدد النكير على من عمل بهذه النصوص وجمع بينها وبن نصوص النجاسة بحمل تلك على الكراهة.

ويشكل أولاً: بأن كثرة نصوص الطهارة، وورودها في موارد مختلفة ومناسبات متعددة، مع فتوى الأصحاب بما يطابقها في بعض المواد - كالتزويج من الكتابية، وتغسيل الكتابي للمسلم - ومع ظهور جملة منها في المفروغية عن الطهارة الذاتية، كما سبق، كل ذلك يأبى حملها على التقية. ولاسيما وإن بعضها قد ورد مورد النهي

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 19 من أبواب غسل الميت حديث: 1، 2.

ص: 443

عن مخالطة أهل الكتاب على خلاف ما عليه العامة، إلا أنه اشتمل على بعض القرائن التي تشهد بالكراهة، أو بأن منشأ النهي الاحتياط لتجنب النجاسة الخارجية التي يتعرضون لها دون النجاسة الذاتية.

وثانياً: بأن الترجيح بمخالفة العامة فرع استحكام التعارض بين الطائفتين، ولا مجال له مع إمكان الجمع بينهما عرفاً بالحمل على الكراهة تنفيراً عنهم وتوهيناً لهم أو احتياطاً لاحتمال ابتلائهم بالنجاسة العرضية، خصوصاً مع كثرة الشواهد على ذلك، كما يظهر مما تقدم.

وأضعف من ذلك دعوى ترجيح نصوص النجاسة بموافقتها للكتاب، حيث يظهر ضعفها مما سبق من عدم دلالة الآية الشريفة على نجاسة المشركين فضلاً عن أهل الكتاب.

نعم لا مجال لدعوى العكس، وأن نصوص الطهارة هي الموفقة للكتاب، لقوله تعالى: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم" (1) فإن تحليل الطعام ملازم للطهارة عرفاً لغلبة ابتلائه بمباشرتهم برطوبة عند الطبخ ونحوه.

لاندفاعها - مضافاً إلى توقفها على استحكام التعارض بين الطائفتين - بأنه قد صرح في جملة من النصوص بأن المراد بالطعام الحبوب ونحوها دون الذبائح(2) ، ولا قرينة على أن المراد به ما هو صالح للأكل فعلاً لطبخه، بل لعل المراد به ما من شأنه أن يؤكل، لبيان حليته واقعاً لدفع احتمال حرمة الطعام بإضافته لهم تنفيراً عنهم، أو لبيان تحملهم وزر خبث المكسب مع حلّ المال للمسلم، نظير ثمن الخمر والخنزير، أو لبيان حليته ظاهراً لدفع خبث مكاسبهم.

وبالجملة: لا مجال لإعمال المرجحات الخارجية بين الطائفتين، لعدم وضوح ثبوتها، وعدم وصول النوبة إليها بعد إمكان الجمع الدلالي.

********

(1) سورة المائدة الآية: 5.

(2) راجع وسائل الشيعة ج: 16 باب: 51 من أبواب الأطعمة المحرمة.

ص: 444

نعم قد يدعى بل ادعي سقوط نصوص الطهارة بهجر الأصحاب لها وإعراضهم عنها، قال سيدنا المصنف (قدس سره) بعد ذكر جملة من النصوص المذكورة ومناقشتها بما سبق: "وكيف كان إن أمكن البناء على المناقشات المذكورة في هذه النصوص - ولو للجمع بينها وبين ما دل على النجاسة - فهو المتعين. وإن لم يمكن ذلك - لبعد المحامل المذكورة وإباء أكثر النصوص عنها - فالعمل بنصوص الطهارة غير ممكن، لمخالفتها للإجماعات المستفيضة النقل - كما عرفت - بل للإجماع المحقق - كما قيل - فإن مخالفة ابن الجنيد..." .ثم حاول بيان عدم قدح كلام من نسب له الخلاف في الإجماع المدعى ودافع عن الإجماع المذكور، ونحوه كلام غيره.

حتى أن بعض مشايخنا (قدس سره) مع إصراره في المقام على وفاء النصوص بالطهارة ومبناه في الأصول وفي كثير من فروع الفقه على عدم صلوح دعاوى الإجماع للخروج عن مفاد النصوص توقف عن العمل بالنصوص المذكورة في المقام لمخالفة معظم الأصحاب لها من القدماء والمتأخرين، والزم بالاحتياط.

لكن الإنصاف أنه لا مجال للتعويل على دعاوى الإجماع بعد ملاحظة النصوص المتقدمة، فإن روايتهم لها على كثرتها وتعدد الجهات المنظورة فيها، واختلاف ألسنتها، وعدم ظهور رفضهم لها واستنكارهم لمضمونها، مما يصعب معه إحراز الإعراض عنها من قدماء الأصحاب الذين ليس لهم تحرير للفروع مستقل عن النصوص، بل تعرف آرائهم عن طريق روايتهم. ولاسيما مع وضوح عملهم ببعضها، كنصوص تزويج الكتابية، وتغسيل الكتابي للمسلم، ونصوص الثياب المأخوذة من الكافر التي سبق ظهور بعضها في المفروغية عن الطهارة الذاتية.

ومنها توقيع الحميري الذي هو من أواخر هذه الطبقة: "إنه كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام): عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ولا يغتسلون من الجنابة وينسجون لنا ثياباً، فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل: فكتب إليه في الجواب: لا بأس

ص: 445

بالصلاة فيها"(1).

كما أن الكليني (قدس سره) قد أثبت في الكافي جملة من هذه النصوص، مع ظهور كلامه في مقدمته في صحة الروايات التي أثبتها فيه بحيث تصلح للعمل ولو تخييراً إلا مع التعارض بينها، فيهمل ما أتضح مخالفته للكتاب أو موافقته للعامة، وحيث سبق عدم استحكام التعارض بينها وبين نصوص النجاسة لم يبعد عمله بها بعد جمعها مع نصوص النجاسة بما سبق. ولعله لذا لم يثبت شيئاً من نصوص طهارة الخمر، واقتصر على نصوص نجاسته في الباب المناسب له، بنحو يظهر منه العمل عليها، دون نصوص طهارته.

وكذا الحال في الصدوق الذي صرح بأنه لا يثبت في كتابه الفقيه إلا ما يفتي به ويراه حجة بينه وبين ربه، حيث أثبت فيه قسماً من نصوص الطهارة ونصوص النجاسة، مع أنه اقتصر على النص الدال على طهارة الخمر من دون أن يذكر شيئاً من نصوص نجاسته، بنحو يظهر منه العمل بالأولى دون الثانية. حيث لا مجال مع كل ذلك لإحراز إعراض هذه الطبقة عن نصوص الطهارة مع ما هي عليه من وضوح الدلالة وكثرة العدد.

نعم لا يبعد عدم جلاء الحكم عندهم بسبب اضطراب النصوص وعدم اهتمامهم بتحرير الفتاوى ليتضح الحكم الذي عليه معولهم لعدم توجههم لذلك، وإنما يعتمدون على النصوص على اضطرابها من دون تحديد لمقتضى الجمع بينها، أو مع الجمع بينها بوجه بدوي.

كما يظهر ذلك من بعض أهل الفتوى أنفسهم، كالمفيد، فقد قال في المقنعة في باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات:" وإذا صافح الكافر المسلم ويده رطبة بالعرق أو غيره غسلها من مسه بالماء، وإن لم يكن فيها رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو التراب ".وقال في باب الذبائح والأطعمة:" ولا يجوز مؤاكلة المجوس ولا استعمال

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 73 من أبواب النجاسات حديث: 9.

ص: 446

آنيتهم حتى تغسل، لاستحلالهم الميتة وإهمالهم الطهارة من النجاسات، ويجتنب الأكل والشرب في آنية مستحلي شرب الخمور وكل شراب مسكر، ولا تستعمل حتى تغسل "،وحكي عنه الحكم في الغرية بكراهة سؤر اليهودي والنصراني.

وكذا الشيخ (قدس سره) في النهاية، فإنه ذكر في المصافحة نظير ما سبق من المفيد في المقنعة، وذكر في كتاب الأطعمة إنه لا يجوز مؤاكلة الكفار، لأن الطعام ينجس بمباشرتهم، ثم قال بعد قليل:" ويكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفار إلى طعامه فيأكل معه، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه، ثم يأكل معه إن شاء ".حيث يقرب كون ما ذكره أخيراً إشارة لمضمون بعض النصوص بعد الجمع بينها.

هذا وقد نسب الخلاف في النجاسة لابن عقيل وابن الجنيد، حيث حكم الأول بعدم نجاسة سؤر اليهودي والنصراني، وذكر الثاني أنه لو تجنب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم، وكذلك ما وضع في أواني مستحل الميتة ومؤاكلتهم ما لم يتيقن طهارة أوانيهم وأيديهم، كان أحوط.

وذكر غير واحد أن الأول قد يبتني على ما ذهب إليه من عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة، وكلام الثاني غير صريح في الطهارة. ويشكل بأن الأول لا يناسب أخذ خصوصية اليهودي والنصراني في موضوع كلامه، والثاني لا ينافي ظهور كلامه في البناء على الطهارة.

ومع ذلك كله كيف يمكن دعوى الإجماع من الطبقة الأولى من أهل الفتوى على النجاسة، فضلاً عن طبقة الرواة. نعم لا يبعد ظهور القول بالنجاسة فيمن تأخر عن أولئك من أهل الفتوى، بل لعله إجماع عندهم.

لكنه لا ينهض بالاستدلال بنفسه، لقرب استناده للاجتهاد منهم في فهم النصوص والجمع بينها وتأثره بسيرة الشيعة على تجنبهم نتيجة النهي الكثير الذي تضمنته النصوص والذي سبق حمله بعد الجمع بين النصوص على الكراهة، تنفيراً عنهم وتوهيناً لهم، أو احتياطاً للنجاسة الخارجية التي يتعرضون لها، حيث لا يبعد

ص: 447

اهتمام الشيعة بالنهي المذكور والتزامهم بالعمل عليه حتى صار شعاراً لهم، فأوهم ذلك التحريم عندهم معتضداً بما توهمه بعض النصوص مما أوجب خفاء الحال والتباسه على أهل الفتوى.

على أنه قال في المعتبر: "أواني المشركين طاهرة ما لم يعلم نجاستها بمباشرتهم أو ملاقاة نجاسة... ويستوي في ذلك المجوسي ومن ليس من أهل الكتاب. وفي الذمي روايتان أشهرهما النجاسة نجاسة عينية ونجاسة ما يلاقيه بالمايع" وظاهره أن الحكم بنجاسة الذمي يبتني على تقديم أشهر الروايتين بنظره، وليس من الوضوح بحيث يُستغنى عن ذلك بالإجماع كالمشركين.

مع أن الإجماع المذكور لا يناسب ما ذكروه من جواز اشتراط الإمام على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين. قال في الجواهر: "كما صرح به غير واحد، بل في المسالك: هذا هو المشهور في الأخبار والفتاوى، وهو الذي شرطه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لا أجد فيه خلافاً، كما اعترف به في المنتهى، بل عن التذكرة الإجماع عليه. وهو الحجة بعد الأصل...".

فإن ذلك وإن لم يوجد في أخبارنا، وإنما رواه العامة، إلا أن قبول الأصحاب له وفتواهم به لا يناسب القول بالنجاسة، لما هو المعلوم من قضاء الضيافة بطبعها مساورتهم ومخالطتهم في الأكل والشرب والغسل والفراش ونحوها.

ولذا قال في الجواهر: "الظاهر ابتناء ذلك على طهارتهم، أو قبل الحكم بنجاستهم... فالمتجه حينئذٍ مع الحكم بنجاستهم اشتراط الضيافة عليهم بما لا يتجنبه المسلمون من حبوبهم ونحوها".

لكن ليس لذلك في كلمات قدماء الأصحاب من أثر. والبناء عليه يحتاج إلى عناية لا تناسب طبيعة الحكم. ومن ثم كان بناء الأصحاب على الحكم المذكور شاهداً باضطراب مبناهم في المقام.

على أنه لو تم الإعراض منهم في الجملة فمن الظاهر أنه يبتني على حمل

ص: 448

النصوص التي سبق الاستدلال بها للطهارة على خلاف ظاهرها أو على التقية، فمع ظهور خطئهم في ذلك - لما سبق - لا أثر لإعراضهم.

ومن هنا لا مجال للتوقف عن العمل بما يقتضيه النظر في النصوص بعد اشتهارها، ووضوح مضمونها، ورواية الأصحاب لها، بنحو لا يظهر منهم الإعراض عنها واستنكار مضمونها، بل يظهر منهم التعويل عليها في الجملة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، ومنه نستمد التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثم إن نصوص الطهارة - كما ترى - مختصة باليهودي والنصراني والمجوسي. ولا مجال للتعدي لغيرهم حتى من يحكم بكفره من فرق المسلمين، لإمكان خصوصية الأديان الثلاثة في الطهارة، بسبب إقرار الإسلام لها وقبولها من أهلها وإن كانت منسوخة ومحرفة وباطلة. فاللازم الرجوع في غير الأديان المذكورة لأدلة أخر.

أما المشركون فقد سبق ضعف الاستدلال على نجاستهم بالآية الشريفة. وينحصر الدليل على نجاستهم بالإجماع المدعى. وهو غير بعيد بعد ملاحظة كلام أهل الفتوى. وإن كان في نهوضه وحده بالاستدلال إشكال، بعد عدم تعرض النصوص للحكم المذكور، ليتضح حال طبقة الرواة، وعدم وضوح حال ارتكازات المتشرعة وسيرتهم، فإن سيرتهم على تجنبهم وإن كانت قريبة إلا أنها قد تكون على نحو سيرتهم على تجنب الكتابيين التي عرفت قرب ابتنائها على النهي المؤكد عليه في النصوص، والذي عرفت لزوم حمله على الكراهة.

ولاسيما مع شيوع الابتلاء بالمشركين في صدر الإسلام، ولو كان البناء على نجاستهم - ولو في أواخر أيام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - لكثر نقل ما يناسب ذلك، لأهمية الآثار العملية المترتبة عليها، من تجنب مساورتهم، والحذر في مخالطتهم، والتزام التطهير منهم، مع عدم ظهور ذلك بوجه معتد به يناسب شيوع الابتلاء وأهمية الآثار المذكورة، حيث قد يناسب ذلك جداً الطهارة. وإن كان التجنب راجحاً يحسن العمل عليه عند تيسره بعد امتياز المشركين وعدم مخالطة المسلمين لهم.

ص: 449

(450)

وهو من انتحل ديناً غير الإسلام (1)، أو انتحل الإسلام وجحد ما يعلم إنه من الدين الإسلامي (2).

نعم يصعب جداً الخروج عن الإجماع المذكور بعد عدم ظهور ما يوجب الخدش فيه في الفتاوى والنصوص. ومن ثم يتعين فيهم الاحتياط.

وأولى منهم بذلك الملحدون المنكرون للخالق المعبود، والمثبتون الخلق والعبادة لغيره تعالى دونه، كما سبق عند الكلام في مفاد الآية الشريفة.

نعم يشكل الحال في الموحدين المنتحلين ديناً آخر غير الأديان الثلاثة المذكورة، حيث لا مجال لإلحاقهم بالمشركين بتنقيح المناط، فضلاً عن الأولوية. ومجرد عدم إقرار الإسلام لهم على دينهم لا يكفي في إلحاقهم بالمشركين.

اللهم إلا أن يقال: إنما يشكل إلحاقهم بالمشركين إذا كان الدليل على نجاسة المشركين هو على الآية الكريمة، أما حيث كان الدليل عليها هو الإجماع - الذي تقدم صعوبة الخروج عنه ولزوم الاحتياط لأجله - فالظاهر أنه يشمل كل من انتحل غير الأديان الثلاثة، لأن معقده في جملة من كلماتهم وإن كان هو المشركين، إلا أنه يظهر من مجموع كلماتهم عمومه لكل كافر، بحيث يكون الكفر بطبعه مقتضياً للنجاسة لولا المخرج من النصوص ونحوها، نظير ما تقدم من المعتبر، إذ لا أقل من كون ذلك كافياً في الإلزام بالاحتياط فيهم كالمشركين. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) بل هو مطلق من لم ينتحل الإسلام ولو بعدم انتحاله للدين أصلاً، كالمنكرين للخالق، أو المشككين غير المهتمين بتحقيق الحقائق الدينية، أو الغافلين تقصيراً أو قصوراً.

(2) المعروف بين الأصحاب وتظافرت به كلماتهم هو كفر منكر الضروري، وأرسل الكلام بعضهم إرسال المسلمات، وفي الروض وظاهر نهاية الأحكام الإجماع عليه. ومقتضى الجمود على ظاهر كلماتهم كون ذلك موجباً للكفر بنفسه، لا من حيثية رجوعه

ص: 450

إلى إنكار الدين بنحو ينافي التدين به.

لكن يظهر من بعضهم أن حصول الكفر به إنما هو بلحاظ رجوعه إلى إنكار الدين المتوقف على العلم بثبوته فيه، ليكون إنكاره إنكاراً له، كما يناسبه ما في كشف اللثام من تقييده بما إذا علم بكونه ضرورياً. وعليه لا يختص بالضروري، بل يعم كل ما علم المنكر بكونه من الدين ولو بالاستدلال الخفي، كما أصر عليه غير واحد.

قال في محكي مجمع البرهان: "المراد بالضروري الذي يكفر منكره الذي ثبت عنده يقيناً أنه من الدين ولو بالبرهان وإن لم يكن مجمعاً عليه، إذ الظاهر من دليل كفره هو إنكار الشريعة وإنكار صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً في ذلك الأمر مع ثبوته يقيناً، وليس كل من أنكر مجمعاً عليه يكفر. بل المدار على حصول العلم والإنكار وعدمه. إلا إنه لما كان حصوله في الضروري غالباً جعل ذلك المدار وحكموا به".

وظاهره تنزيل مراد الأصحاب على ذلك. ويناسبه ما ذكره غير واحد - وتشهد به بعض النصوص(1) - من عدم لزوم الكفر إذا كان الإنكار للشبهة، أو للبعد عن دار الإسلام. وإن كان في بلوغ ذلك حداً يخرج به عن ظاهر العنوان في كلماتهم إشكال. ولاسيما مع تمثيل بعضهم بالخوارج والنواصب، مع أن إنكار عامتهم لمودة أهل البيت عليهم السلام وتدينهم ببغضهم وكفرهم ليس بنحو ينافي تدينهم بالدين، بل لاعتقادهم مطابقته للدين.

وكيف كان فقد يستدل على حصول الكفر لإنكار الضروري بنفسه وإن لم يستلزم إنكار الدين أو تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بجملة من النصوص.

منها: حديث بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام): "سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركاً. قال: من قال للنواة إنها حصاة وللحصاة إنها نواة، ثم دان به"(2).

وفيه: أنه إنما يتضمن نسبة الشرك لكل من دان بالباطل وبما يخالف الواقع. وهو

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 17 باب: 14 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها.

(2) الكافي ج: 2 ص: 397 كتاب الكفر والإيمان باب الشرك.

ص: 451

- مع عدم اختصاصه بمخالف الضروري - أجنبي عما نحن فيه، إذا الكلام في مجرد عدم التدين بالواقع، لا في التدين بخلافه. والحديث إنما هو في الثاني، نظير قوله (عليه السلام) في صحيح زرارة:" ومن نصب ديناً غير دين المؤمنين فهو مشرك"(1) ، وقوله (عليه السلام) في موثقه أو صحيحه الآخر: "ومن نصب ديناً غير دين الله فهو مشرك"(2).

على أن من أوضح مصاديق ذلك المخالفين الذين اعتقدوا بشرعية إمامة خلفاء الجور، ودانوا في الأصول والفروع بخلاف دين الله تعالى الذي هو دين المؤمنين، من دون أن يوجب ذلك كفرهم بالمعنى المقابل للإسلام، والذي هو موضوع النجاسة عند الأصحاب (رضي الله عنهم)، وإن كانوا كالكفار في الخروج عن حوزة الرحمة الإلهية. ومن ثم قد يحمل الحديث المذكور وما جرى مجراه على ذلك.

ومنها: حديث الكناني عن أبي جعفر (عليه السلام) في كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:" فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟!"(3) ، وحديث داود الرقي: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفرائض الله عز وجل؟ فقال: إن الله عز وجل فرض فرائض موجبات على العباد، فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافراً..." (4) وغيرهما.

وقد يستشكل في الاستدلال بهما وبجميع ما تضمن التعبير بالجحود بما يظهر من سيدنا المصنف (قدس سره) من احتمال اختصاص الجحود بالإنكار عن علم، بل جزم بذلك بعض مشايخنا (قدس سره)، وهو المذكور في مفردات الراغب ومختار الصحاح، ونسب للجوهري.

لكنه غير ظاهر، بل المنسبق من الجحود مطلق الإنكار ولو عن جهل مركب أو بسيط، فهو ضد الإقرار، كما في لسان العرب. وهو المناسب لكثرة استعماله في النصوص في ذلك، كصحيح محمد بن مسلم: "كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالساً عن

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3، 21.

(3و4) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 13، 2.

ص: 452

يساره وزرارة عن يمينه، فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في من شك في الله؟ قال: كافراً يا أبا محمد. قال: فشك في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: كافر. ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما يكفر إذا جحد"(1) ، وموثق سدير:" قال أبو جعفر (عليه السلام) في حديث: إن العلم الذي وضعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند علي (عليه السلام) من عرفه كان مؤمناً، ومن جحده كان كافراً"(2).

وأما قوله تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً"(3). فهو لا يشهد بالاختصاص. بل هو بالتقييد أنسب.

فالأولى الجواب عنها بعدم إمكان الالتزام بمضمونها على إطلاقه، فإن أعظم الفرائض الولاية التي جحد بها المخالفون من دون أن يوجب ذلك كفرهم بالمعنى المقابل للإسلام، على نحو ما سبق على أنها أخص من المدعى، لعدم اختصاص الضروري بالفرائض.

هذا لو أريد بالفرائض هي الخمس التي بني عليها الإسلام. أما لو أريد بها مطلق الفرض والواجب فتكون أعم، ويظهر الحال فيها حينئذٍ مما يأتي.

ومنها: موثق عبد الرحيم القصير أو صحيحه عن أبي عبد الله (عليه السلام):" أنه كتب إليه مع عبد الملك بن أعين: سألت رحمك الله عن الإيمان. ولإيمان هو الإقرار... والإسلام قبل الإيمان، وهو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو بصغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عنها كان خارجاً من الإيمان... ولا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال، وأن يقول للحلال هذا حرام، وللحرام هذا حلال ودان بذلك، فعندها يكون خارجاً من الإسلام والإيمان، وداخلاً في الكفر... "(4) وصحيح عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام) في حديث أنه قال:" من ارتكب كبيرة فزعم أنه

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حد المرتد حديث: 56، 19.

(3) سورة النمل الآية: 14.

(4) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حد المرتد حديث: 50.

ص: 453

حلال أخرجه ذلك من الإسلام"(1) ، ونحوه موثق مسعدة بن صدقة(2) وغيره.

لكنها - كبعض النصوص السابقة أو جميعها - لا تختص بالضروري، ولا إشكال في عدم الالتزام بإطلاقها و إطلاق بقية النصوص، إذ لا ريب في أن خطأ المجتهد في الحكم الشرعي والتزامه بخلاف الواقع وتدينه به لا يخرجه عن الدين وإن كان مقصراً، وكذا الحال في مقلد المجتهد المذكور وإن كان مقصراً في تقليده.

وليس حملها على خصوص الأمر الضروري بأولى من تقييدها بما إذا كان جحد الواقع الثابت في الدين والتدين بخلافه وتحليل الحرام وتحريم الحلال منافية للتدين بالدين الحق، بأن علم الشخص بتضمن الدين لذلك الأمر الذي أنكره، حيث يرجع إنكاره حينئذٍ إلى عدم الإقرار بالدين بتمامه وعدم الإذعان له على ما هو عليه، بل إلى التدين والإيمان ببعضه دون بعض، وذلك مخرج عن الدين وموجب للكفر، إذ لابد في الإسلام من الإيمان بجميع ما أنزل الله تعالى إجمالاً على نحو ما أنزل، حتى الشرايع والكتب السابقة، فضلاً عما تضمنته هذه الشريعة المقدسة، وهو لا يجتمع مع إنكار البعض تفصيلاً مع العلم بكونه من الدين والشريعة.

والظاهر لزوم حمل النصوص المذكورة على ذلك، لما تقدم من عدم الكفر بإنكار الضروري للشبهة، ولصعوبة حمل النصوص على خصوص الضروري، لقوة ظهورها في أن المعيار على الجحود والاستحلال بنحو يأبى عن التخصيص. ولاسيما حديث عبد الرحيم القصير المصرح فيه بالعموم لجميع الذنوب صغيرها وكبيرها، لكثرة الذنوب، فيصعب حمله على خصوص الضروري.

بل اشتمال بعض النصوص المذكورة على التفريق بين ارتكاب المعصية من دون استحلال وارتكابها مع الاستحلال، وأن الكفر إنما يكون بالثاني مناسب لكون الثاني أشد جرماً، وحيث كانت الجريمة في الأول مختصة بصورة العلم يكون الأمر معصية، فمن البعيد جداً عموم الثاني لصورة الجهل. ولا أقل من التوقف في مفاد

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 2 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 10، 11.

ص: 454

(455)

هذه النصوص، مع البناء على عدم قدح إنكار الضروري بما هو في الإسلام عملاً بالنصوص الشارحة للإسلام المتضمنة للاكتفاء بالشهادتين.

بقي شيء: وهو أن ما سبق إنما يقتضي كفر منكر الضروري إذا كان إنكاره منافياً للإيمان بجميع ما أنزل الله إجمالاً. أما نجاسته حينئذٍ فهي مقتضى إطلاق عموم معقد الإجماع بل عمومه المصرح به في كلام من سبق.

إلا أن ذلك قد ينافي ما هو المعلوم من سيرة الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم مع أئمة الضلالة وأركان النفاق الأولين وأشياعهم وأتباعهم، فإنهم قد أنكروا كثيراً من أصول الدين وفروعه الظاهرة، كولاية أهل البيت (عليهم السلام) وإمامتهم وطهارتهم والمتعتين وغيرها، مع العلم منهم بتشريع تلك الأمور وثبوتها عن الله تعالى، بل وضوح ذلك عند إنكارهم لها، وإن خفيت بعد ذلك على بعض أتباعهم بسبب علماء السوء، الذين حاولوا تبرير أعمالهم، وتكلف المخرج لها بإثارة الشبه، واختلاق الأخبار، وغير ذلك، ومع ذلك لم يعرف منهم تجنب مساورتهم أو التطهير بعدها عند الاضطرار لها. ولو كان البناء بذلك لظهر وبان، لكثرة الابتلاء به جداً.

اللهم إلا أن يقال: لما لم يكن الإنكار عن شبهة موجباً للكفر، فدعوى الشبهة منهم وإن علم بكذبها، للعلم بوضوح الحق لهم، إلا أنها تقبل منهم كما تقبل دعوى الإسلام ممن يعلم بعدم اعتقاده به من المنافقين، لاشتراكهم معهم في الإقرار كذباً بالإسلام وبجميع ما أنزل الله تعالى والإذعان به على إجماله. ويختص الكفر الذي ترتفع به العصمة بما إذا ابتنى إنكار الضروري على عدم الإذعان بالإسلام بالنحو المذكور، استهواناً بأمر الله تعالى وتنزيله الذي بلغ به رسوله، وإعلاناً بمضادته والرد عليه.

نعم عن المفيد في الإرشاد: "روت العامة والخاصة أن قدامة بن مظعون شرب الخمر، فأراد عمر أن يحده فقال: لا يجب علي الحد، إن الله يقول:" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا"(1). فدرأ عنه الحدّ.

********

(1) سورة المائدة الآية: 93.

ص: 455

فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، فمشى إلى عمر فقال: ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلون حراماً. فاردد قدامة فاستتبه مما قال، فإن تاب فأقم عليه الحدّ، وإن لم يتب فاقتله فقد خرج من الملة..."(1). وهو صريح في ثبوت الكفر بإنكار الضروري مع دعوى الشبهة الواضحة البطلان.

لكنه - مع ضعيف سنده - معارض بصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) المتضمن لنقل قصة قدامة بن مظعون بوجه آخر، قال فيه: "أتي عمر بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر وقامت عليه البينة، فسأل علياً (عليه السلام) فأمره أن يجلده ثمانين. فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس علي حدّ أنا من أهل هذه الآية... فقال علي (عليه السلام): لست من أهلها إن طعام أهلها لهم حلال، ليس يأكلون ولا يشربون إلا ما أحل الله لهم. ثم قال (عليه السلام): إن الشارب إذا شرب لم يدر ما يأكل ولا ما يشرب فاجلدوه ثمانين جلدة"(2).

على أنه يمكن حمل الحديث على الكفر الواقعي، وهدر الدم قد يكون لذلك، لأن اعتصام المنافق بالإسلام قد يكون لمصالح ثانوية، منها المهادنة لحفظ المؤمنين، ونحوها مما قد يختص بما إذا كان الخروج عن الدين الحقيقي خروج فرقة ودعوة خصوصاً إذا كانت ذات شوكة وقوة، أما إذا كان خروجاً فردياً فقد تقتضي المصلحة هدر الدم درءاً لمادة الفساد وقطعاً لأصوله قبل أن يستفحل.

وبالجملة: الحديث - لو كان حجة - إنما يدل على الكفر بإنكار الضروري لشبهة واضحة الفساد بنحو يقتضي هدر الدم، لا بنحو يقتضي النجاسة، فلا يخرج به عما سبق. فلاحظ.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 2 من أبواب حدّ السكر حديث: 1.

(2) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 3 من أبواب حدّ السكر حديث: 5.

ص: 456

(457)

ولا فرق بين المرتد، والكافر الأصلي (1) الحربي والذمي (2)، والخارجي (3)

والغالي (4)

(1) لإطلاق جملة من الأدلة النقلية، وعموم معقد الإجماع، لو تم الاستدلال بذلك على النجاسة.

(2) لا يخفى أن مقتضى أكثر النصوص المتقدمة دليلاً للطهارة والنجاسة عدم الفرق بين الحربي والذمي، لإطلاق العناوين المأخوذة فيها، كاليهودي والنصراني والمجوسي، ومن خرج عن الإسلام. وكذا جملة من عبارات الأصحاب. فلاحظها.

(3) بلا كلام كما في جامع المقاصد، وإجماعاً كما عن الدلائل. وقد يستدل له بموثق الفضيل:" دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وعنده رجل، فلما قعدت قام الرجل فخرج فقال لي: يا فضيل ما هذا عندك؟ قلت: وما هو؟ قال: حروري. قلت: كافر؟ قال: أي والله مشرك"(1) ، بدعوى: أن مقتضى إطلاق التنزيل النجاسة، بضميمة ما دل على نجاسة الكافر. ويظهر الكلام في ذلك مما يأتي في الناصب، بل يظهر حكم الخارجي أيضاً مما يأتي هناك، لأن الخارجي أظهر أفراد الناصب.

(4) بلا كلام، كما في جامع المقاصد، وإجماعاً، كما عن الدلائل. ولا ينبغي الإشكال في كفره إذا رجعت دعواه إلى ربوبية الأئمة (عليهم السلام) أو أحدهم دون الله تعالى، لأن ركن الإسلام الأول هو ربوبية الله تعالى، دون غيره، فهم خارجون عن الإسلام بإنكار ذلك أو بإنكار نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما عن كشف الغطاء. وما قد يستظهر من الأصحاب من ابتناء كفرهم على إنكار الضروري مع انتحال الإسلام، في غير محله، كتوجيه ذلك في الجواهر بأنهم يعترفون بالصانع.

نعم لا يبعد كون مراد الأصحاب خصوص بعض فرقهم، كمن يدعي حلوله تعالى في الأئمة (عليهم السلام) أو في بعضهم، من دون إنكار لله عز وجل ولا جعل الشريك له،

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حدّ المرتد حديث: 55.

ص: 457

(458)

والناصب (1). هذا في غير الكتابي.

حيث يتعين ابتناء الكفر بذلك على الكفر بإنكار الضروري.

وحينئذٍ يجري فيه ما سبق من عدم وضوح حصول الكفر بذلك إلا إذا كان منافياً للإقرار بما أنزل الله تعالى وبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إجماله، لعلم المنكر باشتمال ما بلغ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما أنكره أو ملازمته له.

نعم استدل في الجواهر على النجاسة - مع قطع النظر عن ذلك - بما رواه الكشي في أمر فارس بن حاتم القزويني الغالي عن الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام) من أنه قال: "توقوا مساورته" .لكن المحكي عن الكشي والموجود في موضعين منه أنه (عليه السلام) قال: "توقوا مشاورته" بالشين المعجمة(1). فيكون أجنبياً عما نحن فيه.

اللهم إلا أن يقال: ملاحظة ما ورد في أركان الإسلام تشهد بأن المراد بالتوحيد ليس مجرد تفرد الله عز وجل بالربوبية، بل كون جميع خلقه عبيداً له داخرين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، بل هم خاضعون له مسيرون بتدبيره، والظاهر أن الحلول ينافي ذلك، فيكون الاعتقاد به كفراً بلا حاجة إلى ما ذكرناه في شرط حصول الكفر بإنكار الضروري. فلاحظ.

(1) بلا كلام، كما في جامع المقاصد وعن الدلائل، وعن شرح المفاتيح أن الظاهر عدم الخلاف فيه، وفي مفتاح الكرامة: "لا كلام لأحد في نجاسة الناصب فيما أجده".

وقد يستدل له بوجوه:

الأول: ما تضمن أنهم كفار، كخبر الفضيل بن يسار: "سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المرأة العارفة هل أزوجها الناصب؟ قال: لا، لأن الناصب كافر"(2). إما بدعوى: ظهوره في كفره حقيقة، كما هو الأصل في الحمل. أو بدعوى: ظهوره في كفره ادعاء

********

(1) رجال الكشي طبع النجف الأشرف ص: 440، 444.

(2) وسائل الشيعة ج: 14 باب: 10 من أبواب ما يحرم بالكفر من كتاب النكاح حديث: 15.

ص: 458

بلحاظ تنزيله منزلة الكافر شرعاً، ومقتضى إطلاق التنزيل النجاسة، نظير ما تقدم في الخارجي.

ومثله في ذلك ما تضمن أن بغضهم (عليهم السلام) كفر(1) ، كما في غير واحد من النصوص. بل هو أظهر منه، لصراحته في إرادة النصب لهم (عليهم السلام)، لا النصب لدعوتهم وشيعتهم الذي شاع إطلاق الناصب عليه في النصوص، والذي لا مجال لاحتمال كونه مستلزماً للنجاسة.

لكنه يشكل - مضافاً إلى ابتنائه على عموم نجاسة الكافر، الذي سبق الكلام فيه - بأن ملاحظة النصوص الكثيرة تشهد بأن الكفر كما يطلق على ما يقابل الإسلام - الذي هو موضوع النجاسة عندهم - كذلك يطلق على ما يقابل الإيمان، إما بلحاظ عدم الإيمان معه بالإسلام الحقيقي التام الذي أنزله تعالى، أو بلحاظ رجوعه للكفر بمقدمات قد تكون خفية، كما تضمنه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):" قلت له: أرأيت من جحد إماماً منكم ما حاله؟ فقال: من جحد إماماً من الأئمة وبرئ منه ومن دينه فهو كافر ومرتد عن الإسلام، لأن الإمام من الله ودينه دين الله ومن برئ من دين الله فدمه مباح في تلك الحالة. إلا أن يرجع أو يتوب إلى الله مما قال"(2) ، أو بلحاظ مشاركته للكفر في العذاب الأخروي، نظير ما تضمن الحكم عليه بأنه يهودي أو نصراني(3) ، وإن حكم معه بالإسلام في الدنيا وقُبِل منه إظهاره وترتبت أحكامه، مثل ما تضمن أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، أو جاهلية كفر ونفاق، أو ميتة كفر ونفاق، وما تضمن كفر من لم يعرفهم، أو أنكرهم (عليهم السلام)، أو أنكر واحداً منهم، أو رد عليهم، أو على واحد منهم، أو ادعى منصبهم، أو نحو ذلك مما ذكر جملة منه في الباب العاشر من أبواب حدّ المرتد من الوسائل.

نعم المعنى الأول هو الظاهر من الإطلاق. لكن لا مجال لحمل النصوص

********

(1) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حدّ المرتد حديث: 23، 24.

(2و3) وسائل الشيعة ج: 18 باب: 10 من أبواب حدّ المرتد حديث: 38، 11.

ص: 459

المذكورة عليه بنحو ينفع في الاستدلال، إذ المعنى المذكور لا ينطبق على الناصب عرفاً، فلا مجال للبناء على كون الحمل معه في النصوص حقيقياً. والبناء على أن الحمل فيها ادعائي بلحاظ تنزيله منزلة الكافر شرعاُ ليس بأولى من البناء على حمل الكفر فيها على ما يقابل الإيمان، الذي لا ينفع في البناء على النجاسة.

الثاني: ما تضمن الحكم بالنجاسة، كموثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: "وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام، ففيها غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت فهو شرهم، فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه"(1).

قال سيدنا المصنف (قدس سره):" والخدشة في الدلالة بأن النجاسة القابلة للزيادة والنقيصة هي الباطنية. مندفعة بمنع ذلك ضرورة. كالخدشة بأنه مسوق مساق ولد الزنا والجنب ممن كانت الخباثة فيه باطنية. وجه الاندفاع: أنه لا مانع من كون النجاسة الخارجية العينية أيضاً موجبة للخباثة المعنوية، فيكون الجميع بنحو واحد وإن اختلفت الموارد، فالسياق المذكور لا يوجب رفع اليد عن ظاهر الفقرة في النجاسة العينية. فتأمل".

لكن الإنصاف أن ظهور التعبير بالنجاسة في عصر صدور الرواية في النجاسة الخبيثة ليس بحدّ ينهض بالاستدلال بعد سوق الرواية لبيان الخباثة المعنوية، ولاسيما مع عدم ورودها لبيان حكم الناصب، بل للتنفير عن استعمال غسالة الحمام الذي ادعى أهل المدينة في أن الغسل به شفاء من العين(2). خصوصاً بعد ملاحظة خبر ابن أبي يعفور الآخر عنه (عليه السلام):" قال: لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام فإن فيها غسالة ولد الزنا، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب، وهو شرهما، أن الله لم يخلق خلقاً شراً من الكلب، وأن الناصب أهون على الله من الكلب"(3).

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث: 5، 2.

(3) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث: 4.

ص: 460

الثالث: أنه منكر للضروري، فيكون كافراً. لكن ذلك - مع ابتنائه على عموم نجاسة الكافر - إنما يتم فيمن نصب لهم (عليهم السلام) رداً على ما أنزله الله تعالى فيهم وجعله لهم من المقام الرفيع، لالتفاته لذلك، ولا يتم فيمن اشتبه عليه الحال بسبب طمس الظالمين للحقائق، كما هو الحال في كثير من النصاب.

هذا كله مضافاً إلى ما هو المعلوم من شيوع الابتلاء بالنصاب من الصدر الأول، حتى جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) علماً يعرف به المؤمن من المنافق والطيب من الخبيث وقد عرف بذلك حتى كانت الأنصار تمتحن أولادها بحبه وبغضه، وحتى قال من قال:

"وفينا الغش والذهب المصفى علي بيننا شبه المحك"

وقد ظهر بغض جماعة كثيرة ونصبهم له (عليه السلام) ولعموم أهل البيت (عليهم السلام) حتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقفهم منهم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عما بعدها، حيث تحزبوا ضدهم ومنعوهم حقهم وفعلوا معهم الأفاعيل وجرى على ذلك من جرى جيلاً بعد جيل، حتى صار ذلك ديناً يتدين به الضالون والمارقون. ولو كان البناء على النجاسة لظهر وبان، بل لاضطرب الأمر على المؤمنين ووقعوا في أعظم الحرج، بل لتعرضوا للمهالك لو ظهر ذلك عنهم، ولردود الفعل المناسبة، وأظهرها الحكم بنجاستهم... إلى غير ذلك مما لا يخفى على من أمعن النظر. فالحكم المذكور لا يناسب الهدنة التي صرحت النصوص ببقائها حتى ظهور القائم عجل الله فرجه وغلبة سلطان الحق به.

وأما ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من أن كثيراً ممن كان يظهر بغضهم (عليهم السلام) إنما يظهره تقية - خصوصاً في عصر بني أمية - من دون أن يكون مبغضاً لهم واقعاً، وقيام السيرة على طهارة المبغضين واقعاً ممنوعة.

فهو كما ترى فإن كثرة المبغضين لهم (عليهم السلام) وشيوع الابتلاء بهم بنحو لا يناسب نجاستهم من الصدر الأول من الظهور بحدّ لا يقبل الإنكار، بل ولا التشكيك.

ص: 461

ومثله ما ذكره من إمكان أن يكون الحكم بنجاسة الناصب قد انتشر في زمان الصادقين (عليهما السلام)، إذ كثير من الأحكام كان مخفياً قبل ذلك. إذ فيه: أن ذلك قد يتم فيما لا يكون مورداً للابتلاء والعمل في الصدر الأول، أما ما كان مورداً لذلك - كالنجاسة في محل الكلام - فلابد من ظهور حكمه في الصدر الأول ولو بمقتضى إقرار المعصومين (عليهم السلام) أو سيرتهم، وحينئذٍ لو كان المستفاد من ذلك ما لا يناسب البيانات الصادرة عن الصادقين (عليهما السلام) تعين الجمع العرفي مع إمكانه، وهو يقتضي في المقام حمل ما ظاهره النجاسة على كراهة المباشرة أو على الخباثة الباطنية أو نحو ذلك.

على أنه لو تعلق الغرض ببيان حكم سبق إخفاؤه للمصلحة فالمناسب كثرة البيانات الشرعية به وتوضيحها له وتأكيدها عليه حتى يتوجه المتشرعة له ويتبينوه بعد غفلتهم عنه، لا الاقتصار في بيانه على مثل موثق ابن أبي يعفور الوارد لبيان حكم آخر، أو على مثل الحكم بكفر الناصب الذي يحتاج استفادة النجاسة منه إلى كلفة ومقدمات مطوية قد تخفى.

ومن الغريب ما ذكره بعض مشايخنا (قدس سره) انتصاراً لشيخنا الأعظم (قدس سره) من أن النواصب إنما كثروا في دولة بني أمية التي قامت على بغض أهل البيت والنصب لهم. ولعل الأئمة إنما لم يعلنوا نجاستهم لشيعتهم رأفة بهم، لئلا يقعوا في الحرج بسبب كثرة ابتلائهم بمخالطتهم أو تقية عليهم، وإنما أظهروها بعد ذلك في دولة العباسيين الذين كانوا يوالونهم ظاهراً، خصوصاً المأمون، ولم يعلم من سيرة الأئمة (عليهم السلام) مساورة النصاب بأنفسهم، فلا مخرج عن الرواية المتضمنة لنجاستهم.

حيث يظهر اندفاعه مما سبق من كثرة النواصب من الصدر الأول، وظهور سكوت الأئمة فيه وفيما بعده عن تنبيه شيعتهم لنجاستهم في عدمها بنحو يصلح قرينة على حمل الرواية - لو تمت دلالتها بدواً - على ما يجتمع مع الطهارة الخبيثة.

واختلاط الأئمة (عليهم السلام) وخواصهم في جميع العصور موجب للعلم العادي بمخالطتهم لهم، بحيث لو كان البناء على عدم مباشرتهم برطوبة، والتطهير منهم

ص: 462

(463)

أما الكتابي فطاهر في نفسه (1)، وينجس بالنجاسات التي يلاقيها، فإذا طهر نفسه منها فسؤره طاهر (2)

لو حصل ذلك اضطراراً، لظهر وبان، ولم يخف على شيعتهم ومواليهم. بل سبق أن الحكم المذكور لا يناسب الهدنة التي رحم الله تعالى بها الشيعة، ومنّ بها عليهم، وحقن بها دماءهم.

فلم يبق في المقام إلا الإجماع وقد سبق منا الإشكال فيه في الكافر، وهو في المقام أوهن وأشكل بملاحظة ما ذكرنا من السيرة. ومن ثم لا ينبغي التأمل في الطهارة. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. ومنه نستمد التوفيق والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1) كما يظهر مما تقدم. وقد ألحق (قدس سره) هذا الاستثناء في أواخر أيام حياته بعد أن أعلن عدوله عن عموم نجاسة الكافر.

(2) هذا ولو شك في نجاسته العرضية فقد يدعى أن الأصل فيه النجاسة حملاً للنصوص الدالة على النجاسة على النجاسة الظاهرية العرضية التي يكثر تعرضهم لها ويقوى احتمالها فيهم. أو لبعض النصوص الآمرة بالغسل، مثل قوله (عليه السلام) في صحيح إبراهيم بن أبي محمود المتقدم في الجارية النصرانية تخدمك: "لا بأس تغسل يديها"(1) ، وما ورد في تغسيل الذمي للمسلم من الأمر باغتساله قبل ذلك.

ويشكل الأول بعدم الشاهد على الحمل المذكور، وليس هو بأولى من حمل النصوص المذكورة على الاستحباب أو كراهة المساورة. بل ذلك هو الظاهر بعد ظهور جملة من نصوص الطهارة في جواز المباشرة فعلاً بنحو لا يناسب النجاسة الظاهرية العرضية.

والثاني بأنه لا ظهور لصحيح إبراهيم في الأمر بغسل اليد، بل في بيان المبرر

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 14 من أبواب النجاسات حديث: 11.

ص: 463

(464)

ويجوز أكل الطعام الذي يباشره (1).

(الحادي عشر): عرق الجنب من الحرام (2)، وفي عموم

لمساورة الجارية مع ابتلائها بالنجاسة العرضية. فهو وارد لبيان زوال النجاسة بغسل اليد، لا لبيان وجوب غسل اليد ظاهراً عند احتمال النجاسة العرضية. والأمر باغتسال الذمي عند تغسيل المسلم حكم تعبدي خاص لا يتعدى عن مورده، ولا يشهد بالمدعى، لأن الاغتسال قد لا يوجب التطهير لقلة الماء الذي يغتسل به، كما أنه يكفي في التطهير الذي يتوقف عليه التغسيل غسل اليدين. كما لعله ظاهر.

نعم لا مجال للبناء على مطهرية غيبة الكافر لو علم ابتلاؤه بالنجاسة، لاختصاص دليل مطهرية الغيبة بالمسلم، على ما يأتي في محله. فاللازم الرجوع للقواعد المقتضية للبناء على الطهارة الظاهرية عند الشك في النجاسة، وكذا مع العلم بتعاقب الحالتين من التنجيس والتطهير ولو غير المقصود مع الجهل بالتاريخين أو العلم بتاريخ التطهير والجهل بتاريخ التنجيس. أما لو علم بتاريخ التنجيس وجهل تاريخ التطهير، بحيث لم يعلم سبقه على التنجيس ولحوقه له فاللازم البناء على النجاسة، لاستصحابها. وكذا لو علم بتاريخ التنجيس وشك في أصل التطهير لا في تاريخه. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) يعني مع طهارة الطعام ذاتاً وعدم إحراز نجاسته، دون مثل اللحوم التي لم يحرز تذكيتها، بل كان مقتضى الأصل عدمها، وترتب آثار الميتة عليها، ومنها النجاسة.

(2) كما عن القاضي ومحكي ابن الجنيد، وظاهر الأمر بغسل الثوب منه في النهاية. وقد يحمل عليه ما في المقنعة من الأمر بغسل الثوب منه والعمل في الطهارة بالاحتياط وقد نسبه للأصحاب في الغنية والمراسم، وإلى أحد القولين في الوسيلة، وفي المبسوط:" وجب غسل ما عرق فيه على رواية بعض أصحابنا".

وقد يستفاد من المنع من الصلاة في الثوب الذي يصيبه في محكي رسالة الصدوق

ص: 464

الأول وفي الفقيه والخلاف مدعياً في الأخير أن عليه إجماع الإمامية وأخبارهم التي ذكرها في التهذيبين، وعن أمالي الصدوق أنه من دين الإمامية. وقد نسبه في موضع آخر من المبسوط إلى رواية أصحابنا.

لكن قال:" ويقوى في نفسي أن ذلك تغليظ في الكراهة، دون فساد الصلاة لو صلى فيه "وفي المراسم:" وهو عندي ندب ".وأصرّ في السرائر على طهارته ناسباً ذلك للمفيد في رسالته إلى ولده، وحكى ما تقدم من المبسوط، ثم قال:" والغرض من هذا التنبيه إلى أن من قال: إذا كانت الجنابة من حرام وجب غسل ما عرق فيه، رجع عن قوله في كتاب آخر، فقد صار ما اخترناه إجماعاً ".وعليه جرى في الشرايع والنافع وفي المختلف والقواعد، ونسب للشهدين وغيرهما، بل المشهور بين المتأخرين.

وكيف كان فقد استدل في التهذيب لوجوب الغسل احتياطاً للطهارة بعد أن ذكر ما سبق من المقنعة بموثق الحلبي أو صحيحه:" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره. قال: يصلي فيه، وإذا وجد الماء غسله"(1) ، بدعوى: أنه لما كانت الجنابة لا تتعدى إلى الثوب، ولم يكن عرق الجنب منجساً له، تعين حمله على الجنابة من الحرام.

لكنه كما ترى، إذ لا شاهد لحمل الحديث على ذلك بعد عدم الإشارة فيه للعرق، بل هو ظاهر فيما احتمله في التهذيب وقربه في الاستبصار من إصابة الثوب بنجاسة المني، فيكون أجنبياً عن محل الكلام.

ومثله في ذلك صحيح أبي بصير: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الثوب يجنب فيه الرجل ويعرق فيه. فقال: أما أنا فلا أحب أن أنام فيه، وإن كان الشتاء فلا بأس ما لم يعرق فيه"(2). فإنه وإن احتمل في الاستبصار حمله على الجنابة من الحرام، إلا أنه لا شاهد عليه، بل لا مجال له بعد قوله (عليه السلام):" أما أنا فلا أحب أن أنام فيه ".ولعله لذا قرب في الاستبصار حمله على الكراهة، بل قال" وهو صريح فيه".

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات حديث: 11، 10.

ص: 465

ومنه يظهر ضعف ما سبق من الخلاف، إذ لم يذكر في التهذيبين من الأخبار في المسألة إلا الحديثين المتقدمين. كما يقرب تنزيل ما سبق من المبسوط عليهما أيضاً. إذ من البعيد جداً أن يريد غيرهما مع اقتصاره عليهما في كتابي الأخبار.

لكن استظهر بعض مشايخنا أن المراد به مرسل علي بن الحكم عن أبي الحسن (عليه السلام) المروي في الكافي، قال (عليه السلام) في حديث:" لا تغتسل من غسالة ماء الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، ويغتسل فيه ولد الزنا، والناصب لنا أهل البيت، وهو شرهم"(1). واستشكل فيه - مع ضعف السند - بأنه لا يدل على نجاسة عرق الزنا، بل على نجاسة بدنه، مع عدم الإشكال في طهارته، مع أنه معارض بما دل على طهارة بدنه.

أقول: لم يتضح عاجلاً مراده بما دل على طهارة بدن الزاني. ولو تم الدليل على نجاسة بدنه كفى في البناء على نجاسة عرقه.

فالعمدة أن الحديث لا يدل على نجاسة بدن الزاني، لأن النهي عن غسالة غسله قد يكون لعدم صحة الاغتسال بغسالة مطلق الجنب فضلاً عن الزاني، أو للاستخباث والاستقذار، أو بلحاظ الأثر الوضعي، ردعاً عما يدعيه أهل المدينة من أن فيه شفاء من العين، كما أشرنا إليه آنفاً وتضمنه خبر محمد بن علي بن جعفر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) المروي في الكافي أيضاً أنه (عليه السلام) قال في حديث: "من اغتسل من الماء الذي اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلا نفسه. فقلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن أهل المدينة يقولون إن فيه شفاء من العين. فقال: كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام، والزاني، والناصب الذي هو شرهما، وكل من خلق الله، ثم يكون فيه شفاء من العين؟!"(2). على أنه من البعيد جداً كون مراد الشيخ في المبسوط هو الحديث المذكور مع أن الذي ذكره هو في التهذيبين ما سبق. فلاحظ.

هذا وقد يستدل بل استدل أيضاً بما في الذكرى بعد نقله عن المبسوط ما تقدم

********

(1) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات حديث: 13.

(2) وسائل الشيعة ج: 1 باب: 11 من أبواب الماء المضاف حديث: 2.

ص: 466

من نسبة ذلك إلى رواية أصحابنا:" ولعله محمد بن همام بإسناده إلى إدريس بن يزداد الكفرتوتي أنه كان يقول بالوقف، فدخل سر من رأى في عهد أبي الحسن عليه السلام، وأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أيصلى فيه؟ فبينما هو قائم في باب طاق لانتظاره عليه السلام إذ حركه أبو الحسن عليه السلام بمقرعة، وقال مبتدئاً: إن كان من حلال فصل فيه، وإن كان من حرام فلا تصل فيه"(1). ونحوه ما رواه في المناقب عن علي بن مهزيار عنه(2) (عليه السلام) وما رواه في البحار عن كتاب عتيق عن علي بن يقطين بن موسى الأهوازي(3). ونحوها أيضاً الرضوي(4).

وقد استشكل فيها غير واحد بضعف السند. ودفعه سيدنا المصنف (قدس سره) بإنجبارها بعمل الأصحاب. لكن لم يتضح عملهم بالنصوص المذكورة بعد ما سبق من ظهور حال الشيخ في أن النصوص المعول عليها عند الأصحاب في المسألة هي النصوص الأول، حيث لا طريق معه لإحراز اعتمادهم في الحكم على هذه النصوص مع عدم إشارتهم إليها، وعدم ذكرها في كتب الحديث المعتمدة. بل لا يتضح وجود فتوى معتد بها من غير الصدوقين بعد اضطراب الشيخين في الفتوى والاستدلال، وظهور كلامهما في المقنعة والتهذيب في ابتناء الحكم على الاحتياط، كما قد يوهم ذلك محكي كلام ابن الجنيد على ما نقله في الجواهر، وبعد عدم عثورنا على كلام القاضي إذ قد يحتمل الخطأ في فهم كلامه ونقله، وهذا المقدار من الفتوى لا يكفي في جبر ضعف النص. فلاحظ.

نعم تعدد النصوص المتقدمة قد يوجب الوثوق بصدور بعضها وصحة مضمونها إجمالاً عدا الرضوي الذي لم يعلم كونه لسان رواية بل قد يكون فتوى

********

(1) ذكرى الشيعة ج: 1 ص: 120 واللفظ له. وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات حديث: 12. ورواه بتفصيل عن كتاب إثبات الوصية للمسعودي في مستدرك الوسائل ج: 2 باب: 20 من أبواب النجاسات حديث: 7.

(2) المناقب ج: 3 ص: 516 طبع النجف الأشرف.

(3) بحار الأنوار ج: 5 ص: 188 الطبعة الحديثة.

(4) فقه الرضا ص: 4.

ص: 467

لبعض الأصحاب.

لكن في كفاية ذلك في الحجية إشكال بعد ظهور تجاهل مثل الشيخ للروايات المذكورة. ولاسيما أن الامتحان الذي تضمنته هذه النصوص أو أكثرها يناسب سبق علم الراوي بالحكم على ما يطابق الجواب مع عدم ظهور منشئه بعد خلوّ النصوص المعروفة بين الأصحاب عن التعرض للتفصيل المذكور، بل قد أطلق في جملة منها عدم البأس بعرق الجنب والحائض(1).

بل من غريب المصادفات صدور الامتحان المذكور من ثلاثة أشخاص مع الإمام الهادي (عليه السلام) دون بقية الأئمة (عليهم السلام) من دون سابق اتفاق بينهم.

على أن من البعيد صدق رواية علي بن مهزيار، لأنه من الأعيان الأجلاء المختصين بالأئمة الثلاثة الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) فكيف يمكن بقاؤه شاكاً في الإمامة إلى دخول الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامراء في عهد المتوكل الذي بويع بعد إمامته (عليه السلام) باثنتي عشرة سنة. بل قد تضمنت بعض الروايات أنه ممن يختص به (عليه السلام) ويستعين (عليه السلام) به في أموره قبل خلافة المتوكل بأربع سنين(2).

ومن ثم يحتمل الخلل في نقل الروايات، حيث يحتمل معه خفاء بعض القرائن الموجبة لحمل التفصيل على الكراهة أو شدتها. بل قد يضعف ظهورها في الحرمة بلحاظ عدم ورودها من أجل العمل، بل من أجل الامتحان مع علم السائل بالحكم العملي، حيث يمكن اكتفاء الإمام (عليه السلام) بعلم السائل بالكراهة عن إقامة القرينة عليها. فتأمل جيداً.

هذا مضافاً إلى أن هذه النصوص إنما تضمنت مانعية العرق من الصلاة في الثوب، وهي أعم من نجاسته. وأما ما في الرياض من أن الملازمة بين الحكمين هنا ثابتة بناء على عدم القائل بالمانعية من الصلاة ممن يذهب للطهارة فالقول بالمانعية دون

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات.

(2) بحار الأنوار ج: 50 ص: 131 الطبعة الحديثة.

ص: 468

بقية أحكام النجاسة إحداث قول ثالث. فيشكل بعدم كفاية ذلك في الاستدلال. إلا أن يرجع إلى الإجماع على الملازمة، ولا طريق لتحصيله. ولاسيما مع عدم تجلي الفرق بين النجاسة والمانعية من الصلاة في جملة من كلمات القدماء.

بل قال في الفقيه: "وإذا عرق في ثوبه وهو جنب فليتنشف فيه إذا اغتسل، وإن كانت الجنابة من حلال فحلال الصلاة فيه وإن كانت من حرام فحرام الصلاة فيه" .وإطلاق جواز التنشف بالثوب مع التفصيل في جواز الصلاة قيه ظاهر في طهارته مطلقاً وإن كانت الجنابة من حرام وإنما حرمت الصلاة فيه حينئذٍ لا غير، ولا مجال معه لدعوى الملازمة.

نعم قرب سيدنا المصنف (قدس سره) دلالة النصوص المذكورة على النجاسة بأنه لما لم يمكن الجمود على ظاهرها من عموم المنع عن الصلاة في الثوب وإن غسل يتعين إما حمله على صورة وجود العرق المذكور حال الصلاة أو على عدم الغسل بالماء، والثاني أقرب، لانصراف السؤال إلى حيثية النجاسة والطهارة لعرق الجنب، كما يظهر من النصوص الواردة في نفي البأس عن عرق الجنب.

لكنه لا يخلو عن إشكال، لأن إناطة المنع من الصلاة بعدم الغسل لا يستلزم النجاسة، بحيث ينفعل الملاقي للثوب وإن جف. بل قد يكون بلحاظ مانعية العرق ولو بلحاظ أثره الباقي بعد الجفاف، والذي لا يزول عرفاً إلا بالغسل بالماء الذي ينحصر به التنظيف عرفاً.

وبعبارة أخرى: العرق ليس كالماء يزول عرفاً بالجفاف، بل هو من سنخ الوسخ الذي يبقى ببقاء أثره ولا يزول إلا الغسل، وحينئذٍ فالمنصرف من إطلاق مانعيته من الصلاة في الثوب مانعيته بلحاظ أثره العرفي المذكور الذي لا يزول إلا بالغسل، ولا ملزم بحمل الإطلاق على مانعيته بلحاظ النجاسة التي تسري بالملاقاة بالرطوبة وإن شاركت الأثر المذكور في الزوال بالغسل.

ومن ثم لا مجال للخروج عن إطلاق النصوص المتضمنة عدم البأس بعرق

ص: 469

(470)

الحكم للحرام بالعارض، سواءً أكانت من جهة الفاعل - كالصائم - أم القابل - كالحائض - أم نفس الفعل - كالوطء المنذور تركه - إشكال (1)، والعموم أحوط وجوباً.

(الثاني عشر): عرق الإبل الجلالة (2)، دون غيرها من الحيوان الجلال.

الجنب(1) المطابقة لمقتضى الأصل. بل يشكل البناء على المانعية من الصلاة بعد ما سبق من الإشكال في سند هذه النصوص. وإن كان الاحتياط في ذلك حسناً أو لازماً. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

(1) قال في المنتهى: "لا فرق بين أن يكون الجنب رجلاً أو امرأة، ولا بين أن تكون الجنابة من زنا أو لواط أو وطء بهيمة أو وطء ميتة وإن كانت زوجة [زوجته] أو وطأ محرماً... والاستمناء باليد كالزنا، أما الوطء في الحيض أو الصوم فالأقرب طهارة العرق فيه، وفي المظاهرة إشكال" .وفي طهارة شيخنا الأعظم (قدس سره): "ولعل وجه الحكم بالطهارة في الوطء في الصوم والحيض أن المتبادر من الجنابة من الحرام كون الحرمة من جهة الفاعل أو القابل، لا من جهة نفس الفعل" .وذكر سيدنا المصنف (قدس سره) إن مقتضى الإطلاق عدم الفرق بين الحرمة من جهة الفاعل والقابل ونفس الفعل وإن كانت دعوى الانصراف إلى خصوص الوطء لا تخلو من وجه.

لكن من القريب جداً عموم الانصراف للزنا واللواط ووطء البهيمة والاستمناء، وإن سقطت حرمتها للضرورة أو لرفع القلم، دون مثل وطء الشبهة، فضلاً عما حرم بجهة عرضية، كالوطء حال الصوم أو الحيض، بل حتى المظاهرة، حيث يقرب جداً الانصراف عن ذلك فتأمل جيداً.

(2) كما في المقنعة والتهذيب والنهاية والمبسوط والمنتهى وكشف اللثام وعن القاضي وغيره. وقد يستظهر من الكليني والصدوق، بل عن اللوامع نسبته

********

(1) راجع وسائل الشيعة ج: 2 باب: 27 من أبواب النجاسات.

ص: 470

للصدوقين. ونسب لأصحابنا في الغنية والمراسم. لصحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام): "قال: لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، وإن أصابك شيء من عرقها فاغسله"(1) ، وصحيح هشام بن سالم عنه (عليه السلام):" قال: تأكل اللحوم الجلالة، وإن أصابك من عرقها فاغسله"(2).

وذهب إلى الطهارة في المراسم والشرايع والنافع والقواعد والمختلف والدروس والذكرى وغيرها، بل لعله المشهور بين المتأخرين. حملاً للصحيحين على الاستحباب لوجوه ذكرها في الجواهر ترجع إلى أمرين:

الأول: ما دلّ على طهارة سؤرها المناسب لطهارة عرقها، وما دل على طهارتها، لأن العرق تابع للحيوان في الطهارة والنجاسة ولاسيما مع عدم خلوها عن العرق جافاً ورطباً، فلو كان العرق نجساً لم يكن الحكم بطهارتهما عملياً. بل هو لا يناسب ما دل على جواز ركوبها وحمل الأثقال عليها ونحوهما مما هو مستلزم للعرق غالباً من دون أمر بالتجنب أو التحفظ من المباشرة.

كما أنه لا يناسب ما دل على طهارتها بالإستبراء من غير أمر بتطهير الجسد لو كان قد عرق. ودعوى: حصول الطهارة له تبعاً. ممنوعة، إذ ليس المستفاد منه إلا حلّ الأكل، لا طهارة البدن من النجاسة العرضية، وليس هو من زوال العين المطهر للحيوان، لفرض وجوده جافاً.

مضافاً إلى استبعاد الفرق بينها وبين ما يحرم أكله بالأصل من الحيوان أو بالجلل من غير الإبل، كاستبعاد الفرق بين العرق وغيره من الفضلات مما لا يدخل تحت عنوان نجس، كاللعاب.

وفيه: أنه لا دليل بالخصوص على طهارتها وطهارة سؤرها، بل العمدة فيها الأصل المؤيد في الجملة ببعض النصوص، وحينئذٍ لا مجال لرفع اليد بذلك عن ظاهر الصحيحين.

********

(1و2) وسائل الشيعة ج: 2 باب: 15 من أبواب النجاسات حديث: 2، 1.

ص: 471

بل إن تمت منافاة نجاسة عرقها لطهارتها وطهارة سؤرها تعين رفع اليد عن طهارتهما لأجل الصحيحين. ولعله عليه يبتني ما عن ابن الجنيد والمرتضى والشيخ وغيرهم من نجاسة سؤرها. وإن لم تتم المنافاة - كما هو الظاهر - فلا وجه لرفع اليد عن الصحيحين.

وكذا الحال في جواز ركوبها، حيث لا دليل عليه بالخصوص، بل تضمن النهي عنه في موثق بسام الصيرفي عن أبي جعفر (عليه السلام): "في الإبل الجلالة قال: لا يؤكل لحمها ولا تركب أربعين يوماً"(1). فإن حمل على الحرمة كان مناسباً لنجاسة العرق، وإن حمل على الإرشاد لتجنب النجاسة كان مؤيداً أو دليلاً على نجاسته.

وأما عدم الأمر بالتطهير من العرق بعد الإستبراء، فيمكن ابتناؤه على طهارة الحيوان بزوال عين النجاسة، إذ المراد به زوالها بما لها من وجود عرفي ظاهر، لا ما يعم زوال الأثر الباقي عند الجفاف، ولذا لا إشكال في طهارة جسم الحيوان من البول والعرق النجسين ونحوهما بالجفاف بنحو لا يبقى له معه وجود ظاهر.

ولو غض النظر عن ذلك فالجمع بين الصحيحين وعدم التنبيه للتطهير بعد الإستبراء إنما يكون عرفاً بالبناء على الطهارة تبعاً، لا برفع اليد عن ظهور الصحيحين في الوجوب، كما يظهر بملاحظة النظائر.

واستبعاد الفرق بين الإبل الجلالة وغيرها مما يحرم أكل لحمه بغير الجلل في غير محله بعد كون سبب التحريم في الجلالة هو أكل العذرة النجسة. على أنه لو تم لا يبلغ مرتبة الحجية. وأما الفرق بينها وبين بقية الجلالات فيظهر الكلام فيه مما يأتي.

وأما الفرق بين العرق وغيره من فضلات الإبل الجلالة - كالريق - فيجري فيه ما سبق في طهارة السؤر، كما يظهر بأدنى تأمل. بل ليس الفرق بينه وبينها في الطهارة بأبعد من الفرق بينه وبين البول في النجاسة، وليس هو ينهض بإثبات حكم شرعي.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 28 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 3.

ص: 472

الثاني: أنه بعد ظهور كلام الأصحاب في اختصاص احتمال النجاسة بعرق الإبل الجلالة دون بقية الجلالات، حيث لم ينقل العموم عن غير النزهة، فلابد إما من حمل صحيح هشام بن سالم بإطلاقه على الاستحباب وجعله قرينة على حمل صحيح حفص عليه أيضاً، وإما من إبقاء صحيح حفص على ظاهره في الوجوب مع كونه مخصصاً لصحيح هشام، أو قرينة على حمله على الأعم من الوجوب والاستحباب، أو على حمل الجلالة فيه على خصوص الإبل، أو على عود الضمير على خصوصها. وليس الثاني بأولى من الأول، بل الأول هو الأولى. ولاسيما مع إعراض المشهور عن القول بالنجاسة في عرق الإبل.

ويندفع بأن الأظهر هو الجمع بين الصحيحين حينئذٍ بحمل صحيح هشام على الأعم من الوجوب أو الاستحباب أو على إرادة خصوص الإبل لقرينة خفيت علينا، كما يظهر بملاحظة النظائر. على أن ظهور حال الأصحاب في عدم احتمال عموم النجاسة لغير الإبل من الجلالات إنما هو لاقتصار القدماء على الإبل. ولعله للجمود على صحيح حفص، حيث كثيراً ما تكون فتاواهم مطابقة للنص، من دون إعراض منهم عن مفاد بقية النصوص، أو للاجتهاد منهم في الجمع بين الصحيحين، من دون أن يبلغ مرتبة الإجماع الحجة المخرج عن إطلاق صحيح هشام، ولاسيما مع عموم مرسل الصدوق:" قال: ونهى (عليه السلام) عن ركوب الجلالة وشرب ألبانها، وقال: إن أصابك شيء من عرقها فاغسله"(1). حيث لا يبعد كونه منقولاً بالمعنى بعد الجمع بين الصحيحين، ويظهر منه العمل على ذلك.

ومع ذلك كيف يمكن الخروج عن ظاهر صحيح هشام وحمله على الاستحباب، فضلاً عن جعله قرينة على حمل صحيح حفص عليه. ومنه يظهر ضعف ما ذكره سيدنا المصنف (قدس سره) من سقوط صحيح هشام عن الحجية بإعراض الأصحاب. ولعله لذا ذهب في كشف اللثام ومحكي النزهة للعموم.

********

(1) وسائل الشيعة ج: 16 باب: 27 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث: 6.

ص: 473

(474)

هذا وقد استشكل بعض مشايخنا في دلالة الصحيحين على النجاسة بأن اشتمال صدرها على النهي عن أكل لحم الجلال وشرب لبنه صالح للقرينية على أن الأمر بالغسل ليس بلحاظ النجاسة، بل بلحاظ المانعية من الصلاة المتفرعة على كون الجلال محرم الأكل، فإن كل ما يحرم أكل لحمه يحرم الصلاة في أجزائه وفضلاته.

لكنه غير ظاهر بعد عدم الإشارة في الصحيحين للصلاة، وخصوصاً في صحيح حفص، الذي تضمن صدره النهي عن شرب اللبن، لعدم تفرع المانعية المذكورة عليه إلا بعناية التلازم بينهما، لكونهما معلولين لعلة واحدة، ولا إشارة لذلك فيه. بل هو لا يناسب تخصيص الأمر بالغسل بالعرق دون اللبن مع ذكره أيضاً فيه. ومن ثم لا مخرج عن ظهور الصحيح بل الصحيحين في النجاسة.

بقي شيء: وهو أن الأصحاب قد تعرضوا لاحتمال النجاسة في جملة من الأمور غير ما تقدم.

منها: بعض الحيوانات الصامتة. وقد تقدم الكلام فيها في ذيل الكلام في نجاسة الكلب والخنزير.

ومنها: ولد الزنا. إما للبناء على كفره، أو لما تضمن تعليل النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام بأنه يغتسل منه الزاني مما تقدم بعضه في مبحث نجاسة عرق الجنب من الحرام.

ويندفع الأول بمنع الصغرى. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في ذيل المسألة الرابعة من فصل تغسيل الميت. كما يظهر مما تقدم في نجاسة الكافر الإشكال في الكبرى، خصوصاً بنحو تشمل المقام.

كما يندفع الثاني بما تقدم في مبحث نجاسة عرق الجنب من الحرام من أن تعليل النهي عن الغسل بغسالة الحمام لا يدل على النجاسة. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

ص: 474

انتهى الكلام في فصل عدد الأعيان النجسة شرحاً لكتاب (منهاج الصالحين) تأليف سيدنا الأستاذ الجد الفقيد السعيد آية الله العظمى (السيد محسن الطباطبائي الحكيم) (قدس سره). وكان ذلك نهار الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر شوال من السنة السادسة عشرة بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التحية. بقلم العبد الفقير إلى الله تعالى (محمد سعيد) عفي عنه نجل سماحة حجة الإسلام والمسلمين آية الله السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته، في داره في النجف الأشرف ببركة الحرم المقدس المشرف على مشرفه الصلاة والسلام. والحمد لله رب العالمين وصلواته على رسوله الكريم وآله الغر الميامين. ومنه نستمد العون والتوفيق والتأييد والتسديد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 475

ص: 476

فهرست تفصيلى

(5)غسل الجمعة5

(8)وقت غسل الجمعة8

(13)بقي في المقام أمران (الأول): الكلام في مشروعية القضاء مع الفوت عن عذر وبلا عذر13

(13)(الثاني): الكلام في مشروعية القضاء بعد السبت13

(14)الكلام في تقديم غسل الجمعة يوم الخميس14

(17)الكلام في صحة غسل الجمعة من الجنب والحائض17

(18)غسل يوم العيدين18

(20)غسل يوم عرفة20

(22)غسل يوم التروية ويوم الغدير22

(24)غسل يوم المباهلة24

(25)غسل يوم مولد النبي (ص) ويوم نوروز25

(26)أغسال شهر رجب26

(27)أغسال شهر رمضان27

(32)باقي الأغسال المندوبة32

(35)الكلام في ناقضية الحدث الأكبر للأغسال الزمانية35

(35)

ص: 477

الكلام في الأغسال المكانية35

(39)وقت الأغسال المكانية39

(40)الكلام في الأغسال الفعلية40

(46)الكلام في مشروعية التيمم بدلاً عن الأغسال المستحبة عند تعذرها46

(49)المبحث الخامس: التيمم49

(55)الفصل الأول في مسوغات التيمم (الأول): عدم وجدان الماء55

(57)وجوب الفحص وعدمه مع العلم بفقد الماء57

(62)إذا علم بوجود الماء في الفلاة62

(66)جواز الاستنابة في الطلب66

(68)إذا علم بوجود الماء خارج الحد68

(70)إذا طلب الماء قبل دخول الوقت70

(74)سقوط الطلب مع ضيق الوقت74

(75)إذا ترك الطلب وصلى بعد ضيق الوقت75

(80)إذا تبين وجود الماء بعد طلبه وعجزه عن حصوله80

(84)(المسوغ الثاني): عدم التمكن من الوصول إلى الماء والكلام فيه84

(90)(المسوغ الثالث): خوف الضرر من استعماله والكلام فيه90

(92)بقي أمران (الأول): الكلام في الإعادة لمن تيمم لخوف الضرر92

(94)(الثاني): عدم الفرق بين متعمد الجنابة وغيره94

(98)(المسوغ الرابع): خوف العطش98

(100)(المسوغ الخامس): توقف تحصيله على الاستيهاب الموجب لذله والكلام فيه100

(101)(المسوغ السادس): أن يكون مبتلى بواجب يتعين صرف الماء فيه101

(106)(المسوغ السابع): ضيق الوقت والكلام فيه106

(110)إذا خالف المكلف فتوضأ في مورد الحرج110

ص: 478

(112)استحباب التيمم إذا آوى إلى فراشه ناسياً للوضوء112

(113)التيمم لصلاة الجنازة113

(115)الفصل الثاني فيما يتيمم به الكلام في التيمم بما يسمى أرضاً115

(122)الكلام في اعتبار علوق شيء من الأرض باليد في التيمم وعدمه122

(125)عدم جواز التيمم بما لا يصدق عليه اسم الأرض125

(132)عدم جواز التيمم بالنجس وجملة ما لا يجوز التيمم به132

(134)التيمم في الممتزج بما يخرجه عن اسم الأرض134

(138)إذا اشتبه التراب بالمغضوب138

(140)إذا اشتبه التراب بالرماد والنجس140

(141)إذا عجز عن التيمم بالأرض141

(144)إذا عجز عن التيمم بالغبار تيمم بالوحل144

(148)الكلام في فاقد الطهورين148

(154)إذا تمكن من الثلج ولم يمكن إذابته154

(158)مستحبات التيمم158

(160)مكروهات التيمم160

(163)الفصل الثالث كيفية التيمم163

(167)أن يكون الضرب دفعة واحدة وأن يكون بباطن الكفين167

(168)في كيفية مسح الجبهة والجبينين168

(177)المقدار الواجب في مسح الجبهة177

(178)المقدار الواجب في مسح ظاهر اليدين178

(180)الكلام في تعدد الضرب180

(189)إذا تعذر الضرب والمسح بالباطن189

(195)لزوم وقوع التيمم بدلاً عن الوضوء أو الغسل وعدمه195

ص: 479

(200)إذا تمكن من الإتيان بالوضوء أو الغسل تيمم عن الآخر200

(203)الفصل الرابع شروط التيمم203

(205)الكلام في نية البدلية عن الوضوء أو الغسل205

(208)رافعية التيمم للحدث208

(215)اعتبار المباشرة والموالاة215

(221)اعتبار طهارة الماسح والممسوح221

(222)حكم الاضطرار والأقطع222

(227)في تيمم العاجز227

(229)سائر شروط التيمم229

(233)الفصل الخامس التيمم قبل الوقت233

(235)جواز التيمم عند ضيق الوقت235

(242)بقي في المقام أمور (الأول): في استحباب الإعادة وإن صحت الصلاة بالتيمم242

(243)(الثاني): الكلام في جواز التيمم مع الظن باحتمال الماء وعدمه243

(244)(الثالث): إلحاق بقية الأعذار في استعمال الماء بعدم وجدانه244

(245)إذا تيمم لصلاة ودخل وقت أخرى245

(247)وجدان الماء في أثناء العمل247

(252)المتيمم بدلاً عن الغسل إذا أحدث بالأصغر252

(257)إراقة الماء الكافي للوضوء أو الغسل بعد دخول الوقت257

(261)موارد مشروعية التيمم261

(267)إذا تيمم لغاية جاز له كل غاية من غايات التيمم267

(269)حكم وجدان الماء وانتقاض التيمم269

(271)إذا وجد المتيممون الماء وسبق إليه أحدهم271

(272)حكم التداخل في التيمم272

ص: 480

(273)إذا اجتمع جنب ومحدث بالأصغر وميت وكان هناك ماء لا يكفي إلا لأحدهم273

(280)حكم الشك بوجود حاجب في مواضع التيمم280

(281)المبحث السادس في الطهارة من الخبث الفصل الأول في عدد الأعيان النجسة (الأول والثاني): البول والغائط281

(283)ما يحرم أكل لحمه بالعارض283

(288)بول وغائط ما لا نفس له سائلة أو محلل الأكل288

(293)بول الطير وذرقه293

(296)بقي في المقام أمران (الأول): في استثناء الخفاش296

(297)(الثاني): طهارة بول وذرق ما حرم من الطير بالعرض297

(297)الكلام فيما يشك في أن له نفس سائلة297

(298)(الثالث من الأعيان النجسة): المني298

(303)(الرابع من الأعيان النجسة): الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة303

(310)الجزء المقطوع من الحي310

(315)أجزاء الميتة إذا كانت لا تحلها الحياة315

(322)الكلام في إلحاق الأنفحة بما لا تحله الحياة322

(324)في إلحاق اللبن في الضرع بما لا تحله الحياة324

(327)حكم فأرة المسك إذا افصلت من الظبي327

(332)طهارة ميتة ما لا نفس له سائلة332

(338)المراد من الميتة338

(344)اللحوم والشحوم والمأخوذة من يد مسلم344

(347)اشتمال بعض النصوص على عنوان السوق في اعتبار الحلية347

(349)اشتمال بعض النصوص على عنوان الصنع في أرض الإسلام في اعتبار الحلية349

ص: 481

(351)بقي في المقام أمور (الأول): الكلام في عدم الفرق حجية يد المسلم بين المؤمن والمخالف351

(354)(الثاني): ترتيب أثر التذكية في سوق المسلمين إذا كان البائع كافراً354

(355)(الثالث): عدم جواز ترتيب أثر التذكية إذا لم يؤخذ من يد مسلم355

(357)اللحوم والشحوم المأخوذة من يد مسلم إذا سبقت يد الكافر عليه357

(362)اللحوم والشحوم المأخوذة من يد كافر362

(363)الكلام في السقط قبل ولوج الروح363

(366)(الخامس من الأعيان النجسة): الدم من كل حيوان ذي نفس سائلة366

(372)طهارة دم ما لا نفس له سائلة372

(374)إذا وجد في ثوبه دماً مردداً بين ما له نفس سائلة وغيره374

(376)دم العلقة المستحيلة من النطفة376

(379)الدم المتخلف في الذبيحة379

(380)حكم الشك بوجود الدم وتردده بينه وبين القيح380

(381)الدم الذي يوجد في اللبن عند الحلب381

(382)(السادس والسابع من الأعيان النجسة): الكلب والخنزير382

(387)بقي شيء: الكلام في الحيوانات النجسة العين غير الكلب والخنزير387

(389)(الثامن من الأعيان النجسة): المسكر389

(398)الكلام في عموم النجاسة لكل مسكر398

(401)في نجاسة السبيرتو401

(402)طهارة المسكر الجامد وإن حرم أكله402

(404)الكلام في طهارة العصير العنبي إذا غلا بالنار404

(411)العصير العنبي إذا غلا وذهب ثلثاه411

(413)العصير العنبي إذا غلا بغير النار413

(419)الكلام في العصير الزبيبي والتمري إذا غلا بالنار419

(427)الكلام في العصير الزبيبي والتمري إذا غلا بغير النار427

(428)(التاسع من الأعيان النجسة): الفقاع428

ص: 482

(431)(العاشر من الأعيان النجسة): الكافر431

(450)الكلام في كفر منكر الضروري450

(455)رجوع كفر منكر الضروري إلى منافاته للإيمان بما أنزل الله تعالى455

(457)عموم الحكم لجميع أصناف الكفار457

(458)الكلام في كفر النواصب458

(463)طهارة الكتابي463

(464)(الحادي عشر من الأعيان النجسة): عرق الجنب من الحرام464

(470)(الثاني عشر من الأعيان النجسة): عرق الإبل الجلالة470

(474)أعيان نجسة احتملها الأصحاب474

ص: 483

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.